الدرس السابع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

1840 12
الدرس السابع

عمدة الفقه (6)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكَ الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{نبدأ في هذه الحلقة -بإذن الله- بمسائل تابعةٍ لتعليق الطَّلاق بشروط.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَأَدَوَاتُ الشَّرْطِ سِتٌّ: إِنْ، وَإِذَا، وَأَيُّ، وَمَنْ، مَتَى، وَكُلَّمَا، وَلَيْسَ فِيْهَا مَا يَقْتَضِيْ التِّكْرَارَ إِلاَّ كُلَّمَا، وَكُلُّهَا إِذَا كَانَتْ مُثْبَتَةً، ثَبَتَ حُكْمُهَا، عِنْدَ وُجُوْدِ شَرْطِهَا، فَإِذَا قَالَ: إِنْ قُمْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَامَتْ، طَلُقَتْ، وَانْحَلَّ شَرْطُهُ، وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا قُمْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، طَلُقَتْ كُلَّمَا قَامَتْ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جلَّ وَعَلا- أن يجعلنا مِن عبادِهِ الشَّاكرين وأوليائه الصالحين، وأن يُعيننا على ما يكونُ سببًا لصلاحنا في الدُّنيا والدِّين، وأن يحفظنا مِنَ الفتن ما بقينا يا ربَّ العالمين، ووالدينا وجميع المسلمين.
أيُّها الإخوة الكرام؛ لا يزال الحديث مَوصولًا فيما ذكرَه المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- في هذه الأبواب التي فرَّع فيها مسائل في الطَّلاق، وسبق أن قلنا: إنَّ سببَ ذلك لَمَّا كانت أحوال النَّاس تتنوَّع، وإيقاع الطَّلاق يكون على صُورٍ مختلفةٍ وأنواعٍ شتَّى؛ احتاج الفقهاء -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى- أن يُقرِّبوا للفقيه وأن يُبيِّنوا لطالب العلم ما يُمكن أن يكونَ عونًا له في حلِّ ما يلحق النَّاس في مسائلهم، وما ينتابهم في واقعهم، وما يكون به صلاح دينهم، وبقاء نكاحهم، وأحكام طلاقهم، وهذا قد مرَّت الإشارة إليه.
وأظنُّ أنَّنا استهللنا بابَ تعليق الطلاق بشروط، وذكرنا أدوات الشَّرط، وأنَّ المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر ستًّا منها، وهي مبثوثةٌ أكثر من ذلك في كُتبِ اللغة، وذكرها النُّحاة -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى.
وهذه المباحث مأخذها في الجملة مأخذٌ لغوي، يعني: أنَّ حكمَ الفقهاءِ لها مبنيٌّ على حكمِ أهل اللغة فيها، فدلالتها اللغويَّة مُعتبرةٌ عندَ الفقهاء باعتبار أصلِ اللغة واللسان العربيِّ؛ لأنَّ هذا هو الأصل.
فقال المؤلف: إنَّ هذه الأدوات لا تقتضي التَّكرار، يعني: مَن علَّقَ طلاقَ امرأتِهِ بواحدٍ من هذه الأدوات فإنَّه إذا وقعَ المُعلَّق عليه وقعت الطَّلقة، ثم انحلَّ الشَّرط، يعني: أنَّها لو قامت مرَّةً ثانية، أو لو خرجت -إذا كان قد علَّق الطَّلاق على الخروج بــ "إن، أو إذا، أو متى، أو أيُّ، أو نحو ذلك" فإذا خرت طلَقَت، ثم انحلَّت اليمينُ؛ إِلا "كلَّما"؛ لأنَّها دالَّةٌ على التَّكرار في أصلِ اللغة، وفي استعمال القُرآن في كتاب الله -جلَّ وَعَلا- فبناءً على ذلك فإنَّه إن قال: "كلَّما قمتِ فأنتِ طالق"، فإذا قامت الأولى طلقَت، ثم إذا قامت الثَّانية طلقة ثانية، ثُمَّ إذا قامت ثالثة طلقة ثالثة؛ فلا تنحلُّ اليمينُ البتَّة، وذلك لأنَّ "كلما" دالَّةٌ على التَّكرار، وتعلُّق الطلاق بذلك في كلِّ حالٍ من أحوال قِيامها، وهذا مرَّت الإشارة إليه.
هذا في حال كون أدواتِ الشَّرط مثبتةٌ، ولذا قال: (وَكُلُّهَا إِذَا كَانَتْ مُثْبَتَةً، ثَبَتَ حُكْمُهَا، عِنْدَ وُجُوْدِ شَرْطِهَ). ومثَّل لذلك بنحو ما قلنا.
ثم بعد ذلك أراد المؤلف أن يُبيِّن الحكم فيما إذا كان التَّعليق في حالِ النَّفي، فإنَّ لها حكمًا يخصُّها، أو اختلافًا في دلالتها اللغويَّة، وبناء على ذلك كان ترتيب الفقهاء عليها في الحكم مُختلفًا تبعًا لاختلاف المعنى اللغوي، أو ما يعتبره أهل اللغة والنَّحوِ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَتْ نَافِيَةً، كَقَوْلِهِ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، كَانَتْ عَلى التَّرَاخِيْ فَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ إِلاَّ فِيْ آخِرِ أَوْقَاتِ اْلإِمْكَانِ)}.
قوله: (وَإِنْ كَانَتْ نَافِيَةً)، يعني: إذا اجتمع مع أداة الشَّرط حرف النَّفي "لم" كأن يقول: "إن لم أُطلِّقكِ فأنتِ طالق"، "متى ما لمْ أُطلِّقكِ فأنتِ طالق"، فهذه لها أكثر من حال، فلا يخلو أن تكون الأداة التي استُعمِلَت في ذلك هي حرف "إِنْ"، فإذا استُعمِلَت مَنفيَّةً فإنَّها تدلُّ على التَّراخي، وعليه يكون معنى قوله: "إن لم أُطلِّقكِ فأنتِ طالق" أنَّها تبقى زوجته اليوم وغدًا وبعد غد...، إلى آخر أوقات الإمكان، فإذا جاء عند موتِهِ بحيثُ اشتدَّ عليه الموت ووقعَ به؛ ففي هذه الحال نتيقَّن أنَّه لمْ يُطلِّقها، فوقع المعلَّق عليه وهو عدمُ التَّطليق.
إذن؛ المعلَّق عليه: عدم التَّطليق، وهو هنا ليس في حدٍّ محدود ولا في وقتٍ مُعيَّن، وعلى قول أنَّ "إنْ" دالَّةٌ على التَّراخي فيكون الوقت مُتسعًا ولا يُحدَّد بحدٍّ ولا يُلزَم بوقتٍ، فبناء على ذلك فإنَّنا نقطع بحصول المعلَّق عليه إذا قارنته الوفاة، فنعلم أنَّ هذا هو الوقت الذي نقطع أنَّه لم يُطلقها فيه، فيحصل المعلَّق عليه وتطلُقُ طلقةً عند ذلك. فهذا واضحٌ من جهة المعنى ومن جهة حصول المعلَّق عليه.
قال المؤلف: (إِذَا لَمْ يَنوِ وَقتً)، هذا قيدٌ مهمٌّ، أمَّا إذا قال: "إن لمْ أُطلقكِ فأنتِ طالق" وكان قد نوى اليوم فإنَّ نيَّته مُعتبرة، فإذا مَضى ذلك اليوم ولم يُطلِّقها فهي طالقٌ، وهذا يحصل أحيانًا، كأن يقول له بعض مَن حضر: لماذا تطلقها؟ اتَّقِ الله واصبر؛ فأراد أن يقطع الطَّريق عليهم فقال: "إن لم أُطلِّقها فهي طالق" ويقصد بذلك اليوم الذي هو فيه. فنقول: إنَّ نيَّته مُعتبرة.
وكذلك إذا احتفَّت بقرينة تدلُّ على أنَّه أرادَ الطَّلاق في آنِه، كأن يقول: أنا سأُطلقها الآن. فيقولون له: اصبر إلى بعد أسبوع، فقال: "إن لم أُطلقها فهي طالق"، فدلَّ ذلك على أنَّه أرادَ في آنِه ذلك الذي هو المجلس القائم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَسَائِرُ اْلأَدَوَاتِ عَلى اْلفَوْرِ، فَإِذَا قَالَ: مَتَى لَمْ أُطَلِّقْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يُطَلِّقْهَا، طَلُقَتْ فِيْ اْلحَالِ، وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا لَمْ أَطَلِّقْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَمَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ طَلاَقُهَا فِيْهِ ثَلاَثًا وَلَمْ يُطَلِّقْهَا، طَلُقَتْ ثَلاَثًا إِنْ كَانَتْ مَدْخُوْلًا بِهَ)}.
قوله: (وَسَائِرُ اْلأَدَوَاتِ عَلى اْلفَوْرِ)، أي أدوات "إذا، وأي، ومتى، ومَنْ"؛ لأنَّ "كلما" أصلًا دالَّةٌ على التَّكرار سواءٌ في حالِ الإثبات أو في حالِ النَّفي، فالمؤلف الآن يتكلَّم على حال النَّفي، وحال النَّفي مُفصَّلة، فــ "إنْ" لها وضعها؛ لأنها دالَّةٌ على التَّراخي وليست على الفور، وأمَّا سائر الكلمات فهي دالَّةٌ على الفور، فإذا قال: "متى لم أُطلِّقكِ فأنتِ طالقٌ" فمضى وقتٌ لم يقل فيه "أنتِ طالق" فتَطُلق.
لقائل أن يقول: ما الفَرق بينهما؟
نقول: إنَّ الفرقَ مثلما قلنا قبلَ قليل: إنَّ مردَّ هذا إلى أصلِ اللُّغة، ولذلك اعتمد الفقهاء -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى- في هذا على قولِ النُّحاةِ وأهلِ اللُّغة فقالوا: إنَّها دالَّةٌ على الفور إذا اقترنت بنفيٍّ، فحكم الفقهاء تبعًا لذلك؛ لأنَّ المتكلِّم بذلك عربي ويلحقه ما يلحق المعاني العربيَّة، وما اشتملت عليه الألفاظ العربية في ذلك.
وقد نظم في ذلك بعضُ أهل اللغة نظمًا، فقال: إنَّ "إِنْ" دالَّةٌ على التَّراخي ما لم يدل عليها قرينة، وأنَّ سائر الألفاظ تكون على الفور على نحو ما ذكرَ المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- تبعًا للفقهاء الذين تبعوا في ذلك قول النُّحاة.
ثم يقول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا لَمْ أَطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَمَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ طَلاَقُهَا فِيْهِ ثَلاَثًا وَلَمْ يُطَلِّقْهَا، طَلُقَتْ ثَلاَثًا إِنْ كَانَتْ مَدْخُوْلًا بِهَ).
إذا قال: "كُلَّمَا لَمْ أَطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ" فإذا وقَفَ ولم يُطلقها؛ إذن طلَقَت، ثم مضى زمنٌ ولم يطلِّقها طلَقَت، ثم مضى زمنٌ ولم يطلِّقها طلَقَت، فبناء على ذلك تتبعها ثلاث طلقات.
إذا قيل: هي الآن طلقت بالأوَّلةِ وهو يقول: "كُلَّمَا لَمْ أَطَلِّقْكِ"!
فنقول: هذا الذي حصل به التَّطليق ليس هو إيقاع وإنَّما هو وقوع الطَّلاق، فكأنَّه يقول: إذا لم أقل: "أنتِ طالق" فأنتِ طالق؛ ففي هذه الحالة لم يحصل منه لفظ: "أنتِ طالق" إذن المعلَّق عليه أن يقول: "أنتِ طالق"، وهو لم يقلها؛ فمعنى ذلك أنَّه كلَّما مَضى وقتٌ فإنَّها تقع عليها تطليقة حتى تجتمع الثَّلاث تطليقات.
لماذا لا تطلق أكثر؟
قالوا: لأنَّ أكثر الطَّلاق ثلاث، وإلَّا فإنَّ "كلما" دالَّةٌ على العَودِ والتَّكرارِ، فلو كانَ قد بقيَ لها طلاقٌ لكانَ واقعًا.
الفرق بين إيقاع الطَّلاق ووقوع الطَّلاق.
الغالب أنَّ إيقاع الطَّلاق ووقوع الطَّلاق يكونان مُقترنان، فإذا قال: "أنتِ طالق" فهذا لفظ الطَّلاق وإيقاع للطَّلاق.
لكن لو وجدَ امرأته مُستلقيه، فقال لها: "أنتِ طالق" فهنا إيقاع للطَّلاق، فلمَّا حرَّكناها وجدناها ميتةً، فهنا حصل إيقاع الطَّلاق ولم يحصل وقوع الطلاق.
أحيانًا يقول الزوج: "إنْ قمتِ فأنتِ طالق" وهي جالسة، فهنا حصل إيقاع الطلاق ولم يحصل وقوع الطَّلاق، فإذا قامت وقع الطلاق، وإيقاع الطلاق مُتقدِّم، ولكن الحال الذي قامت فيه صارَ فيه وقوعٌ للطلاق لا إيقاع له.
ودائمًا تُشكل هذه المسائل على بعض الطلاب إذا تكلموا على إيقاع الطَّلاق ووقوع الطَّلاق، وأنا دائمًا أُمثِّل للطلاب إيقاع الطَّلاق ووقوعه بمثل البندقيَّة التي يُصطاد بها، فإذا أطلقت رصاصة فهذا إيقاعٌ، ومتى ما أصابت صيدًا فهذا وقوع، قد يتقارنان وقد يتباينان، وقد يحصل إيقاع بدون وقوع، وقد يتأخر الوقوع عن الإيقاع.
قال المؤلف: (إِنْ كَانَتْ مَدْخُوْلًا بِهَ)؛ لأن الغير مدخول بها تطلق بمجرَّد الطَّلقَة الأولى وتَبين لأنَّها لا عدَّة لها، وسياتي التنبيه عليه في أول الباب الذي سيذكره المؤلف بعد ذلك.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا وَلَدْتِ وَلَدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَلَدَتْ تَوْأَمَيْنِ، طَلُقَتْ بِاْلأَوَّلِ، وَبَانَتْ بِالثَّانِيْ؛ لاِنْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِهِ، وَلَمْ تَطْلُقْ بِهِ)}.
هذا تنويع في الأمثلة، وانتقالات إلى بعض الصُّور التي يحصل بها التَّطليق.
قال: (وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَلَدَتْ تَوْأَمَيْنِ، طَلُقَتْ بِاْلأَوَّلِ، وَبَانَتْ بِالثَّانِيْ).
لأنَّها لَمَّا ولدت الولد الأوَّل وقعت عليها الطَّلقة الأولى، وكما علمنا أنَّ "كلما" دالة على التَّكرار، فإذا ولدت الولد الثَّاني فسيقع عليها، ولكن عندنا أمرٌ آخر، فإنَّه لَمَّا أوقع عليها الطَّلاق الأوَّل بولادتها الأولى فإنَّها بقيَت في عِدَّة؛ لأنَّها حامل وعدَّة الحامل الوضع، فحينما وضعت الثَّاني انتهت العدَّة قبل أن تقع عليها الطَّلقة الثَّانية، إذن الطَّلقة الثَّانية وافقت امرأةً أجنبيَّةً قد بَانت منه، وبناء على ذلك لم تقع.
لماذا لم تُفِد "كلما" التَّكرار في هذا المثال؟
سبب ذلك لا أنَّ "كلَّما" لا تدلُّ على التَّكرار؛ لكنَّها لَمَّا ولدت الولد الثاني صادف انقضاء عدَّتها، فصارت الطلقة قد وقعت على أجنبيَّة، فلم تكن مؤثِّرَةً كما سبق أن ذكرنا في أول كتاب الطلاق أنَّه لو طلَّقَ أجنبيَّةً فلا شيء في ذلك.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَ: إِنْ حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، طَلُقَتْ بِأَوَّلِ اْلحَيْضِ، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ لَمْ تَطْلُقْ بِهِ)}.
إن قال: "إِنْ حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ" فإنَّها أوَّل ما يكون منها نزولٌ للدَّمِ فإنَّها تطلق؛ لأنَّ الأصل في نزول الدَّم من ذلك المخرج هو نزول دمِ الحيض، فهذا هو المعتاد؛ فلأجل ذلك حكمنا بأنَّ هذا الدم دم حيضٍ فوقع بهِ الطَّلاق.
قال: (فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ)، كأن كشفَت الطَّبيبةُ عليها فوجدت بذلك جرحًا داخل المخرج مثلًا، أو أنَّه كان دمَ فسادٍ، أو أنَّها كانت حاملًا فنزلَ منها دم؛ فإنَّ دم الحامل لا يعتبر حيضًا في المشهور من المذهب عند الحنابلة وقول جماهير أهل العلم.
وبناء على ذلك فإنَّ الأصل أنَّ هذا الدم هو دم حيضٍ، وبناء على ذلك أوَّل ما نراه نحكم بوقوع الطَّلقة، ومتى ما تبيَّنَ خلافه تبيَّنَّا أنَّ المعلَّق عليه لم يقع، فبناء على ذلك فإنَّ الطَّلاق لم يحصل، ولا زالت المرأة في عصمةِ زوجها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَتْ: قَدْ حِضْتُ، فَكَذَّبَهَا، طَلُقَتْ، وَإِنْ قَالَ: قَدْ حِضْتِ، فَكَذَّبَتْهُ، طَلُقَتْ بِإِقْرَارِه)}.
قوله: (وَإِنْ قَالَتْ: قَدْ حِضْتُ، فَكَذَّبَهَا، طَلُقَتْ)؛ لأنَّ الأصل أنَّ الحيض يُعلم من جهتها، فهي مؤتمنةٌ على ذلك، فنقول: إنَّ القول قولها؛ لأنَّها معها الأصل في تلك الحال.
ثم يقول: (وَإِنْ قَالَ: قَدْ حِضْتِ، فَكَذَّبَتْهُ، طَلُقَتْ بِإِقْرَارِه)، كأنَّه أقرَّ على نفسه أنَّه طلَّقها، فعاملناه بالأغلظ؛ لأنَّه اعترف على نفسه بما هو أشد، فبدلَ أن كانَ الطَّلاق مُعلَّقًا فكأنَّه اعترف بأنَّ الطلاق كان مُنجَّزًا وواقعًا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَ: إِنْ حِضْتِ، فَأَنْتِ وَضَرَّتُكِ طَالِقَتَانِ،فَقَالَتْ:قَدْ حِضْتُ، فَكَذَّبَهَا، طَلُقَتْ دُوْنَ ضَرَّتِهَ)}.
لأنَّ الإقرار عند الفقهاء حُجَّة قاصرة، يعني: حجَّةٌ على المقرِّ دونَ غيره، فبناء على ذلك إذا قالت: "قَدْ حِضْتُ" فهنا إخبارٌ عن ما يترتب عليه طلاقها وطلاق ضرتها، فإقرارها على نفسها مقبولٌ؛ لأنَّ الإنسان لا يُتَّهمُ في نفسه، ولكن إقرارها على غيرها فيه جناية عليها، فلذلك لا يُقبَلُ إلا بالبيِّنَة، فإذا أُقيمَت البيِّنَة على أنَّها قد حاضَت طلقت ضرَّتها، وإلا فلا.
أنا أريد أن أُنبِّه على مسألة، وهي أنَّ الفقهاء -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى- يذكرونَ أحيانًا مسائل لا أنَّهم يوافقون عليها ولا أنَّها جائزة في بعض الأحوال؛ فمثلًا قوله: "إنْ حضتِّ فأنتِ طالق" فهذا طلاق بدعي؛ لأنه وقوع للطلاق في الحيض، فكأنه تقصَّدَ أن يقع عليها طلاق في الحيض فهو آثمٌ، فالفقهاء لم يتكلموا على مثل هذه المسألة من جهةِ التَّكليف؛ لأنَّه قَد مَرَّ أنَّهم قالوا: إنَّ هذا طلاق بدعي ومحرم ولا يجوز، فهو لا يحتاج أن يُعيد هذا الكلام مرة أخرى، ولكن هنا بيانٌ للحكم الوضعي، أنَّه حصلَ منه تعليق الطلاق متى يحصل وقوع الطَّلاق، ففي هذا المسألة إذا حاضت حكمنا بأنَّها طُلقت، وإذا كان قد علقَ الطَّلاق بحيضها وحيض ضرَّتها، فنقول: بمجرد إقرارها على نفسها يثبت طلاقها، وأمَّا طلاق ضرتها فلا يكتفى في ثبوته مجرد إقراها بل لابدَّ من البيِّنَة، فإمَّا أن تُقيم البيِّنَة، كأن ينظر إليها من النِّساء اثنتنا فيعلمان أنَّها قد حاضَت فعلًا، فيُخبران بذلك فيحصل الطلاق.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ ماَ يَخْتَلِفُ بِهِ عَدَدُ الطَّلاَقِ وَغَيْرُهُ)}.
تقدَّمت الإشارة إلى هذا الباب، وهي كم يملك الإنسان من الطلاق، فالحر يملك ثلاث طلقات، والعبد يملك اثنتين.
والعادة أنَّ الفقهاء يذكرون في هذا الباب كم يملك الحر وكم يملك العبد من الطَّلقات، ولكن هنا المؤلف ذكر جملة من المسائل فيما يتعلق باختلاف عدد الطلاق من حال امرأةٍ إلى أخرى، ولم يذكر هنا المؤلف كم يملك الحر والعبد من عدد الطلاق؛ لأنَّه قد ذكره في استهلال كتاب الطلاق، فلأجل ذلك دخل مباشرةً في تفاصيل مسائل تتعلق باختلاف عدد الطَّلاق، سواء كان في ذلك الحر أو العبد، أو كان ذلك فيما يتعلق بالمدخول بها من غير المدخول بها، وما يتبع ذلك من أحوال.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الْمَرْأَةُ إِذاَ لَمْ يُدْخَلْ بِهَا تُبِيْنُهَا اْلطَّلْقَةُ، وَتُحَرِّمُهَا الثَّلاَثُ مِنَ اْلحُرِّ، وَاْلاِثْنَتَانِ مِنَ اْلعَبْدِ، إِذَا وَقَعَتْ مَجْمُوْعَةً، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ)}.
تقدَّم معنا المرأة المدخول بها في باب الصَّداق، وذكرنا أنَّ الدخول بالمرأة يحصل بأمرين:
• أمرٍ مجمع عليه: فإذا جامع المرأة فبإجماع أهل العلم أنَّه قد دخل بها، وبناء على ذلك فإنَّ هذه لا اختلاف في أنها يتعلَّق بها أحكام المدخول بها.
• وأمرٍ مختلف فيه: إذا كان قد خلا بها، بمعنى أنَّه قد أغلقَ الباب، وأرخى السِّترَ ولم يحصل منه جماع، فهل يُحكم في هذه الحال بالدُّخولِ أولا؟
الجمهور على أنَّ الدخول لا يتحصَّل إلا بحقيقة الوقاع والجماع.
وأمَّا الحنابلة فقالوا: إنَّ هذا وإن لم يكن جماعًا إلَّا أنَّه في حكم الجماع؛ لأنَّ هذه الأشياء خفيَّة، والشَّرعُ إنَّما يحكم في الأشياء بظواهرها، والزَّوج الذي دخلَ على امرأته لأوَّلِ وهلةٍ لا ينفكُّ مِن جماعها، وهذا هو قول الخلفاء، فقضَى الخلفاء الرَّاشدون أنَّ مَن أرخى سترًا، وأغلق بابًا فقد وجبَ المهرُ، وعليها العدَّة، فرتَّبوا آثار الدُّخول عليها بمجرد إغلاق الباب وإرخاء الستر، وهذا هو مَشهور المذهب عند الحنابلة.
إذن قوله: (الْمَرْأَةُ إِذاَ لَمْ يُدْخَلْ بِهَ)، فبناء على أنَّ المؤلف حنبلي فهو يقصد سواء جُومِعَت أو أُرخيَ السِّتر وأُغلقَ الباب؛ فإنَّه يعتبر أنَّه قد دُخِلَ بها فتتعلَّق بها الثَّلاث تطليقات وأحكام المدخول بها -على ما تقدَّم.
وهذه التي لم يُدخَل بها تَبينُ بواحدة، فإذا قال لها: "أنتِ طالقٌ" بانَت؛ لأنَّها لا عدَّة لها، فإنَّ الله -جلَّ وَعَلا- قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَ﴾ [الأحزاب:49]، فدل ذلك على أنَّ المرأة التي طُلِّقَت ولم يُدخَل بها لا عدَّة عليها، فمعنى ذلك أنَّه طلاقٌ بائنٌ، فتكفي فيها واحدةٌ.
قال: (تُبِيْنُهَا اْلطَّلْقَةُ، وَتُحَرِّمُهَا الثَّلاَثُ)، فلو أوقع الثَّلاث عليها فتحرمها عليها.
ما الفرق بين قوله: (تُبِيْنُهَ) وقوله: (وَتُحَرِّمُهَا الثَّلاَثُ)؟
(تُبِيْنُهَ)، أي: بمجرد أن قال لها: "أنتِ طالقٌ" انتهت، فلو أنه قال: "أنتِ طالقٌ" من هاهنا وقال وَلِيُّها: زوَّجتُكَ يا فلان. فقال: قبلتُ، وشهدوا؛ صحَّ نكاحهما؛ لأنَّها لا عدَّة عليها.
أمَّا قوله: (وَتُحَرِّمُهَا الثَّلاَثُ)، يعني: لو أنَّ هذا الذي تزوَّجها ولم يدخل بها طلَّقها ثلاث تطليقات فإنه لا يجوز له أن ينكحها بعد ذلك حتى تنكِحَ زوجًا غيره، لكن بيَّنَ المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّها لا تقع عليها الثَّلاث تطليقات دائمًا، وإنَّما في صورٍ خاصَّة.
فقال: (إِذَا وَقَعَتْ مَجْمُوْعَةً، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَث)، أو قال: "أنتِ طالق عددَ نجوم السَّماء، أو أنتِ طالق بمثل هذا الحصى -وكان في يده عشرُ حصياتٍ"، فهنا تطلق ثلاثًا؛ لأنَّه طلقها مجموعةً، فوقعت عليهًا في آنٍ واحدةٍ.
أمَّا لو أنَّه لفِظَ بلفظٍ يكونُ مُرتَّبًا أو يكون فيه مقدَّمٌ ومؤخَّر، فإنَّها لا تقع عليها؛ لأنَّ الطَّلقة الأولى وقعت والثَّانية جاءت بعد بينونتها، فلأجل ذلك لو قال: "أنتِ طالقٌ فَطَالِق"؛ نقول: طلَقَت بالأولى وبانَت، والطَّلقة الثَّانية وقعت على أجنبيَّة.
لو قال: "أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ" فكذلك، فهذه وقعت حالَ كونها أجنبيَّة، وبناء على ذلك لا تقع.
لو قال: "أَنْتِ طَالِقٌ بَل طَالِقٌ"، فهذه الطَّلقة الثَّانية بعد الأولى، وبناء عليه لا تقع إلا طلقة واحدة.
لكن لو قال: "أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ"، فالواو دالة على مُطلق الاجتماع، وفي اللغة العربيَّة أنَّ اللفظ إنَّما يعتبر بكماله لا بأوَّله.
لقائل أن يقول: إنَّ قوله: "أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ"، فهو نطق الأولى ووقع بها الطَّلاق، فلماذا وقعت الثَّانية والثَّالثة؟
نقول: لأنَّ العبرة بالجملة كاملة.
لو قال شخص لآخر: لي عليه خمسون ألفًا إلا عشرةً.
فلو قلنا: إنَّ هذا إقرارٌ بالخمسين، فمعنى ذلك أنَّ الاستثناء غير مُعتبر، ولكن لما كان الاعتبار في العربية بجملة الكلمة فمعنى ذلك أنَّ الإقرار الذي أقر به هو أربعين فقط -خمسين إلا عشرة.
فكما أنَّنا نعتبر هذه الكلمة في جملتها، فكذلك هنا؛ ولذا نقول: إنَّ قوله: "أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ" وإن تأخَّرت في النطق بها، لكنها في حكم اللفظ الواحد باعتبار أن الواو دالًّةٌ على مُطلق الاجتماع والجمع، ولا تدلُّ على ترتيبٍ، ولا تأخيرٍ، ولا تعقيبٍ مثل: "الفاء" أو "ثم" وما ماثلهما.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَوْقَعَهُ مُرَتَّباً، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ، أَوْ ثُمَّ طَالِقٌ، أَوْ طَالِقٌ بَلْ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إِنْ طَلَّقْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، أَوْ كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ كُلَّمَا لَمْ أُطَلِّقْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَشْبَاهَ هَذَا، لَمْ يَقَعْ بِهَا إِلاَّ وَاحِدَةً)}.
ربَّما ترونَ أنَّ هذه الأمثلة فيها شيء من الصُّعوبة والوعورة، وهي يسيرةٌ جدًّا، ولكنَّها تحتاج من الطَّالب إلى شيءٍ من الترَّكيز والدُّربَة، فمَن عرف الأصلَ هانت عليه الفُروع والأمثلة كلها.
وهذا الكلام في غير المدخول بها، وهو يُفرِّع على أنَّها تَطلُق بواحدة وتَبين، ولا يقع عليها طلاق بعد ذلك، ثم نقل مسألة أخرى وهي أنَّه يُمكن أن تقع عليها الثَّلاث تطليقات في حال اجتماعها في لفظٍ واحدٍ، أو كون اللفظ مُتفرقًا لكنَّه دالٌّ على الاجتماع، أو ليس فيه دلالةٌ على التَّرتيب، فلمَّا أنهَى هذه الأمثلة التي دلَّت على وقوع اللفظ مجموعًا أراد أن يُبين الأمثلة التي تُقابل ذلك، وهي التي فيها نوع ترتيبٍ، فبناءً على ذلك لم يحصل بها طلاقٌ.
فقال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَوْقَعَهُ مُرَتَّباً، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ).
كل الكلام الآن في غير المدخول بها، فإذا قال: "أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ" فنقول: هذه طَلقَت طَلقة واحدة؛ لأنَّ الفاء هنا دالَّةٌ على التَّرتيب، فمعنى ذلك أنَّ الطَّلقة الثَّانية وقعت بعد الطَّلقة الأولى، وهي قد بَانت بالطَّلقة الأولى؛ فإذن هذه الطَّلقة الثانية لغوٌ ولا اعتبار بها، فلا تُعدُّ عليها.
المثال الثَّاني: لو قال: "أنتِ طالقٌ ثُمَّ طَالِقٌ"، فجملة "ثُمَّ طَالِقٌ" لاغية؛ لأنَّ هذه المرأة غير مدخول بها، وحرف "ثم" دال على التَّرتيب، فبناء على ذلك لَمَّا وقعت عليها الطَّلقة الأولى بانت، فالطَّلقة الثَّانية حصَلَت عليها بعد بينونتها، وكونها أجنبيَّة فلم يقع عليها طلاقٌ.
قال: (أَوْ طَالِقٌ بَلْ طَالِقٌ)، كذلك هذه صورةٌ من الصُّور التي يقع فيها على غير المدخول بها طلقة واحدة، والثانية لا تقع؛ لأنَّ "بل" هنا ليست مثل: حروف العطف، ولكنَّها حرف إضرابٌ، دالٌّ على الإضراب عن القول الأول والانتقال إلى الثَّاني، والانتقال إلى الثَّاني هو انتقالٌ بعدَ الأول، فلمَّا قال لها: "أنت طَالِقٌ" وقعت الطلقة، ثم لَمَّا قال: "بَلْ طَالِقٌ" معنى ذلك أنَّه أضرب عن الكلام الأوَّل، فكأنَّه أرادَ إنشاء طلاقٍ جديد أو كلامٍ جديد، فمعنى ذلك أنَّ حقيقة هذه الجملة أنَّها وقعت بعد الجملة الأولى، ولَمَّا كانت المرأة غير مدخول بها و "بل" هنا دالَّةٌ على الإضرابِ، فكأنَّ اللَّفظ الثَّاني وقع بعد اللفظ الأوَّل، فوقع على أجنبيَّة، وبناء على ذلك لا يقع بها الطَّلاق.
قال: (أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ)، هذا القول نوع من الأساليب العربيَّة الفَصيحة، وله مسلكان:
• إما أن يُراد به التَّأكيد، فإذا قال: "أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ" فأراد باللفظ الثَّاني تأكيدَ الأوَّلِ، سواء كانت مدخولًا بها أو غير مدخولٍ بها فلا يقع عليها إلا طلقة واحدة؛ لأنَّ اللفظ الثَّاني إفهامٌ للأوَّل، وقد قصدَ باللفظ الأوَّل إيقاع الطَّلاق وتأسيسه، واللفظ الثَّاني قصد به تأكيد الطَّلاق وإفهامها به، وبناء على ذلك لا تقع إلا طلقةٍ واحدةٍ.
• أو يُراد به التَّأسيس، فإنَّ الأصل في الكلام هو التَّأسيس وإفادة معنًى جديد، فبناء على ذلك فإنَّ قوله: "أَنْتِ طَالِقٌ" ثانية كأنَّه أراد معنًى جديدًا، أو إرادةً ثانية لإيقاع طلقةٍ ثانية، فهذا هو الذي يُحمَل عليه الكلام.
إذن الأصل هو التَّأسيس، أمَّا التَّأكيد شيءٌ زائد يُطلَب في بعضِ الأحوالِ، والأصل أن يُحمَل الكلام على أصله، والكلام في أصله هو أن تُعتبَر كل جملةٍ تأسيسًا، كأن يقول: "أعطوني طعامًا، أعطوني شرابًا"، فلا يُمكن أن نقول: إنَّ قوله: "أعطوني شرابًا" تأكيدًا للجملة الأولى؛ لأنَّها جملة بعدَ جملة، وكلٌّ دالّ على معنًى.
فنقول: سواء كان هذا الكلام الذي وقع بمعنًى واحد، أو كان الكلام بأكثر من معنى؛ فإنَّ الأصل هو التَّأسيس، وقوله: "أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ" يُمكن أن يُحمل المعنى على أنَّه تأكيدٌ، ويُمكن أن يبقَى على أصله.
والصَّواب: أن يبقى على الأصل إلا أن تأتي منه بيِّنة أو نيَّة أو قَرينة دالَّة على أنَّه أراد التَّوكيد، كأن يقول: "أنتِ طالق" فقالت: نعم! قال: "أنتِ طالق" كأنَّه أراد إِفْهَامَها بذلك، فلو قال: إنَّه أراد الإفهام فهذا ظاهرٌ جدًّا.
قال: (أَوْ إِنْ طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، أَوْ كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَلَّقَهَ)، كل هذه الجمل مثل الأولى.
فقوله: "إِنْ طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ" الآن علَّق تَطليقها على إيقاع الطَّلاق، ثُم أوقعَ الطَّلاق، فلمَّا قال: "أنتِ طالق" فقد حصلَ المعلَّق عليه؛ فكأنه أوقع طلقتان، فبَانَت المرأة؛ لأنَّها غير مدخول بها بقوله: "أنتِ طالق"، والمعلَّق عليه وقعَ حالَ كونها غير زوجة، فبناء عليه تقع طلقة واحدة فقط.
قال: (أَوْ كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثمَّ طلَّقَهَ)، هذا القول هو إيقاع للطَّلاق معلَّقٌ على التَّطليق، فما دامَ ليس هناك تطليق فلا زالت هذه الجملة تنتظر متى تصادف هذه المرأة، فإذا قال: "أنتِ طالق" جاءت هذه الكلمة لتطلق عليها فلم تصادف زوجة فلم تقع.
وحتى تفهموا؛ افترضوا الصُّورة التَّالية:
قال لها: "كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ" فجلَست تنتظر، بعد ذلك لم يطلِّقها ولكن دخلَ بها، ثم طلَّقها، فتقع طلقتان؛ لأنَّها مدخول بها.
ذكرنا المدخول بها حتى تقارن في الفرق بين الصُّورتين.
قال: (أَوْ كُلَّمَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَشْبَاهَ هَذَا، لَمْ يَقَعْ بِهَا إِلاَّ وَاحِدَةً).
تنبيه! كثير من نُسَخ كتاب "عمدة الفقه" فيه خلل وسقطٌ كثير واختلاف في العبارة، وقد يُفضي إلى ضدِّ المراد، ولأجل ذلك ننتبه.
إذا قال للمدخول بها: "كُلَّمَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ"، ثم مضى وقتٌ ولم يُطلِّقها وقعت بها واحدة، ثم إذا مضى وقت ثانٍ ولم يُطلقها وقعت عليها الطلقة الثانية، وهكذا..
وأمَّا إن كانت غير مدخول بها فلمَّا وقعت عليها الطلقة الأولى، ثم جاءت الثَّانية لتقع عليها؛ لأنَّ "كلما" دالة على التَّكرار- صارت الزَّوجة أجنبيَّة، وبناء على ذلك لم يقع عليها أكثر من واحدة، مع أنَّ "كلَّما" دالَّةٌ على التَّكرار، ولم يمنع حصول الطَّلاق عليها مرَّة بعدَ مرَّة إلا أنَّها صارت أجنبيَّة عنه وبائنةً منه بينونةً كاملة، فلم يقع بها إلا طلقةً واحدةً.
أودُّ من الإخوة إذا جرى لهم شيء من الإشكال أو نحوه أن يُرسلوا على بريد البرنامج، فإذا نطرنا أنَّ بعض الجُمَل كثر فيها الإشكال فيُمكن أن نعيدها -إن شاء الله- في درسٍ لاحقٍ لهذا الدَّرس حتى نتيقَّنَ من حصول المقصود، وهو فهم هذه الألفاظ التي ربَّما تتردَّدُ في الطَّلاق، وتكونُ ممَّا يحتاج إليه المتعلِّم والفقيه، حتى يُعالج أمرَ النَّاس بما يحصل به مقصود الشَّارع من إيقاع الطَّلاق على مَن استحقَّه، وبقاء الزَّوجيَّة لمَن سلِمَت له الزَّوجيَّة ولم يُصادف الطَّلاق محلَّه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُوْلاً بِهَا وَقَعَ بِهَا، جَمِيْعُ مَا أَوْقَعَهُ).
فكأن المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول: إنَّ هذا الكلام الذي تقدَّم في الأمثلةِ كلِّها في غير المدخول بها، أمَّا إن كانت مدخولًا بها؛ فكلُّ هذه الأمثلة تقع عليها ثلاث تطليقات إذا كانت من الحرِّ، وأمَّا إذا كانت من العبد فتقع عليها طلقة واحدة.
والأمثلة التي ذكرناها في غير المدخول بها من باب أَوْلَى أَوْلَى أن تقع على المدخول بها، فعلى سبيل المثال:
 لو قال: "أنتِ طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ" فتقع على المدخول بها ثلاث تطليقات.
 لو قال: "أنتِ طالقٌ ثلاثًا" تقع ثلاث تطليقات، وهذا هو مشهور المذهب وقول جماهير أهل العلم، خلافًا لقول شيخ الإسلام ومَن قالَ بقوله، وما عليه الفتوى عند بعضِ مشايخنا، وما جرى عليه العمل عندنا على قول ابن تيمية، ولكن عند الفقهاء هو وقوع الثَّلاث تطليقات بلا شك.
 لو قال: "أنتِ طالقٌ فطالقٌ فطالقٌ" أو قال: "أنتِ طالقٌ ثم طالقٌ ثمَّ طالقٌ" بلا شك أنها تقع ثلاث تطليقات في المشهور من مذهب الحنابلة، كما هو قول جمهور أهل العلم.
 لو قال لها: "كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثمَّ طلَّقَهَا"، تقع عليها التطليقة التي أوقعها بقوله: "أنتِ طالق"، ثم تقع عليها طلقة ثانية بقوله: "كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ".
هذه جملة من المسائل المتعلِّقة بهذا، ولعلَّنا نقف عند هذا الحد حتَّى تهنأ العقول وتسكن النُّفوس قليلًا بكثرة هذه الأمثلة التي تتباين بها الفهوم، أو قد يحصل بها شيء من الاضطراب، أو قد يكون فيها تماثل وتقارب وفروق دقيقة، فلا نحتاج إلى أن نُشكِل عليكم أكثر بما يحصل به عليكم شيء من ازدحام المعلومات.
أسأل الله لي ولكم دوام التَّوفيق والسَّداد، وأسأل الله أن ينفعنا، وأن يوفِّقنا، وأن يلهمنا الصَّواب والرَّشاد في العلم والعمل والهُدَى، وأن يُجنِّبنا الضَّلال والزَّلل، وأن يجزيكم خيرًا على مشاهداتكم ومتابعاتكم، وأن يجزي الإخوة القائمين على هذا البناء العلمي خير الجزاء، وأن يُعينهم على الاستمرار والثَّابت، وأن يكونوا ناشرين للعلم، داعينَ إليه، هادِينَ العباد لسبيله، مُبينين لسُنَّةِ نبيِّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن يجعلنا على هذه الخُطَى سائرين غير زائغين ولا مُنحرفين، وأن يختم لنا بالعلم، وأن يُظهرَ بنا العلم، وأن يُبقينا عليه حتى نلقاه، فربُّنا جوادٌ كريمٌ، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمد.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك