الدرس العاشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

3310 12
الدرس العاشر

عمدة الفقه (5)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأُرحبُ بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكَ الله.
{في الحلقةِ الماضية بدأنا بباب "نِكاح الكفار" من كتاب "عُمدة الفقه" للموفق ابن قدامة، وبقي معنا مسألة، وهي قوله -رحمه الله: (وَمَا سُمِّيَ لَهَا وَهُمَا كاَفِرَانِ فَقَبَضَتْهُ فِيْ كُفْرِهَا، فَلاَ شَيْءَ لَهَا غَيْرَهُ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا، وَإِنْ لَمْ تَقْبِضْهُ وَهُوَ حَرَامٌ، فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، أَوْ نِصْفُهُ حَيْثُ وَجَبَ ذلِكَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعدُ:
فأسأل الله -سُبْحَانَه وَتَعَالَى- أن يجعلنا وإيَّاكم من عباده العالِمينَ الخاشعين، وأن يرزقنا الفقه في الدِّين، وأن يُعقبنا الخيرَ في الدنيا والآخرة، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريمٌ.
كنَّا في الدَّرسِ الماضي افتتحنا ما يتعلق بالكلام على نِكاح الكفار، وذكرنا أصل بحث الفقهاء لهذا الباب، وما يتعلق به من مَسائل لا ينفك المسلم من الحاجة إليها، إلى أن دخل المؤلف في بعضِ تفاصيل تلك المسائل، قال: (وَمَا سُمِّيَ لَهَا وَهُمَا كاَفِرَانِ فَقَبَضَتْهُ فِيْ كُفْرِهَا، فَلاَ شَيْءَ لَهَا غَيْرَهُ)، يعني: لو أنَّه لَمَّا تزوجها وهي كافرة سَمَّى لها صداق خمرٍ أو خِنزيرٍ أو شيئًا محرَّمًا وقبضته، ثمَّ تحاكما إلينا، سواء تحاكما إلينا حال كفرهما، أو تحاكما إلينا بعد أن أسلمت، فما دام أنَّها قبضته فلا نتعرض له، ولا نُبطل ذلك المهر، ولا نوجب عليه غيره، ولذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (فَلاَ شَيْءَ لَهَا غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ حَرَامً)؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا أسلم جمعٌ من الكفار كثير لم يبحث مسائلهم فيما مضى، ولم يكن البحث فيما تعلق به في حال كفرهم، وإِلَّا لو كان كذلك لربما امتدَّ هذا إلى أمورٍ كبيرة، سواء فيما يتعلق بمهر النِّكاح، أو ما يتعلق بمعاملاتهم المحرَّمة حالَ كفرهم، وقد يلحق بذلك أشياء كثيرة، ولذلك قال الله -جلَّ وعلا ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال:38]، يعني: ما قد ذهبَ في مال الرِّبا فلا يُتعرَّض له، وكذلك هنا.
قال: (وَإِنْ لَمْ تَقْبِضْهُ)، أمَّا إذا لم تقبضه فما زال حكم المهر قائمًا، فلمَّا كان حرامًا فإنَّا لا نُقرُّ الحرام، ولا نحكم به، ولا نُجريه في أحكامنا، فإذا كانت لم تقبضه وارتفعت إلينا؛ فنوجب لها مهر مثلها، وسيأتي ما يتعلق في باب الصداق كيف يُعرف مَهر المثل، فالبكر تختلف عن الثَّيب، وتختلف الجميلة عمَّن دونها، وأيضًا ذوات الأحساب عمَّن أقلَّ منهنَّ، وكل مجتمعٍ بحسبه، فيُنظر إلى المرأة بحسب جمالها، وبحسب ما قاربها من أمِّهاتها وأخواتها ونحو ذلك، وسيأتي الكلام على هذا -بإذن الله جل وعلا- لاحقًا.
إذن نحكم بأنَّ لها مهر مثلها، ولا يُمكن أن نحكم بأن يسلمها هذا الخمر، أو تلك الخنازير؛ حتى ولو أتى بها معه إلى المحكمة، فإنَّ هذا ممَّا لا يُقرُّ عليه، فذلك لها مهر مثلها
قال: (أَوْ نِصْفُهُ حَيْثُ وَجَبَ ذلِكَ)، أي: لها نصف مهر المثل حيثُ وجب ذلك؛ لأنَّه في مسائل يتقرر المهر كاملًا، وفي بعض المسائل يتقرر نصف المهر، وفي مسائل أخرى لا يكون لها مهرٌ البتَّة، فإذا لم يكن لها مهر البتَّة انتهينا، ولكن إذا كان لها المهر أو كان لها نصفه؛ فإنَّما يكون لها مهر مثلها أو نصف مهر مثلها، ويُعرَض عمَّا كان قد سُمِّيَ في عقدها، وسيأتي متى يجب نصف المهر، ومتى يجب كماله، ومتى يذهب عليها جميعه -بإذن الله تعالى.
{قال -رحمه الله: (فَصْلٌ فِيْ حُكْمِ فَسْخِ نِكاَحِ اْلإِمَاءِ
وَإِنْ أَسْلَمَ اْلحُرُّ وَتَحْتَهُ إِمَاءُ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، وَكَانَ فِيْ حَالِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلى اْلإِسْلاَمِ مِمَّنْ لاَ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ اْلإِمَاءِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُنَّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهُنَّ، أَمْسَكَ مِنْهُنَّ مَنْ تَعُفُّهُ، وَفَارَقَ سَائِرَهُنَّ)
}.
هذا الفصل مُنعقدٌ في إسلام الزوجة الكافرة إذا كانت أمةً، أي: في خصوص إسلام الإماء المزوَّجَات، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَإِنْ أَسْلَمَ اْلحُرُّ وَتَحْتَهُ إِمَاءُ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ)، أمَّا لو بقينَ على الكفر فقد تقدَّم أنَّه لا يُقرُّ المسلم على أن يكون تحته أمة كافرة البتَّة، ولذلك قال في أوَّل الكلام: (إِلَّا الحُرَّة الكِتَابيَّة)، فدلَّ على أنَّ الإماء الكافرات لا يُقرَرنَ تحت المسلم البتَّة، فإن أسلمنَ معه فمن المعلوم كما تقدم بنا أنَّ نِكاح الحُرَّ بالأمةِ مَشروط بشرطه ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ [النساء:25]، فلم يُجز الشَّرع نكاح الأمة المسلمة للحرِّ إلا بشرطين: عدم طول الحرَّة، وخوف العنت والوقوع في الحرام -كما مرَّ بنا ذلك.
فإذا كان ممَّن توافرت فيه هذه الشُّرُوط فإنه يُقرُّ على ما عليه، ولذلك قال: (وَكَانَ فِيْ حَالِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلى اْلإِسْلاَمِ مِمَّنْ لاَ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ اْلإِمَاءِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهُنَّ)، يعني: إذا كان هو ممَّن لا ينطبق عليه هذه الشُّرُوط فنقول: نكاحهنَّ قد انفسخ بإسلامه وإسلامهنَّ، ولم يكن بينهم عُلقَةٌ البتَّة، ولا تُقرُّ واحدة منهنَّ تحت يده؛ لأنَّه لا يجوز للحرِّ أن ينكح الأمة إلا بشُروط وهي ليست موجودة فيه.

قال: (وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهُنَّ، أَمْسَكَ مِنْهُنَّ مَنْ تَعُفُّهُ، وَفَارَقَ سَائِرَهُنَّ).
الحال الثانية: أن يكون ممَّن له نكاح الإماء، بأن توافر فيه هذان الشرطان، فبناء على ذلك لمَّا كان موضع نكاح الإماء موضع حاجة فإنَّها تقدر بقدرها، فإذا حصل له الإعفاف بواحدة فإنَّه لا يجوز له أن يُمسك الثَّانية ولا الثَّالثة ولا الرَّابعة، وإذا كانت تعفُّه اثنتان فإنَّه لا يجوز له أن ينكح الثالثة ولا الرابعة، وإذا كان يحصل له الإعفاف بثلاث فإنَّ الرابعة ينفسخ نكاحها منه.
ولذلك قال المؤلف: (أَمْسَكَ مِنْهُنَّ مَنْ تَعُفُّهُ)، وبناء على ذلك لو كان يُحبُّ واحدة ولكن لا يحصل بها إعفاف ولا يكون منه معها ذهاب فورته وشهوته؛ فإنَّه لا يجوز له أن يُمسكها؛ لأنَّ النِّكاح إنَّما هو في حاجة خوف العنت، فلم يكن له أن يُمس إِلَّا من يحصل به قضاء وطره، والأمن على نفسه، وحصول اندفاع شهوته، فلابدَّ أن تكون ممَّن تُعفُّه سواء كانت واحدة أو أكثر، لأن المشهور من المذهب -على ما تقدم- أنَّه لا يقتصر نكاح الآمة على واحدة؛ بل اثنتين وثلاث بقدر ما يحصل به الإعفاف متى ما كانت الشُّرُوط المتقدمة موجودة فيه.
وقلنا: مُنع للحر نكاح الأمة لما يترتب علي من إرقاق أولاده، لأنه إذا تزوج أمة فإنَّ ولده منها سيكون عبدًا، وذلك فيه تبعة كبيرة، فإنَّا ذكرنا أنَّه يلحقه الولد في نسبه ويلحق أمَّه في حريتها وعبوديتها، ويلحق أحسنهما دينًا.

{قال -رحمه الله: (باَبُ الشُّرُوط فِيْ النِّكاح.
إِذَا اشْتَرَطَتِ الْمَرْأَةُ دَارَهَا، أَوْ بَلَدَهَا،أَوْ أَنْ لاَ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، أَوْ أَنْ لاَ يَتَسَرَّى، فلها شرطها، وإن لم يفي به فلها فسخ النِّكاح لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوط أَنْ تُـوَفُّـــوْا بِهِ مَا اسْـتَحْلَلْتُمْ بِهِ اْلفُـرُوْجَ»)
}.
باب الشُّرُوط في النِّكاح هو مماثل لِمَا مَرَّ بكم في دراستكم في باب الشُّرُوط في البيع، وهي الشُّرُوط التي ابتدأها الزوجان أو أحدهما في نكاحه زائدًا على الشُّرُوط الأصلية، كأن تشترط المرأة بقاءها في وظيفتها، أو ذهابها كل يوم لخدمة أبويها، أو أن تشترط إرضاع ولدها، أو أن تشترط ما لها فيه مصلحة، أيًّا كان ذلكم الشَّرط، ومثل ذلك أن يشترط الزوج شيئًا ممَّا له فيه مصلحة، كأن يشترط عليها أَلَّا يأتيها إِلَّا يوم في الأسبوع، أو يشترط عليها أن تنتقل معه إلى بلدٍ أخرى، أو غير ذلك من الشُّرُوط.
فالشُّرُوط في النِّكاح تختلف عن شُروط النِّكاح:
 فإنَّ شُروط النِّكاح من الشرع -من الكتاب والسنة- أما الشُّرُوط في النِّكاح فإنها من الزوجين أو أحدهما.
 شُروط النِّكاح كلها صحيحة، والشُّرُوط في النِّكاح منها ما هو صحيح، ومنها ما هو فاسد.
 شُروط النِّكاح إذا اختلَّ واحدٌ منها بطل النِّكاح، وأمَّا الشُّرُوط في النِّكاح فمنها ما يبطله، ومنه ما لا يُبطله، وسيأتي تفصيله من الشُّرُوط الفاسدة كنكاح المتعة وغيره.
 شُروط النِّكاح لابدَّ أن توجد في كل عقد، أمَّا الشُّرُوط في النِّكاح قد توجد وقد لا توجد.
وبينَ يدي الكلام في الشُّرُوط في النِّكاح فإننا نُبيِّنُ أصل ذلك: فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوط أَنْ تُـوَفُّـــوْا بِهِ مَا اسْـتَحْلَلْتُمْ بِهِ اْلفُـرُوْجَ» ، وفي الحديث الثاني أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرَ بالوفاء بالشُّرُوط، فقال: «وَالمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامً» ، كل ذلك دالٌّ على اعتبار الشُّرُوط والقيام بها والتَّوفية لها؛ ولأنه لا ينفك بعض الناس من حاجة إلى شيء يخصُّه، فجعل له الشرع بابًا وطريقًا يُمكن أن يتمكَّن ممَّا يُريده ويصل إلى مُبتغاه ممَّا لا يُعارض حقيقة النِّكاح وقد لا يرضى به الزَّوجين إِلَّا أن يشترطه عليه.
ثُمَّ إنَّ بعض النَّاس يأنف من الشُّرُوط في النِّكاح، ولا غضاضة فيها، فإنَّه لو اشترطوا عليك أو طلبوا منك بعض الطلبات فلا تظنَّ أن ذلك إما هو لنقصك أو لسوء عندهم او غير ذلك، فبعض الناس يأنف أن يُشترط عليه فربما أبطل النِّكاح، فنقول: لا، هم يرون شيئًا لهم فيه مصلحة، وربما رأوا من غيرك عدم قيامهم بحق أزواجهم في بعض الأمور، أو التَّشغيب عليهم فيما يجد لهم من الأحوال؛ فأرادوا أن يقطعوا دابر ذلك فاشترطوا، فكان لهم ذلك.
ومثل ذلك أيضًا اشتراط الزَّوج على زوجته خاصَّة مع ما تجدَّد في الحياة مِن مُغريات ومن شهوات ومن أمور، فقد يخاف الإنسان من زوجته أن تتنكَّب عن الطريق، أو أن تُخلَّ ببعض ما يلزم؛ فأراد أن يؤكِّدَ عليها، أو أن يطلب منها ما يمنع ويقطع دابر ذلك الشرَّ كلَّه؛ فيكون ذلك فيه فسحةٌ له، وما جاز له في الشرع أن يطلبه.
سيأتينا أن الشُّرُوط منها ما هو صحيح، ومنها ما هو فاسدٌ، ولكن قبل ذلك نقول: إنَّ الشُّرُوط محلها العقد، فإذا جاء العقد وقال: هل لكم شروط؟ قالوا: نشترط كذا وكذا وكذا...؛ فهذا صحيح ومعتبر.
ولكن في بعض الأحوال قد تكون الشُّرُوط سابقة للعقد، فتعرفون أن النِّكاح يكون فيه مُقدمات من هطبة وغيرها، ومشاروات، ومراجعة بين الزوجين وأهلهما وما يتعلق بذلك؛ فإذا اشترطوا عليه قبل هذا فقالوا: نريدها أن تبقى على وظيفتها، أو أن تكمل دراستها؛ وهذه من أكثر الشُّرُوط التي يُعنَى بها النِّساء -على سبيل المثال- أو العكس: كأن يَشترط الزَّوج أن تتخلى عن كل ما يُشغلها عن بيتها من وظيفةٍ أو سواها، فإذا اتَّفقوا على ذلك وجاء العقد ولم يذكروه؛ فهل يكون ذلك معتبرًا أو لا؟
المشهور عند الحنابلة -رحمهم الله- كما هو قَول لجمع من الفُقَهاء: أنَّ محل الشُّرُوط العقد وقبلَه، فلو أنَّهما اشترطاه قبله كان كما لو اشترطاه في العقد، وأن ذلك جارٍ مجراه ولاحقٌ به، لِمَا جرت به العادة أنَّ ذلك مُلحَقٌ بالعقد، ولِما يحصل في مثل هذا من امتداد الأمور في توابعِ عقد النِّكاح واستمراره.
فعلى كل حالٍ هذا ممَّا ذكره الحنابلة في الشُّرُوط في النِّكاح، وإن كان كلامهم في الشُّرُوط في البيع يختلف عن ذلك، فلأهل العلم في التفريق بين هذا كلام:
 فمنهم مَن يُعيد التَّسوية، فيقول: الشُّرُوط قبل العقد كالشُّرُوط فيه.
 ومنهم مَن يُفرِّق بينها.
 ومنهم مَن يُخالف، فيرجعها إلى ما يتعلق بالشُّرُوط في البيع.
فهذه من المسائل التي يكثر فيها الكلام، ويكثر تبعًا لها الخلاف، ولكن مع ذلك نقول: وإن كان الشَّرط السَّابق لعقد النِّكاح شروطًا مُعتبرًا عند الفقهاء، ولكنه محلَّ خلاف؛ فقطعًا للنزاع ومنعًا لحصول الضَّغينة بين الزَّوجين ينبغي قطع دابره من أصله، فيؤتى إلى الأمر المتَّفق عليه، وهو أن تُحفَظ هذه الشُّرُوط في صلب العقد وفي وثيقته حتى تمنع النفوس من الضَّعف في الوفاء بها.
إذا افترضنا أنَّه اشتُرِطَ على أحدهما شرطًا؛ فهل يلزمه الوفاء بذلك الشَّرط أو لا؟
الحنابلة وبعض الفقهاء يقولون: إن الوفاء بهذه الشُّرُوط سُنَّة ومستحب، وليس بواجب، لأنَّه إذا لم يفي فإنَّ لها أن تطلب الفسخ، فليس الأمر مقصورًا على وفائه من عدمه حتى نلزمه، فإذا لم يفي وأنتِ وجدتِ في ذلك عليكِ ضررٌ فتتطلبين الفسخ، أو خلاف ذلك.
وهذا هو مَشهور المذهب، وله وجه ظاهر، وإن كان ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يرى أنَّه يجب الوفاء بالشُّرُوط، وأنه لا ينبغي أن يتساهل في ذلك، لأنه ألقى لهم صفقة يده، وعاهدهم على الوفاء به، فيلزم الوفاء، فإذا لم يفِ فلها الفسخ، ولكن كأنه يميل إلى الوفاء.
وينبغي لمن عقد عقدًا فاشتُرِطَ عليه أو اشتَرَطَ شرطًا أن يفي كل واحد منهما بما اشتُرطَ عليه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة:1]، فينبغي للإنسان أن يفي، وهذا مأخذ مَن قال بوجوب الوفاء بذلك، وهو ظاهرٌ قويٌّ، لأنَّ المرأة قد تفسخ النِّكاح، لكن ما يلحقها من الضَّرر أكثر بكثير من بقائها في تلك الحال إذا لم يحصل لها ما قصدت من الاشتراط، فلأجل ذلك يُمكن أن يُقال بوجوب الوفاء.
ولمَّا كانت امرأة اشترطت شرطًا في نكاحها في عهد عمر-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال عمر للزوج: أوفِ لها شرطها. فقال: يا أمير المؤمنين إذن يطلقننا -يعني تكون القوامة لها- فقال عمر: "مقاطع الحقوق عند الشُّرُوط". إذن يجب الوفاء بذلك.
المؤلف -رحمه الله تعالى- ابتدأ هنا بالشُّرُوط الصحيحة، والشُّرُوط الصحيحة منها ما يكون حقيقته موجود في العقد، كأن يشترط عليها أن تُمكِّنه من نفسها، فهذا حقيقة العقد، أو تشترط عليه تسليم الصَّداق، فهذا أيضًا من العقد، فوجود الشرط هنا كعدمه، ولكنه تأكيد عليه، خاصة إذا كان في بعض المجتمعات التي يحصل فيها تسويف أو تأخير لذلك؛ فلا غضاضة عليها أن تشترط هذا حتى يكون آكد لحصول حقها.
إذا اشترطت شرطًا صحيحًا، والشرط الصحيح حقيقته ما كان لها فيه مصلحة، ولا يُخالف العقد أو يُناقضه، أما إذا كان يُخالف العقد أو يُناقضه فإنَّه لا يكون صحيحًا، ولذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (إِذَا اشْتَرَطَتِ الْمَرْأَةُ دَارَهَ)، فقالت: أبقَى في داري، أو في بلدي، ولا تخرجني إلى غيره؛ فنقول: لها ما اشترطت، ويجب أن تبقيها في دارها، أو في بلدها وألا تُخرجها إلى بلدٍ أُخرَى.
قال: (أَوْ أَنْ لاَ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَ)، قالوا: إذا اشترطت ألا يتزوَّج عليها فإنَّ لها في ذلك مصلحة، فإنَّ من النساء مَن تقول من أنها لا طاقة لي بالضَّرة، وإن عندي من الغيرة ما تحملني على أن أتأثَّم في زوجي أو أتأثَّمَ في نفسي، فإذا اشترطت ذلك وهي تعلم من نفسها أنَّها لا تقدر على الضَّرة فلها ذلك، فإذا لم يفي لها فلها أن تفسخ النِّكاح.
قال: (أَوْ أَنْ لاَ يَتَسَرَّى)، يعني ألا يستمتع بالإماء إذا مَلَكَهنَّ، فيجعلهنَّ للخدمةِ ولا يدخل بهنَّ، فلها ذلك، ولعبد الله بن رواحة قصَّة لطيفة في هذا لعلَّ الإخوة أن يُراجعوها، لمَّا شكَّت زوجته أنَّه يستمتع بأمةٍ من الإماء، وقد كان ذلك، فأنكر ذلك، فقالت له: اقرأ القرآن، فأنشأ أبياتًا وورَّى عليها، كأنها من القرآن، فصدَّقته وذهب ما في نفسها، فقال:
شهــدت بأن وعــــد الله حق ** وأن النار مثوى الكافرينـا
وأن العرش فوق الماء طاف ** وفوق العرش رب العالمينا
وتحملــــــــــــــه ملائكــــــــة كـــــــــــرام ** ملائكـــــــــة الإله مسومينــــا
قال: (فلها شرطها، وإن لم يفي به فلها فسخ النِّكاح)، مثلما قلنا، وهذا يُشعرنا بأن المؤلف على جادَّة المذهب، أنَّ مردَّ الوفاء إلى الاستحباب لا الوجوب.
ولو اشترطت أن يطلق ضرَّتها، كأن يتزوجها ثانيةً فقالت: بشرط أن تطلق زوجتك الأولى!
فنقول: هذا محرَّمٌ، لأنه قد جاء النهي عنه، فهو من الشُّرُوط الفاسدة، لذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ إِنَاءَ صَاحِبَتِهَ» ، وإن كان عند متأخري الحنابلة أو بعضهم قد ذكروا أن ذلك من الشُّرُوط الصحيحة، ولكنه محل نزر، ولذلك كان عند جمع من أهل التحقيق الاستدراك على ذلك، والقول بعدم صحَّةِ تاشَّرط لو اشترطته المرأة على زوجها.
{قال -رحمه الله: (وَنَهَى رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِكَـاحِ الْمُتْعَةِ، وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إِلى أَجَلٍ مَعْلُوْمٍ، وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيْ وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، لَمْ يَصِحَّ لِذلِكَ)}.
انتقل المؤلف الآن من الشُّرُوط الصحيحة إلى الشُّرُوط الفاسدة، والشُّرُوط الفاسدة منها ما هو:
 فاسد مفسد للعقد.
 فاسد مع صحَّة العقد.
فابتدأ المؤلف -رحمه الله تعالى- بما لا يصح معه العقد، كنكاح المتعة، وذلك بأن يشترط في العقد ويقول: تزوجت فلانة شهرًا، أو يقول: زوجتك ابنتي أسبوعًا، أو في الصيف، أو نحو ذلك.
فنقول: هذا نكاح متعة، فإذا تزوجها على ذلك فهو مما نهى عنه النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واستقرار النهي عن نكاح المتعة هو قول الصحابة، وقول التابعين، وعليه عامة السلف لا يختلفون، وإن نُقل عن ابن عباس قول بإباحته؛ إلا أنَّ هذا القول قد رُويَ عنه الرجوع عنه.
قَدْ قُلْــــت لِلشَّيْـــــخِ لَمَّا طَالَ مَحْبِسُهُ ** يَا صَاحِ هَلْ لَك فِي فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسِ؟
هَلْ لَك فِي رُخْصَةِ الْأَطْرَافِ آنِسَةٌ ** تَكُـــــــــــونُ مَثْــــــوَاك حَتَّى مَصْــــــــدَرِ النَّاسِ؟
فلمَّا رأى ابن عباس أن تجاسروا على هذا الأمر رجع عن هذه الفتوى، ثم إنَّ القول بها مهجور، وقول عامَّة الصحابة كعمر وعلي وغيرهم هو حُرمَة نكاح المتعة، وأنه على ذلك استقرَّ النهي.
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث الربيع بن صبرة أنَّه «نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» ، وجاء في الحديث الصحيح أنَّه نهى عنه في عام فتح مكة، ولأهل العلم في ذلك كلام، فنكاح المتعة جاء الشرع بإباحته، ثم نُسِخَ إلى تحريمه، ففي حديث الربيع بن صبرة أنَّه نهى عنه عام خيبر، وفي حديث آخر أنَّه نهى عنه عام الفتح، فبعض أهل العلم يقول: إنَّه انقلب على الرواي، فإنَّه نهى لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، ونهى عن نكاح المتعة ولكن ليس يوم خيبر، فعكس الرَّاوي، وكأنَّه جرى في ذلك شيءٌ من القَلبُ، واستقرَّ النَّهي عام الفتح، أنَّه لا متعة، ولا يجوز للإنسان أن يستمتع، واستقرَّ على ذلك، وإن خالف في ذلك مَن خالف من أهل الأهواء والبدع كالرَّافضة وغيرهم، فإنَّ قولهم لا يُعتدُّ به ولا يُرجع إليه، ومفاسد هذا النِّكاح وما فيه من ابتذال للمرأة ظاهر.

هل يُلحق بذلك لو شرَطَ أن يُطلقها في وقت بعينه؟
في المسألة الأولى قال: تزوجتك شهر؛ فإنَّ هذا يترتب عليه أن نهاية الشهر لن تكون له زوجة حتى لو رغب البقاء معها.
أمَّا المسألة الثانية: لو شرط أن يطلقها، فقال: بعد شهر أطلقكِ. ففي هذه الحال هل نقول من أنه متعة أو لا؟
المؤلف يُلحق ذلك بالمتعة ويُدرجه فيه، فيكون ذلك ممَّا نُهيَ عنه، ومما دخل في الحكم.
وعلى كل حال؛ فإن هذا الشرط بلا شك أنه شرط فاسد، وكما ذكر المؤلف أنه مبطل للنكاح بكل حال.

الحال الثالثة: إذا نوى الطلاق، ولم يكن في ذلك شرط، ولم يكن منهما اتِّفاق ولم يظهر منه؛ فهل يكون ذلك سائغًا أو لا؟
الحقيقة أن هذه مسألة فيها إشكال، وإشكالها ليس من جهة النظر الشَّرعي فحسب؛ بل في الواقع هو أكثر، وأيضًا ممارسة بعض الناس للنكاح بنيَّة الطلاق ممارسة سيئة، وفيها من ابتذال النساء والتَّسلُّط عليهنَّ واللعب بهنَّ ونحو ذلك ما هو ظاهر، فلأجل هذا سواء قلنا إن النِّكاح بنية الطلاق صحيح لأنَّنا لا ندري ما يُحدث الله من قرب القلوب وصلاحها، وقرب الزوجين واستبقائه لها من عدمه، فهذا قال به ابن قدامة، بل نقل أن قول عامة أهل العلم، وأيضًا هو فتوى الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى.
وبعضهم قال: إن هذا فيه نوعُ تحاليلٍ، وأنَّ الأصل في النِّكاح أنَّه للتأبيد وعدم التوقيت، وأن يكون سرمديًّا ولا حدَّ له، فهذه النية مخالفة.
وأيًّا كان؛ فنقول: لا حاجة للإنسان أن ينوي، فإنَّ أناسًا تزوَّجوا بنات عمِّهمعلى أنه لن يُفارقها يومًا، وما بقيَ معها دقيقةً؛ فكل ذلك ممَّا يُحدثه الله -جل وعلا، وتزوَّج أناس على أنه لا يُريدها وليس في نفسه أن يبقى معها، إما لإرضاء أهله، وإما لحاجته وإقبال نفسه شهوة أو نزوةً ويظن أنَّه لا يرغب عنها، فبقيت معه أبدَ الآباد على مرِّ الأيام، وكانت خيرَ من آوى إلى نفسه، وسكن إلى حضنه، فليس للإنسان حاجة أن ينوي.
لماذا نشدد فيه على كل حال؟
أولًا: لأنَّ الطَّلاق مُباح من حيث الأصل، فإذا حدث للإنسان نية الطلاق مع زوجه في حال زواجهما، ولم يكن بالحال بينهما بأس، فلم يكن عليه في ذلم غضاضة، فليس لنا أن نمنع منه.
ثانيًا: الإشكاليَّة في ممارسة الناس، وليس في أصل الشرع، فالقلوب لها تقارب ولها تجاذب، ولها أنس، فالغالب مهما كان في نفس الإنسان من انه يريد أن يتزوج وقتًا ثم يُطلق، ولكنه لا ينفك إذا كانت المراة امرأة جيدة وتقضي نهمته، وهي أمثل ما تكون زوجةً له، فإنَّه يُقبل عليها، فلا حاجة لنا إلى أن نقول مثل هذا.
أمَّا ممارسة النَّاس في الواقع فليس مبدؤها الزواج بنية الطلاق، وإنما مبدؤها ان كثيرًا من الناس يتلاعبون بالنساء، فتجد أنه يُخفي اسمه، ويذهب إلى امرأة ربما كانت لم تظهر عفَّتها، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن نكاح الزَّانيات والزواني، وإمَّا أنها هي زوَّرت في نفسها أن تبقى عنده أيامًا ثم تذهب؛ إلى غير ذلك من الممارسات! فممارسة الناس هذه ليست جيِّدة!
فهذه الممارسات ينبغي أن يُشدَّد فيها، وأَلَّا يُوسَّع للناس في ذلك، فإنَّ فيه فساد كبير، وأن مثل هذا الباب ينبغي أن يوجَّه الناس إلى أن هذا مسلكٌ ليس بالجيد، وربما عرَّضَ الإنسان نفسه إلى العطب، وألا نمنع منه لما يُحدث بين الأزواج من الأنس والراحة والمحبة.
وكما قلت لكم: إن بينهما فرق كبير، لأن كثير من الناس يقول: الزواج بنية الطلاق مثل نكاح المتعة!
نقول: لا وكلا.
أول شيء: هذا زواج المتعة قد جاء الشَّرع بمنعه، ودلَّ الدليل على النَّهي عنه، وذاك لا...
ثانيًا: أنَّ النِّكاح يُحدث الله فيه خيرًا كثيرًا، أما زواج المتعة ينتهي إلى وقت، لو أراد أن يبقيا يومًا لم يكن لهما، لا الزوج ولا الزوجة ولو اجتمعا على ذلك، فبينهما فرق، وأمَّا الزواج بنية الطلاق، فما ينويه اليوم قد لا يحص أو يؤخره إلى الغد، ثُمَّ يُؤخره، ثم يرى أنه يركن إليها ويستقر عندها، مع أنَّنا نظهر عدم الركون إلى مثل هذا أو المسير فيه، لما فيه من التَّبعة، ولما قرر بعض أهل العلم من المنع منه، ولما قد يلحق الإنسان بسببه من السوءة في الدنيا، وقد تلحقة التَّبعة في الآخرة.
{قال -رحمه الله: (وَنَهَى عَنِ الشِّغَارِ، وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلى أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ وَلاَ صَدَاقَ بَيْنَهُمَ، وَلَعَنَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ، وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلاَثاً؛ لِيُحِلَّهَا لِمُطَلِّقِهَ)}.
نكاح الشِّغار: هو نكاح من أنكح الجاهليَّة، كان فيه إضرار بالمرأة، وإذلال لها، وتسلط عليها، وهو مأخوذ من الشُّغور:
 إما لأنه يشغر من المهر، يعني لا مهر فيه، منه تُسمى "وظيفة شاغرة" يعني فارغة، وهو كذلك نكاح الشغار؛ لأنه شاغر فارغ من الصَّدق.
 وإما أنه سُمِّيَ بذلك تمثيلًا له بالكلب إظهارًا لسوئه؛ لأنَّ الكلبَ يرفعُ يده إذا أراد أن يبول، فيفرق، ففيه شبه من ذلك، وهو على سبيل التَّقزيز منه والتَّنفير.
فهذا النِّكاح لما كان من أنكحة الجاهليَّة، ولما كان يتدوال وجرت عليه العرب وألفته؛ نهى عنه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو أن يزوج الرَّجل موليَّته على أن يزوجه الرَّجل الآخر موليَّته ولا صداق بينهما.
لماذا نقول: "موليته" ولا نقول: "ابنته"؟
لأنها قد تكون ابنته، وقد تكون أخته، وقد تكون ابنة أخيه؛ فكل ذلك داخل في هذا الحكم.
ما علة النهي عن نكاح الشغار؟
هذه من أشكل المسائل! هل العلة في ذلك أنه لا صداق بينهما؟ فمعنى ذلك أنه لو أنكح هذا ابنته على أن ينكح الآخر ابنته، ووجد بينهما صداق؛ أن ذلك حلال؟
أو العلة أن فيه التعليق؟ بمعنى أنني لا أزوجك حتى تزوجني؟ فكأن تزويجي له مقابل المهر وتويجه لي، فيكون فيه تعليق، فلا يصح هذا إلا بأن يصح هذا؛ فيكون فيه دور؟؟؟
فعلى كل حال؛ هو محتمل لهذا وذاك، وهو أيضًا مما ذكر فيه شُرَّاح الحديث كلامًا طويلًا فيما يتعلق بأصل النَّهي -أو علة النَّهي- عن نكاح الشغار.
فنقول: التعليق فيه قائم، ويُمكن أن يكون علة صحيحة، ومثل ذلك أيضًا شُغُوره وفراغه من المهر.
طيب، لو كان فيه مهرًا، أليس فيه إذلال؟
الحقيقة أنَّه لو كان فيه مهر لخرج عن أن يكون من أنكحة أهل الجاهلية، وخرج أن يكون من نكاح الشِّغار الذي جاء فيه الحديث «وَلَا صَدَاقَ بَيْنَهُمَ».
ثم هذا هو مما يُمكن تصحيحه أو لا؟
نقول: من حيث الأصل هو صحيح.
فإن قيل: هو زوج ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، وقد لا تكون راضية؟
نقول: الرضا وعدم الرضا، وصحة ولايته، وسعيه في المصلحة من عدمها؛ هذه معتبرة سواء كان نكاحًا مقابل أن ينكح ابنته أو غير ذلك، صحيح أنه في مثل هذه الصور يكون أظهر عدم رعايته لمصلحة البنت؛ فهنا ننظر إلى أصل ولايته، لو كان قد أخلَّ بهذه الولاية والسعي في مصلحة البنت، لكان قطعًا أنه ممنوع، وتُرفع يده عن الولاية، ويُنتقل إلى غيره، وسواء قلنا بصحة الصورة إذا وُجدَ الصداق من عدمه، وحتى لو وُجد صداق فإنه لا ينفك أن تكون صورة من صورِ أهل الجاهلية أو هو مُقاربٌ لها، فينبغي أن يُترفَّع عنه ويحفظ الإنسان نفسه لما فيه من الشَّبهة، ولأن بعض أهل العلم كجماعة من المحققين ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره؛ منعوا حتى ولو وُجد صداق لما يترتب عليه من ابتذال المرأة، وكأن هذه مقابل هذه، وأنها محل للمعاوضة، وما في ذلك من مخالفة ومفارقة لما جاء به الشَّرع من إعزاز المرأة والحفاظ على مكانتها، ورعاية مصلحتها، وألا تُبتَذَل لا ظاهرًا ولا باطنًا؛ فيُجمع لها الخير كله، فلما كان ذلك فيه شيء مخالفة فإنه يُمنع منه.
فهذا نِكاح الشِّغار، وهو لم يزل مَوجودًا خاصَّة في المجتمعات البدائية والقَرويَّة والبدويَّة والنَّائية، وينبغي أن يُحرص على قطع دابره، وإذا وُجد شيء من ذلك فإنَّ مِن النِّساء مَن يستحيين مِن أهلهن ومن والدها، ومن مجتمعها، وهي لا تريد ذلك!
فنقول في مثل هذه الأمور: ينبغي أن تكون المرأة حَصيفة، ولا غضاضة عليها أن تسعى في مَصلحتها، فمن علم بذلك ممَّن حولها ينبغي أن يَسعى مَعها، وأن يُوصل الأمر إلى مَن يمنع مثل هذه الأمور، ويحول بينه وبينها، وإذا لم يوجد فإنَّ على المرأة أَلَّا تسكت، ويُمكن في ذلك أن تتصل بمن تثق به كإمام المسجد، أو المفتي في تلك المنطقة ونحوه؛ وتطلب مساعدته، ويكون ذلك على وجه يحفظ فيه برَّها بوالديها، والحفاظ على علاقتها بهم، وأيضًا يمنع من التَّطاول عليها، أو إدخالها في نفقٍ ربَّما يُلحق بها الضَّرر وربما يُدخلها فيما لا يسوغ دخولها فيه، ويلحقها بسبب ذلك بلاءٌ كثير، وهذا من الأمور التي ينبغي التَّواصي على قطع دابرها لما جاء من النَّهي عنها.
يقول المؤلف -رحمه الله- بعد ذلك: (وَلَعَنَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ).
لاحظوا هنا أنَّ المؤلف على عادته لما أمكن أن يأتي بالحديث ليكون المسألة ويكون الدليل عليها.
صورة المحلل والمحلل له: هو أن يتزوَّج الرجل امرأة طُلِّقت ثلاثًا، ثُمَّ يُطَلِّقُها لتعود إلى زوجها؛ لأنَّ المطلقة ثلاثًا لا يحل لها أن تعود لزوجها إِلَّا أن تَنْكِحَ زوجًا غيره، فهذا قد جاء النَّهي عنه، فالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟» ، فسمَّاه تيسًا مُستعارًا، وقال في هذا الحديث «لَعَنَ الله الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ»، لما في ذلك من الابتذال، وهذا مِمَّا جاء الشرع بالمنع منه، فهو محرمٌ تحريمًا ظاهرًا، والقول بتحريمه هو قول أكثر أهل العلم.
وأظهر صورة له: أن يكون اتفاق على ذلك في العَقد، سواء كان اتفاق من المحلل فقط، أو كان ذلك من المحلل له، وسواء كان الاشتراط في العقد، أو قبله، ولذلك جاء عن الصَّحابة التَّشنيع في ذلك، فجاء رجل إلى ابن عباس وقال: إنَّ عمِّي طلَّق امرأته ثلاثًا وهي أم صبيانٍ وكذا...، أفلا أتزوجها وأطلقها لتحلَّ له؟
قال ابن عباس: "من يُخادع الله يخدعه" ، فالله لا يُوصَف بالخداع، ولكن هذه عند أهل العلم على سبيل المُشاكَلة، ولهم فيها كلام يُؤتى في أبواب الاعتقاد، وجاء عن عمر أنَّه قال: لو فُعل مثل هذا لأدَّب مَن فعل ذلك، وذلك لَمَّا جاء إليه رجل وقال: إنه يريد أن يتزوج امرأة ليُحلَّها لزوجها.
وعلى كل حالٍ؛ هذا مما تتابع السَّلف عليه، وجاءت بذلك الأحاديث والآثار. وهذا إذا اتفقا عليه في العقد، أو كان ذلك قبل العقد؛ لما قلنا من أنَّ الشروط السَّابقة للعقد كالشروط في العقد.
المسألة الثالثة: إذا نوى الرجلُ التَّحليلَ ولم يكن قد أشعَرَ لا المحلَّلَ له ولا غير ذلك، ولا أحد يدري، فهل يكون مَنهيًّا عنه أو لا؟
الظَّاهر أنَّه يكون مَنهيًّا عنه، لعموم الحديث «لَعَنَ الله الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ»، فهذا داخل على التَّحليل، فتعلق به الحكم.
قد يقول قائل: لماذا قلتم في مسألة الزَّواج بنية الطلاق أنَّها محلُّ كلام، وهنا لم تقولوا أنَّها محل كلام؟
نقول: الفرق بينهما: أنَّ الطلاق في أصله مُباح، أمَّا الحليل في أصله محرَّم؛ لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَعَنَ الله الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ»، فهذا نوى المحرَّمَ، وذاك نوى في الأصل شيئًا مُباحًا، ففرق بينهما، مع ما ذكرنا من التَّشديد في تلك المسألة من حيث الجملة، وإن كان لا يسعنا أن نقول: إنَّها مثل هذا للفرق بينهما، ولافتراق الدلائل والحال، وما يترتب عليها من المسائل.
المسألة الرابعة: إذا نوت المرأة التَّحليل، كأن يتقدم إليها رجل، وهي في نفسها نوت أن ترجع لزوجها، ونوت التَّحليل، قالت: أجلس معه مدة ويُطلقني.
بعض أهل العلم أيضًا أدخلها في ذلك، لكن الذي يظهر أنَّها لا تدخل في صور التَّحليل؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَعَنَ الله الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ»، هذا من جهة.
الجهة الثانية: أنَّ المرأة ليس بعصمتها النِّكاح، فإنَّها إذا تزوجت فإنَّ الزوج يُمكن أَلَّا يُطلقها، حتى ولو رغبت في الطَّلاق أو استدعت أسبابه، حتى ولو عصت أو نشزت، فيُمسكها، فبناء على ذلك قالوا: لا يتصور منها التَّحليل، وبناء على ذلك فإنها لا حُكم لها فيه، حتى ولو وقع في نفسها أنَّها تريد بهذا الزواج أن ترجع إلى زوجها الأول. فهذا ما يتعلق بزواج التَّحليل.
ولم يذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- الشروط الفاسدة، مثل: لو اشترطت أَلَّا يطأها، فهذا الشَّرط فاسد؛ لأنَّ أصل النِّكاح على أن يطأها، فنقول: يصح النِّكاح ويبطل الشَّرط إِلَّا أن يكون لذلك سببٌ صحيح كان تكون صغيرة فتنتظر حتى تكبر خلقتها وتحتمل الوطء، وإمَّا أن تكون في حال حجٍّ وإحرام حتى تفرغ من حجها، أو نحو ذلك، فهذا صحيح، ولكن من حيث الأصل فإنَّ هذا يكون من الشُّروط الفاسدة.
وذكر أهل العلم مسائل مُهمَّة مُتعلقة بما يحتاج النَّاس إليه، كأن يَشترط إسقاط النَّفقة، أو إسقاط الليلة ونحوها، وهو الذي يُسمَّى عند النَّاس بنكاح "المسيار" وتكلمنا عنه، وهذ موجود عند السَّلف، وليس شيئًا حادثًا، فكانوا يُسمونه "نكاح النَّهاريَّات" لأنه كان يأتي زوجته في النَّهار، أو يأتيها كل أسبوع.
يقول أحمد وغيره كالحسن: لا بأسَ بذلك؛ لأنَّه شَرط صحيح، والنِّكاح صحيح؛ ولأنَّ لها رغبة في النِّكاح، وكل له ظروفه، ويُمكن أَلَّا يتحصَّل لها زوج مثل هذا وهي إِلَّا بهذه الحال، وهي لا ترضى بدونه، أو أنَّ لها ما يُشغلها، فتكتفي من الزَّوج بما يحصل به عفَّتها، فثَمَّ مَطالب كثيرة تدلُّ على ذلك.
فعلى كل حالٍ ما دام أنَّ النِّكاح مُستكملٌ للشُّروط فإنَّه لا شيء فيه، ثُمَّ ينبغي أن تعلم النِّساء أنَّه لو اشترط عليها إسقاط النَّفقة فأسقطتها، أو اشترط إسقاط الليلة فأسقطتها؛ فإنَّ لها أن تُطالب بها؛ لأنَّ هذا شيء مُتجدد، وهو حقٌّ لها، فما أسقطته فيما مضى يُمكن أن تُطالب به فيما بقي، ومثل ذلك لو شرط عليها أن يُنجب منها ونحو ذلك، فلها أن تُنجب، وهو حقٌّ لها، وتجدُّد ذلك صحيح ولا غضاضة عليها فيه.
{شيخ أحسن الله إليكم...
نحن في باب الشُّروط في النِّكاح، هل الأفضل كتابة الشروط وتقييدها؟ أو يُستحسن بين الزوجين أن يَدَعُوا الكتابة والتقييد ويكون بالتَّفاهم بينهما؟}.
التَّوثيق والكتابة هي التي تُلزم، وكم من النَّاس أمورهم صالحهم في أول إقبالهم، وتكون فاسدة في ابتداء أيامهم، فيقع بينهم من الإشكال والنِّزاع ، وربما تعود بالملامة على والدها، وربما يعود بالملامة على أخيها، ونحو ذلك، فلو كان مُقيدًا فيكون إليه المرجع، وهو محل الفصل عند الاختلاف، فلا غضاضة فيه، ثُمَّ إنَّ كتابة هذه الأمور لا غضاضة فيها، وليس على الإنسان فيها شيء، كأن تشترط بيتًا واسعًا، أو اشترطت فرشًا مُناسبًا، أو اشترطت سيارة فارهةً، إلى غير ذلك، هو مما جعله الله لها، فلها أن تشترط ما شاءت ولا غضاضة عليها في ذلك، وهو كذلك إذا اشرطت عليها شيئًا، والله تعالى أعلم.
{أيضًا من الأمور التي تحدث أحيانًا، تحدث مسائل خلافيَّة شرعية، تجد الزوج حرَّمَ شيئًا، والزوجة ترى الجواز، فتشترط الزوجة أمرًا معيَّنًا، فما الحكم في ذلك؟}.
إذا كان شيئًا لها فيه مندوحة، مثلًا: لو اختلفا في النَّفقة، هو يقول: النَّفقة على طريقة الشَّافعية، وهي على طريقة الحنابلة؛ أو العكس، فلا غضاضة عليها بما يرتفع معه الخلاف.
وددنا أن ننتهي من كتاب الصَّداق، ومعاشرة النساء، والقَسم؛ فلعلنا نتخفف في الدروس القادمة -إن شاء الله.
{نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
وأنا أشكركم ، وأشكر الإخوة، وأشكر هذه المؤسسة العلمية، وأسأل الله أن ينفع بها، وأن ينفعنا بها، وأن ينفع الإخوة المشاهدين والمتابعين، والدَّارسين.
{اللهم آمين...
هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك