الدرس السادس

فضيلة الشيخ د. مضحي بن عبيد الشمري

إحصائية السلسلة

6403 9
الدرس السادس

نخبة الفكر

{الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله معاشر طلاب العلم، في المستوى الثاني من برنامج (جادة المتعلم) والذي نشرح فيه كتاب (نخبة الفكر) للإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى-، يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ مُضحي بن عبيد الشمري، باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ. حياكم الله}.
الله يحييك ويبارك فيك.
{استأذنك في إكمال القراءة}.
نعم استعن بالله، تفضل.
{قال -رحمه الله تعالى-: (أَوْ بِتَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ فَالْمَقْلُوبُ) }.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فلما تكلم ابن حجر -رحمه الله تعالى- عن المخالفة، وذكر أنَّ المخالفة قد تكون بتغيير السياق، وذكر أن هذا هو مدرج الإسناد، قال: (أَوْ بِدَمْجِ مَوْقُوفٍ بِمَرْفُوعٍ) وذكر أنَّ هذا هو مُدرج المتن، قال: (أَوْ بِتَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ: فَالْمَقْلُوبُ) ، والقلب إبدال لفظ بآخر، سواء كان ذلك في إسناد الحديث أو في متنه، فيتبين من هذا الكلام أنَّ القلب قد يكون في الإسناد وقد يكون في المتن.
من الأمثلة على القلب في الإسناد: أن يأتي راو اسمه "كعب بن مرة"، فيأتي آخر ويقول: مُرَّة بن كعب، فهذا قلب في الإسناد.
وأمَّا في المتن كمثل ما جاء في حديث النبي في السبعة الذين يظلهم الله -عز وجل- في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فذكر منهم رجلاً قال: «ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ»[1]، يأتي بعض الرواة ويقول: "حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله"، انظر كيف قلب!
وفي حديث ابن عمر قال: «رَقِيتُ علَى بَيْتِ أُخْتي حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ رَسولَ اللهِ قاعِدًا لِحاجَتِهِ، مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ، مُسْتَدْبِرَ القِبْلَةِ»[2]، فيأتي بعض الرواة ويقلب ويقول: مستقبل الكعبة مستدبر الشام.
نقول: هذا من القلب الذي يكون في المتن أيضًا، وقد ألَّف العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- مؤلفات في هذا الباب.
قلب الإسناد مثلًا -الذي يكون غالبًا في الأسانيد- أَلَفَ فيه الخطيب البغدادي -رحمه الله- كتابه "رافع الارتياب في المقلوب من الأسماء والأنساب"، وغالب ما في هذا الكتاب في التميز بين رواة تشابهوا في الاسم والنسبة.
والمقلوب في المتن ذكر الحافظ السخاوي -رحمه الله- في "فتح المغيث"، أنَّ السِّراج البُلْقَيني -رحمه الله- ألَّف كتابًا في المقلوب في المتن، وهو كتاب: "مقلوب المتن".
وهناك مصنفات أخرى أيضًا في هذا الباب.
{قال -رحمه الله تعالى-: (أَوْ بِزِيَادَةِ رَاوٍ، فَالْمَزِيدُ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ) }.
قد يكون هناك أيضًا مخالفة من وجه آخر، ليست بتقديم أو تأخير، وإنما قد تكون المخالفة في أن يأتي راوٍ من الرواة ويزيد راويًا آخر.
فمثلًا ابن حجر -رحمه الله- ذكر طريقًا أو ضابطًا لمعرفة (الْمَزِيدُ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ) فقال: "إن كانت المخالفة بزيادة راوٍ في أثناء الإسناد، ومن لم يزدها -أي: الذي لم يزد هذا الراوي- أتقن ممن زادها، فهذا هو المزيد في متصل الأسانيد
أي أن يروى الحديث بإسنادين، والإسناد الأول هو الصواب، والإسناد الثاني الذي فيه ضعف فيه زيادة رجل في وسط الإسناد، فقد يأتي من يريد مُقارنة هذا الحديث والنظر فيقول: الذي فيه زيادة راو عندي أنه أصوب؛ لأنه زاد راوٍ.
فالغالب أنَّ الذي يزيد هو الصواب، فيعتبر أنَّ هذا هو الصحيح. نقول: لا، عليك أن تنتبه وأن تتوقف وأن تبحث، فقد يكون هذا من باب المزيد في متصل أسانيد، ويكون الإسناد الذي لم يذكر هذه الزيادة هو الأصوب وهو الأصح. وهذا هو الذي يسمى المزيد في متصل الأسانيد.
وأول من سماه بهذا هو: الخطيب البغدادي -رحمه الله-، حيث ألَّف كتابًا في هذا، وكتابه هذا مفقود -رحمة الله تعالى عليه.
من الأمثلة على هذا:
 من الأمثلة على هذا، وفي الأمثلة نحب الكتابة حتى تتضح المسألة.
نكتب الإسناد الأول، الإسناد الأول يرويه: عبد الله بن المبارك -الإمام- عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن بُسر بن عبد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي مَرثد الغنوي، أنَّ النبي قال: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُور وَلَا تُصَلُّوا إِليْهَا»[3].
نعيد الإسناد، عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن بثر ابن عبد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي مرثد الغنوي.
هكذا جاء في طريق من الطرق، ولكن رواه ثقات حفاظ عن عبد الله بن مبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد مباشرة دون ذكر سفيان الثوري، فالإسناد الذي فيه سفيان الثوري يسمونه مزيد في متصل الأسانيد؛ لأن الإسناد الآخر أصح منه بدون ذكر سفيان الثوري، واضح؟
وقد تكون الزيادة هذه مثل ما قلنا غير مقبولة فيسمى: المزيد، وقد يكون أحيانًا كلا الإسنادين صحيح. مثال: راوٍ من الرواة يروي الحديث عن شيخ له، وعن شيخ شيخه، وشيخ شيخه هذا حي، فيلقاه بعد مُدة، ويروي عنه ذات الحديث مباشرة.
قد يكون عنده تلاميذ قدماء سمعوه بزيادة الشيخ المباشر له، وتلاميذ بعد ذلك سمعوه مُباشرة عن الأول، فيكون الإسناد الأول صحيح والثاني صحيح، وهذا قد يحصل أحيانًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (أَوْ بِإِبْدَالِهِ وَلَا مُرَجِّحَ: فَالْمُضْطَّرِبُ) }.
هنا يتكلم ابن حجر -رحمه الله- عن المضطرب، والكلام في هذا يطول، وابن حجر –رحمه الله- ذكر أنَّ الحديث يكون مضطربًا إذا خُولف الراوي في الراوية عن شيخه بإبدال راوٍ بآخر في الإسناد بعد شيخهما، ولم يمكن الترجيح. أي: يروي هذا الحديث فلان من ناس عن شيخه بسياقٍ معين، ثم يأتي قرين له ويروي ذات الحديث عن ذات الشيخ بذات الإسناد، ولكن هناك راوٍ بُدِّلَ براوٍ آخر.
ابن حجر -رحمه الله- يقول: هذا نسميه المضطرب، ولكن ابن حجر -رحمه الله- جعل لهذا قيدًا، ما هو؟ قال: (ولم يمكن الترجيح) ، يعني: نراجع الحديث ولا نستطيع أن نرجح، فحينها نقول: حديث مضطرب.
لكن عند الأئمة المتقدمين قد يقولون عنه: مضطرب ويرجحون الوجه الصواب، فإمكانية الترجيح من عدمها مسألة نسبية، قد يأتي عالم ويقول: لا يمكن الترجيح، ويأتي عالم آخر ويستطيع أن يرجح، فالصواب أنَّ الحديث يكون مضطربًا إذا حصل فيه اختلاف كثير بين الرواة، وإن أمكن الترجيح، وهذا هو الصواب في هذا الباب.
لكن هناك سؤال آخر، هل المضطرب لا يكون إلا بإبدال راوٍ براوٍ آخر؟
هل يمكن أن يقال على حديث إنه مضطرب، والإشكال فيه ليس قضية إبدال راوٍ براوٍ آخر؟
نقول: الأمر ليس محصورًا بإبدال راوٍ براوٍ آخر، بل الصواب أنَّ الحديث قد يكون مُضطربًا إذا اشتد الخلاف في قضية التعارض بين الوقف والرفع، أو اشتد فيه الخلاف في قضية التعارض بين الوصل والإرسال، فقد يُطلق عليه بعض الأئمة المتقدمين أنه مضطرب لشدة الخلاف في هذا الباب، وإن كانوا يرجحون أحيانًا.
ومن أشد العلماء مبالغة في وصف الحديث بالاضطراب: ابن عبد البر -رحمه الله-، فيكثر من ذكر هذا وبأدنى خلاف، أو قد يكون الخلاف الذي لا يجعل الحديث مضطربًا عند غيره من العلماء، فتراه يبالغ في الإعلال بالاضطراب -رحمه الله تعالى-.
وأكثر وقوع الاضطراب يكون في الأسانيد، ولكن قد يقال عن الراوي أيضًا: إنه مضطرب الحديث، فالاضطراب ليس مقصورًا على الخلاف في الإسناد، وإنما قد يقول بعض الأئمة الأوائل عن أحد الرواة: إنه مضطرب الحديث، فقد يطلقونه على الراوي وليس على جميع الحديث.
مثال: حماد بن زيد يصف عاصم بن أبي النجود -رحمه الله- فيقول: يحدثنا في الغداة عن زر وبالعشية عن وائل، مرة يذكر لنا كذا، ومرة يذكر لنا كذا، ثم ذكر أنه مضطرب الحديث.
فالاضطراب أيضًا قد يكون في الرواة، وليس محصورًا فقط على الخلاف الذي يكون في الأسانيد.
أحسن الله إليكم
{قال -رحمه الله تعالى-: (وَقَدْ يَقَعُ الْإِبْدَالُ عَمْدًا امْتِحَانًا أَوْ بِتَغْيِيرٍ مَعَ بَقَاءِ السِّيَاقِ: فَالْمُصَحَّفُ وَالْمُحَرَّفُ) }.
يقول: الحافظ بن حجر -رحمه الله- (وَقَدْ يَقَعُ الْإِبْدَالُ عَمْدًا امْتِحَانًا أَوْ بِتَغْيِيرٍ مَعَ بَقَاءِ السِّيَاقِ: فَالْمُصَحَّفُ وَالْمُحَرَّفُ)
نعم، قال: (أَوْ بِتَغْيِيرٍ مَعَ بَقَاءِ السِّيَاقِ: فَالْمُصَحَّفُ وَالْمُحَرَّفُ) يقول ابن حجر في النزهة: "مَعَ بَقَاءِ السِّيَاقِ، فإن كان ذلك بالنسبة إلى النقط فالمصحف، وإن كان بالنسبة إلى الشكل فالمحرف"، كيف يكون هذا؟
قد يأتي أحد الرواة ويبدل الإسناد من باب امتحان العالم صاحب الكتاب، حتى يعلم هل هو ضابط لكتابه، أم لا؟ وسبق أن ذكرنا قصة يحي بن معين –رحمه الله تعالى- في هذا.
قال: (وَقَدْ يَقَعُ الْإِبْدَالُ عَمْدًا امْتِحَانًا أَوْ بِتَغْيِيرٍ مَعَ بَقَاءِ السِّيَاقِ) ، ثم قال في النزهة: "فإن كان ذلك بالنسبة إلى النقط فالمصحف" يعني: رسم الكلمة أو اسم الراوي واحد، ولكن الخلاف في النقط، مثل: "يَزيد" و "بُريد"، فالرسم واحد، والخلاف في النقط، فيقول ابن حجر: هذا يسمى المصحف.
طيب ما هو المحرف؟
 يقول ابن حجر -رحمه الله-: "وإن كان بالنسبة إلى الشكل فالمحرف، مثل: "الجَرير" و "الجُرير"، "عَقيل" و "عُقيل"، هذا يسميه المحرف.
والعلماء -رحمة الله تعالى عليهم- اعتنوا بهذا الباب اعتناءً شديدًا، وكان من أشد ما يكون قبل وجود النقد، حيث إنه قبل وجود النقد حدثت إشكالات كثيرة في هذا الباب.
في تاريخ بغداد أنَّ حمزة بن محمد بن طاهر -رحمه الله- قال: كنت عند الدار قطني -رحمه الله تعالى- وهو يتنفل، يُصلي الدار القطني -رحمه الله- النافلة، قال: فقرأ عليه أبو عبد الله بن الكاتب، حديثًا لعمرو بن شعيب، فهذا الذي يقرأ لم يقل: "عمرو بن شعيب"، بل قال: "عمرو بن سعيد"، فقال الدار قطني: سبحان الله. قال: عمرو بن سعيد، قال: سبحان الله، قال: عمرو بن سعيد، قال الدار قطني: سبحان الله، يتنفل. فسكت لأنه لا يدري ما هو الصواب.
فقالت الدار قطني -رحمه الله-: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ [هود:87]، يعني أن الصواب "شعيب".
وفي تاريخ بغداد أيضًا أن رجا بن محمد يقول: كنا عند الدار قطني -رحمه الله- وهو يتنفل، فقرأ القارئ حديثًا لـ "نُسَيْرُ بن ذُعْلُوق"، فقال: حدثنا "بَشير بن ذعلوق، فقال الدار قطني: سبحان الله، قال: بُشير. قال الدار قطني: سبحان الله، قال: يسير. قال الدار قطني، سبحان الله، فسكت لا يدري ما يقول. فقال الدار قطني -رحمه الله-: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم:1]، يعني أنه: "نُسَيْرُ بن ذُعْلُوق"، أي: "بالنون"، وهذا كان يحصل كثيرًا -كما ذكرنا سابقًا- بسبب عدم وجود النقط.
والمحرف مثل ما ذكرنا يكون فقط في الشكل، فتحة وكسرة وضمة وما شابه ذلك.
وقد يكون التصحيف أيضًا في المتن، مثل: المرأة التي حبست هرة، قال النبي : «لا هي أطْعَمَتْها ولا سَقَتْها، إذْ حَبَسَتْها، ولا هي تَرَكَتْها تَأْكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ»[4]، فأتى بعض الرواة وقال: "حشاش الأرض"، وهذا تصحيف يكون في المتن.
والأئمة المتقدمون يطلقون عليهما جميعًا -المصحف والمحرف- يطلقون عليها جميعًا أنها تصحيف، يقولون: صحف فلان، فيجعلونها للنوعين جميعًا، وقد ألف العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- مصنفات في هذا الباب، فعندنا كتاب "تصحيفات المحدثين"، وعندنا كتاب "شرح التحريف والتصحيف" لأبي أحمد العسكري، وكتاب أغلاط المحدثين للخطابي -رحمه الله- وغيرها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَلَا يَجُوزُ تَعَمُّدُ تَغْيِيرِ الْمَتْنِ بِالنَّقْصِ وَالْمُرَادِفِ إِلَّا لِعَالِمٍ بِمَا يُحِيلُ الْمَعَانِي) }.
لا يجوز أن يتصرف الراوي بالمتن، سواء بالاختصار أو بروايته بالمعنى، إلا أن يكون الراوي من العلماء بما يُحيل المعنى، أي يعرف ما الذي يحيل المعنى، فيضبط المعنى الذي جاء في الرواية الصحيحة، ويعبر عنها بذات معنى، ولا يعبر عنها بتعبير يغير المعنى، وهذا شرط مهم جدًا.
والرواية بالمعنى عند علماء الحديث جائزة، بشرط أن يكون الراوي عَالِمًا بما يحيل المعاني.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَإِنْ خَفِيَ الْمَعْنَى احْتِيجَ إِلَى شَرْحِ الْغَرِيبِ، وَبَيَانِ الْمُشْكِلِ) }.
(الْغَرِيب) غريب الحديث، كيف يكون غريب الحديث؟ كيف تكون هذه اللفظة من غريب الحديث؟ لندرة وقلة استعمالها، فقد تكون بعض الألفاظ نادرة، أي: تحتاج إلى شرح وبيان، فيسمونها غريب الحديث، مثال: «نهى النبي عن الشِّغَارِ»[5]، ما هو الشغار؟
يقول العلماء: هذه الكلمة من غريب الحديث، ولذا يفسرونها ويبينون معناها.
قال: (وَبَيَانِ الْمُشْكِلِ) المشكل هو اللفظ المستعمل بكثرة، ولكن مدلول هذا اللفظ فيه شيء من الدقة تحتاج إلى بيان وتوضيح، مثل قول النبي : «لَا عَدْوَى»، ما هي العدوى المقصودة ها هنا؟ فهذا من المشكل.
والعلماء -رحمة الله تعالى عليهم- كانوا يتهيبون شرح غريب الحديث، بخلاف أهل العصر الآن، وللأسف الآن تجد بعض الناس أول ما يسمع بحديث يبادر إلى شرح معناه مباشرة، والأصمعي -رحمه الله- سُئِل عن حديث النبي «الجَارُ أحَقُّ بسَقَبِهِ»[6]، ما معنى السقب ها هنا؟ قال: الأصمعي -رحمه الله-: أنا لا أفسر حديث رسول الله ، ولكن العرب تزعم أن السقب هو اللزيق، الملاصق له.
انظر إلى التفسير، هو تفسير صحيح، ولكنه تَهَيَّبَ أن يفسر حديث النبي ونسب هذا التفسير إلى العرب، حتى يخرج الأمر من عهدته -رحمة الله عليه-، وهذا هو الأصمعي، وهو من هو في العلم بالمعاني والعربية وما إلى ذلك.
وقد ألف العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- مؤلفات كثيرة في هذا الباب، مثل: "غريب الحديث" لأبي عُبيد، وقد رتبه ابن قدامة -رحمه الله تعالى- على الحروف، وهناك "الغريبين" لأبي عبيد، غريب القرآن وغريب السنة، وعليه بنى أبو موسى المديني -رحمه الله تعالى- كتابه: "المجموع المغيث"، وهناك أيضًا كتاب "غريب الحديث" لابن قتيبة، وغير ذلك من الكتب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (ثُمَّ الْجَهَالَةُ، وَسَبَبُهَا أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تَكْثُرُ نُعُوتُهُ فَيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ لِغَرَضٍ، وَصَنَّفُوا فِيهِ الْمُوَضِّحَ) }.
أراد المصنف -رحمه الله- ها هنا أن يُبين أمرًا آخر من الأمور التي يكون فيها الطعن في الراوي، وهي قضية (الْجَهَالَةُ) ، فقال: (ثُمَّ الْجَهَالَةُ) ، وذكر سببها (أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تَكْثُرُ نُعُوتُهُ) ، يكون له عدة أسماء وأوصاف ونعوت، فَيُذكر أحيانًا بغير ما أشتهر به لغرض في نفس الذي ذكره، وصنفوا فيه (الْمُوَضِّحَ) من هو هذا الراوي الغريب الذي ذكر ها هنا؟ فيُرجع إلى الكتب التي صنفت في هذا الباب حتى يعرف من هو؟
مثال: مثَّلَ ابن حجر -رحمه الله- بـ "محمد بن السائب الكلبي"، يأتي بعضهم ويقول: "محمد بن بشر"، فينسبونه إلى جده، ويأتي بعضهم ويقول عنه: "حماد بن السائب"، ويأتي بعضهم ويقول عنه: "أبو هشام"، ويأتي بعضهم ويقول عنه: "أبو سعيد"، فيأتينا في الإسناد "أبو سعيد" فلا ندري من هو أبو سعيد؟ فنرجع للكتب التي ألفت في هذا حتى نعرفه.
ومن اللطائف ما جاء في "علل ابن أبي حاتم" أنه قال: سألت أبي، يعني: أبا حاتم الرازي -رحمه الله- الإمام الجليل، عن حديث رواه الحِمَّاني -يحيى الحماني- عن علي بن سُويد، عن نُفيع أبي داود، عن جابر قال: قال رسول الله : «المُؤَذِّنونَ المُحتَسِبونَ يَخرُجونَ يَومَ القِيامَةِ مِن قُبورِهِم» وذكر حديثًا طويلًا.
يقول ابن أبي حاتم: قال أبي: قال ابن نمير: إن علي بن سويد، وعلي بن سويد الموجود في هذا الحديث لا يعرف من هو؟ ويحيى الحماني يروي عن علي بن السويد.
يقول أبو حاتم لأبنه: "قال ابن نمير: إنَّ علي بن سويد هذا هو مُعلى بن هلال بن سويد، جعل مُعلى عليًّا، ونسبه إلى جده سويد، وترك "هلال" من الوسط!
فلولا هذه النصوص التي جاءت عن أئمة متقدمين لكان هذا يشكل على كثير من الناس، ولذلك اعتنى الأئمة –رحمة الله عليهم- بهذا الجانب، وذكروه في كتبهم ووضحوه، ولهذا من المهم جدا الاطلاع على هذه الكتب التي أُلفت في الموضح، مثل: (موضح أوهام الجمع والتفريق) للخطيب البغدادي، والخطيب البغدادي -رحمه الله- قلَّ أن يكون هناك فن من فنون مصطلح الحديث إلا وألف فيه كتابًا.
ابن الجوزي -رحمه الله- في تاريخه يقول: أخبرنا جماعة من شيوخنا عن أبي الحسين بن الطيوري، أنه قال: أكثر كتب الخطيب سوى تاريخ بغداد مُستفادة من الصوري -عالم من العلماء-.
كان للصوري هذا أخت بصور فلما مات ترك عندها اثني عشر عدلًا من الكتب، فحصل الخطيب من كتبه أشياء، أي أنَّ الخطيب البغدادي كل كتبه مُستفادة من الصودي.
ولكن هل هذا الكلام يعد صحيحًا؟
الذهبي -رحمه الله- لَمَّا ذكر هذه الحكاية استنكرها، وقال: ابن الجوزي أحفظ من الصوري وأوسع منه رحلة. وقد ضعفها أيضًا المعلم -رحمه الله- في "التنكيل"، وقال: إن شيوخ ابن الجوزي -لما قال أخبرني جماعة من شيوخنا- لا يُعرفون، وهو هنا لم يسمهم، فهذه حكاية غير صحيحة، بل إنَّ الخطيب البغدادي -رحمه الله- من الأئمة العلماء الذين اعتنوا بهذا الجانب، وصنفوا فيه المصنفات الكثيرة التي لا زلنا نستفيد منها إلى اليوم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَقَدْ يَكُونُ مُقِلًّا فَلَا يَكْثُرُ الأَخْذُ عَنْهُ، وَصَنَّفُوا فِيهِ الوُحْدَانَ، أَوْ لَا يُسَمَّى اخْتِصارًا، وَفِيهِ المُبْهَمَاتُ) }.
يقول: (وَقَدْ يَكُونُ) يعني: الراوي (مُقِلًّا) يعني: روايته للأحاديث قليلة، ويريد ابن حجر أن يبين السبب الثاني من أسباب الجهالة التي تكون في الراوي. هو في البداية قال: (الرَّاوِيَ قَدْ تَكْثُرُ نُعُوتُهُ فَيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ لِغَرَضٍ) ، وهذا السبب الأول من أسباب الجهالة، وأمَّا السبب الثاني فأن يكون الراوي (مُقِلًّا) ، أي أنَّ أحاديثه قليلة، فلا يكثر الأخذ عنه، أي أنَّ تلاميذه قلة.
قال: (وَصَنَّفُوا فِيهِ الوُحْدَانَ) ، الوحدان من لم يروِ عنهم إلا واحد، فإذا لم يرو عنه إلا واحد يقولون عنه: إنه من الوحدان.
قال: (أَوْ لَا يُسَمَّى اخْتِصارًا) ، كيف لا يسمى الشيخ اختصارا؟
ابن حجر -رحمه الله- يقول في النزهة: "كقوله أخبرني فلان، أو أخبرني شيخ، أو أخبرني رجل".
قال: (وَفِيهِ المُبْهَمَاتُ) وهذا يعد من قبيل المبهم، والوحدان الذين لم يرو عنهم إلا واحد، قد صنف العلماء -رحمة الله تعالى عليهم- مصنفات في هذا الباب، مثل: كتاب الإمام مسلم المنفردات والوحدان، ألفه مسلم، والإمام مسلم -رحمه الله- كتابه مطبوع، وأيضًا النسائي -رحمه الله- ألف كتاب "تسمية من لم يرو عنه غير رجل واحد".
 بعد ذلك -أي بعد الوحدان- قال: (أَوْ لاَ يُسَمَّى اخْتِصَارًا، وَفِيهِ المُبْهَمَاتُ) وبينا كيف يكون هذا؟ وأكثر المصنفات التي اعتنت بالإبهام، كأن يقول: حدثني رجل، أو قال لي رجل، أو أخبرني فلان، ولا يُذْكر من هو، أي: مبهم، أكثر المصنفات التي ألفت في الإبهام، قد اعتنت بالإبهام الذي يكون في المتن.
مثل: "جاء رجل إلى النبي " من هو هذا الرجل؟
مثل: "جاءت امرأة فقالت للنبي "، من هي هذه المرأة؟ ولذا كانت أكثر المصنفات اعتنت في الإبهام الذي يكون في المتن.
ومثال على ذلك: كتاب عبد الغني بن سعيد الأسدي "الغوامض والمبهمات في الحديث النبوي"، وأيضًا كتاب آخر لخطيب البغدادي "الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة".
ومن الكتب التي ألفت في الإبهام في الإسناد، كتاب: أبي زرعة العراقي، ولي الدين بن الحافظ العراقي له كتاب اسمه (المستفاد في مبهمات المتن والإسناد) ، مطبوع في ثلاث مجلدات، وهذا قد اعتنى بالإبهام الذي يكون في المتن، والإبهام الذي يكون في الإسناد أيضًا.
{أحسن الله إليكم
قال -رحمه الله تعالى-: (وَلَا يُقْبَلُ المُبْهَمُ وَلَوْ أُبْهِمَ بِلَفْظِ التَّعْدِيلِ عَلَى الْأَصَّحِ) }.
هل هذا الإبهام يقبل؟ يعني: إذا وجد في إسناد من الأسانيد، مثل: "حدثني رجل"، أو "حدثني شيخ"، أو ما شابه ذلك، هل يقبل؟
الصواب أنه لا يقبل، وهذا بين في كلام ابن حجر -رحمه الله-.
قال ابن حجر: (وَلَوْ أُبْهِمَ بِلَفْظِ التَّعْدِيلِ) كأن يقول: "أخبرني الثقة مثلا"، فهل هذا يقبل؟ نقول: لا يقبل، وكلام ابن حجر -رحمه الله- هو الصواب ها هنا، أنه لا يُقبل، ومن أشهر من يطلق هذه العبارة: الإمام الشافعي -رحمه الله-، يقول: "أخبرني الثقة"، أو "أخبرني من أثق به".
وذكر ابن كثير في "مناقب الشافعي": أن الشافعي -رحمه الله- يُطلق هذه العبارة على ستةٍ من شيوخه، أحدهم هو: "إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى"، و "إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى" قال عنه الإمام أحمد: "قدري جهمي كل بلاء فيه، وقد ترك الناس حديثه"، بينما الشافعي -رحمه الله- يُحسن الظنَّ به، ولكن الصواب أنه لا يقبل.
إذًا، إذا لم يقبل هذا في الإمام الشافعي -رحمه الله- فكيف بغيره، ولذا كانت عبارة: "أخبرني من أثق به" أو "أخبرني الثقة"، لا تقبل عند علماء الحديث.
أحسن الله إليكم.
{قال -رحمه الله تعالى-: (فَإِنْ سُمِّيَ وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ عَنْهُ فمَجْهُولُ الْعَيْنِ، أَوِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا وَلَمْ يُوَثَّقْ فَمَجْهُولُ الحَالِ، وَهُوَ الْمَسْتُورُ) }.
قال: (فَإِنْ سُمِّيَ) يعني: أتى راوٍ وقال: حدثني فلان، وفلان هذا لم يحدث عنه إلا راوٍ واحد فقط، فيقول ابن حجر: نسميه (مَجْهُولُ الْعَيْنِ) ، فهو لم يحدث عنه إلا شخص واحد.
قال: (أَوِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا) ، إذا حدث عنه راويان، أو حدث عنه ثلاث رواة، أو أربع رواة، ولكنه لم يُوَثَّق من إمامٍ معتبرٍ من أئمةِ الجرح والتعديل؛ فإنه حينئذ يكون مجهول الحال.
قال: (وَهُوَ الْمَسْتُورُ) هذا كلام بن حجر -رحمه الله تعالى-.
لكن الأئمة المتقدمين -رحمة الله عليهم- يُفرقون بين المجهول الذي روى عنه راوٍ واحدٍ، وكان هذا الراوي إمامًا من الأئمة الكبار، وبين الذي يروي عنه رجل من أحاد الرواة وليس بإمام، فالذي يروي عنه الإمام يقويه، حتى ولو كان لم يروِ عنه إلا هذا الإمام.
ويريد ابن حجر -رحمه الله- بهذا أن يبين أنَّ الحديث الذي فيه رجل مجهول ليس على درجة واحدة، فهناك مجهول شديد الضعف، مثل ما يرى ابن حجر أنه "مجهول العين"، وهناك أصلح منه حديث "مجهول الحال"، فهو يريد أن يبين أنَّ هذا درجات.
{أحسن الله إليكم
قال -رحمه الله تعالى-: (ثُمَّ الْبِدْعَةُ إِمَّا بِمُكَفِّرٍ، أَوْ بِمُفَسِّقٍ، فَالْأَوَّلُ: لَا يَقْبَلُ صَاحِبَهَا الْجُمْهُورُ، وَالثَّانِي: يُقْبَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً فِي الأَصَحِّ، إِلَّا إِنْ رَوَى مَا يُقَوِّي بِدْعَتَهُ فَيُرَدُّ عَلَى المُخْتَارِ، وَبِهِ صَرَّحَ الجُوزَجَانِيُّ شَيْخُ النَّسَائِيِّ) }.
قوله: (ثُمَّ الْبِدْعَةُ إِمَّا بِمُكَفِّرٍ، أَوْ بِمُفَسِّقٍ) هنا يتكلم -رحمه الله- عن السبب التاسع من أسباب الطعن في الراوي، إمَّا أن تكون هذه البدعة في الراوي مكفرة، كالبدع المغلظة مثل: بدع الجهمية، بدع غلاة الرافضة، وما إلى ذلك، فهذه بدع مكفرة. فإما أن تكون هذه البدعة في الراوي مكفرة، أي: تكفره وتخرجه من الإسلام، وإمَّا أن تكون هذه البدعة مُفسقة فقط، أي: ليست بدعة مغلظة.
قال: (فَالْأَوَّلُ) يعني: بدع مكفرة، لا يقبل صاحبها عند الجمهور، وهذا حُكي فيه إجماع، أن البدع المغلظة التي تخرج الراوي من الإسلام لا تقبل، وابن حجر -رحمه الله- يقول: (لَا يَقْبَلُ صَاحِبَهَا الْجُمْهُورُ) ويظهر من كلامه هذا أن هناك من خالف، ولكنه يرى أنَّ هذا هو قول الجمهور.
قال: (وَالثَّانِي) ويقصد ابن حجر -رحمه الله- بقوله: (وَالثَّانِي) البدع المفسقة. فقال: ما هو العمل مع البدع المفسقة؟
قال -رحمه الله-: يقبل ولكن بشروط، (يُقْبَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً فِي الأَصَحِّ، إِلَّا إِنْ رَوَى مَا يُقَوِّي بِدْعَتَهُ فَيُرَدُّ عَلَى المُخْتَارِ) ، يعني ابن حجر يرى أنَّ البدع المكفرة فهذا لا يقبل، وأما البدع المفسقة فيرى أنه يقبل بشرطين اثنين.
الشرط الأول: ألا يكون داعية، أي: لا يدعو الناس إلى بدعته.
والشرط الثاني: ألا يروي ما يقوي بدعته.
فابن حجر يقول: إذا لم يكن داعية إلى بدعته فيقبل على الأصح، بشرط أن لا يروي ما يقوي بدعته، وهذا يعني أن ابن حجر جعل شرطين، وهما كما ذكرنا:
الأول: أن لا يكون داعيًا إلى هذه البدعة.
الثاني: أن لا يروي ما يقوي بدعته.
قال: (وَبِهِ صَرَّحَ الجُوزَجَانِيُّ شَيْخُ النَّسَائِيِّ) ومنهم من يقول: جوزجاني، فصرحوا بهذا، وذهب إليه الحافظ ابن حجر -رحمه الله-.
هذا من جهة التنظير، وهذا هو رأي ابن حجر، فصاحب البدعة المكفرة لا تقبل، وصاحب البدعة المفسقة تقبل ولكن بشرطين: لا يكون داعية، ولا يروي ما يقوي بدعته.
أمَّا بالنسبة للبدعة المفسقة فإننا نرى أن صنيع الأئمة المتقدمين -من حيث تطبيقاتهم- أنهم إذا ثبت عندهم صدق الراوي، فيقبل حديثه ولو كان عنده بدعة مُفسقة، ولو كان داعية إلى بدعته، ولو روى ما يُؤيد بدعته، وذلك إذا ثبت أنه صادق في هذا، وهذا في جانب البدعة المفسقة.
ويدل على ذلك ما رواه مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه، حيث روى حديثًا لـ "عدي بن ثابت" وهو موصوف بالتشيع، ويظهر من هذا الحديث أنه قد رواه وهو يؤيد بدعته، ولكن في الحقيقة هو لا يؤيد بدعته، بل هو حديث صحيح عند أهل السنة، ويقولون: إنه يدل على فضل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فقد روى مسلم -رحمه الله- من حديث "عدي بن ثابت" هذا، وفيه أنَّ عليًا -رضي الله عنه- قال: «والذي فَلَقَ الحَبَّةَ، وبَرَأَ النَّسَمَةَ، إنَّه لَعَهْدُ النبيِّ الأُمِّيِّ إلَيَّ: أنْ لا يُحِبَّنِي إلَّا مُؤْمِنٌ، ولا يُبْغِضَنِي إلَّا مُنافِقٌ». فهذا الحديث في صحيح مسلم، وهو مروي لـ "عدي بن ثابت" وهو موصوف بالتشيع، وقد يفهم منه أنه يؤيد بدعته، ومع ذلك فالأئمة رووه.
ولذلك فصاحب البدعة، حتى ولو كان داعية إلى بدعته، أو روى ما يقوي بدعته، إذا ثبت أنه صادق في روايته؛ فإن حديثه يقبل.
وهذا الذي عليه التطبيقات الأئمة المتقدمين، وأما رأي ابن حجر -رحمه الله- فقد أسلفنا في بيانه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (وَالثَّانِي: يُقْبَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً فِي الْأَصَّحِ، إلَّا أنْ يَرْوِيَ مَا يُقوِّي بِدْعَتَهُ فَيُرَدُّ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْجَوْزَجَانِيُّ شَيْخُ النَّسَائِيّ) }.
ذكرنا هذا قبل قليل، وذكرنا أنَّ الصواب أنَّ الراوي إذا ثبت صدقه حتى لو كان يعني متلبسا ببدعة، أن روايته مقبولة، وذلك حتى لو روى ما يظهر منه أنه يؤيد بدعته.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (ثُمَّ سُوءُ الْحِفْظِ إِنْ كَانَ لَازِمًا فَهُوَ الشَّاذُّ عَلَى رَأْيٍ، أَوْ طَارِئًا فَالْمُخْتَلِطُ) }.
قال: (ثُمَّ سُوءُ الْحِفْظِ) هذا هو السبب العاشر من أسباب الطعن في الراوي، أن يكون سيء الحفظ. ماذا يقول ابن حجر؟
يقول: (ثُمَّ سُوءُ الْحِفْظِ إِنْ كَانَ لَازِمًا) يعني: لازمًا للراوي في جميع حالاته، منذ أن بدأ بالتحديث وهو ظاهر أنه سيء الحفظ، فسوء الحفظ ملازمًا له.
قال: (إِنْ كَانَ لَازِمًا فَهُوَ الشَّاذُّ عَلَى رَأْيٍ) يعني ابن حجر -رحمه الله- كأنه لا يرتضي هذه التسمية، تسمية (الشَّاذُّ) ، وقوله (عَلَى رَأْيٍ) ، أي: على رأي ابن الصلاح -رحمه الله-؛ لأنه يرى أنَّ هذا هو الحديث الشاذ.
ولاحظ هنا أنَّه قال: (الشَّاذُّ عَلَى رَأْيٍ) وسابقا: الشاذ في قضية المخالفة، فإذا كان فيه راوٍ سيء الحفظ يطلق على الحديث (الشَّاذُّ) حتى لو ما كان فيه مخالفة، ولذلك قال ابن حجر على رأي.
يبقى عندنا قضية من هو الراوي سيء الحفظ؟
قال ابن حجر -رحمه الله-: هو "من لم يَرْجُح جانب إصابته على جانب خطئه"، فهو يُكثر من الخطأ حتى أصبح لا يترجح جانب على جانب، هذا يسمونه سيء الحفظ، يسمونه سيء الحفظ.
قال ابن حجر -رحمه الله-: (إن كان لازمًا) يعني: للراوي في جميع حالاته، وهذا واضح، قال: (أَوْ طَارِئًا) فقد يكون الراوي حافظًا ضابطًا قليل الخطأ ثم يحصل له أمر، إمَّا أن يكبر في سنه، فيتغير حفظة ويصبح سيء الحفظ، أو تحترق كتبه مثلا، فيكون سيء الحفظ، أو تحصل له مصيبة مثلًا، مثل: "سهيل بن أبي صالح"، فقد توفي أخوه فتغير حفظه -رحمه الله- من الهم، فتغير حفظه لأمر طارئ، وإلا فهو في الأصل من الأئمة الحفاظ.
فقد يكون هذا الأمر طارئًا وليس بشيء مستمر.
والعلماء -رحمة الله تعالى عليهم- لهم مؤلفات كثيرة في المختلطين، مثل كتاب: الحافظ العلائي -رحمه الله-، وبرهان الدين الحلبي -رحمه الله-، وغيرهما من العلماء.
{أحسن الله إليكم.
 قال -رحمه الله تعالى-: (وَمَتَى تُوبِعَ سَيْئُّ الْحِفْظِ بِمُعْتَبَرٍ، وَكَذَا الْمَسْتُورُ، وَالْمُرْسَلُ، وَالْمُدلَّسُ صَارَ حَدِيثُهُمْ حَسَنًا لَا لِذَاتِهِ، بَلْ بِالْمَجْمُوعِ) }.
يقول ابن حجر -رحمه الله تعالى-: (وَمَتَى تُوبِعَ سَيْئُّ الْحِفْظِ) فإذا روى سيء الحفظ حديثًا من الأحاديث، فتابعه راوٍ آخر على هذه الرواية، قال: (وَمَتَى تُوبِعَ سَيْئُّ الْحِفْظِ بِمُعْتَبَرٍ) يعني: براوٍ مُعتبر، هذا الراوي المعتبر إمَّا أن يكون سيء الحفظ مثله أو أفضل منه؛ لأنه لو كان أسوأ منه في الحفظ فلن نستفيد منه شيئًا.
إذًا إما أن يكون -هذا المتابع له- سيء الحفظ مثله أو يكون أقوى وأعلى منه.
قال: (وَمَتَى تُوبِعَ سَيْئُّ الْحِفْظِ بِمُعْتَبَرٍ، وَكَذَا الْمَسْتُورُ) المستور هو من؟
هو من عُرِفَ عينه، ولكن حاله مجهولة، أي: لا تعرف.
قال: (وَكَذَا الْمَسْتُورُ، وَالْمُرْسَلُ، وَالْمُدلَّسُ) فإذا تبين تدليسه للحديث، ولا يعرف من أسقط، قال: (ومتى تُوبِعَ سَيْئُّ الْحِفْظِ بِمُعْتَبَرٍ، وَكَذَا الْمَسْتُورُ) ، فإذا توبع المستور والمرسل والمدلس صار حديثهم حسنًا لا لذاته بل بالمجموع، يعني: حسنًا لغيره، وسبق أن ذكرنا طرفًا من هذا.
مسألة مهمة: هل يحتج بالحديث الحسن لغيره؟
كثير من العلماء قالوا: إنَّ الحسن لغيره مقبول، ومن العلماء من قال: إنَّ الحسن لغيره لا يقبل، وابن حجر -رحمه الله- في "النكت" نقل عن ابن القطان -رحمه الله- في كتابه: "بيان الوهم والإيهام" أنَّ هذا القسم -الحديث الحسن لغيره- لا يُحتج به في الأحكام، وإنما يُحتج به في الفضائل بشروط ذكرها أهل العلم.
وهذا الحسن لغيره هو أقرب ما يكون للحديث الضعيف الذي يحتج به الإمام أحمد إذا لم يجد في الباب غيره.
ومما ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-؛ لأنَّ بعضهم يقول: كيف يحتج الإمام أحمد –رحمه الله- بالحديث الضعيف؟
نقول: الحديث الضعيف الذي يحتج به أحمد هو الضعيف المنجبر، وهو أقرب ما يكون لمسمى "الحسن لغيره" ها هنا، وهو الذي يقول عنه الترمذي -رحمه الله-: "حديث حسن" فقط، ويظهر أنه يقصد هذا النوع الذي فيه ضعف، وكان ضعفه يسيرًا.
ولعلنا نكتفي بهذا القدر هذا اليوم، وأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلني وإياكم موفقين مسددين، وأن يعلمنا وإياكم ما ينفعنا، هذا والله تعالى أعلى وأعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، وجزاكم الله خيرًا.
وإلى هنا تكون قد انتهت حلقتنا، ونلتقيكم -بإذن الله تعالى- في حلقة مُقبلة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------------------
[1] أخرجه البخاري (1423) ، ومسلم (1031) .
[2] أخرجه البخاري ومسلم.
[3] أخرجه مسلم (972) .
[4] رواه البخاري ومسلم.
[5] رواه البخاري ومسلم.
[6] رواه البخاري (2258) .

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ