الدرس الخامس عشر

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2017 22
الدرس الخامس عشر

العقيدة التدمرية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي" وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات، المستمعين والمستمعات والأبناء الطلاب والطالبات في برنامج البناء العلمي، وفي الدرس الخامس عشر في شرح كتاب الرسالة التدمرية، في تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وبيان حقيقة الجمع بين الشرع والقدر، وأسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- عند الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ، عند قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (أَنَّهُ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: لَا بُدَّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ ضَابِطٍ يُعْرَفُ بِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إذْ الِاعْتِمَادُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ أَوْ مُطْلَقِ الْإِثْبَاتِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ لَيْسَ بِسَدِيدِ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَقَدْرٌ مُمَيَّزٌ)}.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن صار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا حي يا قيوم، أما بعد.
فالحديث في هذا الدرس سيكون عن القاعدة السادسة من القواعد الجامعة النافعة التي تبين صحة معتقد أهل السنة والجماعة في إثبات الأسماء والصفات لله -تبارك وتعالى-، وبطلان مذهب المتكلمين والفلاسفة الذين يعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً كلياً أو جزئيًا، ويلاحظ أنَّ هذه القاعدة من القواعد المهمة التي يحتاجها المحاور والمناظر لشبهات المعطلة، سواءً كانوا من المتكلمين أو من الفلاسفة، وسواءً كان هذا التعطيل تعطيلاً كلياً للأسماء والصفات أو كان تعطيلاً كلياً للصفات أو كان تعطيلاً لبعض الصفات دون بعض.
أيضًا يلاحظ في هذه القاعدة أن شيخ الإسلام هنا يناقش الدلائل والضوابط التي وضعها المتكلمون والفلاسفة في نفي الصفات، وسموه تفويضًا أو سموه تنزيهًا إلى غير ذلك، فهو هنا لا يناقش ذات الصفات، وإنما يناقش الأدلة والقواعد والضوابط التي اعتمدوا عليها في دعوى التنزيه، ودعوى أن إثبات الصفات يستلزم منه التشبيه والتجسيم، وهذا ملحظ مهم، ولهذا ذكر هنا الضوابط الفاسدة للمتكلمين وأشار إلى الضوابط الصحيحة في إثبات الأسماء والصفات، وقد تقدم لنا، لعل الإخوة الذين تابعوا معنا من أول الحلقات في صفحة خمسين وصفحة سبعة وصفحة اثنى عشر لما ذكر ضوابط الإثبات عند أهل السنة والجماعة، ذكر هناك من الضوابط -التي عند أهل السنة والجماعة في الإثبات-: أن هذا الإثبات وهذا النفي معتمد على النفي، أهل السنة يثبتون لله ما أثبته لنفسه، وينفون عن الله ما نفاه عن نفسه في كتابه أو ما صحَّ بسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
الضابط الثاني عندهم: أن الإثبات على وجه التفصيل، وهذا أبلغ في الثناء، وأن النفي على وجه الإجمال.
والضابط الثالث: أن الإثبات بلا تمثيل، وأن النفي بلا تعطيل.
والضابط الرابع: أن الإثبات يدل على التنزيه وأن النفي ليس نفيًا محضًا بل يتضمن ضده من صفة الكمال.
هذه الضوابط الصحيحة عند أهل السنة والجماعة في باب الإثبات والنفي للأسماء والصفات.
المتكلمون لهم ضوابط في النفي وتلاحظ أيضًا أن المصنف هنا ذكر ضوابط النفي أكثر؛ لأن الغالب عليهم في هذا الباب هو النفي، وإن كان يوجد من يثبت مثل الصفات السبع والثمان أو يثبت الأسماء وينفي الصفات، لكن الغالب عندهم هو النفي، ولهذا وضعوا ضوابط وقواعد لهذا النفي.
يقول هنا: (الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: لَا بُدَّ فِي هَذَا الْبَابِ)، أي باب؟ باب الأسماء والصفات، وكيف يحقق الإيمان بهذا الباب؟ (لَا بُدَّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ ضَابِطٍ) وهي القواعد والمعايير التي تضبط الإثبات والنفي في هذا الباب، تضبط التنزيه، وتضبط فهم الأدلة التي جاءت في الأسماء والصفات، سواءً كانت آيات الصفات أو أحاديث الصفات، (يُعْرَفُ بِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ) ما الضابط؟
ولهذا لاحظ مثلاً في قول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ هذه الآية ظاهرة في إثبات صفة المجيء، هم يقولون: ما الضابط الذي تفسر به معنى المجيء؟ فيعتبرون أن من أثبت مجيئًا يليق بالرب هذا مُشبه مجسّم، إذاً ما الضابط؟ قالوا: إن الضابط أن المقصود بالمجيء مجيء الملك، أو أنه مجيء لا معنى له، فلاحظ هم لا يخالفونك في وجود الدليل وإنما في فهم الدليل، فما الضوابط التي بها يُفهم هذا الدليل؟
فقالوا: (لَا بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ يُعْرَفُ بِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ) سواءً في الصفات الثبوتية أو الصفات المنفية السلبية، لماذا هذا الضابط؟ قالوا: (إذْ الِاعْتِمَادُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ أَوْ مُطْلَقِ الْإِثْبَاتِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ لَيْسَ بِسَدِيدِ) طبعًا هنا شيخ الإسلام يقول: إنه لا بدَّ من الضابط، لماذا؟ يعلل لأن الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه مثل الذي ينفي الصفات بدعوى نفي التشبيه، هل هذا سديد؟ ليس بسديد، أو يطلق الإثبات من غير أن يضبط هذا الإثبات أيضًا ليس بسديد، وسيذكر أيضًا أنه ليس بمفيد، أن هذا الضابط وهو ضابط نفي التشبيه ليس بسديد، طبعًا هذا من باب التنزل مع الخصم، ومن باب المناظرة ونقض الأدلة التي هو يعتبرها مسلمات، ثم قال معللاً: لماذا هو ليس بسديد؟ وأيضًا ليس بمفيد كما سيأتي.
قال: (وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَقَدْرٌ مُمَيَّزٌ) وهذا الأصل سبق، وهو أن يوجد قدر مشترك عند الإطلاق، فالخالق موصوف بالعلم والمخلوق موصوف بالعلم، هذا القدر المشترك، ويوجد قدر مميز عند التقييد والإضافة والتخصيص، هل المتكلمون يفرقون بين هذين المعنيين؟ لا يفرقون، فهنا حصل الإشكال عندهم، فيقول: نفي التشبيه المطلق بما فيه التشبيه في القدر المشترك مثل لفظ الوجود، لفظ العلم، هذا ليس بسديد، هذا سيوقعهم في إشكالات، ولهذا من الإشكالات التي وقعوا فيها لما نفوا هذا القدر المشترك، وقعوا فيما هو أسوء منه، وهو تشبيه الخالق بالجمادات أو المعدومات أو المستحيلات.
هنا بدأ بمناقشة المتكلمين في هذا الباب بفساد ضابطين من الضوابط عندهم.
الضابط الأول عند المتكلمين: هو دعوى أن إثبات الصفات يلزم منه التشبيه، فقالوا: الضابط ونفي التشبيه.
ثم الثاني أيضًا قالوا: إن إثبات الصفات يلزم منه التجسيم، هذه الضوابط عن المتكلمين، سيبدأ أولاً بالضابط الأول وهو خطأ الاعتماد في النفي على مجرد إدعاء التشبيه فيما ينفى، وبالتالي قالوا: من أثبت الصفات أصرفوه مشبه، فالمخرج عندهم هو نفي الصفات، ما الدليل؟ نفي التشبيه، يعني مثلاً ينفي المجيء، ينفي النزول، ينفي الاستواء، ينفي صفة اليدين، لماذا نفيت؟ ما الدليل؟ قال: الدليل هو نفي التشبيه، لاحظ الإشكالية.
إذاً الخطأ في طريقة الاستدلال، ولاحظ هو لما يضع هذه القاعدة كأنها مسلمة، ثم ينطلق منها، شيخ الإسلام -لاحظ- يبدأ يناقش أصل القاعدة وأصل الدليل الذي اعتمدوا عليه، ثم قال: لماذا هذا الضابط وهو نفي مطلق التشبيه كدليل لنفي الصفات؟ قال: (وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَقَدْرٌ مُمَيَّزٌ)، ولهذا الذي يقول: إننا ننفي التشبيه، نقول له: ماذا تقصد بالتشبيه؟ فهو مصطلح حادث، هل تقصد تشبيه القدر المشترك الذي هو موجود في لفظ الوجود ولفظ العلم ولفظ الحياة ولفظ القدرة؟ أو تقصد بنفي التشبيه المعنى عند التقييد والإضافة؟ وفي الغالب يقصد المعنى الأول، وبالتالي نقول: إن استدلالك على إبطال الصفات بنفي التشبيه ليس بسديد ولا مفيد، وسيوقعك في إشكالات واضطرابات.
ثم انتقل للمناقشة بالتفصيل، لاحظ طبعًا هنا أن المقصود ليس هو الاستقصاء، يعني في مثل هذه المعاني وفي مصطلح التشبيه على مثل ذلك، فهو من المصطلحات الحادثة وإنما هو يُبَيِّنُ أن طريقة الاستدلال على إبطال الصفات بدعوى نفي التشبيه وبدعوى نفي الجسم وبدعوى نفي التحيز هي طريقة خاطئة، وبالتالي هو ينقض أصل المذهب عند المتكلمين.
{قال -رحمه الله-: (فَالنَّافِي إنْ اعْتَمَدَ فِيمَا يَنْفِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ قِيلَ لَهُ: إنْ أَرَدْت أَنَّهُ مُمَاثِلٌ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ وَإِنْ أَرَدْت أَنَّهُ مُشَابِهٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ أَوْ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الِاسْمِ لَزِمَك هَذَا فِي سَائِرِ مَا تُثْبِتُهُ وَأَنْتُمْ إنَّمَا أَقَمْتُمْ الدَّلِيلَ عَلَى إبْطَالِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمَاثُلِ الَّذِي فَسَّرْتُمُوهُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا يَجُوزُ عَلَى الْآخَرِ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ وَيَجِبُ لَهُ مَا يَجِبُ لَهُ)}.
هنا انتقل إلى التفصيل في بيان فساد هذا الضابط، وهو الاعتماد في نفي الصفات على نفي التشبيه، قال: (فَالنَّافِي) أي: النافي للصفات سواءً كان نافيًا لها نفياً كلياً أو جزئيًا، فيقال لكل من نفى الصفات عموماً أو نفى بعضها دون بعض: اعتمادك في النفي فيما تنفيه على أن الإثبات تشبيه هذا ليس بسديد، فهل إثبات الصفات التي جاءت في الكتاب، وإثبات الصفات التي جاءت في السنة هو تشبيه؟ هل ظواهر النصوص تبين التشبيه؟
يقال: (فَالنَّافِي) لهذه الصفات مثل الذي ينفي مجيء الرب، ينفي نزول الرب، ينفي صفة اليدين للرب، (فَالنَّافِي إنْ اعْتَمَدَ) نقول له: لماذا نفيت؟ قال: لأن إثبات المجيء، إثبات النزول، إثبات يدين، إثبات قدمين يلزم منه تشبيه الخالق بالمخلوق، (فَالنَّافِي إنْ اعْتَمَدَ فِيمَا يَنْفِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ قِيلَ لَهُ: إنْ أَرَدْت أَنَّهُ مُمَاثِلٌ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهَذَا بَاطِلٌ) وهذا للمثبتة الذين اثبتوا الصفات، هل قالوا بهذا؟ الذين أثبتوا المجيء وأثبتوا النزول وأثبتوا بقية الصفات ما قالوا بالمماثلة، بل هم يثبتون إثباتاً بلا تمثيل ولا تكييف، فيقال: إنك إن قصدت أن إثبات المجيء وإثبات النزول يلزم منه المماثلة من كل وجه، فهذا باطل ولم يقل به أحد من العقلاء، ثم أيضًا أنت متناقض، لماذا؟ لأنك فررت من شيء فوقعت فيما هو أسوء منه، فررت من تشبيه الله بالمخلوقات أو الموجودات فشبهته بمعدومات أو مستحيلات، فهذا الضابط ألزمك فيما أسوء مما فررت منه.
ثم أمر آخر، سيقال له أيضًا: ضابط هذا متناقض؛ لأنك إن أثبت الوجود سيقال لك: هل وجوده كوجود المخلوق؟ سيقول لك: لا، هذا الضابط ما ينطبق على الوجود، لماذا لا ينطبق؟ يقول: لا لأن الخالق واجب الوجود والمخلوق جائز الوجود فلا ينضبط هذا الضابط على صفة الوجود، نقول: ويلزمك في بقية الصفات أن تقول في مثلها، إن قلت أنه ينطبق على الوجود كما وجد عند الغلاة، فيقال لك: سنطبقه على بقية الصفات الأخرى، فيلزمك فيما أثبت نظير فيما نفيت، ويلزمك فيما نفيت نظير ما أثبتت، كما تقدم القول في الصفات كالقول في الذات، القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فدعوى أن الإثبات يلزم منه التشبيه دعوى باطلة فاسدة، ولهذا إذا قال لك المعطلة: إثبات المجيء وقالت المجسّمة وقالت المشبهة بإثبات المجيء، نقول: الذي أثبت أنه يجيء هو نفسه، ليس هم الذين أثبتوا المجيء، لو قال لنا: لا أعرف المجيء إلا مجيء المخلوق، ويقول الناس ما يعرفون الوجود إلا وجود المخلوق ولا يعرفون العلم إلا علم المخلوق، ولا الحياة حياة المخلوقين، قال: لا لا، الوجود يختلف والعلم يختلف والحياة تختلف والسمع يختلف، نقول: وفي بقية الصفات، انظر قوة الحجة، فيأتي الشبه من ماذا؟ الشجرة من أصولها وجذورها.
فيقول: (فَالنَّافِي) المعطل تعطيلاً كلياً وجزئيا، (اعْتَمَدَ فِيمَا يَنْفِيهِ) من الصفات (عَلَى أَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ) إثبات وتشبيه وأن المخرج هو نفي المجيء ونفي النزول ونفي بقية الصفات، (قِيلَ لَهُ: إنْ أَرَدْت أَنَّهُ مُمَاثِلٌ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهَذَا بَاطِلٌ) ولم يقل به أحد، ودعواك أن المثبت للمجيء مشبه مجسّم دعوى باطلة وكذب وبهتان وزور تبوء بإثمه وتبوء بإثم الأحياء والأموات، ما قالوا بهذا، كذبت على عباد الله، كذبت على سلف الأمة، كذبت على أئمة الأمة، فبئت بوزر عظيم، أيضًا وزر؛ لأنك أساءت إلى كتاب الله وأسأت إلى صفات الرب -تبارك وتعالى-، بل إساءة إلى رب العالمين، لماذا؟
من الذي أثبت أنه يجيء؟ من الذي قال: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ ؟ الله -سبحانه وتعالى-، من الذي قال: «ينزل ربن»؟ النبي -عليه الصلاة والسلام-، فالذي يعترض كأنه يعترض على الرب أو على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فضلاً عن اعتراضه على أئمة الإسلام.
(وَإِنْ أَرَدْت) لاحظ كيف يفصِّل؛ (وَإِنْ أَرَدْت أَنَّهُ مُشَابِهٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ) يعني: في القدر المشترك، مختلف عنه في القدر المميز (أَوْ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الِاسْمِ لَزِمَك هَذَا فِي سَائِرِ) الأسماء والصفات، (لَزِمَك هَذَا فِي سَائِرِ مَا تُثْبِتُهُ) مثل الوجود، يعني هو ممكن يطبق على الوجود، إن قلت: لا وجوده هناك قدر مشترك في مسمى الوجود، لكن عند التقييد وجود الخالق يختلف عن وجود المخلوق، الخالق واجب الوجود والمخلوق جائز الوجوب، وتقول في الصفات السبع كذلك، هناك قدر مشترك يفهم به معنى العلم، يفهم به معنى الحياة، يفهم به معنى السمع، يفهم به معنى البصر، غير المعنى عند التقييد، يقال: يلزمك فيما نفيت من الصفات.
{حتى المعاني التي فسروا بها الصفات فيها تشبيه}.
فيها تشبيه.
{مثل اليدين، النعمة، المخلوق ينعم على..}
أحسنت وهذه من الإلزامات.
قال: (لَزِمَك) لاحظ كيف يلزمه بالإلزامات (هَذَا فِي سَائِرِ مَا تُثْبِتُهُ وَأَنْتُمْ) أيها المعطلة للصفات الذين تنفون الصفات، (أَنْتُمْ إنَّمَا أَقَمْتُمْ الدَّلِيلَ عَلَى إبْطَالِ التَّشْبِيهِ) وهذا لا إشكال فيه، لكن الكلام على الإشكال كيف تنزله على أمر لا ينطبق عليه، (أَنْتُمْ إنَّمَا أَقَمْتُمْ الدَّلِيلَ عَلَى إبْطَالِ التَّشْبِيهِ) ولهذا لاحظ أن الشيخ لا يناقشهم في قضية ما هو مسلم أن الخالق منزه أصلاً عن مماثلة المخلوقين، هذه قضية مسلمة، القضية أنه كيف تنفون الصفات بدعوى التشبيه والتنزيه، إن إثباتها يستلزم التشبيه.
(أَنْتُمْ إنَّمَا أَقَمْتُمْ الدَّلِيلَ عَلَى إبْطَالِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمَاثُلِ الَّذِي فَسَّرْتُمُوهُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا يَجُوزُ عَلَى الْآخَرِ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ وَيَجِبُ لَهُ مَا يَجِبُ لَهُ)، وهذا أصلاً لم يقل به أحد، ثم قال.
{قال -رحمه الله-: (وَمَعْلُومٌ أَنَّ إثْبَاتَ التَّشْبِيهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ مِمَّا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ؛ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ امْتِنَاعُهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ هَذَا نَفْيُ التَّشَابُهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْمُتَوَاطِئَةِ)}.
هذا وجه آخر، هو الآن يُبَيِّنُ ماذا تريد بالتشبيه؟ هل تريد التشبيه بالتماثل من جميع الوجوه؟ هذا باطل لم يقل به أحد، هل تريد التشبيه بأنه يشبهه من وجه دون وجه؟ هذا الكلام فيه تفصيل.
قال: (أَنْتُمْ إنَّمَا أَقَمْتُمْ الدَّلِيلَ عَلَى إبْطَالِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمَاثُلِ الَّذِي فَسَّرْتُمُوهُ) ما هو التشبيه والتمثيل الذي فسرتموه؟ قلتم: (بِأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا يَجُوزُ عَلَى الْآخَرِ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ وَيَجِبُ لَهُ مَا يَجِبُ لَهُ) الذي هو التماثل من كل وجه.
قال في الجواب الآخر: (وَمَعْلُومٌ) أن هذا المعنى الذي فسرتم به التشبيه ليس بصحيح؛ لأنه على الوجود قدر مشترك في الذهن، العلم قدر مشترك، فتفسرون التشبيه بهذا المعنى ليس بسديد، ثم قال: (وَمَعْلُومٌ أَنَّ إثْبَاتَ التَّشْبِيهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ) أنه يجوز عليه ما يجوز عليه، ويمتنع ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب عليه، يقول: تفسير التشبيه بهذا المعنى الثاني (مِمَّا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ) لأنه ما من شيئين إلا بينهما تشابه ولو في الوجود، ولو في العلم، (فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ امْتِنَاعُهُ) إذا قصدت الوجه الأول، (وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ هَذَا نَفْيُ التَّشَابُهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْمُتَوَاطِئَةِ) التي تشترك في المعنى الكلي ولكن تختلف عند التقييد كما سبق في ضرب الأمثلة.
{قال -رحمه الله-: (وَلَكِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ التَّشْبِيهَ مُفَسَّرًا بِمَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي ثُمَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ الْمَعْنَى قَالُوا: إنَّهُ مُشَبِّهٌ وَمُنَازِعُهُمْ يَقُولُ: ذَلِكَ الْمَعْنَى لَيْسَ مِنْ التَّشْبِيهِ وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ لَفْظِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ)}.
قال هنا أيضًا وجه ثالث لبطلان هذا الضابط وبيان فساده: (مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ التَّشْبِيهَ مُفَسَّرًا بِمَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي) وهم هؤلاء المعطلة، فيجعلون مثلاً إثبات الصفات يلزم منه التماثل، فيفسر التشبيه بأنه مماثلة من كل وجه، ولكن من الناس الذين هم يحتجون على مخالفيهم، يقولون: من أثبت مجيئًا للرب يليق به فقد شبهه بخلقه، نقول ليس بصحيح، كيف فسرت الصفة بهذا المعنى؟ (وَلَكِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ التَّشْبِيهَ مُفَسَّرًا بِمَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي) عنده هو ويلزم المخالفين له بهذا اللازم، (ثُمَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ الْمَعْنَى قَالُوا: إنَّهُ مُشَبِّهٌ) فالذين يلزمون مثبتة الصفات بأنهم مشبهة (وَمُنَازِعُهُمْ يَقُولُ: ذَلِكَ الْمَعْنَى لَيْسَ مِنْ التَّشْبِيهِ) يعني الذي أثبت المجيء للرب على وجه يليق به، هل يعتقد التشبيه؟ لا يعتقد التشبيه، منازعهم يقول ليس صحيحاً، إذاً هو يلزم المخالفين بإلزامات ليست صحيحة، (وَقَدْ يُفَرَّقُ) أيضًا هذا وجه رابع: (وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ لَفْظِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ)، فالتشبيه قد يكون من وجه دون وجه، المماثلة من كل وجه.
ولهذا ما الذي جاء في القرآن، نفي التمثيل أو نفي التشبيه؟ نفي التمثيل، لأنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك، ولو في مسمى الوجود وهو الذي ذكره، القدر المشترك غير القدر المميز، فأصبحت الوجوه الآن لاحظ أربعة وجوده، فيقال لهم في الوجه الثالث: أن هذا الضابط متناقض مضطرب عند جميع الصفات، ولهذا يقال أيضًا: من تناقضكم أن منهم من يزعم أن إثبات الصفات يلزم تشبيهه بالحيوانات، فيشبهه بالجمادات، وآخر ينفي الصفات فيشبهه بالمعدومات، وثالث ينفي النفي والإثبات ويشبهه بالممتنعات، فكل منهم وقع في أفسد مما وقع منه، ومناظره يلزمه.
يعني مثال للجهمية: يلزمون المعتزلة بأنهم مشبهة، والجهمية يلزمون الأشاعرة بأنهم مشبهة، إذا أتى المعتزلي يقول للأشعري: أنت مشبه مجسم، يقول: كيف؟ قال: لأنك تثبت علماً وسمعاً وبصراً وقدرة وإرادة وحياة وكلامًا وهذا لا نعرفه إلا للمخلوقات، فيرد عليه الأشعري بأن هذا لا يلزم منه التشبيه.
بينما الأشعري يتهم السني السلفي بأنه مُشبه، لماذا؟ قال: لأنه يثبت المجيء ويثبت النزول، يقال: وأنت أيضًا تثبت الصفات السبع، فيلزمك فيما نفيت نظير فيما أثبت، يلزمك فيما أثبت نظير ما نفيت.
إذاً هذا الضابط مضطرب، فهو ضابط غير منضبط بدليل وقوع التناقض فيه، فدعوى هؤلاء أن طريقة التنزيه ونفي التشبيه، يقال: هذا الطريق فاسد بهذه الدلائل، فهو غير منضبط، لماذا؟ لأنك تلزم المخالفين بإلزامات ليست صحيحة وتقع أنت فيها بالطرف الآخر في أسوء مما فررت منه.
ثم أيضًا قال: (وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ لَفْظِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ)، فالذي جاء في النصوص هو نفي التمثيل، ولهذا لما اعترض عليه من اعترض في العقيدة الوسطية، قالوا: لماذا قلت في الواسطية من غير تمثيل ولم تقل من غير تشبيه وهو السائد عندهم؟ قال: إن التمثيل هو الذي نفاه الله في كتابه، وأمَّا التشبيه فإنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك.
ثم أخذ يطبق على القاعدة، الآن بعد بيان فساد هذا الضابط، انتقل للمثال التطبيقي الذي يبين فساد هذا الضابط، وهو الاعتماد في التنزيه على نفي التشبيه، قال.
{قال -رحمه الله-: (وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ لَفْظِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَنَحْوَهُمْ مِنْ نفاة الصِّفَاتِ يَقُولُونَ: كُلُّ مَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ صِفَةً قَدِيمَةً فَهُوَ مُشَبِّهٌ مُمَثِّلٌ فَمَنْ قَالَ إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا قَدِيمًا أَوْ قُدْرَةً قَدِيمَةً كَانَ عِنْدَهُمْ مُشَبِّهًا مُمَثِّلًا لِأَنَّ الْقَدِيمَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ هُوَ أَخَصُّ وَصْفِ الْإِلَهِ فَمَنْ أَثْبَتَ لَهُ صِفَةً قَدِيمَةً فَقَدْ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَثَلًا قَدِيمًا وَيُسَمُّونَهُ مُمَثَّلًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ)}.
هذا المثال التطبيقي، طبق على هذا، يقول: إن من أثبت الصفات فهو مشبه، فلننظر فيما تقررونه في كتبكم، قال: (وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَنَحْوَهُمْ مِنْ نفاة الصِّفَاتِ) عموماً، يَقُولُونَ: (كُلُّ مَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ صِفَةً قَدِيمَةً فَهُوَ مُشَبِّهٌ مُمَثِّلٌ) بما فيهم الأشاعرة والكلابية، فهم عند المعتزلة مشبهة ممثلة مجسمة، لماذا؟ لأن كل من أثبت صفة سواءً أثبت جميع الصفات أو بعضها بما فيهم أهل السنة وأهل الحديث والأشاعرة والماتريدية والكلابية في عقيدة المعتزلة، كل من أثبت صفة قديمة فهو مشبه وممثل، لماذا؟ ما الدليل؟ لاحظوا الآن الإشكال في الاستدلال.
(فَمَنْ قَالَ إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا قَدِيمً) وهذا يقول به الأشاعرة، أو قدرة قديمة كان عند المعتزلة مشبه ممثل مجسم، لماذا؟ قالوا - هنا لاحظ الدليل-: (لِأَنَّ القِدم عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ هُوَ أَخَصُّ وَصْفِ الْإِلَهِ فَمَنْ أَثْبَتَ لَهُ صِفَةً قَدِيمَةً فَقَدْ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَثَلًا قَدِيمً) فيسمون من أثبت صفة القديم لله فهو بهذا الاعتبار عند المعتزلة مشبه مجسم، طبعًا وصف القديم يكثر في كتب المتكلمين، فيقال للمتكلمين الذين تثبون بأن الله قديم وصفاته قديمة: أنتم في نظرة المعتزلة مشبهة، طبعًا سيدافعون، بزعم المعتزلة أن أخص وصف يوصف به الإله فهو القدم، وهذا عند جميع المتكلمين، هذا مثال تطبيقي لبيان فساد هذا الضابط، المتكلمون هل سكتوا أو اعترضوا؟ اعترضوا على دعوى المعتزلة واعترضوا على بيان فساد هذا الضابط، المشكلة يبينون فساده ثم يقعون فيه مرة أخرى، فاعترضوا على المعتزلة في بيان فساد هذا الضابط.
أيضًا لاحظ الجهمية سيلزمون المعتزلة بفساد آخر، فماذا قال؟ (وَمُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ) إثباتًا كلياً أو جزئيًا، في العموم، لاحظ الآن نحن بين معتزلة وبين مثبتة الصفات، بما فيهم أهل السنة وأهل سنن الحديث والأشاعرة والماتريدية كل من أثبت صفة من الصفات، سواءً جميع الصفات أو بعضها، يردون على المعتزلة في بيان فساد هذا القول.
{قال -رحمه الله-: (وَمُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ لَا يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى هَذَا بَلْ يَقُولُونَ: أَخَصُّ وَصْفِهِ مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُ مِثْلُ كَوْنِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ وَالصِّفَةُ لَا تُوصَفُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ)}.
مثبتة الصفات يردون على المعتزلة دعوى أن إثبات الصفات يلزم منه التشبيه وأن أخص وصف للإله هو القدم، يقال لهم: إن أخص وصف للإله ليس هو وصف القدم، لماذا؟ لأن القدم أول شيء لم يرد في الكتاب ولا في السنة، وثانيا أنه أمر نسبي، كما يطلق على الرب يطلق على غيره، ولهذا يقال: عرجون قديم، فهو أمر نسبي، فكل متقدم على غيره يسمى قديمًا، فبالتالي هل أصبح هو أخص وصف يوصف به الإله؟ لا سبق، بدليل أنه يقال: إن هذا قديم، هذا كتاب قديم، عند الناس يستخدمون القديم في المتقدم لغيره، فلا يوافقونهم في أن أخص وصف للإله هو القديم، بل أخص وصف للإله هو ما جاء في أدلة الكتاب من كونه رب العالمين: ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الشورى: 12]، ﴿إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأحقاف: 33]، ﴿هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [إبراهيم: 52]، ونحو ذلك.
(وَالصِّفَةُ لَا تُوصَفُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ) يعني: هم يقولون: إن الصفة لا توصف بشيء من هذه الصفات التي هي خاصة بالرب -تبارك وتعالى-.
هذا هو الوجه الأول في الرد على المعتزلة بأن لا نسلم لكم بأن القدم هو أخص وصف للإله، بل أخص وصف لإله هو ما جاء في الأدلة الشرعية، ولأن القدم أمر نسبي.
ثم أيضًا يقال: إنه الرب إذا وصف بالقدم وصفاته وصفت بالقدم لا يلزم منها تعدد القدماء؛ لأنهم يقولون: إذا أثبت الصفات يلزم منه تعدد القدماء، نقول: هذا ليس بلازم؛ لأن الصفة لا تنفك عن الموصوف، فإن إثبات الصفات لا يلزم منه تعدد القدماء.
ثم فصل عند المتكلمين عموماً في إطلاق وصف القديم على الصفات، قال.
{قال -رحمه الله-: (ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الصفاتية مَنْ لَا يَقُولُ فِي الصِّفَاتِ إنَّهَا قَدِيمَةٌ بَلْ يَقُولُ: الرَّبُّ بِصِفَاتِهِ قَدِيمٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ قَدِيمٌ وَصِفَتُهُ قَدِيمَةٌ وَلَا يَقُولُ: هُوَ وَصِفَاتُهُ قَدِيمَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ وَصِفَاتُهُ قَدِيمَانِ؛ وَلَكِنْ يَقُولُ: ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مُشَارَكَةَ الصِّفَةِ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِ فَإِنَّ الْقِدَمَ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ بَلْ مِنْ خَصَائِصِ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتِ وَإِلَّا فَالذَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ لَا وُجُودَ لَهَا عِنْدَهُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَخْتَصَّ بِالْقِدَمِ وَقَدْ يَقُولُونَ: الذَّاتُ مُتَّصِفَةٌ بِالْقِدَمِ وَالصِّفَاتُ مُتَّصِفَةٌ بِالْقِدَمِ وَلَيْسَتْ الصِّفَاتُ إلَهًا وَلَا رَبًّا كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ مُحْدَثٌ وَصِفَاتُهُ مُحْدَثَةٌ وَلَيْسَتْ صِفَاتُهُ نَبِيًّا فَهَؤُلَاءِ إذَا أَطْلَقُوا عَلَى الصفاتية اسْمَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ: كَانَ هَذَا بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِمْ الَّذِي يُنَازِعُهُمْ فِيهِ أُولَئِكَ)}.
هنا يُبَيِّنُ اختلاف الصفاتية عموماً في قضية وصف الصفات بأنها قديمة، فكأنهم وجدوا حرجًا في وصف الصفات بالقدم، قال: (ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الصفاتية) عمومًا، (مَنْ لَا يَقُولُ فِي الصِّفَاتِ إنَّهَا قَدِيمَةٌ) يعني: وجد حرجًا في وصف الصفات بالقديمة، (بَلْ يَقُولُ: الرَّبُّ بِصِفَاتِهِ قَدِيمٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ قَدِيمٌ وَصِفَتُهُ قَدِيمَةٌ) معاً، (وَلَا يَقُولُ: هُوَ وَصِفَاتُهُ قَدِيمَانِ) بحيث أنه ما يجعل الصفة ملازمة الموصوف، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ وَصِفَاتُهُ قَدِيمَانِ؛ وَلَكِنْ يَقُولُ: ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مُشَارَكَةَ الصِّفَةِ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِ) لاحظ الإشكال والحرج الذي وقع فيه المتكلمون بسبب الاضطراب في المذهب عندهم، (فَإِنَّ الْقِدَمَ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ بَلْ مِنْ خَصَائِصِ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتِ وَإِلَّا فَالذَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ لَا وُجُودَ لَهَا عِنْدَهُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَخْتَصَّ بِالْقِدَمِ)، يعني: هو يبين هنا الاضطراب والحرج الذي وقع فيه المتكلمون وهي ألفاظ الحقيقة متقاربة، بمعنى أنهم لا يُسلمون لهم بأن إثبات الصفات يلزم منه تعدد القدماء، ثم قضية أن الصفات قديمة أيضًا هذا ليس على إطلاقه، فالصفات ما هو صفات ذاتية ومنها ما هو صفات فعلية، والصفات الفعلية هي قديمة من حيث النوع، أما من حيث الآحاد فهي متعلقة بالمشيئة وهذا ما لا يقول به كثير من الصفاتية؛ لأنهم لا يثبتون الصفات الفعلية الاختيارية، ولهذا هذا الحرج الذي وقعوا فيه نتيجة أنهم يثبتون الصفات الذاتية العقلية، ولا يثبتون الصفات الفعلية، فوقعوا في مثل هذا التناقض وهذا الحرج الذي أحرجهم به المعتزلة وهم كذلك وجدوا حرجًا في الجواب عن ذلك.
(وَقَدْ يَقُولُونَ) في الرد على المعتزلة: إنه لا يلزم من وصف الصفات بأنها قديمة تعدد القدماء، (وَقَدْ يَقُولُونَ: الذَّاتُ مُتَّصِفَةٌ بِالْقِدَمِ وَالصِّفَاتُ مُتَّصِفَةٌ بِالْقِدَمِ وَلَيْسَتْ الصِّفَاتُ إلَهًا وَلَا رَبًّ) يعني ردًا على دعوى المعتزلة أن إثبات الصفات يلزم منه تعدد القدماء، ثم مثلوا بأن (النَّبِيَّ مُحْدَثٌ وَصِفَاتُهُ مُحْدَثَةٌ وَلَيْسَتْ صِفَاتُهُ نَبِيًّا فَهَؤُلَاءِ إذَا أَطْلَقُوا عَلَى الصفاتية) المعتزلة إذا أطلقوا على الصفاتية التشبيه والتمثييل، الصفاتية لا يسلمون لهم بهذا، كان هذا بحسب اعتقاد من؟ المعتزلة الذي ينازعهم فيه أولئك الصفاتية، فهم لا يسلمون لهم بهذا الضابط، بمعنى أن الصفاتية لا يسلمون للمعتزلة باستقامة هذا الضابط، بل يقولون ضابطكم هذا فاسد، وأهل السنة يقولون ضابطكم هذا الذي تطبقونه على الصفات الاختيارية فاسد كذلك، فكيف تردون على المعتزلة بفساد هذا الضابط، ثم تقعون فيه وتلمزون مثبتة الصفات الفعلية والاختيارية والسمعية بأنهم مشبه ومجسم، ولهذا يقولون في كتبهم، قالت: المشبهة، قالت المجسمة، نقول سبحان الله، لماذا؟ لأنهم يثبتون الصفات الفعلية، يقال: والمعتزلة ماذا قالوا لكم؟ وبماذا رددتم عليهم؟
فإذاً هذا الضابط غير منضبط بل هو متناقض، ثم يقول لهم أولئك.
{قال -رحمه الله-: (ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ أُولَئِكَ: هَبْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ بَعْضِ النَّاسِ تَشْبِيهًا فَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَنْفِهِ عَقْلٌ وَلَا سَمْعٌ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ نَفْيُ مَا نَفَتْهُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ)}.
هو من باب التسليم يقول: (هَبْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى) قد تسمونه أنتم في اصطلاحكم تشبيهًا وهو إثبات الصفات يلزم منه التشبيه، (فَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَنْفِهِ عَقْلٌ وَلَا سَمْعٌ) فالعقل يثبت القدر المشترك الذي تفهم به المعاني، والسمع دلَّ على هذا القدر المشترك الذي زعمتم أنتم أنه تشبيه والعقل ينفيه والسمع ينفيه كذلك.
إذاً ما هو الضابط الصحيح؟
(وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ نَفْيُ مَا نَفَتْهُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ)، وهو مماثلة الخالق للمخلوق وتنزيه الخالق عن كل صفاته هو من باب النقص والعيب -كما تقدم- الضوابط الصحيحة.
{قال -رحمه الله-: (وَالْقُرْآنُ قَدْ نَفَى مُسَمَّى الْمِثْلِ وَالْكُفْءِ وَالنِّدِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَقُولُونَ الصِّفَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَيْسَتْ مِثْلَ الْمَوْصُوفِ وَلَا كُفُؤَهُ وَلَا نِدَّهُ فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّصِّ وَأَمَّا الْعَقْلُ: فَلَمْ يَنْفِ مُسَمَّى التَّشْبِيهِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُعْتَزِلَةِ)}.
إذًا الضابط الصحيح أن ننفي ما نفاه الله، ما الذي نفاه الله في كتابه؟ نفى المثل ونفى الكفء ونفى الند ونحو ذلك، هم يقولون: (الصِّفَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَيْسَتْ مِثْلَ الْمَوْصُوفِ وَلَا كُفُؤَهُ وَلَا نِدَّهُ فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّصِّ) وهذا الجواب بناءً على دعوى أن التشبيه يلزم منه المماثلة، (الصِّفَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَيْسَتْ مِثْلَ الْمَوْصُوفِ وَلَا كُفُؤَهُ وَلَا نِدَّهُ فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّصِّ) أي: في نفي التشبيه، (وَأَمَّا الْعَقْلُ: فَلَمْ يَنْفِ مُسَمَّى التَّشْبِيهِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُعْتَزِلَةِ) لأن المعتزلة عندهم التحسين والتقبيح عقليين، فيقال: والعقل لا ينفي القدر المشترك، فدعواكم أنكم تقدمون التحسين والتقبيح العقليين على النص الشرعي، العقل كذلك لا ينفي هذا القدر المشترك، والعقل لا يسمي هذا القدر المشترك تشبيهًا ولا تمثيلًا، فهذا هو الدليل السمعي والدليل العقلي.
{قال -رحمه الله-: (وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَقُولُونَ: إنَّ الصِّفَاتِ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ مُتَحَيِّزٍ وَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فَلَوْ قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ وَهَذَا هُوَ التَّشْبِيهُ)}.
انتهى من الشبهة الأولى والضابط الأول الذي اعتمده النفاة وهو ضابط نفي التشبيه، فبين فساد هذا الضابط وأن هذا الضابط غير سديد ولا غير مفيد بدليل التناقض ودليل أنه يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما نفوه، ودليل أيضًا أن الذي جاء في النصوص هو نفي التمثيل وليس نفي التشبيه، فبين فساد هذا الضابط الذي اعتمده المعطلة في نفي الصفات.
ثم انتقل لضابط آخر: وهو أنهم نفوا الصفات بدعوى نفي التجسيم والتحيز، فيقال: وهل إثبات الصفات يلزم منه التجسيم والتحيز؟ طبعًا قضية الجسم والسمع سبق، لكن هو بيَّن فساد المسلك الأول الذي هو نفي التشبيه وبين الاضطراب وسبب ضلالهم بسب المصطلحات التي وضعوها.
ثانيًا: قال من شبههم.
{قال -رحمه الله-: (وَكَذَلِكَ يَقُولُ: هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الصفاتية الَّذِينَ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ وَيَنْفُونَ عُلُوَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَقِيَامَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: الصِّفَاتُ قَدْ تَقُومُ بِمَا لَيْسَ بِجِسْمِ وَأَمَّا الْعُلُوُّ عَلَى الْعَالَمِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا إذَا كَانَ جِسْمًا فَلَوْ أَثْبَتْنَا عُلُوَّهُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَحِينَئِذٍ فَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فَيَلْزَمُ التَّشْبِيهُ فَلِهَذَا تَجِدُ هَؤُلَاءِ يُسَمُّونَ مَنْ أَثْبَتَ الْعُلُوَّ وَنَحْوَهُ مُشَبِّهًا وَلَا يُسَمُّونَ مَنْ أَثْبَتَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ وَنَحْوَهُ مُشَبِّهًا كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ وَأَمْثَالُهُ)}.
إذاً هذه الشبهة الثانية عند المعتزلة: أن إثبات الصفات يلزم منه التجسيم والأجسام عندهم متماثلة، كذلك المعتزلة يقولون أيضًا: إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز، هذه المقدمة الأولى.
المقدمة الثانية: أن الأجسام متماثلة، النتيجة: فلو قامت به الصفات لزم أن يكون مماثلاً لسائر الأجسام وهذا عندهم هو التشبيه، يقال: الصفات لا تقوم إلا بجسم، هل هذا مسلم؟ الصفات لا تقوم إلا بجسم، نقول: هذا غير مسلم به بدليل أنه يقال هذا علم واسع، هذا يلزم أن الصفات لا تقوم إلا بجسم، فلا يسلم لهم بالمقدمة الأولى، أن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز، والأجسام متماثلة أيضًا هذا مسلم، وبالتالي فتكون النتيجة غير صحيحة لبطلان المقدمة الأولى وبطلان المقدمة الثانية.
يقول: كذلك، أيضًا هذه القاعدة يقولها كثير من الصفاتية الذين يثبتون الصفات السبع، يثبتون الصفات المعنوية العقلية، وينفون الصفات الأخرى، كالعلو وقيام الأفعال الاختيارية بالرب -تبارك وتعالى-، يقولون نفس دليل المعتزلة، يعني يستخدمون دليل فاسد، دليل باطل، هم يردونه أيضًا على المعتزلة، يقولون: (الصِّفَاتُ قَدْ تَقُومُ بِمَا لَيْسَ بِجِسْمِ) بمعنى أنهم لم يسلموا بالمقدمة الأولى لكنهم سلموا بالمقدمة الثانية، (وَأَمَّا الْعُلُوُّ عَلَى الْعَالَمِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا إذَا كَانَ جِسْمً) لم يسلموا بالأولى ولم يسلموا بالثانية، (فَلَوْ أَثْبَتْنَا عُلُوَّهُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَحِينَئِذٍ فَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فَيَلْزَمُ التَّشْبِيهُ) فوقعوا في نظير ما فروا منه، (فَلِهَذَا تَجِدُ هَؤُلَاءِ يُسَمُّونَ مَنْ أَثْبَتَ الْعُلُوَّ وَنَحْوَهُ مُشَبِّهًا وَلَا يُسَمُّونَ مَنْ أَثْبَتَ) الصفات السبع بأنه مشبه، تناقض أو ليس متناقض؟ هذا الدليل الذي تزعمون نفي إثبات الصفات يلزم منه التجسيم دليل متناقض، (كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ) وهو أبو المعالي الجويني، وقد تراجع في آخر عمره عن كثير من الأقوال ولكنه سلك مسلك التفويض، وكذلك قال: (وَكَذَلِكَ يُوَافِقُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى) وأيضًا له تراجعات، (وَأَمْثَالُهُ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْعُلُوَّ صِفَةً خَبَرِيَّةً كَمَا هُوَ أَوَّلُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْوَجْهِ وَقَدْ يَقُولُونَ) الصفاتية: (أَنَّ مَا يُثْبِتُونَهُ لَا يُنَافِي الْجِسْمَ) هذا دعوى أخرى (كَمَا يَقُولُونَهُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ وَالْعَاقِلُ) لاحظ كيف الآن، يقول: (الْعَاقِلُ إذَا تَأَمَّلَ وَجَدَ الْأَمْرَ فِيمَا نَفَوْهُ كَالْأَمْرِ فِيمَا أَثْبَتُوهُ لَا فَرْقَ) مما يدل على أن هذا الدليل متناقض وضابط غير منضبط.
{قال -رحمه الله-: (وَأَصْلُ كَلَامِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ عَلَى أَنَّ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّجْسِيمِ وَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ. وَالْمُثْبِتُونَ يُجِيبُونَ عَنْ هَذَا تَارَةً بِمَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى وَتَارَةً بِمَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ وَتَارَةً بِمَنْعِ كُلٍّ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَتَارَةً بالاستفصال)}.
يقول الشبهة التي أوقعت هؤلاء جميعًا سواءً المعتزلة أو المعطلة تعطيلًا جزئيًا كالصفاتية الشبهة واحدة والتطبيقات مختلفة ومتناقضة، (وَأَصْلُ كَلَامِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ) سواءً كانوا معتزلة أو الصفاتية (أَنَّ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّجْسِيمِ) وهذا دعوى باطلة، بدليل أن الصفات تقوم بأشياء غير أجسام، (وَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ. وَالْمُثْبِتُونَ يُجِيبُونَ عَنْ هَذَا تَارَةً بِمَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى وَتَارَةً بِمَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ وَتَارَةً بِمَنْعِ كُلٍّ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَتَارَةً بالاستفصال) أصبحت كم الأجوبة؟ أربعة أجوبة، طبعًا هذا يسميه هؤلاء يسمونه دليل الأعراض، فرد عليهم من وجوه أربعة، ثم قال:
إما بمنع المقدمة الأولى أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، والمقدمة الثانية: الأجسام متماثلة أو بمنع المقدمتين أو بالاستفصال، ماذا تقصدون بالجسم؟ كما تقدم في القواعد السابقة.
{قال -رحمه الله-: (وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُمْ بِتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ قَوْلٌ بَاطِلٌ سَوَاءٌ فَسَّرُوا الْجِسْمَ بِمَا يُشَارُ إلَيْهِ أَوْ بِالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْمَوْجُودِ أَوْ بِالْمُرَكَّبِ مِنْ الْهَيُولَى وَالصُّورَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا فَسَّرُوهُ بِالْمُرَكَّبِ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ وَعَلَى أَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ فَهَذَا يُبْنَى عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ؛ وَعَلَى إثْبَاتِ الْجَوْهَرِ الْمُفَرْدة وَعَلَى أَنَّهُ مُتَمَاثِلٌ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يُخَالِفُونَهُمْ فِي ذَلِكَ)}.
هذا الجواب عن هذا الأصل، فيقال في الرد الأول: قولكم بتماثل الأجسام هذا قول باطل سواءً فسرتم الجسم -كما تقدم-، ماذا تريدون بالجسم؟ (سَوَاءٌ فَسَّرُوا الْجِسْمَ بِمَا يُشَارُ إلَيْهِ أَوْ بِالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْمَوْجُودِ أَوْ بِالْمُرَكَّبِ) مِنْ المادة والصورة أي (الْهَيُولَى وَالصُّورَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ)، فإذا فسروا الجسم بأنه مركب من الجواهر المفردة، أي الجزء الذي لا يتجزأ على (عَلَى أَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ فَهَذَا يُبْنَى عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ؛ وَعَلَى إثْبَاتِ الْجَوْهَرِ المفردة) كثير من العقلاء أصلاً لا يسلمون بهذا، وعلى أنها متماثلة، هل يسلم لهم أن الجواهر المفردة متماثلة؟ لا يسلم لهم، (وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يُخَالِفُونَهُمْ) في هذه الدعوة، ثم قال.
{قال -رحمه الله-: (وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ التَّشْبِيهَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ تَجْسِيمًا بِنَاءً عَلَى تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ وَالْمُثْبِتُونَ يُنَازِعُونَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ؛ كَإِطْلَاقِ الرَّافِضَةِ للنَّصْبَ عَلَى مَنْ تَوَلَّى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُ فَهُوَ ناصبي وَأَهْلُ السُّنَّةِ يُنَازِعُونَهُمْ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى؛ وَلِهَذَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ: إنَّ الشَّيْئَيْنِ لَا يَشْتَبِهَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَخْتَلِفَانِ مِنْ وَجْهٍ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا فِيهِ حُجَجَ مَنْ يَقُولُ بِتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ وَحُجَجَ مَنْ نَفَى ذَلِكَ، وَبَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِتَمَاثُلِهَ)}.
المقصود هنا في بيان فساد هذا الضابط، وهو الاعتماد في نفي الصفات على نفي التجسيم، يعني: ليس المقصود هنا هو البسط والتوسع في هذه الأجوبة ومناقشة هذه المصطلحات، وإنما بيان فساد هذا الطريق، (وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ التَّشْبِيهَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ تَجْسِيمًا بِنَاءً عَلَى تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ) عندهم وهذا غير مسلم، (وَالْمُثْبِتُونَ يُنَازِعُونَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ) هذا، في دعوى أن الخالق يوصف بالجسم وفي أن الأجسام متماثلة.
ثم ضرب مثالا تقريبيًا يدل على فساد هذا الضابط وهو عند الرافضة: الرافضة يطلقون على من أحب الشيخين بأنه ناصبي رافضي، ولهذا ماذا قالوا لزيد بن علي بن الحسين لما سألوه عن الشيخين أبي بكر وعمر؟ قال: "نعم الوزيران وزيرا جدي"، فرفضوه، لماذا؟ لأنهما لا يمكن بزعمهم أن تُواليَ عليًا وتوالي أبا بكر وعمر، أنظر كيف المقدمات.
{اصطنعوا في مخيلتهم أن بينهم عداء}.
أي نعم، فهو يضرب مثالا تطبيقيًا -لاحظ من مهارة ابن تيمية- يقول: (كَإِطْلَاقِ الرَّافِضَةِ للنَّصْبَ عَلَى مَنْ تَوَلَّى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ) هذا بيان تطبيقي يبين لك فساد هذا الدليل وهذا المسلك، (بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَ عَلِيًّ) هذه المقدمة الأولى، من أحب الشيخين فقد أبغض عَلِيًّا -رضي الله عنهم جميعًا-، ومن أبغض عليَّا فهو ناصبي.
هذا لا إشكال في المقدمة الثاني، لكن الإشكال في المقدمة الأولى.
النتيجة عندهم: أن من أحب الشيخين فهو ناصبي، أهل السنة ينازعون في المقدمة الأولى، ولا ينازعونهم في المقدمة الثانية، وبالتالي فتكون النتيجة باطلة، هكذا إذا قالوا بأن إثبات الصفات يلزم منه التجسيم، والأجسام متماثلة، النتيجة: إثبات الصفات يلزم منه التشبيه، فيقال: المقدمة الأولى باطلة والمقدمة الثانية باطلة، فالنتيجة باطلة، فهم ينازعونهم في المقدمة الأولى والمقدمة الثانية وفي المقدمتين والاستفصال ماذا تقصدون بالجسم؟
هذا وموجود في الجدول في الشريحة التي تظهر أمام المشاهدين في قياس فساد مذهب دليل المتكلمين على دليل الرافضة في أن من أحب الشيخين فهو ناصبي، ودعوة المتكلمين أن من أثبت الصفات فهو مشبه.
وأسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا الفقه في دينه، وأن يجعلنا من المعظمين لكتابه والمعظمين لسنته، والمؤمنين بأسمائه وصفاته، والذين يحبون الصحابة جميعًا كما هو هدي أهل السنة والجماعة وهدي الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، جعلنا الله منهم وجميع المسلمين، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
اللهم أمين وإياكم والإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات، والأبناء الطلاب والطالبات، وأسأل الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{اللهم أمين.
وفي الختام هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد بن عمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
جزاك الله خيرًا وشكر الله لكم وإياكم.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك