الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

8542 13
الدرس الحادي عشر

الأربعون النووية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فنحمد الله -جلَّ وعلَا- على ما يسر من هذه اللقاءات، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلها من خالص الأعمال وفي القربات والطاعات، إن ربنا جوادٌ كريمٌ.
أيُّها الأخوة الكرام، لم نزل في مثل هذه المجالس في أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي هذه الأحاديث المختارة من هذه الأربعين النووية المباركة، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يُتمَّها علينا، وأن ينفعنا بها، وأن يجعلنا بركةً لنا في علمنا وفي عملنا، وفي تعليمنا، إنَّ ربنا جوادٌ كريمٌ.
قُلنا في حديث أبي ذر، وهو الحديث الخامس والعشرون، واستهللنا الحديث فيه، ولما نكن قد أنهينا ما يتعلق به، وحديث أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- حين سأله الصحابة، ذهب أهل الدثور بالأجور يا رسول الله، فذكروا ما يكون منهم، يقولون يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، كان الحديث في مثل هذا الحديث العظيم هو مبدأه أن الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- أسرع ما يكونون إلى التنافس في الطاعات، كما قال الله -جلَّ وعلَا: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 26] فاستبقوا الخيرات ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ [آل عمران: 133]، إذا تنافس أهل الدنيا في دنياهم، وأهل الأموال في أموالهم، وأهل التجارات في تجارتهم وتفاخروا بما عندهم وبما جمعوا وبما حصلوا، فإن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتنافسون فيما قدموا وفيما عملوا، وفيما تقربوا إلى الله -جلَّ وعلَا- فيه بالقربات.
فإذن هذا هو أصل هذا الحديث، ولا يظن ظانٌّ أن ذلك كان من الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- أنهم كان منهم حسدٌ أو غيرةٌ مذمومةٌ لمن تفضل الله عليهم بالأموال -حاشا وكلا- إنما أرادوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينظروا في بابٍ من أبواب الخير يستدركون به ما فاتهم أو ما لم يحصلوه بأموالهم وصدقاتهم.
وهنا لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «أو ليس قد جعل الله لكم ما تتصدقون به»، الصدقة في أصلها هي النفقة، سواءً كانت نفقةً واجبةً أو نفقةً مستحبةً، وتطلق الصدقة ويراد بها كل أعمال البر والإحسان؛ لأن الصدقة من إظهار الصدق في الإيمان، وأحق ما يكون الإنسان في تحصيله، وأصدق ما يكون في عمله، فالصدقة إذن هي كل الأعمال، وذلك أنهم في أول الأمر كانوا يظنون أن الصدقة إنما تكون بأموالهم، ولأجل ذلك مما يدل على هذا لما كان في قصر الصلاة للمسافر قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «صدقةٌ تصدق الله بها عليكم» يعني: أحسن بها عليكم، فدل ذلك على أن الصدقة كل ما كان من أنواع البر والإحسان.
هنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أشار إلى بابٍ من أبواب الصدقة، فأولهما ما يكون مما يتعدى إلى الغير، وذلك في قوله: «وأمرٌ بالمعروف صدقةٌ، ونهيٌ عن المنكر صدقةٌ» وهذا بابٌ واسعٌ لا حد له، وسيأتينا في الحديث الذي بعده ما يتعلق به، والكلام فيه طويلٌ، ولعلنا نرجئ الحديث إلى ذلك الحين.
أيضًا الباب الثاني من أبواب الصدقة وهي الصدقة القاصرة المتعلقة بالإنسان في نفسه، وهذا مثل ما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «في كل تسبيحةٍ صدقةٌ، في كل تكبيرةٍ صدقةٌ، في كل تحميدةٍ صدقةٌ، في كل تهليلةٍ صدقةٌ» ذكر الله -جلَّ وعلَا- من أعظم ما يتصدق به الإنسان وما يستبق به الخيرات، ولذلك جاء في حديث معاذ عند أهل السنن، لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والفضة» أو «الذهب والورق»، «وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم» قلنا: بلى يا رسول الله قال: «ذكر الله -جلَّ وعلَ»، فهذا أدل ما يكون على أن التصدق والصدقة تكون بذكر الله -جلَّ وعلَا- كما تكون بالأموال، بل هي أولى وأفضل.
أيضًا جاء مثل ذلك في أحاديث كثيرةٍ عن النبي -صلى الله عليه وسلم، فكل ذلك يدل على ما ذكرنا أن الصدقة تكون بسائر أعمال البر والإحسان، لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ عشر مراتٍ، كان كمن أعتق عشر أنفس أو أربع أنفس من أنفس ولدي إسماعيل» كما في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
فهذا إذن إشارةٌ من نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى فتح أبواب البر والإحسان، وأن الإنسان لا يكاد يعجز عنها، وأنه إن انغلق في ذلك بابٌ، فإن الله -جلَّ وعلَا- يفتح له به بابًا.
كنا كما قلت لكم: أرجأنا ما يتعلق بالصدقات المتعدية والإحسان الذي يأتي إلى الغير في الحديث الذي بعده، لكن لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقةٌ» البضع المقصود به جزء من الإنسان، ويكنى به عن الفرج ويراد به إذن الجماع؛ لأنه هو محل الجماع وما يأتي الرجل من امرأته فيه، فكنى به، كيف كان له في هذا أجرٌ؟ كان للإنسان أجرٌ في جهة ماذا؟ من جهة أن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- «أرأيتم لو وضعها في حرامٍ»، فكان إذن انتهاء الإنسان عن المحرم، وقصده ما عند الله -جلَّ وعلَا- هذا له به أجرٌ، أيضًا هي بابٌ من أبواب الإحسان، فإنها إحسان الإنسان إلى نفسه، بأن يعفها، وفي ذلك اعتدال مزاجها وإقبالها على طاعة ربها، ففيها بلغةٌ له في الخير، أيضًا فيها من جهةٍ أخرى إحسانٌ له إلى زوجه، وأداء لحقها، فكان ذلك كله مما يزيد به الأجر عند الله -جلَّ وعلَا- ويطلب به الثواب من الله -سبحانه وتعالى.
طبعًا في جاء في بعض روايات الأحاديث، أنه لما علم بذلك أهل الدثور من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعلوا كما فعلوا، فجاء أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشتكون إليه، قالوا: فعلوا ما فعلنا، قال: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ﴾ [المائدة: 54]، فكلٌّ ييسر الله له من أعمال البر، وكلٌّ يفتح له من أبواب الخير، لكن من طرق بابًا من أبواب الخير يوشك أن يفتح له، ومن نواه فإن الله -جلَّ وعلَا- يبلغه إياه، ولذلك كان لمن نوى الخير مثل أجر من فعل كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وربما جاءتنا إشارة -بإذن الله- إلى ما يتعلق بذلك في حديثٍ قادمٍ، في حديث ابن عباس في آخر هذه الأربعين -بإذن الله تعالى.
لعلنا نكتفي بما يتعلق بهذا الحديث، وننتقل إلى الحديث الذي بعده، وإن كنا قد أجملنا الحديث فيه، وسبب هذا أننا قطعنا الكلام عليه في الدرس الماضي والدرس هذا، فكان فيه شيءٌ من المراوحة والضعف، لكن عسى الله أن يعفو عنا.

{قال النووي: (الحديث الثالث والعشرون، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عليه صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ: تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وتُعين الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عليها أو تَرْفَعُ لهُ متَاَعَهُ صَدَقَةٌ، والْكَلِمةُ الطَّيِّبةُ صَدَقَةٌ، وبكُلِّ خَطْوَةٍ تَمشِيها إلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وتُمِيطُ الأَذَى عنِ الطَّرِيِق صَدَقَةٌ». رواه البخاري ومسلم)}.
هذا الحديث وهو حديث أبي هريرة عند مسلمٍ في صحيحه من الأحاديث العظيمة، ومن الأحاديث الجليلة، وفيها من نشر الخير وإظهار الإحسان وبذل المعروف، وأن يملأ العباد أوقاتهم وأيامهم وأحوالهم، في دخولهم وفي خروجهم وفي أنفسهم، ومع أهليهم، ومع الناس أجمع، بأنواعٍ من الخير أينما كانوا، في السوق أو كانوا في عملٍ أو كانوا في مسجدٍ، أو كانوا غير ذلك، فتملأ الحياة بأنواعٍ من الصدقات والإحسان، ولذلك لم تكن شرعةٌ ولا دستورٌ ولا منهاجٌ ولا ثقافةٌ ولا قانونٌ بأعظم مما جاء في شرع الله -جلَّ وعلَا- من أن يحمل الناس على الخير في كل أحوالهم، سواءً كان ذلك في إتيان الواجب أو كان ذلك في فعل مستحبٍ، أو كان ذلك في كف الشر، وكل ذلك جاء في مثل هذا الحديث ودلت عليه هذه النصوص، وتأمل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عليه صَدَقَةٌ» ما المقصود بالسلامى؟
السلامى في الأصل هي المفاصل، وأصلها أنها تطلق على ما يكون بين فرس البعير، وشيءٍ صغيرٍ، وكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: نعم الله -جلَّ وعلَا- على الإنسان كثيرةٌ، فيحتاج أن يشكر الله فيها، وكان لكل مفصلٍ فيها حقٌّ وشكرٌ، فوجب عليه أن يؤديها.
وإذا نظرنا إلى مفاصل ابن آدم أو عظامه، فإنه قد عدها بعض الأطباء مائتين وثمانية وأربعين وبعضهم مائتين وخمسة وستين، إلا أن أهل العلم يقولون إنها ثلاثمائة وستون قطعًا، وأن من عداها فإنما تركوا المفاصل الصغيرة، ولذلك هي ثلاثمائة وستون مفصلًا، فكل واحدٍ منها يحتاج فيه إلى بذل الصدقة فيه، فتأملوا لو كان كل واحدٍ يتصدق في كل يومٍ ثلاثمائة وستين، فكم من الصدقات والإحسان والبر الذي يكون عند الناس، وهذا ديننا وهذا هو شرعنا.
مما يدل على ذلك أنه جاء في حديث أبي ذر الذي في الصحيح، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «في كل إنسانٍ ثلاثمائة وستون عظمًا أو مفصلًا عليه فيها صدقةٌ» قالوا: أو يقدر يا رسول الله، أو يطيق ذلك أحدٌ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «حتى النخامة يدفنها في المسجد صدقةٌ، فإن عجز فيجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى»، فهذا مما يدل على عظم ما يتعلق بمثل هذه الأعمال، وإتيانها والقيام بحقها، وفي حديث أبي موسى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لما ذكر الصدقة والإحسان، فقال: «يعين الملهوف ويقضي ذا الحاجة» فقيل: يا رسول الله فإن لم يفعل؟
قال: «فليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر» قال: فإن لم يفعل؟
قال: «فيكف شره عن الناس، فإنه له صدقةٌ» فهذا يدلنا على عظم إتيان الأعمال الصالحة، وهو الذي ذكرناه لكم من نشر الصدقات والإتيان بها، وعظم ما يملأ الإنسان وقته وحياته بها.
وجاء في ذلك أحاديث عظيمةٌ وأحاديث كثيرةٌ في تنويع أنواع البر، ولو وقفنا على ما جاء في هذا الحديث لكانت تحتاج إلى وقفاتٍ طويلةٍ، لكن حسبك أن الكلمة الطيبة صدقةٌ يقولها الإنسان لمن وجده مصابًا، أو وجده متعبًا أو وجده مريضًا، أو وجده مرهقًا، أو كان ذا قربى منه، أو كان له والدًا، أو كان له مدرسًا، أحسنت إلينا في تدريسك أيها الأستاذ، أو مازلنا نتعلم من خيرك، كل هذا كلامٌ طيبٌ وكله صدقةٌ، إماطة الأذى صدقةٌ، سواءً كانت حجرةً تنحيها عن الطريق أو كان بعض الأذى، فكيف بالذين يؤذون الناس في طرقاتهم؟
إذن هي أبوابٌ كثيرةٌ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد أدخل هذا الباب أو فتح هذا الباب للناس جميعًا، ولذلك جاء في الحديث الذي في الصحيح «ما من مسلمٍ يغرس غرسًا فيأكل منه طيرٌ ولا سبعٌ ولا أحدٌ، إلا كان له به صدقةٌ حتى من يأرزه» أي يأتي ويستظل بظلها أو يسكن فيه، يكون له فيها أجرٌ، وجاءت بنحو ذلك أحاديث كثيرةٌ عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
يا أيها الإخوة لا تمر علينا هذه الأحاديث مر الكرام، ولا ينبغي أن يكون حظنا منها هو الدراسة والكلام، وإنما لابد أن يكون للإنسان فيها حياةٌ تملأ وقته وتملأ حياته، فليكن كل أيامه وكل أحواله صدقةً يتصدق لله -جلَّ وعلَا- بها.
إذا انتقلنا ولا نريد الإطالة حتى لا يضيق بنا الوقت، لكن يجب على الإنسان أن يعلم أن أبواب البر والصدقة كثيرةٌ، وأن مبنى ذلك هو شكر الله -جلَّ وعلَا، فإن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي خلقه، وهو الذي سواك، وهو الذي عدلك ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ [الانفطار: 6- 8] والله -جلَّ وعلَا- يقول: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4]، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 78] يعني أمر الله -جلَّ وعلَا- بشكر العبد لله -جلَّ وعلَا- على ما أقام له، ولذلك لما شكى بعض الناس لأحد السلف حاجته، قال: أتود لو أن ببصرك مائة ألفٍ؟
قال: لا، قال: أتود لو أن لك بيدك مائة ألفٍ؟
قال: لا، وهكذا، قال: فإن عندك مئين ألوفٍ كثيرةٍ، فهذا مما يدل على عظم فضل الله -جلَّ وعلَا- وشكرنا منه ما يكون واجبًا، وذلك بإتيان الواجبات وفعل الطاعات والبعد عن المحرمات، وربما جاء في بعض هذه الأحاديث ما يدل على ذلك، لأن جاء في بعضها فعل المستحبات وبعضها فعل الواجبات، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فعل الطاعات وفروض الكفايات ومنها ما هو مستحبٌ، وكمال ذلك وتمامه بفعل المستحبات والسنن والبعد عن المكروهات.
وقوله: «كُلَّ يَوْمٍ» المقصود به اليوم الخاص، لأن اليوم قد يطلق في بعض الأحوال ويراد به مجموعةٌ من الأيام كما قال الصحابة يوم صفين، فإنه مجموعةً من الأيام التي حصل فيها القتال والاقتتال، وحصل فيها ما حصل من القصة المشهورة.
ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال هنا وأشار إلى بعض الروايات: «ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» وعندنا هنا مسألتان:
أولهما: أن من أبواب البر كف الأذى، «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» وأن ترك الشرور وحبس النفس عن أذى الناس، هذا بابٌ من أبواب الصدقة والإحسان؛ لأنه من أعظم ما يكون، أن يسلم الناس من شرك، يسلم الناس من بلائك، يسلم الناس من كلامك، يسلم الناس من سوء أخلاقك، يسلم الناس مما يكون منك مما اعتدته في حياتك، فإنك إذا حبست الناس عنك فإن الشر قد انحبس، وإذا انحبس الشر انفتح للناس باب الخير، هذا شيءٌ.
وثانيهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد حث على ركعتي الضحى وأنها تجزئ عن ذلك، يقول أهل العلم: وإن في هذا إشارةً إلى أن الصلاة يحصل فيها حركة الأعضاء كلها، وكانت في صلاةٍ، وكانت أداءً لحق الله، فيكون بها فعل ما يتعلق بأداء شكر هذه الأعضاء جميعًا.
لو نظرنا إلى هذا الحديث، ففي جملته يدل على الصدقة المتعدية، والصدقة التي تنتشر إلى الغير إن كان قريبًا أو رحيمًا أو جارًا أو بعيدًا أو غير ذلك، وفي ذاك الحديث أكثر ما ينصب إليه هو في الصدقة القاصرة، وإن كان فيه إشارةٌ إلى الصدقة المتعدية، فيكون الحديثان بمثابة المكمل لبعضهم لبعضٍ، ويكون ذلك تمام الأجر والثواب عند الله -جلَّ وعلَا.
في نهاية هذا الحديث لابد أن يعلم أن متعلق مثل هذه الأعمال، إنما يكون في إخلاص القصد لله -جلَّ وعلَا، فإن الناس من يحب بذلك الثناء أو يحب بذلك الشهرة، فإن ذلك لا يجزئ عليه شيئًا، ولأجل هذا إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله، حتى ما تضع في فيِّ امرأتك، فيقول أهل العلم: فمما يدل عليه هذا الحديث وما في معناه، أن لا يكون للإنسان عملٌ صادقٌ وصدقةٌ حتى يكون له نيةٌ خالصةٌ.
مما يدل عليه هذا الحديث وأيضًا عمومات الأحاديث التي دلت على أن الأعمال مبناها على النيات، الذي هو حديث عمر الأول قد مر بنا «إنما الأعمال بالنيات».
نسأل الله أن يعيننا وإياكم على طاعته، وأن يجعلنا من المتصدقين والموفقين في سائر أيامنا وأحوالنا.

ننتقل إلى الحديث الذي بعده على وجه الاستعجال.
{(الحديث السابع والعشرون، عن النَّوَّاسِ بنِ سِمْعانَ -رَضِي اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ , وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليْهِ النَّاسُ» رواه مسلم.
وعن وابِصَةَ بنِ مَعْبَدٍ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- قالَ: أتيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقالَ: «جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرّ وَالإِثْم» قُلْتُ: نَعَمْ.
قالَ: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ؛ الْبِرُّ مَا اطْمَأنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكََ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ». حَديثٌ حَسَنٌ رُوِّينَاهُ في مُسْنَدَيِ الإمامَيْنِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ والدَّارِمِيِّ بإسنادٍ حَسَنٍ)
}.
هذان الحديثان، حديث النواس بن سمعان، وابصة بن معبد، ذكرهما المؤلف -رحمه الله تعالى- وهما من الأحاديث العظيمة، وهي مكملٌ لحديث النعمان بن بشير، وفيه فوائد جليلةٌ لمن فتح الله -جلَّ وعلَا- بصره وبصيرته، وفتح الله -جلَّ وعلَا- قلبه وجعله من الموفقين للخير القائمين عليه.
بداية أول ما ذكر في حديث النواس بن سمعان، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فسر البر، وقال: إنه من حسن الخلق، والبر جاء في آيات كثيرة وفي دلالات من السنة أيضًا، فالله -جلَّ وعلَا- قال: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2] والله -جلَّ وعلَا- قال: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: 177]، فالبر قد يطلق ويراد به جميع الأعمال الصالحة، ويطلق البر ويراد به فعل الطاعة ويكون التقوى يراد بها اجتناب المعصية، كما في قول الله -جلَّ وعلَا- ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾، فبهذا فرق أهل العلم قالوا: الأول في الفعل، والثاني فيما يتقى ويدرك، وقد جاء البر هنا، وقال: هو حسن الخلق، فالبر إذن من أعظم أبواب حسن الخلق.
وقال بعض أهل العلم: إن المراد هنا بحسن الخلق، أنه يطلق ويدخل فيه جميع الأعمال، لأن الخلق لا يخلو من إما معاملةٍ للخلق والإحسان إليهم والقيام بحقهم، أو قيامٍ بحق الله -جلَّ وعلَا- وفعل ما أمر الله به، وذلك معاملةٌ وخلقٌ يتخلق بها العبد لله -سبحانه وتعالى- ويتوجه بها إلى الله -سبحانه وتعالى، فلم يخرج بذلك البر عن المعنى الذي جاء في سياق الآيات ودلالات الأدلة الكثيرة.
وعلى كل حالٍ فلا شك أن حسن الخلق من أعظم أبواب البر، ومما يجب أن يعنى به، وقد ذكرنا جملةً من الأحاديث الدالة على أهمية ذلك والعناية به، وما يحصل من إخفاق كثيرٍ من الناس في القيام بالتزام الأخلاق الطيبة، خاصةً إذا كان في ذلك شيءٍ من المماحكة أو شيءٍ من السوء أو المغاضبة أو المنازعة أو وردت على الإنسان من النقيصة أو الزلة، أو الخطيئة، أو الهفوة، أو الغيبة أو النميمة، والله -جلَّ وعلَا- هو الذي يتولى العباد في حسن الخلق، وأعظم ما يكون من بذل الندى وكف الأذى، فلأن استطاع أناسٌ كثيرٌ بذل الندى والإحسان، فقليلٌ منهم الذي يكون منه كفٌ لأذاه واحتمالٌ لأذى الناس، وهذا بابٌ عظيمٌ من فتحه الله عليه، فإنه قد فُتح له بابٌ كبيرٌ، قد يحسن ثم قد يحتمل الأذى أو يكف أذاه عن الناس، لكن من الذي يحتمل أذى الناس، ومن احتمال الأذى أيضًا أن يبادلهم بالإحسان أو أن يراجعهم بحسن الأخلاق وطيب الأعمال، فيكون ذلك تم، ولأجل هذا كان لما عاتب الله -جلَّ وعلَا- أبا بكر حين أمسك عن الصدقة على مسطح، قال الله -جلَّ وعلَا: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [النور: 22] فأعاد الصدقة التي كان قد منعها، وجاء في بعض الروايات أنه ضاعفها ضعفين.
فإذن هنا قال: «والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس»، وفي حديث وابصة، قال: «استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس».
هل النفس مناطٌ للعلم بالأوامر والأحكام ونحوها؟
اتفق أهل العلم، وأهل السنة والجماعة، على أن متلقى الأحكام إنما هو من الكتاب والسنة والقياس الصحيح، فلا مجال إلى أخذ الأحكام من الرؤى، أو المنامات، أو الإلهامات، أو اختصاص بعض الناس بمنزلةٍ يلقي بها أحكامًا، أو يظهر بها معانيَ، فإن ذلك ليس لأحدٍ، فإن قيل: ما معنى هذا الحديث؟
نقول: معنى هذا الحديث عند أهل العلم، على وجه الاختصار، هو:
أولاً: أن أهل العلم أدخلوا في ذلك أن الله -جلَّ وعلَا- من عظيم فضله ومنه على عباده، أن جعل المستقيمين على طاعته، المستمسكين بحبله، المقيمين على طاعة الله -جلَّ وعلَا، لا يزال في قلوبهم ما يحملهم على الخير، ويحرك قلوبهم إليه، ويدعوهم إلى الاستمساك به، وينفرهم من الشر، ولا يزال يتحرك قلبهم نفرةً وخوفًا وخشيةً، مهما ظهر من الأمور المسوغة، أو المقربة، أو المسهلة إلى ذلك الشر، وهي التي تكون بها الفراسة، ويكون بها التوفيق من الله -جلَّ وعلَا، فضد ذلك الخذلان، فأهل الإيمان أهل توفيق من الله، وأهل الشر والكفر والطغيان أهل خذلان من الله -سبحانه وتعالى.
وأيضًا مما ذكره أهل العلم هنا، أن بعض المسائل يكون فيها اشتباهٌ، أو يكون فيها بين أهل العلم اختلافٌ، فلا يزال المرء يطلب بذلك لنفسه النجاة، فإنه إذا سلك مسلكًا من هذين المسلكين، فإنه ربما يجد في نفسه، ما يحمله على التورع، ويمنعه من الولوغ والدخول، وذاك بابٌ من الأبواب التي جاءت في هذا الحديث، وحملها عليه أهل العلم.
وأيضًا مما يدخل في ذلك أن الإنسان قد يستفتي فيُفتى، وإنه لا يزال يعلم بجواز ذلك أو حله أو بالإذن فيه، لكنه يعلم في نفسه أنه ليس كذلك، لماذا؟ لا لأن المفتي قد أخطأ، لكن لأن المفتي قد بنى الأمور على ظاهرها، وظاهرها مكتملٌ، لكن في نفس هذا المكلف ما يكون به ما يدل على خلاف ذلك، مثل ماذا؟
مثل لو أنه قال: إن فلانًا من الناس سألني هل أبيع ما عندي، فهو قال له: بع، وأنا نصحته أن البيع خيرٌ، فهل عليَّ في ذلك شيءٌ؟ يقول: ليس عليك في ذلك شيءٌ، المفتي، لكنه مثلًا علم أن مثل هذه البضاعة يريد أن تنفد من عنده، حتى يختص هو بها، فهو في نفسه أراد لذلك شرًا، أو لم يرد له خيرًا، أو كأنه صرفه عما يكون فيه صلاحه، وقل مثل ذلك كثير، مما يعلم الإنسان من نفسه أنه أراد خلاف الخير، وغير ما يراد من البر والإحسان إلى الخلق، ولذلك أمثلةٌ كثيرةٌ، كأن ينصح لشخصٍ بأن يشتري هذا المكان، وليس في نفسه إلا أنه يريد أن يذهب ماله، وينفقه في ما لا فائدة له فيه، ليكون هو أكثر مالًا، أو أسعد بالتصرفات، أو حتى يتفرغ له أشياءٌ كثيرةٌ مما يقوم بها.
إذن "الإثم حواز القلوب"، كما جاء عن ابن مسعود ، وتتردد فيه النفس، فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «وإن أفتاك الناس وأفتوك»، وأيضًا مما يدخل في هذا ما يكون من فتوى أهل العلم، لأنه قد يجد من يفتيه بالجواز، لكنه يعلم أن من هو أكثر علمًا، وأعظم ورعًا، أفتى بغيره، فإذا ذهب إلى من يفتيه بالجواز، فإنما ذهب لهوى نفسه، فهو يعلم ذلك منها، ولا تبرأ ذمته عند ربه يوم لقاه، ولا يكون في ذلك مؤديًّا للأمانة، فمثل هذا مما يدخل في هذا الحديث، وذكره أهل العلم.
هذه بعض المسائل، التي تتعلق بهذا الحديث على وجه الاستعجال.
ننتقل إلى حديث أبي نجيح العرباض بن سعيد.

{(الحديث الثامن والعشرون: عن أبي نجيح العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظةً وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودعٍ، فأوصلنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله -عزَّ وجلَّ، والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، فإنه من يعش منكم، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعةٍ ضلالةٌ»، رواه أبو داود والترمذي، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ)}.
نعم، هذا الحديث، وهو حديث العرباض بن سارية، من الأحاديث العظيمة، والأحاديث الجليلة، لما قال: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظةً بليغةً، هذا الذي يقوله الصحابة، والفاعل له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فليس قلبٌ من قلوب الخلق مهما ارتفع، ومهما عظم، ومهما اختص به من خصائص العلم والفضل والدرجة والمنزلة، إلا وهو محتاجٌ إلى ما تحرك به القلوب، وتثقل به النفوس، وتصلح به الصدور، ويطلب به رضا الله -سبحانه وتعالى، ولذلك لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليترك أصحابه من الموعظة، وهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، التي جاءت بمدحهم الآيات، ودلت على ذلك الدلالات، وتواترت وتكاثرت الأدلة في مدحهم، وعظيم منزلتهم، منهم المبشر بالجنة، ومنهم المبشر بالمغفرة، ومنهم المبشر بعظيم المنزلة، وعالي الدرجة عند الله -سبحانه وتعالى، وما ذلك ليكون بمغنٍ عن أن يستمعوا إلى الموعظة، وأن تحرك بذلك القلوب، وتصلح بذلك النفوس، ولذلك قال الله -جلَّ وعلَا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾ [يونس:57]، فكل الناس أيًّا كانوا، لابد لهم من المواعظ، التي تحرك نفوسهم، ذكر الموت، ذكر الجنة، ذكر النار، التخويف من عذاب الله، التخويف من انتهاك حرمات الله، الحث على فعل الطاعات، إيراد الأحاديث الدالة على ذلك، ولأجل هذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخول الصحابة بالموعظة، بين الفينة والأخرى، فإن القلوب تصدأ، وإن النفوس تعرض، وإن الإنسان يمل، وإن النفس تهدأ وتصد، حتى إذا جاءها الواعظ، وتحركت بالقرآن، وبدلالة السنة، وبمثل هذه المواعظ، عادت، وآبت، ورجعت، ونجحت، وأفلحت، وأبعدت عنها الشياطين، والخطرات، والوساوس، فكل ذلك كان من أعظم ما ينبغي لنا أن نحرص عليه.
ولذلك لم يزل أهل العلم يعنون بهذا، ويؤلفون فيه المؤلفات، ابن الجوزي له مؤلفاتٌ كثيرةٌ، ابن القيم -رحمه الله تعالى- له مثل ذلك، ولم يزل العلماء المتقدمون منهم والمتأخرون على هذا الأصل، اقتداءً بنبينا -صلى الله عليه وسلم، موعظةً بليغةً، وجلت منها القلوب، فتحركت وخافت وخشيت ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال: 2]، فتوجل القلوب وتخاف، وذرفت منها العيون، بان ذلك في آثارهم، وفي جوارحهم؛ لأن القلب إذا صلح، صلح سائر الجسد، وإذا خشع لله -جلَّ وعلَا- دمعت مع ذلك العين، وسكنت مع ذلك الجوارح، واستقامت على طاعة الله -جلَّ وعلَا، وأبعدت عن معصية الله.
من الذي يستغني عن المواعظ، وقد وعظ النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه؟
من الذي يستغني عن المواعظ وهو يرى أنواعًا من الشرور التي تحمله على الشر، وتصده عن الخير، وتقربه إلى دواعي الشيطان؟
فإذن هذه هي المواعظ، وهذه سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم، فلتنشط النفوس، ولتحرك القلوب، ولنجتمع لمثل هذه المواعظ، ولندعو إلى الخير، وليكن لذلك نصيب في حلقنا، وفي جمعنا، وفي اجتماعاتنا، وفي تقلبات أيامنا، حتى لا يكون منا الضعف والإعراض.
هذه الموعظة كانت موعظةً بليغةً، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا وعظ تحرك قلبه، احمر وجهه، وارتفع صوته، ولذلك جاء في الحديث، يقول: كأنه النذير العريان، النذير العريان، يعني الذي سرقت ثيابه، فيقول: العدو خلفكم، وقد سرقت ثيابه، فهذا دليلٌ ظاهرٌ على أن العدو حاصلٌ، فكذلك ينبغي أن يكون الواعظ صادقًا، وأن يكون متحمسًا، قائمًا بحقها.
بعض أهل العلم يقول: إن رفع الصوت إنما يكون عند ذكر الساعة ونحوها؛ لأنه جاء في بعض رواية الحديث: «إذا وعظنا فذكر الساعة، احمرت عيناه، وعلا صوته -صلوات ربي وسلامه عليه».
ثم قالوا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودعٍ، يعني: هذه الموعظة اختصت من غيرها من سائر المواعظ، بمزيد معانٍ بليغةٍ، ودلالاتٍ كثيرةٍ، وذلك أن المرء إذا كان في إدبار حالٍ، أو انقطاعه عن أصحابه، إن كان ذلك بسفرٍ، أو كان ذلك بموتٍ، أعظم ما يكون في إخلاص الموعظة لهم، وذكر ما يحتاجون إليه في أمورهم، إن كان صغيرًا أو كبيرًا، فمن يودع أهله، منتقلًا من هذه الدار، فإنه لا يزال يذكر في وصيته، كل ما يحتاجون إليه من أمورٍ قليلةٍ أو كثيرةٍ، فكأن الصحابة أحسوا من ذلك، فطلبوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- وصيةً يوصيهم بها، فقال: «أوصيكم بتقوى الله».
الوصية بتقوى الله، هي وصية الله للأولين والآخرين، والمتقدمين والمتأخرين، وكل أحدٍ لا يستغني عن هذه الوصية ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء: 131].
والسمع والطاعة، يقول أهل العلم في الجمع بين هذين الأمرين، ما يحصل بهما الفلاح، أما التقوى، ففيها فلاحٌ ونجاحٌ في الآخرة، وأما السمع والطاعة، ففيها حفظ مصالح العباد في الدنيا، وذلك أنه من أصول أهل السنة والجماعة السمع والطاعة للولاة، في أي حالٍ من أحوالهم، ولذلك حتى لو حصل منهم تأخرٌ عن الصلاة، ولو حصل منهم نقضٌ لبعض عرى الدين، ماداموا مستمسكين بأصله، وداعين إلى لوائه، فإنه وإن حصل منهم هناتٌ كبيرةٌ، وأخطاءٌ عظيمةٌ، فإن ذلك لا يعني الخروج عليهم، أو عدم بذل الطاعة لهم، فإن هذا مما أمرنا الله -جلَّ وعلَا- به، فكما أمر الله بالصلاة، وأمر بالزكاة، أمرنا بالسمع والطاعة، فحينما نمتثل، فنمتثل كما نمتثل في الصلاة والزكاة، ولا ذلك على سبيل المقابلة، أو سبيل المعاوضة، بل هو أمرٌ من أوامر الله -جلَّ وعلَا، التي جاءت في كتابه.
وبعض الناس يظن أن هذه عقدٌ، وأن العقد مبناه على المعاوضة، يعطيني وأعطيه، ويبذل لي وأبذل له، لا وكلا!
بل هي بيعةٌ، وبيعةٌ معقودةٌ في الأعناق، يجب على أهل الإسلام بذلها، والسمع والطاعة فيها، ولأجل ذلك جاءت في كل الأحوال، حتى في حصول الأثرة، كما في حديث عبادة بن الصامت، وهنا قال: «وإن تأمَّر عليكم عبدٌ حبشيٌّ »، مع أن العبد المملوك لا ولاية له؛ لأنه مملوكٌ لسيده، فكيف تكون له ولايةٌ؟ وهنا قال: «عبدٌ حبشيٌّ»، يعني «مجدع الأطراف» في الروايات.
ما المراد بذلك؟ ليس في مثل هذا انتقاصٌ لهذا، وإنما لما كان مثل العرب، وأهل قريش، الذين هم ساداتٌ، يأنفون عن مثل ذلك، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبين أنه مهما كرهت صدورهم، ومهما كرهت نفوسهم، من السمع والطاعة، فإن ذلك واجبٌ عليهم، وأن ذلك ليس إلى هواهم، وليس إلى إرادتهم.
فإذن الوصية بتقوى الله، ثم الوصية بالسمع والطاعة، تقوى الله تكلمنا عليها، وما يتعلق بها في حديث معاذ، فلا نحتاج إلى مزيدٍ من الكلام، وقد ذكرناه.
السمع والطاعة هذه أصلٌ من أصول أهل السنة والجماعة، جاء بها هذا الحديث، وحديث عبادة بن الصامت، وغيره من الأحاديث، والله -جلَّ وعلَا- يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: 59].
يقول أهل العلم: في هذه الآية دلالةٌ على أن طاعة الولاة، تابعةٌ لطاعة الله، وطاعة رسوله، ولأجل هذا جاء في الحديث: «إنما الطاعة في المعروف، ولا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق»، فيكون هذا أصلًا معروفًا، وأمرًا ثابتًا، وهذا يقرره علماء أهل السنة والجماعة.
هنا ما يتعلق بالطاعة في المعروف، يعني: سواءً كان ذلك في ما أوجب الله تعالى، فيكون أمرهم تأكيدًا وحثًّا، وحملًا على الخير، وإن كان ذلك فيما كان من المباحات، فأمرهم بهذا يستوجب الطاعة، لاختصاصه بأمر ولي الأمر، وأما ما كان فيه معصيةٌ فإنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، لكن حصول ذلك لا يعني الخروج عليه، ولا يعني أنه قد ذهب حقه، بل لا يأتمر بأمره في ذلك ويبقى على حقه فيما سواه، كما ذكر ذلك أهل العلم وقرره أهل السنة والجماعة.
السمع والطاعة هما كالشيء الواحد، يسمع ويطيع كأن السمع سابقٌ والطاعة لاحقةٌ، فإذا سمع المرء استجاب ثم أطاع، وقد يقال من أن السمع أن يسمع في ما يكون من النواهي فينتهي عنه، والطاعة فيما يكون من النواهي فينتهي عنه، والطاعة فيما يكون من الأوامر فيتمثلها، على كل ذلك داخلٌ فيها لا محالة، ومتعلقٌ بها أمر ظاهرًا لا غضاضة فيه، إذا كان من ولي الأمر أنه عرف منه العدل والصلاح، فهل أو كان دون ذلك من أهل الجور والظلم، هل ما كان من الأوامر التي لا يعلم، هل هي معروفٌ أو ليس بمعروفٍ، كيف يفعل فيها؟ بعض أهل العلم يقول الأصل أن طاعته معروفٌ، فيأثم بها، بعضهم يقول إنه إذا كان مما عرف بعدله، فحتى لو ظهر في العدل سوى ذلك، فالأصل أنه عادلٌ وأن أمر على وجهٍ صحيحٍ، فإذا قال مثلًا يؤخذ مال هذا، فالأصل أنه يؤخذ بوجه حقٍّ وأن هذا معتدٍ في ذلك المال أو نحوه فيستجاب، وبعضهم يقول: إذا كان الأمر من ولاة الجور فإنه إذا كان الأمر فيه شيءٌ من الغبش وعدم الظهور، فإنه يطلب التحقق ولا يدخل في ذلك حتى يتبين، والأمر في هذا محتملٌ، والأصل هو الإبقاء على طاعتهم ما لم تظهر أن الأمر لهم وأن أمرهم معصيةٌ، فيترك.
ثم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- «فإنه من يعش منكم فيرى اختلافًا كثيرً» وهذه من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- العظيمة، وذلك أن المرء مطالب بالاستقامة والاستجابة مهما رأى من الاختلاف، كما قلنا في أنه يؤدي الحق لله -جلَّ وعلَا-، ولذلك لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «كيف بكم بأئمةٍ يؤخرون الصلاة عن وقته»، قالوا: ما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «صلوا الصلاة لوقتها، فإن أدركتموها معهم فصلوه»، لم يأمر بمنازعتهم ولا بمخالفتهم ولا معاداتهم، أليس هذا من الاختلاف الكثير! تأخير الصلاة عن أوقاتها، وعدم الخروج إليها، هذا من أعظم الشنائع، ومن أعظم البلايا، فمع ذلك لما كان أمر الخروج والاختلاف عليهم، ومعارضتهم ومنازعتهم، يسبب البلاء الكبير، فإنه يطلب الاستقامة على ذلك وعدم الخروج، ولأجل هذا يقول بعض أهل السنة: الولاة لهم ذنوبٌ كالجبال، كبيرةٌ، يقولون: ولهم حسناتٌ كالليل، فإذا جاء الليل غطى الجبال، فكذلك حسناتهم، ولذلك ما خرج أقوامٌ على إمامهم إلا كان بسبب ذلك بلاءٌ كثيرٌ وشرٌّ مستطيرٌ.
خرج بعض التابعين على الحجاج في فتنة ابن الأشعث، فيقولون: الذي قُتل في تلك الليلة أكثر من الذين قتلهم الحجاج في سنةٍ كاملةٍ، مع اختلال الأمن وتسلط السفهاء وحصول شهورٍ كثيرةٍ، ولأجل ذلك كان طلب الاستقامة على الولاة، إنما هو به صلاح الحال.
من يذمنا بذلك أو يقول هؤلاء علماء السلطة، فيقولون ما يقولون ما دام أن بأمر الله -جلَّ وعلَا- مؤتمرين، وبهذه الوصية النبوية مقتدين، فيقولون ما يقولون، وليسمونا بما يسمونا، وليصفونا بما شاءوا، فليس والله ذلك إلا يزيدنا شرفًا ويزيدنا استمساكًا، حتى ولو حصل علينا البلاء، فإنا نطلب الأجر من الله -جلَّ وعلَا- والصبر والتثبيت منه -سبحانه وتعالى0.، فلا منازعة في ذلك، خاصةً والناس يرون ما يزيدهم بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ثباتًا واستمساكًا من نازع الولاة حصل له شرورٌ كثيرةٌ من البلاء وحصول الشرور التي لا منتهى لها.
وإياك ومحدثات الأمور، هذه وصيةٌ من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في الاستمساك بالسنة، وضدها المحدثة والبدعة، فإنه ليس شيءٌ إلا قد جاءت به الدلالة كما سيأتينا في الأحاديث، فعلينا بالاستمساك، وعلينا بالإتباع، وعلينا بالاهتداء، وإياكم والبدعة، وإياكم والضلالات، وإياكم بأهواء الناس ومخترعاتهم ومبتدعاتهم، فلا عبادة ولا استقامة ولا استنان إلا بسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- «وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثةٍ ضلالةٌ» كل محدثةٍ تكون ضلالةً كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهذا يدلنا على ما يجب من الاستمساك بطاعة الله -جلَّ وعلَا.
هنا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» السنة منسوبةٌ إلى من؟
إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والمقصود كل ما جاء عنه من أقوالٍ وأفعالٍ وتقريراتٍ، سواءً كان ذلك في أصول الشرع أو كان ذلك في الفروع، سواءً إن كان ذلك في الأقوال أو كان ذلك في الأفعال، فنحن مقتدون متبعون، لا نزيد من عند أنفسنا، يقول الله -جلَّ وعلَا: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً﴾ [المائدة: 3] وهذا هو الواجب على المرء، والواجب على أهل الإسلام «وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثةٍ بدعةٌ، وكل بدعةٍ ضلالةٌ» فسبب الوقوع في هذه البدع سببٌ للضلال وترك الهداية والاستقامة على أمر الله -جلَّ وعلَا- فكان مما ينبغي على المرء أن يحفظها.
ثم نبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على سنة الخلفاء الراشدين من بعدي، الخلفاء الراشدون هم:
أبو بكر وعمر وعثمان وعليٌّ -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم- جاء مدحهم في أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر أنه تكون بعده خلافةٌ على منهاج النبوة ثلاثون عامًا، وهي التي جاءت عن هؤلاء الأربعة، علي ست سنواتٍ، ثم تتمة ذلك في الحسن ستة أشهرٍ فكانت ثلاثين عامًا، وأبو بكر سنتان، وعمر اثنان وعشرون عامًا، وعثمان ستة أعوامٍ، وبذلك يكتمل الثلاثون عامًا، فيها تقاطيع تكمل بها الثلاثون كما عدها أهل العلم.
ففي هذا إشارةٌ إلى ما ذكرنا من أنه جاء تزكيتهم ومدحهم، وهم من المبشرين بالجنة، واتفق أهل السنة والجماعة على أنهم هم الخلفاء الراشدون المهديون كما جاء ذلك في دلالات الأحاديث.
على كل حالٍ ما نريد أن نقوله هنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد زكى الخلفاء الراشدين، فما كان من سنتهم فهي متبعةٌ، ولذلك أقر أهل العلم مثلًا ما جاء من الحكم بالخلوة من أنها في مثل الدخول، قضى الخلفاء الراشدون أن من أرخى سترًا وأغلق بابًا فعليه المهر ووجبت العدة، وأيضًا مثل ما جاء في الأذان الأول، فإنه مما سنه عثمان -رضي الله تعالى عنه- واتبعه المسلمون واقتدوا به على مر العصور والأزمان واختلاف الأماكن، لم يختلفوا في ذلك لأنها من سنة الخلفاء الراشدين، كذلك حين جمع أبو بكر القرآن والمصاحف ونحوها، ثم أيضًا جاء عثمان فكتب المصحف ووحده في ذلك ونشره في الأمصار، فكانت كل ذلك من سننهم -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
هذا إذن ما يتعلق بحديث العرباض بن سارية، أظن أننا أتينا على جملةٍ منه ليست بالكثيرة، لكن هذا هو الوقت، وتمنيت لو أخذنا أكثر من ذلك، لكن لعلنا بإذن الله -جلَّ وعلَا- أن نأتي أو أن نكون في مثل هذه الإشارات ما يغني عن كثيرٍ من العبارات، وأستبيحكم عذرًا على الاختصار الكثير وربما كان مخلًّا بكثيرٍ من شروحات هذه الأحاديث، لكن نحب أن نأتي ببعض التفصيلات ونحب أن نأتي على التمام والكمال، فأرجو أن يعيننا الله -جلَّ وعلَا- على ذلك فيما بقي، لم يبقَ من الوقت متسعًا
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم للهدى، وأن يعيننا على البر والتقوى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك