الدرس الثاني

فضيلة الشيخ د. علي بن عبدالعزيز الشبل

إحصائية السلسلة

17969 9
الدرس الثاني

رفع الملام عن الأئمة الأعلام

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حياكم الله أيها الإخوة المشاهدون، في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) يصحبكم فيه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ علي بن عبد العزيز الشبل. حياكم الله فضيلة الشيخ}.
وأنا كذلك أرحب بك، وأرحب عبر هذا الأثير بطلاب العلم وبعموم المسلمين، سائلًا الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعله لقاء طيبًا مباركًا موفقًا، وأن يجعله من مجالس الذكر التي تحلُّ به علينا مرضاة ربنا -سبحانه وتعالى.
{بارك الله فيكم.
كنا قد وقفنا يا شيخ عند قصة عبد الرحمن بن عوف -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا أخبر عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بحديث الطَّاعون}.
المقصود بذلك: ربط الموضوع، وأنه قد يخفى على جِلَّة الصَّحابة أفرادٌ من أحاديث النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ويعلمها مَن هو دونهم في الفضل، ما مِن شرطِ أن يحيط العالم مهما بلغ علمه بكل حديثه وبكل سنته -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
{قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (وَتَذَاكَرَ هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم)}.
المقصود بـ (هُو): عمر بن الخطاب، تذاكر وابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَذَاكَرَ هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم- أَمْرَ الَّذِي يَشُكُّ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ قَدْ بَلَغَتْهُ السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنَّهُ يَطْرَحُ الشَّكَّ، وَيَبْنِي عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ».
وَكَانَ مَرَّةً فِي السَّفَرِ، فَهَاجَتْ رِيحٌ فَجَعَلَ يَقُولُ: مَنْ يُحَدِّثُنَا عَنْ الرِّيحِ؟
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَبَلَغَنِي وَأَنَا فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَحَثَثْت رَاحِلَتِي حَتَّى أَدْرَكْته، فَحَدَّثْته بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ)
}.
اللهم صلِّ وسلم على رسول الله، الحديثان كلاهما في صحيح مسلم، فإنه في حديث عبد الرحمن بن عوف قال النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إذا سَهَا أحدُكُم في صلاتِه فلمْ يَدْرِ واحدةً صلَّى أو اثْنتَينِ؟ فلْيَبْنِ على واحدةٍ»، يعني: يبني على اليقين، وحديث أبي هريرة الذي حصلَ فيه الشَّك عند هبوب الريح جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قالت: «كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ إذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ، قالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ ما فِيهَا، وَخَيْرَ ما أُرْسِلَتْ به، وَأَعُوذُ بكَ مِن شَرِّهَا، وَشَرِّ ما فِيهَا، وَشَرِّ ما أُرْسِلَتْ به» . اللهم صلِّ وسلم عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَهَذِهِ مَوَاضِعُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حَتَّى بَلَّغَهُ إيَّاهَا مَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ، وَمَوَاضِعُ أُخَرَ لَمْ يَبْلُغْهُ مَا فِيهَا مِنْ السُّنَّةِ فَقَضَى فِيهَا أَوْ أَفْتَى فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ)}.
هذا من عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كما في مسألة الجزية من أهل الكتاب ودية الأصابع؛ لأنها مختلفة المنافع، لكن حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنها سواء، الإبهام وهو أشد الأصابع بمنافعه والسبابة تليها دية الخنصر -أصغر الأصبع- مثل دية باقي الأصابع، هذه خفيت على عمر، ثم لَمَّا استبانت له السُّنة بحديثي أبي موسى الأشعري وابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- قال بها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (مِثْلَ مَا قَضَى فِي دِيَةِ الْأَصَابِعِ: أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ مَنَافِعِهَا، وَقَدْ كَانَ عِنْد أَبِي مُوسَى وَابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم- -وَهُمَا دُونَهُ بِكَثِيرِ فِي الْعِلْمِ- علما بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ يَعْنِي الْإِبْهَامَ وَالْخِنْصَرَ»)}.
(عَلِمَ)، يعني ابن عباس وأبو موسى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (علما بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ»)}.
يعني الإبهام والخنصر، فالإبهام أم الأصابع، والخنصر أصغرها، وهما سواء في الدية، فإن كسرت أصبعكَ عمدًا فلك القصاص، وأمَّا دية منفعتها فعشرٌ من الإبل.
والقاعدة في الديات: ما في الإنسان منه شيء واحد فالدية فيه كاملة كاللسان والفرج، وما كان في الإنسان منه اثنان فالدية منصفة كالعينين والأذنين والبيضتين للرجال، وما كان في الإنسان منه ثلاث فالدية فيها مثلثة كالأنف أرنبته وأوسطه وأعلاه، وما في الإنسان منه أربع فالدية فيه مربعة، مثل رموش العينين الرمش الأعلى والأسفل والأعلى والأسفل في اليمنى واليسرى، والأصابع في كل أصبع عشر من الدية، والأسنان في كل سن كان صغيرًا أو ضرسًا خمسٌ من الإبل، اللهم صلِّ وسلم عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَبَلَغَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ معاويةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي إمَارَتِهِ فَقَضَى بِهَا، وَلَمْ يَجِدْ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِنْ اتِّبَاعِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ عَيْبًا فِي حق عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ)}.
القاعدة عند أهل العلم في هذا: أنه أحسنَ مَن انتهى إلى ما قد سمَعَ، أي: ما علمه من حديث النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ودينه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ كَانَ ينْهى الْمُحْرِمَ عَنْ التَّطَيُّبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ)}.
كان عمر ينهى المحرم أن يتطيب قبل إحرامه، على اجتهاد من عمر كما في جاء الصحيحين من حديث عائشة، فنبَّهته عائشة إلى أنها طيَّبت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل إحرامه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ كَانَ ينْهى الْمُحْرِمَ عَنْ التَّطَيُّبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ؛ وَقَبْلَ الْإِفَاضَةِ إلَى مَكَّةَ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَة، ِ هُوَ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَ)}.
يعني كان ينهى عن ذلك عمر وابنه عبد الله، حيث خفي عليهم هذه السنة من حديث عائشة في الصحيحين: «طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (هُوَ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ، وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ»)}.
يُقال (لِحُرمه) أي: للإحرام. ويُقال (لإحرامه)، كلاهما مصدر "حَرُمَ".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَانَ يَأْمُرُ لَابِسَ الْخُفِّ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يَخْلَعَهُ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ، وَلَمْ تَبْلُغْهُمْ أَحَادِيثُ التَّوْقِيتِ الَّتِي صَحَّتْ عِنْدَ بَعْضِ مَنْ لَيْسَ مِثْلُهُمْ فِي الْعِلْمِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ صَحِيحَةٍ)}.
ولهذا فيه أكثر من أربعين حديثا عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- منها ما روى مسلم في صحيحه من حديث علي وما جاء في حديث خزيمة بن ثابت، وما جاء في حديث صفوان بن عسال، وأبي بكر رفيع بن الحارث الثقفي وغيرهم، «جَعَلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ثَلاثَةَ أيَّامٍ ولَيالِيَهُنَّ لِلْمُسافِرِ، ويَوْمًا ولَيْلَةً لِلْمُقِيمِ» ، وكان عمر وطائفة من السلف لا يرون فيها التَّحرير لأن الحديث لم يبلغهم عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
شيخ الإسلام هنا أطال هذه الإطالة لتقر هذه الحقيقة في ذهنك يا طالب العلم، أنه ربما يفوت العالم مهما كان في علمه وإمامته وفضله أشياء من سنة النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، فاتَ أبا بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ميراث الجدة من حديث خبيصة، وفات عمر ما فاته، إذًا ليكن عندك التماس للعذر لهؤلاء الأفاضل، وهذا داخل في السبب الأول: أنه لم يبلغه الحديث عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِأَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ فِي بَيْتِ الْمَوْتِ، حَتَّى حَدَّثَتْهُ الْفُرَيْعَةُ بِنْتُ مَالِكٍ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الخدري -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- بِقَضِيَّتِهَا لَمَّا تُوُفِّيَ عنها زَوْجُهَا، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: «اُمْكُثِي فِي بَيْتِك حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» فَأَخَذَ بِهِ عُثْمَانُ)}.
عثمان ما كان يلزم المرأة التي مات عنها زوجها أن تعتد في بيت الزوجية، هذا معنى "بيت الموت"، أي: البيت الذي مات فيه زوجها أو يملكه زوجها، حديث الفريعة بنت مالك أخت سعد بن أبي سعيد الخدري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فخفي عليه ذلك، فلما علم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَمَرَ من مات عنها زوجها أن تعتد في بيت الزوجية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأُهْدِيَ لَهُ مَرَّةً صَيْدٌ كَانَ قَدْ صِيدَ لِأَجْلِهِ، فَهَمَّ بِأَكْلِهِ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ لَحْمًا أُهْدِيَ لَهُ)}.
هذا وهو مُحْرِم، صاده حلال للمحرم، وكاد أن يأكل منه عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فأخبره علي بأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ردَّ صيدًا صاده حلال لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو حديث رواه الشيخان عن الصعب بن جثامة الليثي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنه أُهدِىَ للنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عجز حمار وحش -يعني الورك وهو أطيب ما يكون لحما- فردَّه النَّبي، فتغيَّر وجهه، فلمَّا رأى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وجه الصعب بن جثام مُتغيرًا راعى شعوره، أفهمه لمَ رده قال: «إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أنَّا حُرُمٌ»؛ لأن الصعب صاد هذا الصيد للمحرم.
ولهذا أخذ العلماء قاعدة: أن المحرم إذا أمر بالصيد أو أعان عليه أو أشار إليه أو صيدَ لأجله لم يجز له أن يطعم منه، وهذه خفيت على عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فلما أعلم بها أخذ بها -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْت إذَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي مِنْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْته، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْته، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ -وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ- وَذَكَرَ حَدِيثَ صَلَاةِ التَّوْبَةِ الْمَشْهُورَ)}.
هذا الحديث الذي أحمد وأهل السنن من حديث أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه سمع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ» ، هذا حديث عظيم، تُسمى الركعتان عند العلماء بصلاة التوبة، وليس هناك صلاة للحاجة، فهذا علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقول: "إذا بلغني الحديث أخذت به ونفعني الله به وإذا أخبرني غيري استحلفته" ليستوثق، إلا ما جاء عن أبي بكر فإنه يأخذ بقوله ولا يستحلفه، وهذا لأن عليًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يرى فضل أبي بكر وسابقته وإمامته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَفْتَى هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّ: الْمُتَوَفَّى عَنْهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا تَعْتَدُّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ وَلَمْ تَكُنْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سبيعة الأسلمية -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا- وقد توفي عنها زوجها سعد بن خولة، حَيْثُ أَفْتَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ عِدَّتَهَا وَضْعُ حَمْلِهَ)}.
حديث سُبيعة الأسلمية في الصَّحيحين، وكان في أول الأمر عثمان وابن عباس يريان أنَّ المعتدَّة إذا ماتَ عنها زوجها وهي حامل ثم وضعت حملها، فعندها عدتين: عدة وضع الحمل وعدة الأربعة أشهر وعشرًا، فكانا يلزمانها بأبعد الأجلين، فلمَّا تبين لهم حديث سُبيعة الأسلمية لَمَّا مات عنها زوجها ووضعت حملها بعد موته بمدة يسيرة، قيل يوم وقيل يومان؛ أمرها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تخرج من عدتها بوضع الحمل، إذًا دلَّ هذا على أنَّ مَن كانت لها عدتان تعتد بأقصر الأجلين لا أبعد الأجلين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَفْتَى هُوَ وَزَيْدٌ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ رضي الله عنهم بِأَنَّ الْمُفَوَّضَةَ إذَا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَلَا مَهْرَ لَهَ)}.
فوضت غيرها بمهرها، ما حدث مهرًا معينا وإنما فوضت أنها لا مهر لها حتى جاء حديث بروع بنت واشق.
{قال رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَرْوَع بِنْتِ وَاشِقٍ -رضي الله عنه)}.
الحديث رواه أهل السنن، زوجها كان اسمه هلال بن مرة الأشجعي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَبْلُغُ الْمَنْقُولُ مِنْهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَدًا كَثِيرًا جِدًّ)}.
بمعنى أنه يأتي مسائل وأفراد تخفى فيها السنن عن جِلَّة الصَّحابة، ويأتي بالسنة واحد أقل منهم، ولا ينقص هذا من قدرهم ولا فضلهم.
إذًا السنة أو الدليل قد يخفى على الأفراد، أما على مجموع الأمة فلا يخفى؛ لأنَّ هذا من حفظ الله لهذا الدين، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وأنت يا طالب العلم إذا قصُر فهمك وجاء من العلماء من زاد علمه، أو جاء من العلماء من خالفوا حديثًا فاستحضر هذا، وهو أنه لم يبلغه الحديث، وإذا لم يبلغه فهو غير مكلَّف بموجبه، وعندئذٍ يكون هذا أعظم عذر تعتذر به لهذا العالم، فلا تنزله من منزلة الاحترام والإجلال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا الْمَنْقُولُ مِنْهُ عَنْ غَيْرِهِمْ فَلَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ أُلُوفٌ)}.
يعني عن غير الصحابة من التابعين وتابعي التابعين فيما خالفوا في الأحاديث ما يمكن يحاط به، إذا كان الذي عن الصحابة كثير جدًّا، فكيف بمن دونه من التابعين وتابعي التابعين وعلماء الإسلام؟!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَعْلَمَ الْأُمَّةِ وَأَفْقَهَهَا، وَأَتْقَاهَا وَأَفْضَلَهَا، فَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْقَصُ؛ فَخَفَاءُ بَعْضِ السُّنَّةِ عَلَيْهِم أَوْلَى فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ)}.
أي: فلا يحتاج هذا الأمر إلى بيان من كثرة وروده، إذًا مَن خفيت عليه السنة ثم أفتى بموجب خلافها فهو معذور، لكن لا نوافقه على المخالفة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ صَحِيحٍ قَدْ بَلَغَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، أَوْ إمَامًا مُعَيَّنًا فَهُوَ مُخْطِئٌ خَطَأً فَاحِشًا قَبِيحً)}.
انتبه يا طالب العلم! إن اعتقدت أنَّ كل حديث صحيح بلغ هؤلاء العلماء، فأنت غلطت غلطًا فاحشًا وهو مع ذلك بيِّنٌ في غلطه، كما يقوله بعض المتعصبين: إمامنا يعلم كل الأحاديث. من أين لك ذلك؟! لا شرع يوافقك ولا عقل يؤيدك! بل واقع يخالفه، إذًا لا تفترِ على العلماء ويحملك فرط حبهم والتَّعصب لهم إلى أن تدَّعي هذه الدَّعوة، فإنها غلط فاحش بين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَا يَقُولَن قَائِلٌ: إن الْأَحَادِيثَ قَدْ دُوِّنَتْ وَجُمِعَتْ؛ فَخَفَاؤُهَا وَالْحَالُ هَذِهِ بَعِيدٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الدَّوَاوِينَ الْمَشْهُورَةَ فِي السُّنَنِ إنَّمَا جُمِعَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ انْحِصَارَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَوَاوِينَ مُعَيَّنَةٍ)}.
هؤلاء الأئمة المتبوعين الذين أشار إليهم الشيخ هم الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك الشَّافعي وأحمد، وإنما جاءت المدونات المشهورة كصحيحي البخاري ومسلم، والسنن الأربعة وما بعدها وما قبلها من المساند والمعاجم والسنن والجوامع بعد تدوينهم، ولا يقول قائل: إن الأحاديث الصحيحة محصورة في الصحيحين أو في الكتب الستة، لا، الدواوين كثيرة يجد عند هذا زائد ما عند هذا، نعم تشتهر دواوين لأنها مظنة الضعاف كالفردوس للشهاب وما انفرد به الطبراني، ودواوين مظنة الصحاح كالصَّحيحين، وما كان يقرب منهما كصحيح ابن خزيمة، صحيح الحاكم، ويليهم ابن حبان، إذًا لم تأتِ دواوين جمعت كل الأحاديث الصحيحة عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وهذا عذر لمن خالف حديثًا لم يبلغه.
أما من خالف حديثًا بلغه فله مقام ثانٍ إن شاء الله في تفصيل هذه المخالفة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ لَوْ فُرِضَ انْحِصَارُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها، فَلَيْسَ كُلُّ مَا فِي الْكُتُبِ يَعْلَمُهُ الْعَالِمُ، وَلَا يَكَادُ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِأَحَدِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الدَّوَاوِينُ الْكَثِيرَةُ وَهُوَ لَا يُحِيطُ بِمَا فِيهَ)}.
ما يلزم أن يحيط بها، الآن المجامع والمكانز الحديثية كثيرة، هل نحيط بها كلها؟ لا، إذا كان هذا فينا نحن في القرن الخامس عشر، فكيف بالقرون السَّابقة التي كان العلماء فيها أعلم بها منا وأحرص على الخير منَّا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَلْ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الدَّوَاوِينُ الْكَثِيرَةُ وَهُوَ لَا يُحِيطُ بِمَا فِيهَا.
بَلْ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ جَمْعِ هَذِهِ الدَّوَاوِينِ كانوا أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِكَثِيرِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّا بَلَغَهُمْ وَصَحَّ عِنْدَهُمْ قَدْ لَا يَبْلُغُنَا إلَّا عَنْ مَجْهُولٍ؛ أَوْ بِإِسْنَادِ مُنْقَطِعٍ؛ أَوْ لَا يَبْلُغُنَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَانَتْ دَوَاوِينُهُمْ صُدُورَهُمْ الَّتِي تَحْوِي أَضْعَافَ مَا فِي الدَّوَاوِينِ)
}.
قدَّم خبر "كان" على اسمها للتنبيه، فكانت صدورهم هي الدواوين التي يحفظون بها الأحاديث، فهم أعلم منَّا ومع ذلك يخفى عليهم، فكيف بمن جاء بعدهم؟!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ عَلِمَ الْقَضِيَّةَ.
وَلَا يَقُولَنَّ قَائِلٌ: مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْأَحَادِيثَ كُلَّهَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا. لِأَنَّهُ إنِ اشْتُرِطَ فِي الْمُجْتَهِدِ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَعَلَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ: فَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ على هذا مُجْتَهِدٌ)
}.
هذا القول قول نظري لا يؤيده الواقع، ولا يؤيده القول الصحيح.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنَّمَا غَايَةُ الْعَالِمِ: أَنْ يَعْلَمَ جُمْهُورَ ذَلِكَ وَمُعْظَمَهُ، بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ إلَّا الْقَلِيلُ مِنْ التَّفْصِيلِ)}.
الإشارة بقوله (ذَلِكَ) إلى أحاديث الأحكام، يعلم أكثرها ولا يعلمها كلها، نعم اشترطَ العلماء في المجتهد أن يعلم آيات الأحكام، ولذا اختلفوا في المجتهد هل يجب أن يحفظ القرآن كله أو يحفظ آيات الأحكام وهي نحو ستمائة؟
قولان لأهل العلم في هذا المبحث من المباحث الأصولية، فإذا كان في القرآن يشترط فيه؛ فهل يشترط في أحاديث الأحكام أن يحيط بها كلها؟ هذا لا يمكن! قالوا: يكفي أن يحيط بأكثرها، وهذا معنى قول الشيخ: (أَنْ يَعْلَمَ جُمْهُورَ ذَلِكَ وَمُعْظَمَهُ)، أي: معظمه وأكثر أحاديث الأحكام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ إنَّهُ قَدْ يُخَالِفُ ذَلِكَ الْقَلِيلَ مِنْ التَّفْصِيلِ الَّذِي يَبْلُغُهُ)}.
نعم قد يخالف في مدلول الأحاديث القليل من الكثير الذي لم يبلغه، فإذا كانت وقعت المخالفة عندئذ فهذه القليل فهو معذور بأنها لم تبلغه ولم يعلمها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (السَّبَبُ الثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ.
إمَّا لِأَنَّ مُحَدِّثَهُ، أَوْ مُحَدِّثَ مُحَدِّثِهِ، أَوْ غَيْرَهُ مِنْ رِجَالِ الْإِسْنَادِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ أَوْ مُتَّهَمٌ أَوْ سَيِّئُ الْحِفْظِ.
وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ مُسْنَدًا بَلْ مُنْقَطِعًا؛ أَوْ لَمْ يَضْبُطْ لَفْظَ الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ قَدْ رَوَاهُ الثِّقَاتُ لِغَيْرِهِ بِإِسْنَادِ مُتَّصِلٍ، بِأَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ يَعْلَمُ مِنْ الْمَجْهُولِ عِنْدَهُ الثِّقَةَ، أَوْ يَكُونُ قَدْ رَوَاهُ غَيْرُ أُولَئِكَ الْمَجْرُوحِينَ عِنْدَهُ؛ أَوْ قَدْ اتَّصَلَ مِنْ غَيْرِ الْجِهَةِ الْمُنْقَطِعَةِ، وَقَدْ ضَبَطَ أَلْفَاظَ الْحَدِيثِ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ الْحُفَّاظِ؛ أَوْ لِتِلْكَ الرِّوَايَةِ مِنْ الشَّوَاهِدِ وَالْمُتَابَعَاتِ مَا يُبَيِّنُ صِحَّتَهَ)
}.
المقصود بهذا السبب: أن العالم الذي خالف الحديث قد يكون الحديث بلغه لكنه لم يثبت عنده من وجوه صحيحة، إما بأن في إسناده مجهول وهذا الضعيف، أو متهم وهذا أكثر ضعفا، أو فيه سيء الحفظ وهو أشد ضعفًا؛ فقد يكون الحديث لم يثبت عنده، فيخالف مدلوله، وإن كان الحديث له طرق أخرى صحَّ بها الحديث، فيعذر هذا العالم بمخالفته لأن الحديث لم يثبت عنده من وجهٍ صحيحٍ يوجب عليه العمل بمدلوله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا أَيْضًا كَثِيرٌ جِدًّا، وَهُوَ فِي التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ إلَى الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، أَوْ كَثِيرٌ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ)}.
أي: أكثر في السَّبب الأوَّل أنه لم يبلغه الحديث.
هذا هو السَّبب الثَّاني، وهو أنه يبلغه الحديث لكنه ضعف وهذا كثير، وكلما تأخر القرن كلما كان أكثر، لأن الرواة متنوعون ومتعددون ومنتشرون.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ كَانَتْ قَدْ انْتَشَرَتْ وَاشْتَهَرَتْ، لَكِنْ كَانَتْ تَبْلُغُ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ، وَقَدْ بَلَغَتْ غَيْرَهُمْ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ غَيْرِ تِلْكَ الطُّرُقِ، فَتَكُونُ حُجَّةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ مَنْ خَالَفَهَا مِنَ الْوَجْهِ الآخر)}.
يعني في القرون المتأخرة، القرن الثالث أكثر منه في الثاني، والثاني أكثر منه في الأول، الأول كانت طرق محدودة، لكن الثاني والثالث كثرت الطرق، فبين القرن الثالث والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أربعة رواة أو خمسة رواة، أعلاها ثلاثة رواة كما في ثلاثية البخاري.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِهَذَا وُجِدَ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ تَعْلِيقُ الْقَوْلِ بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ، فَيَقُولُ: "قَوْلِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَذَا وَقَدْ رُوِيَ فِيهَا حَدِيثٌ بِكَذَا؛ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ قَوْلِي")}.
هذا العالم الذي ذكر عنه يقول قوله: "قَوْلِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَذَا َقَدْ رُوِيَ فِيهَا حَدِيثٌ بِكَذَا؛ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ قَوْلِي"، أي: إن صحَّ الحديث فأقول به وأخالف ما كنت أفتيت به، دلَّ على أنه جاءه الحديث من طريق لم يثبت. هذا هو السبب الثاني في مخالفة العلماء الأعلام لأشياء ثابتة عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (السَّبَبُ الثَّالِثُ:
اعْتِقَادُ ضَعْفِ الْحَدِيثِ بِاجْتِهَادِ قَدْ خَالَفَهُ فِيهِ غَيْرُهُ، مَع قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ طَرِيقٍ آخَرَ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّوَابُ مَعَهُ، أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، أَوْ مَعَهُمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: "كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ")
}.
السبب الثالث من أسباب المخالفة في بعض الأئمة الأعلام للأحاديث: أن يكون الحديث ضعيفًا عنده، أي: بإسناده بحكمه عليه، ويخالفه غيره من المجتهدين، أو يأتي مَن يخالف هذا وغيره في هذا الحديث، فهنا تُعمل هذه القاعدة "كل مجتهد مصيب"، لأن هذا الحديث لم يصح عنده من وجه صحيح يلزم أن يقول بموجب هذا الحديث، وهذا له عدة أسباب أشار الشيخ إلى جملة منها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِذَلِكَ أَسْبَابٌ:
مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ يَعْتَقِدُهُ أَحَدُهُمَا ضَعِيفًا؛ وَيَعْتَقِدُهُ الْآخَرُ ثِقَةً. وَمَعْرِفَةُ الرِّجَالِ عِلْمٌ وَاسِعٌ.
ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْمُصِيبُ مَنْ يَعْتَقِدُ ضَعْفَهُ؛ لِاطِّلَاعِهِ عَلَى سَبَبٍ جَارِحٍ، وَقَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَ الْآخَرِ لِمَعْرِفَتِهِ أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ غَيْرُ جَارِحٍ؛ إمَّا لِأَنَّ جِنْسَهُ غَيْرُ جَارِحٍ؛ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْجَرْحَ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ.
وَلِلْعُلَمَاءِ بِالرِّجَالِ وَأَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ، مِثْلُ مَا لِغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِر أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عُلُومِهِمْ)
}.
مؤدى هذا: أنه قد يضعف عالمٌ حديثًا، ولا يضعفه الآخر لقيام السبب المضعِف عند هذا العالم ولم يقم هذا السبب عند الثاني، فكان يرى عالم أن هذا الضعف منجبر، ويرى الآخر أن الضعف غير منجبر، فهذا من أسباب أنه ضعَّف حديثًا باجتهاده، والآخر ما ضعفه باجتهاده.
ولهذا ما كلُّ مَن قال إن حديثًا ضعيفًا يكون ضعيفًا من كل وجه، قد يكون هذا اجتهاده، في أن هذا الراوي مجروح فيه، والثَّاني الذي حسَّن الحديث أو الذي صححه لم يقبل هذا الجرح الذي فيه، وهذا باب واسع فيما يتعلق بالرجال، كما أنهم اختلفوا أيضًا في الرواة بتعديلهم وتجريحهم، وفيما يأتي المتفق عليه على ضعفهم، وما المتفق على عدالتهم إلا جملة من هنا وجملة من هنا، أكثر المختلف فيهم منهم من يصحح حديثه ومنهم من يضعفه بحسب هذا الضعف، هل ولا غير منجبر؟
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنْهَا: أن لا يَعْتَقِدَ أَنَّ الْمُحَدِّثَ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِمَّنْ حَدَّثَ عَنْهُ، وَغَيْرُهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَمِعَهُ لِأَسْبَابِ تُوجِبُ ذَلِكَ مَعْرُوفَةٍ)}.
أنه يعتقد أن الراوي لم يسمعه من شيخه كما يقال في التَّدليس بأنواعه، تدليس التسوية، تدليس الشيوخ، يأخذ مطلق العنعنة للمدلس أنها لا تقبل منه، آخر يقول: ما عنعنه في الصحيحين هذه محمولة على السَّماع.
إذًا هذا يعتقد أنه سمع وهذا يعتقد أنه لم يسمع، هذه أشياء متعلقة بـ: هل الحديث يضعف ولا ما يضعف؟ بحسب هذا المجتهد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لِلْمُحَدِّثِ حَالَانِ: حَالُ اسْتِقَامَةٍ، وَحَالُ اضْطِرَابٍ. مِثْلَ أَنْ يَخْتَلِطَ، أَوْ تَحْتَرِقَ كُتُبُهُ)}. فَمَا حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ الِاسْتِقَامَةِ صَحِيحٌ، وَمَا حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ الِاضْطِرَابِ ضَعِيفٌ، فَلَا يُدْرَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ من مثل عبد الله بن لهيعة، ما حدَّث قبل احتراق كتبه مقبول، ولهذا قبل العلماء رواية العبادلة الأربعة عنه: عبد الله بن مبارك وعبد الله بن وهب عبد الله بن يزيد، وأنها أثبت، وما روي عنه بعد اختلاطه أو احتراق كتبه أو تخريفه تكون روايته ضعيفة، إذًا له حالتان هذا المحدث الراوي:
- حالة فيها استقامة.
- وحالة فيها هذه العلة الواردة عليهما باختلاطه واضطرابه نسيانه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَمَا حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ الِاسْتِقَامَةِ صَحِيحٌ، وَمَا حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ الِاضْطِرَابِ ضَعِيفٌ، فَلَا يُدْرَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ مِن أَيِّ النَّوْعَيْنِ؟ وَقَدْ عَلِمَ غَيْرُهُ أَنَّهُ مِمَّا حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ الِاسْتِقَامَةِ)}.
فهذا موجب اختلافهم في ثبوت الحديث تصحيحًا وتضعيفًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ قَدْ نَسِيَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِيمَا بَعْدُ، أَوْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ حَدَّثَ به، مُعْتَقِدًا أَنَّ هَذَا عِلَّةٌ تُوجِبُ تَرْكَ الْحَدِيثِ. وَيَرَى غَيْرُهُ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ)}.
السبب الرابع في عدم ثبوت الحديث: أن يكون المحدث حدَّث به ثم نسيه، فإذا نسيه أو أنكر أن يكون قد حدَّث به بعد ذلك، فيظن أنَّ هذه علَّة توجب رد هذا الحديث، وعند غيره لا توجبها، فيكون لمن رده عذر في رده للحديث بأنه لم يقبل الجواب بهذه العلة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمِنْهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحِجَازِيِّينَ يَرَوْنَ أَلَّا يُحْتَجَّ بِحَدِيثِ عِرَاقِيٍّ أَوْ شَامِيٍّ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: "نَزِّلُوا أَحَادِيثَ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِمَنْزِلَةِ أَحَادِيثِ أَهْلِ الْكِتَابِ، لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ"
وَقِيلَ لِآخَرَ: سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ حُجَّةٌ؟ قَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ فَلَا.
وَهَذَا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ ضَبَطُوا السُّنَّةَ، فَلَمْ يَشِذَّ عَنْهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَأَنَّ أَحَادِيثَ الْعِرَاقِيِّينَ وَقَعَ فِيهَا اضْطِرَابٌ أَوْجَبَ التَّوَقُّفَ فِيهَا.
وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ يَرَى أَلَّا يُحْتَجَّ بِحَدِيثِ الشَّامِيِّينَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ التَّضْعِيفِ بِهَذَا.
فَمَتَى كَانَ الْإِسْنَادُ جَيِّدًا كَانَ الْحَدِيثُ حُجَّةً، سَوَاءٌ كَانَ الْحَدِيثُ حِجَازِيًّا، أَوْ عِرَاقِيًّا، أَوْ شَامِيًّا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ)
}.
هذا السبب الخامس، وهو سبب قلَّ العمل به إن لم يكن قد اندثر، وهو رد أحاديث أهل الأمصار بعضهم لبعض لدعوى الضبط وعدمه أو الإتقان وقلَّته.
يقول الشيخ: (وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ التَّضْعِيفِ بِهَذَ) لَمَّا استقرت الأسانيد، ولهذا فإن القاعدة العامة "إذا صح الإسناد كان حجة"، فإذا كان الإسناد صحيحًا أو حسنًا فإنه يكون حجة، سواء حديث العراقيين أو الحجازيين أو الشاميين أو المصريين أو غيرهم، وهذه إنما يُصار إليها في علل الأسانيد أولًا، ثم في علل المتون، إذا جُمعت الطرق وأعلَّ بأن حديث العراقيين مثلًا بعضهم أضبط فيه من بعض، فيؤاخذ في العلة عندئذ في الحكم على الطرق، سواء علة تتعلَّق بالإسناد أو بعدم الاختلاف أو علة تتعلق بالمتن بعدم الاضطراب، والعلماء صنَّفوا فيها مصنفات، كـ "حديث الشاميين" للطبراني -رَحِمَهُ اللهُ-، وما صنفه أبو داود في مفاريد أهل الأمصار، هذا بناءً على هذا المسألة في مظنة التضعيف أو غيره، والقاعدة: "إذا صح الحديث قيل به والحمد لله".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو داود السجستاني -رحمه الله- كِتَابًا فِي مفاريد أَهْلِ الْأَمْصَارِ مِنْ السُّنَنِ، بَيَّنَ مَا اخْتَصَّ بِهِ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ مِنْ السُّنَنِ الَّتِي لَا تُوجَدُ مُسْنَدَةً عِنْدَ غَيْرِهِمْ، مِثْلَ الْمَدِينَةِ؛ وَمَكَّةَ؛ وَالطَّائِفِ؛ وَدِمَشْقَ، وَحِمْصَ؛ وَالْكُوفَةِ؛ وَالْبَصْرَةِ؛ وَغَيْرِهَا. إلَى أَسْبَابٍ أُخَرَ غَيْرِ هَذِهِ)}.
هذه كما قلنا: تفيد في العلل، في إعلال الأحاديث سندًا أو متنًا.
هذه أسباب خمسة تتعلق بالسبب الثالث: إذا لم يصح الحديث عند العالم بأي وجوه عدم الصحة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (السَّبَبُ الرَّابِعُ:
اشْتِرَاطُهُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ الْحَافِظِ شُرُوطًا يُخَالِفُهُ فِيهَا غَيْرُهُ. مِثْلَ اشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ عَرْضَ الْحَدِيثِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ فَقِيهًا إذَا خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ، وَاشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ انْتِشَارَ الْحَدِيثِ وَظُهُورَهُ إذَا كَانَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَوَاضِعِهِ)
}.
من سباب الخلاف: ما يقع من اختلاف العلماء في اشتراط قبول الأحاديث، فلهذا إذا عُرف شرط العالم في قبول الحديث لم يؤاخذ فيما ردَّه مما لم يكن على شرطه، فمِن العلماء من يشترطون أن يكون الحديث معروضًا على الكتاب والسنة فلا يخالفها، فإذا خالف حديثًا لأنه عنده خالف كتاب السنة لا يلام على ذلك، هذا شرطه وهذا منهجه الذي مضى عليه.
ومنهم من يشترط أن يكون المحدِّث فقيهًا، لا يخالف بحديثه القياس وأصول العلم وأصول الدين وأصول الفتوى.
ومنهم من يشترط أن يكون حديثه مشهورًا ظاهرًا فيما عمَّت به البلوى، لا يكن الحديث غريبًا أو عزيزًا غير مشتهر.
فهذه الشرائط المختلفة تكون سببًا في قبول هذا العالم الحديث أو عدم قبوله له.
وانظر إلى حديث الديات في مقاديرها والأنصبة ومقادير الزكوات وأنصبة الزكاة، إسناده ضعيف لكن قال فيه الحافظ ابن عبد البر: "وهذا حديث اشتهر عند أهل العلم شهرة تغني عن معرفة أصله ومخرجه"، فإذا اشتهر الحديث وتُلقي بالقبول فإن النظر إلى أسانيده يعد نظرًا تكميليا لا نظرًا أصليًّا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (السَّبَبُ الْخَامِسُ:
أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ وَثَبَتَ عِنْدَهُ لَكِنْ نَسِيَهُ.
وَهَذَا يَرِدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِثْلَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُجْنِبُ فِي السَّفَرِ فَلَا يَجِدُ الْمَاءَ؟ فَقَالَ: لَا يُصَلِّي حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ، فَقَالَ لَهُ عَمَّارُ بنُ ياسر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَا تَذْكُرُ إذْ كُنْت أَنَا وَأَنْتَ فِي الْإِبِلِ، فَأَجْنَبْنَا، فَأَمَّا أَنَا فَتَمَرَّغْت كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، وَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إنَّمَا يَكْفِيَك هَكَذَ» وَضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ، فَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عَمَّارُ، فَقَالَ: إنْ
شِئْت لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ. فَقَالَ: بَلْ نُوَلِّيك مِنْ ذَلِكَ مَا تَوَلَّيْت)
}.
هذه مسألة في حديث قد بلغ العالم لكن نسيه هو بعد ذلك، وعمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان مع عمار في الإبل فأجنبا، فأما عمر فلم يتوضأ، وأمَّا عمار فتمرَّغ في التراب الطيني كما تتمرغ الناقة، فقال له النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّمَا يَكْفِيَك هَكَذَ» وَضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ، فَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ، وهذا في الصحيحين.
إذًا عمر نسي هذه السنة، وعمار أفتى بخلافها، فعمار من علمه ومن عقله قال: "إن شئت يا أمير المؤمنين لم أحدث به"، لئلا يترتب على تحديثه به مفسدة، قال: "بَلْ نُوَلِّيك مِنْ ذَلِكَ مَا تَوَلَّيْت"، يعني يكون في ذمتك، لأنه دين لا يترك ولا يغفل عنه، فعمر لم يكذِّب عمار، وإنما جعل الأمر في ذمته مع أنه خلاف ما كان يفتي به عمر؛ لأن عمر نسي ذلك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَهَذِهِ سُنَّةٌ شَهِدَهَا عُمَرُ -رضي الله عنه- ثُمَّ نَسِيَهَا، حَتَّى أَفْتَى بِخِلَافِهَا وَذَكَّرَهُ عَمَّارُ -رضي الله عنه- فَلَمْ يَذْكُرْ. وَهُوَ لَمْ يُكَذِّبْ عَمَّارًا، بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ.
وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: "لَا يَزِيدُ رَجُلٌ عَلَى صَدَاقِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَنَاتِهِ إلَّا رَدَدْته". فَقَالَتْ له امْرَأَةٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَ تَحْرِمُنَا شَيْئًا أَعْطَانَا اللَّهُ إيَّاهُ؟ ثُمَّ قَرَأَتْ: ﴿وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارً﴾ [النساء: 20]، فَرَجَعَ عُمَرُ إلَى قَوْلِهَا، وَقَدْ كَانَ حَافِظًا لِلْآيَةِ وَلَكِنْ نَسِيَهَ)
}.
هذا في زيادة الصداق على ما كان مقدَّرًا لأمهات المؤمن وبنات النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، كم كان صداق أمهات المؤمنين وبناته -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟
لم يتجاوز ستمائة درهم، فنهى عمر عن الزيادة في الصَّداق؛ لأنه في عهد عمر توسع الناس واغتنوا بالفتوحات والخير الذي كان، فلما قال ذلك قامت امرأة -كما يقول راوي الحديث أبو العجفاء السلمي- قامت امرأة عجوز قالت: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَ تَحْرِمُنَا شَيْئًا أَعْطَانَا اللَّهُ إيَّاهُ؟" وذكرت اعتراضها على عمر وهو يخطب الناس على المنبر، قال الله جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينً﴾ [النساء: 20]، فعمر نسي ذلك، ثم رجع إليه لَمَّا ذُكِّرَ ولمَّا فُطِّنَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا ذَكَّرَ الزُّبَيْرَ يَوْمَ الْجَمَلِ شَيْئًا عَهِدَهُ إلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ حَتَّى انْصَرَفَ عَنْ الْقِتَالِ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ)}.
لما انصرف الزبير ابن العوام حواري رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من القتال يوم الجمل تبعه أحد سعاة الفتنة ورؤوسها فقتله جنوب البصرة في بلدة تسمى الآن "الزبير"، سميت على اسم هذا الصحابي، فهذا شيء نسيه الزبير، ثم لَمَّا فطن به رجع إليه.
إذًا، السبب الخامس: أنه قد يبلغ الحديث العالم ثم ينساه؛ لأنهم بشر يعتريهم ما يعتري غيرهم من النسيان والذهول والغفلة عنه، فإذا تذكَّره قال به، وإن لم يتذكره كان معذورًا بنسيانه إيَّاه والله يقول: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَ﴾ [البقرة: 286]، قال الله: "قد فعلت".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (السَّبَبُ السَّادِسُ:
عَدَمُ مَعْرِفَتِهِ بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ.
تَارَةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ غَرِيبًا عِنْدَهُ، مِثْلَ لَفْظِ "الْمُزَابَنَةِ" وَ "الْمُخَابَرَةِ" وَ "الْمُحَاقَلَةِ" وَ "الْمُلَامَسَةِ" وَ"الْمُنَابَذَةِ" وَ "الْغَرَرِ"؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكَلِمَاتِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي قَدْ يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِهَ)
}.
قد يأتي النصُّ إلى العالم بألفاظ يختلف العلماء في مدلول هذه الألفاظ، مثل: «نهى النبي عن المزابنة»، وهو: بيع التمر على رؤوس النخل بالتمر في الأرض للزبن، «نهى عن المحاقلة»، أي: بيع الحقول، «نهى عن المنابذة»، أي: ما رميت عليك بكذا، «نهى عن الملامسة»، أي: ما لمسته بكذا، «نهى عن الغرر»؛ فهذه التي نهى عنها النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يختلف العلماء في معناها ومدلولها، فعندئذ في خلافهم نظر وهو معتبر، ولا يعد العالم مخالفًا للحديث إذا كان هذا ما أدى إليه نظره في فَهم هذه المنهيات أو هذه الألفاظ التي اختلف الناس فيها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إغْلَاقٍ» فَإِنَّهُمْ قَدْ فَسَّرُوا "لْإِغْلَاقَ" بِالْإِكْرَاهِ، وَمَنْ يُخَالِفُهُ لَا يَعْرِفُ هَذَا التَّفْسِيرَ.
وَتَارَةً لِكَوْنِ مَعْنَاهُ فِي لُغَتِهِ وَعُرْفِهِ، غَيْرَ مَعْنَاهُ فِي لُغَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَحْمِلُهُ عَلَى مَا يَفْهَمُهُ فِي لُغَتِهِ)
}.
حديث عائشة رواه بعض أهل السنن وصححه الحاكم وابن حبان، لَمَّا قال: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إغْلَاقٍ»، فاختلفوا في الإغلاق كما اختلفوا في المزابنة:
فقيل: الإغلاق هو إغلاق شعوره ما يدري ما يقول، وهذا ما عليه المحققون، وهو قول الجمهور.
وقيل: الإغلاق هو الإكراه.
فهذا الذي لم يعرف معنى هذه اللفظة يختلف فيها وإن ثبت عنده الحديث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهُوَ يَحْمِلُهُ عَلَى مَا يَفْهَمُهُ فِي لُغَتِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللُّغَةِ.
كمَا سَمِعَ بَعْضُهُمْ آثَارًا فِي الرُّخْصَةِ فِي "النَّبِيذِ" فَظَنُّوهُ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْمُسْكِرِ؛ لِأَنَّهُ لُغَتُهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مَا يُنْبَذُ لِتَحْلِيَةِ الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ؛ فَإِنَّهُ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ.
وَسَمِعُوا لَفْظَ "الْخَمْرِ" فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَاعْتَقَدُوهُ عَصِيرَ الْعِنَبِ الْمُشْتَدِّ خَاصَّةً، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ مِنْ الْأَحَادِيثِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ تُبَيِّنُ أَنَّ "الْخَمْرَ" اسْمٌ لِكُلِّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ)
}.
كما في الصحيحين، أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال على منبر النبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إنَّه قدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ، وهي مِن خَمْسَةِ أشْياءَ: العِنَبِ، والتَّمْرِ، والحِنْطَةِ، والشَّعِيرِ، والعَسَلِ، والخَمْرُ ما خامَرَ العَقْلَ".
والخمر ما خامر العقل -أي غطاه وغيبه.
والنبيذ هل هو خمر أو لا؟
أصل النبيذ: ما ينبذ في الماء، يسمى الآن عندنا بالعصير، كعصير التمر وعصير العنب وعصير البرتقال، فيُنبذ التمر في الماء ويسمى "مريس" فإذا شربه قبل أن يشتد ويقذف الزبد فهذا جائز، أما إذا شربه بعد قذف الزبد وتغيُّر طعمه إلى الطعم الذي يخمِّر العقل؛ فهذا صار خمرًا وان كان يسمى نبيذًا، وهذا يفعله بعض أهل العرق ولا يحرم عرفهم وفي لغتهم، فيفهم الحديث بناء على فهم عُرفه.
والله تعالى أعلم وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
{جزاكم الله خيرا فضيلة الشيخ وأحسن الله إليكم، وشكر الله لكم أيها الإخوة المستمعون، وبارك الله فيكم، نراكم بإذن الله في حلقة أخرى}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك