الدرس الأول

فضيلة الشيخ د. سامي بن محمد الصقير

إحصائية السلسلة

26230 3
الدرس الأول

ثلاثة الأصول

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- خلقَ الخلق ليعبدوه وليوحدوه، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 56]، فبين الله -عَزَّ وَجَلَّ- في هذه الآية الكريمة الغاية من خلقِ الخلق وأنه خلقهم -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لهذا الأمر العظيم، وهيأهم لهذا الخطب الجسيم؛ ألا وهو عبادته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولهذا أرسل الله تعالى الرسل وأنزل الكتب تحقيقًا لهذا الأمر العظيم، وهذا يدل على العناية بتوحيد الله تعالى، والاهتمام بالعقيدة.
ومما يدل على وجوب العناية بالعقيدة والتوحيد:
أولًا: أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- خلقَ الخلقَ لهذا الأمر العظيم.
وثانيًا: أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أرسل الرسل، والرسل -عليهم الصلاة والسلام- من أولهم إلى آخرهم دعوتهم هي توحيد الله، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]، وقال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
وثالثًا مما يدل على أهمية التوحيد: أن الأعمال يتوقف قبولها وتتوقف صحتها على التوحيد. قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 88]، وقال تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: 65].
ومما يدل على وجوب العناية بالتوحيد: أن القرآن من أوله إلى آخره كله دعوة إلى التوحيد وإلى العقيدة وإلى توحيد الله تعالى.
ومما يدل على وجوب العناية بالتوحيد أيضًا: أن التوحيد هو أول أمر يسأل عنه الإنسان في قبره، كما أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه: «ويَأْتِيِه مَلَكانِ فيُجلِسانِه فيقولانِ له مَنْ ربُّك فيقولُ ربِّي اللهُ فيقولانِ له ما دِينُك فيقولُ دِينِيَ الإسلامُ فيقولانِ لهُ ما هذا الرجلُ الذي بُعِثَ فِيكم فيقولُ هو رسولُ اللهِ ...»، ومن أجل هذه الأسئلة ثلاثة التي هي: السؤال عن الرب -عَزَّ وَجَلَّ- وعن الدين وعن النبي؛ صنَّف الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ- هذه الرسالة التي هي "ثلاثة الأصول" أو "أصول الثلاثة" التي هي:
الأصل الأول: معرفة العبد لله تعالى.
والأصل الثاني: معرفته لدينه.
والأصل الثالث: معرفته لنبيه.
يقول المؤلف-رَحِمَهُ اللهُ: (اعْلمْ رَحِمَكَ اللهُ)، ابتدأ المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- كتابه بالبسملة اقتداء بكتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- فإنه مبدوء بالبسملة، وتأسيًا بالرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مكاتباته ومراسلاته، وعملا بقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأُ فيه ببسمِ اللهِ فهوَ أبترُ»، أي: أقطع.
يقول المؤلف-رَحِمَهُ اللهُ: (اعْلمْ رَحِمَكَ)، كلمة "اعلم" يؤتى بها لشدة الاعتناء بما بعدها، والمخاطَب هنا في قوله "اعلم" هو كل من يتأتى خطابه.
وقوله "اعلم" أي: اجزم وتيقن ولا تشكَّ.
قوله: (رَحِمَكَ اللهُ)، أي: أفاض عليك من رحمته. التي بها يحصل المطلوب ويندفع المرهوب.
(أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا تَعَلُّمُ أَرْبَع مَسَائِلَ) أي: وجوبًا عينيًّا، وقوله: (عَلَيْنَ) (ن) هنا تعود إلى جميع الخلق. فجميع الخلق يجب عليهم أن يتعلموا هذه المسائل.
وقوله-رَحِمَهُ اللهُ- (تَعَلُّمُ أَرْبَع مَسَائِلَ). المسائل جمع مسألة. والمسألة هي ما يُبرهن عليه في العلم، أي: ما يُطلب له الدليل.
(المسألة الأُولَى: الْعِلْمُ) والعلم هو معرفة الهُدى بدليله، والمراد بالعلم هنا هو العلم الشرعي؛ لأنَّ العلم إذا أُطلق فالمراد به العلم الشرعي.
قال: (وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللهِ، وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَمَعْرِفَةُ دِينِ الإِسْلامِ بالأَدِلَّةِ)، قوله: (مَعْرِفَةُ اللهِ) أي: بأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، وذلك بتحقيق التوحيد بأنواعه الثلاثة، والتوحيد ثلاثة أنواع:
النوع الأول: توحيد الألوهية وهو إفراد الله تعالى بالعبادة، بأن تعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لا أحد يستحق العبادة سوى الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
النوع الثاني: توحيد الربوبية، وهو إفراد الله تعالى بالملك والخلق والرزق والتدبير، فلا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا مدبر إلا الله.
النوع الثالث: توحيد الأسماء والصفات، وهو إثبات ما أثبت الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. هكذا تكون معرفة الله -عَزَّ وَجَلَّ.
قال: (مَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَمَعْرِفَةُ دِينِ الإِسْلامِ بالأَدِلَّةِ).
الثانية: (المسألة الثَّانِيَةُ: الْعَمَلُ بِهِ) والعمل هو ثمرة العلم، والمراد العمل بما سبق من معرفة الله ومعرفة دينه ومعرفة نبيه محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قال-رَحِمَهُ اللهُ-: (المسألة الثَّالِثَةُ: الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ) أي: الدعوة إلى هذا الدين دين الإسلام، فيجب على المؤمن أن يدعو إلى دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- كما قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108]، وقال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125].
(المسألة الرَّابِعَةُ: الصَّبْرُ عَلَى الأَذَى فِيهِ)؛ لأنَّ مَنْ قام بدين الإسلام ودعا إليه لا بد أن يحصل له أذية إمَّا قولية وإمَّا فعلية، فالقولية كالتكذيب، والفعلية أن يُؤذى في بدنه أو في ماله أو في حرمته، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَ﴾ [الأنعام: 34].

قال-رَحِمَهُ اللهُ: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾)، قوله سبحانه وتعالى: (﴿وَالْعَصْرِ﴾) أقسم الله تعالى بالعصر الذي هو الدهر، وهو محل الحوادث من خير وشر، وأقسم به لأنه عبرة للناظر من حيث تصرف الأحوال وتبدلها واختلافها.
قول الله تعالى: (﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾) المراد بالإنسان هنا: الجنس، أي أنَّ: جنس الإنسان خاسرٌ.
قول الله تعالى: (﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾) استثنى الله عز وجل من هذا الخسران هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الأوصاف الأربعة. (﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُو﴾) أي: صدَّقُوا وأذعنوا بما يجب الإيمان به، والذي يجب الإيمان به قد بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما سأله جبريل عليه السلام فقال: أخبرني عن الإيمان، قالَ: «أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ، ومَلائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، والْيَومِ الآخِرِ، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ» فعلى هذا يكون قول الله تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُو﴾ أي: آمنوا وصدَّقُوا وأذعنوا بما يجب الإيمان به.
(﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾) أي: عملوا الأعمال الصالحات، والعمل لا يكون صالحًا إلا بشرطين:
الأول: الإخلاص لله تعالى، الثاني: المتابعة لرسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكل عمل خلا من هذين الشرطين فانه ليس بصالح.
قال: (﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾) أي أوصى بعضهم بعضًا بالحق الذي هو دين الإسلام، بتوحيد الله وطاعته وعبادته، (﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾) أي: صار بعضهم يُوصي بعضًا بالصبر على دين الله، وعلى ما يحصل من الأذية فيه سواء كانت أذية قولية أم كانت أذية فعلية.

ثم قال المؤلف-رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ الشَّافِعيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إِلا هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ")، ومراده -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ هذه السورة كافية للخلق في الحث على التمسك بدين الله -عَزَّ وَجَلَّ، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على ذلك، وليس مُراده أن هذه السورة كافية للخلق في جميع الشريعة.
قوله: (وَقَالَ البُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "بَابُ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالْعَمَلِ") البخاري هو محمد بن إسماعيل الحافظ المعروف رحمه الله، صنَّفَ كتابًا هو أصح الكتب بعد كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-.
وقوله: (بَابُ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالْعَمَلِ) فتعلم العلم مُقدم على القول والعمل، وذلك أنَّ الإنسان لا يمكن أن يكون قوله وعمله موافقًا للشريعة إلا بعد أن يعلم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عليه أمْرُنا فَهو رَدٌّ»، وهذا يدل على أهمية العلم الشرعي، والعلم الشرعي من حيث الوجوب على نوعين:
النوع الأول: واجب جوبًا عينيًا، أي: أنه فرض عين، وذلك أن يتعلم ما يُقيم به دينه، سواء كان ذلك فيما يتعلق بالعقيدة أو فيما يتعلق بالعبادة أو فيما يتعلق بالمعاملة.
والنوع الثاني: ما يكون فرض كفاية، وهو ما زاد على ذلك.

قال-رَحِمَهُ اللهُ: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾) استدل المصنف-رَحِمَهُ اللهُ- بهذه الآية الكريمة على وجوب البداءة بالعلم قبل القول والعمل، كما استدل بها البخاري-رَحِمَهُ اللهُ- على صحة ما ترجم له، وذلك أنَّ الله عزَّ وجلَّ أمَرَ رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرين، أمره بالعلم ثم بالعلم، فقال: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ﴾ ثمَّ أعقبه بالعمل في قوله: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾ فدلَّ هذا على أنَّ مرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل، وأنَّ العلم شرط في صحة القول والعمل؛ لأنه لا بد أن يكون العمل -قوليًا كان أم فعليًا- موافقًا للشرع، ولا يمكن أن يعلم ذلك إلَّا بالعلم الشرعي.
وقوله: (﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ﴾) هذه هي كلمة التوحيد، ومعناها: لا معبود حق إلا الله، وهي جامعة للإثبات والنفي، ففيها إثبات استحقاق الله -عَزَّ وَجَلَّ- للألوهية ونفي ذلك عما سواه. يقول المؤلف-رَحِمَهُ اللهُ: (فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ).

ثم قال-رَحِمَهُ اللهُ: (اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّه يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ، تَعَلُّمُ هَذِهِ المَسَائِل الثَّلاثِ). قوله: (أَنَّه يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ) المسلم هو الذي يشهد أن لا إله ألا الله وأن محمدًا رسول الله وأتى بمقتضى هاتين الشهادتين.
(يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ، تَعَلُّمُ هَذِهِ المَسَائِل الثَّلاثِ والْعَمَلُ بِهِنَّ. الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا، وَرَزَقَنَا، وَلَمْ يَتْرُكْنَا هَمَلً).
قوله: (أَنَّ اللهَ خَلَقَنَ) أي أنَّ الله أوجدنا من العدم، وأمدنا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالنعم، حيث رزقنا، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر: 62]، وقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56].
(وَرَزَقَنَ) فهو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- رازق كل الخلق، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات:58]، وقال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران:37].

قال: (وَلَمْ يَتْرُكْنَا هَمَلً) بل أرسل إلينا الرسل، وأنزل علينا الكتب حجة على الخلق، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]. ولهذا قال: (بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولً) وهو نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ) في صحيح البخاري أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَن أَبَى، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَن يَأْبَى؟ قالَ: مَن أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصَانِي فقَدْ أبى».
ثم قال المؤلف-رَحِمَهُ اللهُ: (وَالدَّلِيلُ) أي: على إرساله الرسل (قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ﴾) أي: إنَّا أرسلنا إليكم يا معشر الثقلين ﴿رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ﴾ هو محمد صلى الله عليه وسلم ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ والرسول هنا هو موسى كليم الرحمن، وكذبه فرعون ولم يؤمن به، ﴿فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلً﴾ الوبيل في الأصل هو الثقيل الشديد، أي: أخذناه أخذًا شديدًا مُهلكًا، وذلك بإغراقه وجنوده في البحر، فلم يفلت منهم أحد. ثم بعد ذلك في عذاب البرزخ إلى يوم القيامة، ثم في عذاب النار، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر:46]، وهكذا تكون عاقبة العاصين للرسل، وجزاء المخالفين لأمرهم وما يدعون إليه، فالواجب أن يحذر من معصية رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لإنَّ معصيته سبب للهلاك والخسار في الدنيا والآخرة.

ثم قال المؤلف-رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّانِيَةُ: أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدٌ فِي عِبَادَتِهِ، لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدً﴾ [الجن: 18]) فهو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا يرضى أن يُشرك معه أحد، والشرك نوعان:
الشرك أكبر: هو أن يصرف نوعًا من أنواع العبادة لغير الله -عَزَّ وَجَلَّ-، كما لو ذبح لغير الله أو دعا غير الله أو نذر لغير الله أو استغاث به أو نحو ذلك، فكل من صرف نوعًا من أنواع العبادة لغير الله -عَزَّ وَجَلَّ- وجعله ندًا لله يرجوه ويدعوه ويخافه، فهو مشرك شركًا أكبر.
الشرك الأصغر: هو الشرك الأصغر وهو كل ما أطلق الشارع اسم الشرك إلا أنه لا يُخرجُ من الملة، كيسير الرياء، والحلف بغير الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ، أَوْ أَشْرَكَ»، وقيل إنَّ الشرك الأصغر كل ما يكون وسيلة إلى الشرك الأكبر إلا أنه دونه.
والشرك الأكبر له خصائص، فمن خصائصه أنه:
أولاً: أنه مُخرجٌ من الملة، قال الله عز وجل: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾.
ثانيًا: أنَّ صاحبه مخلدٌ في نار جهنم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَ﴾.
ثالثًا: أنه لا يُغفر لصاحبه إذا لم يتب منه، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾.
رابعًا: أنه محبطٌ لجميع الأعمال، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، وقال عز وجل: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، فالواجب الحذر من الشرك بنوعيه.

يقول المؤلف رحمه الله: وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدً﴾ المساجد جمع مسجد، وهو كل موضع بُني للصلاة والعبادة، المساجد لله -عَزَّ وَجَلَّ- ﴿فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدً﴾ لا مَلَكًا مُقربًا ولا نبيًا مُرسلًا؛ لأنَّ قوله ﴿أَحَدً﴾ نكرة في سياق النفي فتعم.

قال-رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ، وَوَحَّدَ اللهَ لا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ)، يقول المؤلف-رَحِمَهُ اللهُ: (أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ) والطاعة هي موافقة الأمر، فمن أطاع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ووحَّدَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا يجوز له أن يُوالي من حادَّ الله ورسوله، بل يجب عليه أن يُعاديهم وأن لا يُواليهم لقول الله تعالى: (﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ﴾) أي: أولئك الذين لم يوادوهم، أي لم يوادوا هؤلاء الكفار، أثبت الله -عَزَّ وَجَلَّ- في قلوبهم الإيمان وأرساه، فقلوبهم موقنة ومخلصة.
قال: (﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ﴾) قوله: ﴿وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ﴾ الجنات جمع: جنة، والجنة هي الدار التي أعدَّها الله تعالى لعباده المتقين، فيها ما لا عين رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. يدخلهم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذه الجنات ﴿خَالِدِينَ فِيهَ﴾ أي: ماكثين فيها أبَدَ الآبدين ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ وهذا أعلى مراتب النعيم أنَّ الله تعالى يرضى عنهم، ولهذا قال: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرغوب.
وقوله: ﴿أُوْلَئِكَ﴾ أي: أولياء الله، الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم.
و ﴿حِزْبَ اللَّهِ﴾. أي: أنصاره وعباده المقربون وأهل كرامته. ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فأثبت لهم الفلاح، والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب.

ثم قال المؤلف-رَحِمَهُ اللهُ: (اِعْلَمْ أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ، أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ، مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) الحنيفية ملة إبراهيم أي: طريقته وشريعته، وهي شريعة جميع الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، (أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ، مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) والعبادة تطلق على معنيين:
المعنى الأول: التعبد الذي هو فعل العابد وهو التذلل لله -عَزَّ وَجَلَّ- حبًا وتعظيمًا فبالحب يكون الطلب وبالتعظيم يكون الهرب.
المعنى الثاني من معاني العبادة: المُتَعَبَّد به، وقد عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية-رَحِمَهُ اللهُ- بهذا المعنى، بأنَّ العبادة: "اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة"، فالعبادة تطلق على التعبد وعلى المتعبد به. فمثلا الصلاة: فِعلك للصلاة هذا عبادة. فقيامك وقعودك هذا عبادة، وذات الصلاة من قيام وقعود وركوع وسجود. أي: بهيئتها هذا أيضًا عبادة.

يقول المؤلف-رَحِمَهُ اللهُ: (أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ، مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) أي أن تُخلص تعالى في جميع ما تتعبد لله به، فلا تشرك معه غيره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما قال -عَزَّ وَجَلَّ- ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدً﴾.
قال: (وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ، وَخَلَقَهُمْ لَهَ) أي: لهذه العبادة، (كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾) ثُمَّ فَسَّرَ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- معنى قوله: ﴿إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ فقال: (وَمَعْنَى يَعْبُدُونِ: يُوَحِّدُونِ) وذلك بإفراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالعبادة، ولهذا قال: (وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ، وَهُوَ: إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، وَأَعْظَمُ مَا نَهَى عَنْه الشِّركُ، وَهُوَ: دَعْوَةُ غَيْرِهِ مَعَهُ)، وقد سبق أنَّ الشرك نوعان: شرك أكبر، وشرك أصغر. قال: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئً﴾) وهذه الآية تسمى آية الحقوق العشرة؛ لأنها اشتملت على حقوق عشرة، أعظمها وأهمها الأمر بعبادته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، والنهي عن ضد ذلك من الإشراك به.
وقوله: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ﴾ أي: تذللوا له بالطاعة، حُبًا وتعظيمًا، ﴿وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئً﴾ (شيئً) هنا نكرة، فتشمل الشرك بنوعيه الأكبر والأصغر، والجلي والخفي.

ثم قال-رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا الأُصُولُ الثَّلاثَةُ التِي يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ مَعْرِفَتُهَا؟). أي: إذا سألك سائل وقال لك: ما هي الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها؟ أي: يجب على كل مكلف أن يعرفها وأن يعمل بما اقتضاها.
قال-رَحِمَهُ اللهُ: (فَقُلْ: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ) أي: أن يعرف ربه بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفات، يعرفه بهذه الأنواع؛ لأجل أن يعبده على علمٍ وبصيرةٍ ويقين.
قال: (وَدِينَهُ) أي: أن يعرف دينه الذي هو الإسلام، الذي أرسل الله تعالى به محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتعبدنا به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
قال: (وَنَبِيَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فإنه هو الواسطة بيننا وبين الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولا طريق لنا إلى عبادة الله تعالى إلا بما جاء به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم قال المؤلف-رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟) هذا شروع من المؤلف-رَحِمَهُ اللهُ- في بيان وتفصيل هذه الأصول الثلاثة التي ذكرها مجملة، ثم ذكرها مفصلة هنا، فقال: (فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَقُلْ: رَبِّيَ اللهُ الَّذِي رَبَّانِي) أي: فقل ربي هو الله -عَزَّ وَجَلَّ- الذي خلقني ورزقني، وهو مالكي ومعبودي الذي أوجدني من العدم، ورباني بالنعم، وهيأ لي العقل والفهم. وقوله: (فَقُلْ: رَبِّيَ اللهُ الَّذِي رَبَّانِي، وَرَبَّى جَمِيعَ الْعَالَمِينَ بِنِعَمِهِ) أي: أوجدهم من العدم، وغذَّاهم بالنِّعمِ، ونِعمُ الله -عَزَّ وَجَلَّ- على عباده عظيمة، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَ﴾.
قال: (وَهُوَ مَعْبُودِي لَيْسَ لِي مَعْبُودٌ سِوَاهُ) أي أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو مألوهي، فهو المتفرد بالألوهية كما أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو المتفرد بالملك والخلق والرزق والتدبير. قال: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾) والحمد هو وصف المحمود بالكمال حُبًّا وتعظيمًا، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يُوصف بالحمد لكمال صفاته ولجزيل هباته. وقوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ العالمون كل من سوى الله فهو عالم، سمي بذلك لأنه علامة على خالقه وموجده ومالكه.
قال: (وَكُلُّ مَنْ سِوَى اللهِ عَالَمٌ، وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ الْعَالَمِ) أي: أنا أيها الإنسان واحد من جملة مخلوقات الله المربوبة التي تتعبد لله -عَزَّ وَجَلَّ.

ثم قال: (فَإِذَا قِيلَ لَكَ: بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟ فَقُلْ: بِآيَاتِهِ وَمَخْلُوقَاتِه) أي فقل: عرفته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بآياته ومخلوقاته التي نصبها دلالة على وحدانيته، وعلى تفرده بالألوهية. والآيات جمع آية، وهي في اللغة العلامة، والمراد بالآيات هنا: الحجج، والبراهين، والمخلوقات التي خلقها الله تعالى، فكانت آية على ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته. قال-رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِذَا قِيلَ لَكَ: بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟ فَقُلْ: بِآيَاتِهِ وَمَخْلُوقَاتِه) أي: بما جعله من البراهين والأدلة، وبما خلقه من الخلق.

ثم قال: (وَمِنْ آيَاتِهِ: اللَّيْلُ، وَالنَّهَارُ) أي: من أعظم آيات الله -عَزَّ وَجَلَّ- المشاهدة بالأبصار الليل والنهار، فالليل والنهار آيتان عظيمتان في خلقهما، وفي سيرهما، وفي كون الليل يأتي على النهار فيغطيه حتى كأنه لم يكن، ثم يأتي النهار فيذهب بظلمة الليل، حتى كأنَّ الليل لم يكن، فهذا يجيء وهذا يذهب، كل هذا دلالة عظيمة على قدرة الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وعلى أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو الخالق، وهو الرازق، وهو المدبر، الذي يستحق أن يعبد دون ما سواه.
قال: (وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ) أي: ومن أعظم آياته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- التي تُشاهد بالأبصار (الشمس والقمر)، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في خطبته بعدما صلى صلاة الكسوف لَمَّا كسفت الشمس، قال: «إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتانِ من آياتِ اللهِ يُخوِّفُ اللهُ بهما عبادَه» فهما آياتان من آيات الله في كبرهما وحجمهما وسيرهما إلى غير ذلك، ولهذا قال تعالى: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾.
قال: (وَمِنْ مَخْلُوقَاتِهِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَمَا بَيْنَهُمَ) أي أنَّ من أعظم مخلوقات الله الدالة على وحدانيته السماوات السبع. في سعتها وارتفاعها، والأرضون السبع في امتدادها وسعة أرجائها، وما في السماوات السبع من الكواكب والآيات وما في الأرضين السبع من الجبال والبحار وأصناف المخلوقات من الحيوانات والنباتات وغيرها، كل هذا من الآيات الدالة على وحدانيته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وعلى تفرده بالخلق والتدبير.

قال-رَحِمَهُ اللهُ: (وَالدَّلِيلُ) أي: على ما تقدم من أنَّ من آياته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الليل والنهار والشمس والقمر. قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ استوى على العرش استواءً يليق بجلاله وعظمته.
ثم قال: وقوله: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثً﴾ أي أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يأتي بالليل فيغطي به النهار ويلبسه إياه حتى يذهب بنوره، ويُغشي النهار بالليل، ﴿طْلُبُهُ حَثِيثً﴾ يطلبه حثيثًا أي: طلبًا سريعًا لا يفصل بينهما شيء، ولا يدرك أحدهما الآخر. قال: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ أي: أنها مذللات تجري بأمر الله تعالى لا تتقدم ولا تتأخر. ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ فهو سبحانه وتعالى المنفرد بالخلق كما أنه هو المنفرد بالأمر، فلا شريك له في الخلق كما أنه لا شريك له في الأمر، فله الأمر من قبل ومن بعد، ﴿تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ أي: بلغ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في البركة غايتها ونهايتها، فهو الذي يوصل الخير إلى جميع الخلق، ويدفع عنهم جميع المكاره والسيئات، ولهذا قال: ﴿تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.

ثم قال المؤلف-رَحِمَهُ اللهُ: (وَالرَّبُ هُوَ الْمَعْبُودُ) أي أنَّ من معاني الرب ومما يطلق عليه: المعبود، كما أنه يطلق على الخالق والرازق والمالك والمتصرف، ومربي جميع الخلق بالنعم. فكلمة "الرب" تطلق على معان متعددة، منها: المعبود، ومنها: الخالق، الرازق، المالك، المدبر.
قال: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾) هذا خطاب لجميع الناس بعبادة الله -عَزَّ وَجَلَّ- والتذلل له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قال: (﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾) أي: أوجدكم، وأوجد الذين من قبلكم، (﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾) أي: لأجل أن تتقوا الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وتقوى الله تعالى هي جماع كل خير، وهي أن يقوم العبد بطاعة الله تعالى فِعلاً للمأمور وتركًا للمحظور، وتقوى الله تعالى هي وصية الله تعالى لعباده الأولين والآخرين، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ وهي اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

قال: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشً﴾ أي: بساطًا تتمكنون من المسير عليها، والمكث على ظهرها، وتنتفعون بما سخره لكم في هذه الأرض. ﴿وَالسَّمَآء بِنَآءً﴾ أي: أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جعل السماء بناءً وسقفًا محفوظًا مُزينًا بالمصابيح والعلامات التي تهتدون بها في ظلمات البر والبحر. ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ﴾ المراد بالسماء هنا هو ما علا وهو السحاب، أي: أنزل من السحاب المطر، ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ﴾ أي: بسببه ﴿مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ جمع ثمر ﴿رِزْقًا لَكُم﴾ أي: ما تتمتعون به وتستعينون به على عبادة الله تعالى وطاعته. ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي: لا تجعلوا له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أندادًا ونظراءً وأمثالاً ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه ليس له ند، فليس له مثيل ولا نظير ولا شبيه، بل هو المستحق للعبادة دون ما سواه، ولهذا قال: ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي: توقنون. أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ليس له ندٌ لا في ألوهيته ولا في ربوبيته ولا في أسمائه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولهذا قال: (قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الخَالِقُ لِهَذِهِ الأَشْيَاءَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ)؛ لأنَّ كل من سوى الله فهو مربوب مُتصرف فيه.
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد. وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ