الدرس الأول

معالي الشيخ د. صالح بن فوزان الفوزان

إحصائية السلسلة

13908 11
الدرس الأول

كتاب التوحيد (1)

{بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بكم أيُّها الإخوة والأخوات في درسٍ من دروس التوحيد، للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله، ضيف هذا اللقاء هو فضيلة الشيخ/ صالح بن فوزان الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء.
أهلًا ومرحبًا بالشيخ صالح مع هذا الدرس.}
حياكم الله وبارك فيكم.

{وقف بنا الحديث عند باب قول الله -تبارك وتعالى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175]}
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ما زلنا في باب الخوف من "كتاب التوحيد"، الذي هو حق الله على العبيد، للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله، قد انتهينا إلى هذه الآية، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175].
هذه الآية نزلت بعد غزوة أحد، لما غزا المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وحصل للمسلمين ما حصل، من القرح الذي أصابهم، واستشهد منهم عددٌ كبيرٌ، وحتى النبي صلى الله عليه وسلم أصابه ما أصابه في هذه الوقعة، حيث هُشِّم المغفر على وجهه -صلى الله عليه وسلم، وأصابه ما أصابه، لما أدبر المشركون، وعاد المسلمون إلى المدينة ومعهم الجرحى، والمصابون، تلاوم المشركون في ذهابهم، قالوا: لو رجعنا فقضينا عليهم نهائيًّا، فبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الذي همَّ به المشركون، فأمر أصحابه الذين حضروا الغزوة أن يخرجوا، وفيهم الجراح، فخرجوا رضي الله عنهم، بعد ما أصابهم القرح، خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلوا في مكانٍ يُقال له حَمراء الأسد، فبلغ المشركون خروجهم، وأنهم في انتظار المشركين، فأصابهم الرُّعب، قالوا: ما خرجوا إلا وفيهم قوةٌ، فأصابهم الرُّعب فانهزموا، وعاد المسلمون سالمين ولله الحمد.
لم يصبهم أي أذًى، وحصلوا على الأجر العظيم من الله -سبحانه وتعالى، وقال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ﴾ يعني: ما تهدد به المشركون المسلمين إنما هو كيدٌ من الشيطان، ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ قيل معناه: إن الشيطان يخوف الذين في قلوبهم مرضٌ والذين فيهم نفاقٌ، يخوفهم بالمشركين، وأمَّا أهل الإيمان الصادق فإنَّ هذا إنما أفادهم القوة والشجاعة، ولهذا قال: ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ ما قال: يخوفكم، قال: ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ يعني: الذين فيهم نفاقٌ وفيهم ضعف إيمانٍ، هذا قولٌ.
والقول الثاني في الآية: ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ أي: يخوفكم أيُّها المسلمون بأوليائه، أولياء الشيطان، ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ يخوفكم بأوليائه.
﴿فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، خرجوا إلى هذا المكان ينتظرون المشركين، فلما بلغ المشركون خروجهم خافوا، فولوا الأدبار ولله الحمد، وحصل المسلمون على الأجر العظيم في خروجهم، ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ [آل عمران: 173]، يعنيك الله كافينا، ومن كان الله كافيه فلا يضره أحدٌ، ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران: 173، 174]، ثم بيَّن أنَّ هذا مِن كَيدِ الشَّيطان، ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175].
فدل هذا على أنَّ الخوف من العبادة، وهو نوعٌ من أنواع العبادة، الخوف الذي معه خضوعٌ ومعه ذلٌّ للمخُوف، هذا نوعٌ من العبادة، أمَّا الخوف الذي ليس معه خضوعٌ للعدو فهذا طبيعيٌّ لا يضر. نعم.
{وقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ﴾[التوبة: 18].}
هذه الآية في أول سورة التوبة، لما أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن عمرة الحديبية، فالله جلَّ وعلَا قال: ﴿وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ﴾ يعني: المشركين، ﴿يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ﴾ [الأنفال: 34] لا يليق بالمشركين أن يتولوا المساجد، إنما يتولاها المؤمنون، ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ يعمرها يعني: بالطاعة والعبادة والصَّلاة، ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ﴾ فالمشركون ليس لهم أن يعمروا المساجد، ولا يُمكنون من ذلك، لو أرادوا أن يعمروها لا يمكنون من ذلك، وإنما يعمرها أهل الإيمان، يعمرونها بالبناء، ويعمرونها أيضًا بالطاعة والعبادة.
{وقال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ [العنكبوت: 10] }.
﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ نوعٌ من الناس من المنافقين، ﴿يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ﴾ يعني: أصابه ما يصيب المسلمين من أذى الكفار، فإنه ينهزم ويضعف، فهذا من النفاق، ﴿ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ﴾ يعني: بسبب إيمانه، ﴿جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ ففر من أذى الناس إلى عذاب الله، كالمستجير من الرمضاء بالنار والعياذ بالله.
{والأحاديث الواردة في هذا الباب، حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من التمس رضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس»}.
هذا الحديث فيه قاعدةٌ عظيمةٌ، وذلك أنه لما طلب معاوية -رضي الله عنه- لما تولى على أمر المسلمين كتب إلى عائشة يطلب منها النصيحة، فكتبت له بهذا الحديث، أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من التمس رضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس».
توصي معاوية -رضي الله عنه- بمضمون هذا الحديث، أن لا يلتمس رضا الناس بسخط الله، وإنما يقدِّم رضا الله على سخط الناس، هذا هو تحقيق التوحيد والعبادة، فالمسلم لا يخاف إلا الله، ولا يخشى إلا الله، ولو هدده من هدده من المشركين، ومن أتباع الشيطان، كذلك المسلمون اليوم في هذا الزمان أمام تهديدات الكفار ووعيدهم وإيعادهم، فالمسلمون لا يهمهم ذلك، إذا تمسكوا بدينهم، فإن الله معهم وناصرهم، ولا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعلى المسلمين الآن ألا يخافوا من تهديدات الكفار ماداموا على الحق، وماداموا على الصراط المستقيم فإن الله -عزَّ وجلَّ- معهم، ومن كان الله معه، فلن يضره أحدٌ، لكن هذا يحتاج إلى إيمانٍ، ويحتاج إلى يقينٍ، وأن المسلم لا يتزحزح عن إيمانه وعن عقيدته بسبب تهديد الكفار، ووعيد الكفار.
{أيضًا من الأحاديث الواردة في هذا الباب، حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- مرفوعًا: "إن من ضعف اليقين أن تُرضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريصٍ، ولا يرده كراهية كارهٍ"}.
نعم، "إن من ضعف اليقين أن تُرضي الناس بسخط الله" فالمسلم لا يُرضي الناس بسخط الله، هذا من ضعف اليقين بالله -عزَّ وجلَّ، ومن ضعف الإيمان، أن يُرضي الناس بما يُسخط الله -سبحانه وتعالى-، فلا يتنازل عن شيءٍ من الدين لأجل إرضاء الناس، أو يقدم إرضاء الناس على إرضاء الله -سبحانه وتعالى، فإن فعل هذا فإن يقينه بالله ضعيفٌ، أو لا يوجد، فعلى المسلم أن يكون مع الله سبحانه، ومن كان مع الله، كان الله معه، ومن كان الله معه فلا يضره أحدٌ.
"وأن تحمدهم على رزق الله" الرزق من الله -سبحانه وتعالى، هو الرزاق ذو القوة المتين، فهو الذي يُحمد -سبحانه- على الرزق، وإن جرى الرزق على يد مخلوقٍ، فإنك تحمد هذا المخلوق على قدر ما تفضل به، لكن الحمد المطلق إنما هو لله -سبحانه وتعالى-، ولكن تحمد المحسن إذا أحسن إليك، بحد قدر ما أسدى إليك، وهذا حمدٌ جزئيٌّ، أما الحمد المطلق والكلي فهو لله -سبحانه وتعالى.
"وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله" ومن ضعف اليقين أن تذم الناس على ما لم يؤتك الله، فالله -جلَّ وعلَا- هو الذي يُعطي ويمنع، ولا يمنع ولا يعطي إلا الله -سبحانه وتعالى- ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [فاطر: 2]، فعلى المسلم أن يعلق قلبه بالله، وهذا من تحقيق التوحيد، وقوة اليقين بالله -سبحانه وتعالى-، وألا يعلق قلبه بالناس، إن أعطوه رضي، وإن لم يعط لم يرض، لا يعلق قلبه بالناس، وإذا أسدى إليه أحدٌ معروفًا، فإنه يحمده على قدر ما أسدى إليه فقط.
"إنَّ رزق الله لا يجره حرص حريصٍ، ولا يرده كراهية كارهٍ"، نعم إذا قدر الله شيئًا، فلن يرده أحدٌ، ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [فاطر: 2]، فيعلق المسلم قلبه بالله -عزَّ وجلَّ، وما يأتيه من الرزق فإنما هو من الله أصلًا وبداءةً، وإن جرى على يد مخلوقٍ، فإنه يشكر المخلوق على قدره كما سبق، وإذا لم يحصل له المطلوب فلا يذم الناس، وإنما يتيقن أن الله لم يقدره له، ومادام الله لم يقدره له، فلماذا يذم المخلوق؟! هذا بقضاء الله وقدره، وهذا ربما يكون من مصلحته هذا.
{شكر الله لكم شيخ صالح الفوزان على ما بذلتم وشرحتم في هذه الدروس المباركة، من دروس التوحيد، للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله، شكرًا لكم أنتم أيها الإخوة والأخوات على متابعتكم لهذه الدروس، شكرًا للزملاء والذين أشرفوا على هذا البرنامج، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك