الدرس الخامس

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

2029 22
الدرس الخامس

عمدة الفقه 8

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حياكَ الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، أدام الله عليكم الفضل والنِّعمة والرحمة، وجعلكم من أهل العلم، وأبقاكم فيه على خيرٍ وهُدى.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في "باَبُ حَدِّ اْلمُسْكِرِ": (وَمَنْ أَتَى مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مَا لاَ حَدَّ فِيْهِ، لَمْ يَزِدْ عَلى عَشْرِ جَلَدَاتٍ؛ لِمَا رَوَى أَبُوْ بُرْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «لاَ يُجْلَدُ أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ جَلَدَاتٍ، إِلاَّ فِيْ حَدٍّ مِنْ حُدُوْدِ اللهِ، إِلاَّ أَنْ يَطَأَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ بِإِذْنِهَا، فَإِنَّهُ يُجْلَدُ مِئَةً»)}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمدُ لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يزيدنا وإيَّاكم من العلم والهُدى والبر والتقى، وأن يبلغنا الخيرات والرَّحمات، وأن يزيدنا من الخير والهدى والطاعات، ونعوذ بالله أن تلحقنا الشرور والمعاصي والآثام والمصابات، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرياتنا والمسلمين.
كما ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- امتدادًا لِمَا جعله في آخر هذا الباب، وهو باب حد المُسكر، ولما كان هذا الكتاب مبناه على الاختصار وشيء من الإجمال؛ فإنه جعل باب التَّعزير ملحقًا بباب الحد، بحيث لم يذكر فيه إلا أصل هذا الباب، ولم يُكثر فيه ذكر الفروع والمسائل والتفاصيل، وإلَّا فكما قلنا من أن هذا باب مستقل ومسألةٌ عظيمة، وتندرج تحتها مسائل كثيرة، وتقوم عليها كثير من إجراءات وأحكام القضاة في معاقبة المجرمين وتأديب المتسلطين والظالمين، وغيرهم ممَّن تجري منهم الجرائم والأخطاء، ويتجاوزون على الناس.
وهو باب من أكثر الأبواب التي بها ينتظم الناس، وبها تصلح أمورهم، ويُحملون على الخير والهُدى، وكثير من متعلقات أحكام المرور وتجاوزها، وما يتعلق بالبلديَّات وما شاكلها كلها مندرجةٌ تحت هذا الباب، ولعلنا -بإذن الله جلَّ وعَلا- أن نشيرَ إلى شيءٍ من ذلك لأهميَّته وللعلم بما يتعلق بهذه المسائل.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ أَتَى مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مَا لاَ حَدَّ فِيْهِ).
يقول الفقهاء: إنَّ كل معصيةٍ لا حدَّ فيها مُقدَّرٌ شرعًا تدخل في باب التعزير.
وأصل كلمة "التعزير" أنها تأتي بمعنيين متقابلين، فكما أنها تأتي بمعنى التَّأديب فإنها تأتي بمعنى التوقير، ولذلك جاء في كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَعَزَّرُوهُ﴾ [الأعراف: 157]، في وصف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فهنا المراد بها التوقير والتَّعظيم، والقيام بالمكانة، فهي من الأضداد، وهنا بابها بابُ التَّأديب ونحوه.
وتعريفها في الاصطلاح -كما قلنا: كلُّ معصيةٍ لا حدَّ فيها مقدَّرٌ شرعًا.
والمقصود بالمعصية هنا: فعل المحرَّمات -كما هو مشهور- كغمزِ الحرائر والتَّطاول عليهنَّ، ومثل الاستمناء باليدِ، أو إفساد طرقات المسلمين، إلى غير ذلك من أشياء كثيرة.
ويدخل فيها ترك الواجبات، فإن ترك الواجب معصية وإثم يلحق العبدَ عند الله -جَلَّ وَعَلَا- فمن أفطرَ في نهار رمضان، ومن أخَّرَ صلاةً؛ فإنَّ لوليِّ الأمر وللقاضي ولمن وليَ هذه الأمور أن يقوم بالتَّأديب والتَّعزير في ذلك بما يراه شرعًا.
ما الذي يدخل في باب التَّعزير؟
كلُّ معصيةٍ سواء كانت فعلَ محرمٍ أو تركَ طاعةٍ.
قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (لَمْ يَزِدْ عَلى عَشْرِ جَلَدَاتٍ).
وللفقهاء في هذه المسائل مبحث طويل، ولعلَّنا أن نقتضِبَ الإشارةَ إليهِ ببيان أصلهِ، ثم عدم الخوض في تفصيل ما يتعلق بذلك على سبيل التَّحرير والبسطِ.
هل التعزير موقوف على هذا النحو؟ فما بالنا نرى أحيانًا أنَّ التعزير يدخل في الأموال أو السجن لمدد طويلة، وتصل أحيانًا إلى الجلد مائة أو مائتين أو ثلاث مائة؛ بل ربما وصل التعزير إلى القتل والإهلاك؛ فكيفَ يُقال في مثل هذا مع أنَّ الحديث في الصحيح «لاَ يُجْلَدُ أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ جَلَدَاتٍ، إِلاَّ فِيْ حَدٍّ مِنْ حُدُوْدِ اللهِ»؟
نقول: إنَّ أهل العلم اختلفوا في هذه المسألة على قولين، ومأخذُ هذا الاختلاف قوله: «إِلاَّ فِيْ حَدٍّ مِنْ حُدُوْدِ اللهِ»:
- القول الأول: إنَّ المقصود بذلك هي الحدود التي نحن بصدد دراستها، وهي العقوبات المقدرة شرعًا، وبناء عليه يرون أنَّ كل ما سوى هذه الحدود مهما عظُمَت ومهما تكرَّرت لا يُزادُ فيها على عشر جلدات، وللقاضي ومَن وليَ هذا الأمر أن ينقصها، فله أن يُؤدِّب بثلاث أو بخمس أو بسبع أو بثمان أو بتسع أو بعشر، ولكن لا يزيد. وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وهو ظاهر إيراد المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- للحديث، وذكر المسألة مجملةً على هذا النحو، وهو القول المعتمد عند الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
- القول الثاني وهو قول جمهور أهل العلم، وهو رواية أخرى عند الحنابلة، وقال به ابن تيمية وكثير من المحققين: إن المقصود بالحدود في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «لاَ يُجْلَدُ أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ جَلَدَاتٍ، إِلاَّ فِيْ حَدٍّ مِنْ حُدُوْدِ اللهِ»؛ ليست الحدود المقدَّرة شرعًا، وإنما المقصود بها المحارم، فقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 229]، يعني: محارمه.
إذن؛ يكون باب هذا الحديث باب التَّأديب في غير المحرَّمات، كتأديب الصبي على ترك الصلاة، أو منعه من تعاطي السوء، وتأديب المدرس لتلميذه، والزَّوج لزوجته، ويكون التَّعزير في العقوبات مبناه أوسع من ذلك اعتبارًا بولاية القاضي، والسلطان له ولاية على الناس، وحكمه نافذ، وامره واجب الطاعة، وهو الذي يحمل الناس على الخير ويمنعهم من الشر؛ فإذن يكون المراد من الحديث أنَّ للقاضي أن يُقدَّر في المحرمات العقوبة التي تليق بها.
وسيأتينا في حديث النُّعمان أنه لَمَّا وطء جارية زوجته، فهي ليست حلًّا له، وليس له فيها مِلك، وهو مُحصَن، فالأصل أنه يُرجَم، ومع ذلك جاء الشرعُ بتعزيره بجلده مائة جلدة.
وقالوا: إن هذه عقوبة تعزيرية؛ فدلَّ على أنَّ العقوبات التعزيرية يُبلغ فيها أكثر من عشر جلدات، حتى لو وصل الأمر إلى القتل، كقتل الجاسوس ونحوه، وهذا جاءت به بعض النصوص.
وقيَّدوا قيدًا، وهو أنَّ جنس المعاصي التي فيها حدود لا يُبلغ بها الحد قطعًا، فمثلًا لو أنَّ شخصًا زنا وهو بكر فيُجلد مائة ويُغرَّب عام، ولو أنَّ شخصًا ضمَّ وقبَّل ولعب بامرأةٍ بدون إيلاج -الذي تتعلق به عقوبة الحد- ما يأتي القاضي ويحكم عليه بأكثر من مائة، ويقول: هذا تعزير وليس فيه حد؛ لأن جنس المعصية هذه فيها حد مقدَّر، وفعله أقل، فلا يُمكن أن يكون الفعل الأقل عقوبته أكثر ممَّن عمل ما هو أعظم من ذلك، فيكون هذا مُناقضًا للشرع ومُعارضًا له، ولا يتأتَّى لك في شرع الله -جَلَّ وَعَلَا- فلأجل ذلك قيَّدها الفقهاء فقالوا: إلَّا أن تكون معصيةٌ من جنس ما فيه حدٌّ، فإنه لا يُبلغ بها الحدُّ.
إذا قلنا: إنَّ باب التعزير فيه سَعةٌ ومتَّسعٌ يُحمل به الناس على الخير، ويُمنعون من تعاطي السوء والشر؛ فهل يتعدَّى ذلك العقوبات البدنيَّة كالجلد والإيلام إلى العقوبات الماليَّة أو لا؟
الحقيقة أنَّ هذه من المسائل التي فيها خلاف، وأصل ذلك في الغالب يبحثه فقهاء الحنابلة كالمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وغيره في باب الزَّكاة، ويكون فيه إشارةٌ إلى هذا، ولكن هذا محلٌّ له وذاك أيضًا محلٌّ أيضًا.
وجاء في حديث حكيم بن حزام في الذي يمنع الزكاة أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ» ، فقوله: «فَإِنَّا آخِذُوهَ» هذا ظاهر، أمَّا زيادة شطر المال فهو من باب التعزير والعقوبة، فقالوا: إنَّ هذا الحديث دالٌّ على التعزير بالمال.
والكلام على اعتبار الحديث وتحسينه للاحتجاج به من عدمه، فبعض أهل العلم يقويه ويعتمد على الأصول العامَّة في أن القاضي له أن يُعزِّرَ بما يراه رادعًا للناس عن فعل المعصية وتعاطي الشر.
وكما سيأتينا في باب السرقة؛ أنَّ من أخذ من الثمر شيئًا فإنه يُغرَّم قيمته مرتين -كما جاء في الحديث- فكون يُعرَّم قيمتها فهذا ظاهر، ولكن كون يؤخذ منه زائدًا فهذا عقوبة ماليَّة.
وبناء على ذلك قالوا: إن العقوبات المالية مُعتبرةٌ في الشَّرع بما جاء فيها من الأحاديث، وإن كان في بعضها مقال، كحديث حكيم بن حزام، أو يأتي عليه شيءٌ من الاختلاف في صحته، فحتى لو قيل بضعفه أو عدم صلاحيته للاحتجاج والاعتماد فلا أقل من أن يكون صالحًا للاعتضاد، خاصَّة مع وجود أحاديث أخرى مُعتبرة، ووجود أصول صحيحة تدل على ذلك، ولأجل هذا كانت العقوبات المالية من أكثر ما يكون في هذا الزمان، وكثير من الجهات والأعمال لا تنضبط إلا بهذه العقوبات، والناس يدفعهم هذا إلى الانضباط، مثل عقوبات المرور، وسير الناس وانتظامهم في مواقفهم وفي طرقاتهم، فلو لم يُحمل الناس بمثل هذه العقوبات لأفسدوا، ولعرَّضوا النُّفوسَ إلى الخطر، ولتبع ذلك من الشرور، ولا يرتدعون إلَّا بمثل هذا، فكان أصله صحيحٌ في الشرع ومعتبرٌ، وهو قولٌ لجمعٍ من الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- فهذا ما يتعلق بالتعزير بالمال والدخول في العقوبات الماليَّة.
تبقى مسألة الشرط الجزائي؛ فالشرط الجزائي إن كان على مالٍ فلا، يعني: إن قال في العقد: إن سددت هذا المبلغ في كذا...، وإلا فعليك غرامة ألف ريال؛ فهذا لا يجوز لأنه ربا، وكقول الجاهلية الأولى: إما أن تقضي وإما أن تُربي.
أما إذا كان الشرط الجزائي للتأخير في بعض الأعمال، ويُقال عليك عقوبة ماليَّة؛ فهذه ممَّا بُحثت عند كثير من أهل العلم في المجالس الكبرى وهيئة كبار العلماء، ويميلون إلى أنها داخلة في هذا المعنى، فيسع القول بها والمصير إليها عند الحاجة إلى ذلك.
صورة أخرى هي أن تكون العقوبات لها قيمة، إذا بادرَ بسدادها فيُوضَع عنه، فهذا له مسلكٌ صحيحٌ ومعتبرٌ عند بعض أهل العلم، وكما يقولون فيه تفريج، وهو عكس الربا فيصح، وإن قال بعض الفقهاء بمنعه، وهي ما يسمَّى بـ "ضعْ وتعجَّلْ".
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إِلاَّ أَنْ يَطَأَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ بِإِذْنِهَا، فَإِنَّهُ يُجْلَدُ مِئَةً»، هذه المسألة ذكرها الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- في باب التعزير، والأصل أنَّه لو وطأ جارية امرأته وهي ليست مِلكًا له ولا شُبهة له فيها؛ لأنه لم يقل أحد أنَّ مال الزوجة مالٌ للزوج؛ فبناء على ذلك يكون عليه الحد، وبه قال بعض العلماء.
ويقولون: لو أذنت لزوجها أن يطأ أمتها فعليه جلد مائة، لمجيء ذلك في حديث النعمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- حكمَ فيه بهذا، فكان ذلك تعزيرًا.
لماذا قلتم أنه تعزير؟
لأن الأصل فيمن وطأ أجنبيَّة بغيرِ شبهةٍ أن عليه الرجم إذا كان محصنًا، ولكن هذا مُستثنى لمجيء النص بذلك، فأُخذ به، ولما كان مُستثنى فإنَّ الفقهاء يقولون به بقيوده كما هي قاعدة عندهم، فيشترطون أن تكون جارية زوجته ويكون بإذن الزوجة، ولذلك لو كانت جارية امرأته لكن وطئها بغير إذنها فعليه الحد في مثل هذه المسألة.
مسألة أخرى مشابهة لهذه المسألة: لو أن شخصًا وطأ أمةً له فيها شِرك، فكونه مُشتركًا فيها فإن هذا لا يسوغ له الاستمتاع بها؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الاستمتاع بالآخر، وليس لهما أن يستمتعا بها جميعًا؛ فكان محرَّمًا عليهما الاستمتاع، ولكن لو أنه استمتعَ فإن استمتاعه بأمةٍ له فيها شركٌ أمرٌ فيه شُبهة، وبناء عليه فليس عليه الحد، ويقول بعض الفقهاء: إنه يُجلَد مائةً إلا سوطًا، حتى لا يُشابه الحد، وهو أقرب ما يكون إلى مسألة وطء الرجل لأمة امرأته وقد أذنت له. وهذا يُعيدنا إلى ما قلناه: إذا كانت فيه معصية من جنس ما فيه حد مقدر؛ فإنه لا يبلغ به الحد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ حَدِّ السَّرِقَة
وَمَنْ سَرَقَ رُبْعَ دِيْنَارٍ مِنَ اْلعَيْنِ، أَوْ ثَلاَثَةَ دَرَاهِمَ مِنَ اْلوَرِقِ، أَوْ مَا يُسَاوِيْ أَحَدَهُمَا مِنْ سَائِرِ الْمَالِ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ اْلحِرْزِ، قُطِعَتْ يَدُهُ اْليُمْنى مِنْ مَفْصَلِ اْلكَفِّ وَحُسِمَتْ)
}.
هذا هو الباب الرابع من أبواب الحدود:
الأول: باب الزنا.
الثاني: القذف.
الثالث: الخمر.
الرابع السرقة.
وقلنا إنَّ أشدها: الزنا.
وأصل باب حد السرقة جاء في كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا- وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والإجماع منعقدٌ على ذلك:
فأمَّا الكتاب: فقوله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ﴾ [المائدة: 38].
وأما السنة: فالأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا، من أشهرها قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وأيْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَ» ، لَمَّا ذكر أحوال اليهود وأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف لم يُقيموا عليه الحد، وإذا سرق فيه الضعيف أقاموا عليه الحد، فجاء الشرع بالعدل والتسوية، وعدم التفريق بين المتماثل، فلأجل ذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مقالةً عظيمة تدل على ما جعله الله -جَلَّ وَعَلَا- عليه في هذه الملَّة من الحكم بالعدل وإقامته بين الناس، وعدم التَّهاون أو التَّواني فيه، أو الممايزة أو الميل؛ مما يدلُّ على أنه شرع ربَّانيٌّ محكَمٌ، قال الله -جَلَّ وَعَلَا- فيه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً﴾ [المائدة: 3].
وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وأيْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَ»، فهذا من الأحاديث التي يعتز بها المسلم، وحاشا فاطمة أن تكون سارقة، لكن أبانَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أنه لا أحدَ يخرجُ عن دائرة حُكم الشَّرع، وليس فوق ما أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- به ولا ما جاء في سنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فالناس في ذلك كأسنان المشط على حد سواء، كلهم محكومون بالشرع، وكلهم يجري عليهم حكم الله ويُنفَذ فيهم سنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لا يتفاضلون في ذلك ولا يختلفون.
ومن السنة أيضًا قصَّة صفوان بن أمية لَمَّا سُرق رداؤه وهو نائم، فجاء بالسَّارق إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فأمر بقطع يده، فقال صفوان: لَيْسَ هَذَا أَرَدْتُ هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ. فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ» ، فأنفذ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- الحكم، وكذلك قصَّة المخزومية التي كانت تسرق المتاع وتجحده فأمر بقطع يدها . والأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا، وستأتينا بعض الأحاديث في الحرز، وهي دالَّة على مشروعيَّة الحكم في السرقة.
ومن المهم بمكان أن نعرف حقيقة السرقة التي يترتب عليها الحكم، ويُنفَّذ فيها الحد، يقول أهل العلم: هو أخذ المال خُفية من حرزه، مع استكمال الشروط وهي: أن يكون المال محترمًا، ولا شبهةَ فيه، وأن يبلغ النصاب.
ونقول هذا لأنَّه يُمكن أن يكون فيه تسلُّطٌ على المال وأخذ له على غير وجه صحيح، ويكون الآخذ مؤاخذًا بذلك ومطالبًا بردِّه، وآثمًا بفعله، ولكن ليس فيه قطعٌ.
على سبيل المثال: لو أنَّ شخصًا غصبَ آخرَ مالًا، فجاء إلا شخص واقف ومعه ساعة تساوي عشرة آلاف ريال، فقام وأخذه وجذبه وقطع الساعة وأخذها، فهذا عند الفقهاء يسمى: "غصب"، وتقدَّم معنا باب الغصب وهو: الاستيلاء على المال على وجه القهر. بناء على ذلك؛ لا يكون فيه حد، وإنما تكون فيه عقوبة تعزيرية.
ولو أنَّ شخصًا يختلس المال، فيأتي على وجه الخفية ثم يأخذ هذا القلم ويهرب، فهذا مختلس أو منتهب، والحنابلة يُفرقون بين المختلس والمنتهب، فيجعلون المنتهب لا هو غاصب ولا هو مختلس؛ لأنه يأخذ المال ويهرب على وجه القوة، ولكن هو إمَّا غصبٌ أو اختلاس، وبعض الفقهاء يسوِّي بينهما، وهو ظاهر مسلك الشافعية وجمع من الفقهاء؛ أيًّا كان؛ فهي دائرةٌ في أخذ المال ولا قطعَ فيه.
ومثل ذلك الخائن في الوديعة لا قَطْع فيه، وكما جاء في الحديث «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ» ، لماذا؟
يقول الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى: إن أخذَ المال على هذه الأنحاء والصور يُستطاع توقِّيها، وسهل الابتعاد عنها، فالإنسان يحفظ نفسه فلا يُخرج ماله فيُختَلَس ويُنتهَب، وليس من الأمر اليسير أن يتسلَّط الناس ويقهروهم مع وجود الناس وتكاثرهم في الأسواق وفي المساجد ونحو ذلك؛ ومع ذلك لا قطع فيه والسرقة فيها قطع.
فلو قلتُ لك: كم مرة سمعتَ بغصبٍ؟ لكان شيئًا نادرًا قليلًا، ولو قلت لك: كم سمعتَ من حوادث السرقة؟ لكان شيئًا كثيرًا.
فلمَّا كانت هذه الأمور مما يُمكن توقيها؛ لم يجعل الشَّارع فيها هذه العقوبة الرادعة التي هي الحد والقطع، ولَما كان أخذ المال على وجه الخفية لا يُمكن أن يُتوقَّى، فأنت وضعت مالك وخبَّأته واتخذت الأقفال؛ فكان لابد من عقوبة رادعة، ولا يتصور أنَّ كل إنسانٍ يأتي بحارسٍ يحرس ماله، فلأجل ذلك كان فيه القطع.
وممَّا يُناسب ذكره في هذا: المقالة المشهورة التي يكثُر تَردادها لَما قال ذلك المعارض الذي فسد قلبه وانتكست فطرته وقال مقالته المشهورة: كيف تكون دية اليد نصف الدية، وتُقطع في نصف دينار،
فقال في البيت المشهور:
يد بخمس مئين من عسجد وُديت ** ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقـض ما لنا إلا السكوت له ** ونستجير بـمولانا من العار
فأجابه بعض الفقهاء:
يد بخمس مئين من عسجدٍ وُديت ** لكنـها قـطعت في ربع دينار
حمـاية الدم أغلاها وأرخـصها ** خيانة المال فانظر حكمة الباري
وكان ذلك من أعظم الردود، ولذلك لا أحد يتطاول على الشَّرع، أو لا يستسلم له لكونه خفي عليه وجه أو ظهر له شيءٌ من الإشكال؛ فإنَّما مردُّ ذلك إلى عدم فهمه أو قلَّةُ نظره، وليس حقيقة إشكال في الشرع أو عدم اتِّساق بين الأحكام واطرادٍ للعلل والحكم؛ بل هي مطردة ظاهرة لا إشكال فيها ولا حرج.
عندنا مسألتان من الأهمية بمكان:
المسألة الأولى: جحد العاريَّة.
وهي من المسائل التي جرى فيها خلاف بين أهل العلم، وما دامَ أن عرضنا لها فلابدَّ أن نتمَّها: فمشهور المذهب عند الحنابلة أنَّه لا قطعَ فيها للحديث «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ»، ويأتي الإشكال في حديث المخزوميَّة، أنها كانت تستعير المتاع وتجحده، فهي مُؤتمنة خانت ومع ذلك قطعت، فاختلف في هذا أهل العلم، ولهم في ذلك مسالك كثيرة:
قال أحمد: لا أرى شيئًا يدفعه، وله قول بقطع يد الخائن.
قال الجمهور: لا قطع للخائن للحديث، ويحملون حديث المخزوميَّة على أنه حادثةُ عينٍ، ولهم أجوبةٌ في هذا نترك تفصيلها.
والمشهور من المذهب كما هو قول جمهور أهل العلم أنه لا قطع على خائن الوديعة والعارية ونحوهما.
المسألة الثانية: هل يُقطع الطَّرار أو لا؟
الطَّرار هو الذي يطرُّ الجيب حتى يسقط ويُؤخذ.
أليس هذا بابه باب النُّهبة والاختلاس؟
له صورتان:
صورة بابها باب الخلسة والنُّهبَة: لو كان يطرُّ الجيب وصاحب المال ينظر، ثم يسقط الشيء ويأخذه ويذهب، كما يفعل شخص أحيانًا في ازدحام الناس، فيأتي بموس أو مقص ويقص الجيب حتى ينسلت منه المال، ثم يأخذه ويذهب، إمَّا أن يأخذه من مكانه أو إذا سقطَ أخذه، بدون أن يشعر الإنسان، حتى إذا ذهبَ وقتٌ نظرَ فإذا ليس له مال، وهذا قد يحصل أحيانًا في الطواف -ولا حول ولا قوة إلا بالله- ممَّن فسدَ قلبه، فيفعل هذا في أعظم بقعةٍ وأتم مكان، فيحصل منه انتهاك لهذه الحرمة، وانتهاكٌ لهؤلاء العباد والصُّلحاء ومَن قصدوا بيت الله الحرام، فلا شكَّ أنَّ هؤلاء ممَّن لعب بهم الشيطان وسوَّلَت لهم النفوس، وأضاعوا حظَّهم في الدنيا والآخرة -نسأل الله السلامة والعافية- ولذلك فإن القضاة يرونَ أن التعزير لمن كان منه أخذٌ للمال على هذا الوجه أعظم من مُطلق التعزير لمن نهبَ وانتهبَ في غير تلك البقعة.
وصورة بابها باب السرقة: لو أخذها دون نظره.
ونرجع إلى مسألة: إذا أخذه خفية من حرزه.
إذن؛ الطَّرار يدخل في السرقة؛ لأنه يأخذ المال خفية، بحيث يطرُّ الثَّوب ويأخذ ما فيه دونما شعورك، فهذا بابه باب السرقة إذا استوفى النصاب، واستوفى الشروط الأخرى من كون مثل هذا الجيب حرز، يعني: جرت عادة الناس أن يضعوا أموالهم هنا؛ فإنه يدخل في باب السرقة، ويُحكَم فيه بها.
أظنُّ أن هذا قدرٌ كافٍ في هذا الدرس، ويُمكن أن جعل بقيَّة المسائل -بإذن الله جل وعلا- في مطلع الدرس القادم، أسأل الله لي ولكم دوام التوفيق والسداد، والله تعالى اعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
{أشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك