الدرس الأول

معالي الشيخ د. صالح بن فوزان الفوزان

إحصائية السلسلة

6603 11
الدرس الأول

كتاب التوحيد (2)

{بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في درسٍ من دروس التوحيد للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
ضيف هذا الدرس هو فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء.
أهلاً ومرحبًا بالشيخ صالح في هذا الدرس.}
حياكم الله وبارك فيكم.

{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (بَابُ قَوْلِ مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ)}
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
لا شَكَّ أنَّ لله مشيئةً وهي صفةٌ من صفاته -سبحانه وتعالى، وهي مشيئةٌ كونيةٌ، من أفعال الله -سبحانه وتعالى، وكذلك للمخلوق مشيئةٌ، المخلوق له مشيئةٌ، وليس المخلوق مجبرًا كما تقوله الجبرية من الجهمية وغيرهم، فيقولون: إنه مسيَّرٌ فقط، ومجبرٌ، لا ليس كذلك، المخلوق له مشيئةٌ، يفعل بمشيئته ويترك بمشيئته، ولو كان مجبرًا كما تقوله الجهمية، لم يستحق العذاب؛ لأنه ليس باختياره، ودل على أنه مخيرٌ كونه يُنعّم أو يُعذّب، فإن هذا دليلٌ على أنَّ العبد له مشيئةٌ وله إرادةٌ، وأنه مخيرٌ يفعل الأشياء باختياره وإرادته؛ ولذلك يُعذب إذا عصى الله -سبحانه وتعالى، ويُؤجرُ إذا أطاع الله؛ لأنه باختياره.
هو الذي يأتي المعصية بمشيئته وإرادته، أو يتركها بإرادته ومشيئته، ولذلك يستحق النَّعيم أو العذاب، والدليل على أنَّ المخلوق له مشيئةٌ قوله تعالى: ﴿لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير: 28]، فالاستقامة تكون بمشيئة العبد، والانحراف يكون بمشيئته وإرادته، ما دام أنه عاقلٌ مكلفٌ مختارٌ فإنه يُنعّم أو يُعاقب على ما فعل؛ لأنه ليس مجبرًا عليه، وإنما فعله باختياره ومشيئته. ﴿لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ .

ثم قال: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ﴾ [التكوير:28-29]، فجعل للعبد مشيئةً، وجعل لله مشيئةً، وأنَّ مشيئة العبد تابعةٌ لمشيئة الله -سبحانه وتعالى.
ليست مطلقةً كما تقول المعتزلة، وأن العبد يخلق فعل نفسه، بل الله يخلق ذلك، العبد مخلوقٌ، وأفعاله مخلوقةٌ لله -سبحانه وتعالى، ولكنه يفعلها باختياره، بإمكانه أن يترك وبإمكانه أن يفعل، وبإمكانه أن يطيع الله، وبإمكانه أن يعصي الله باختياره ومشيئته.

{إذن لو سُئلنا يا شيخ هل الإنسان مسيرٌ أم مخيرٌ ماذا نجيب؟}
نقول: هو مسيرٌ في أفعال الله -جلَّ وعلَا، وأمَّا في أفعال المخلوق فإنه مخيرٌ، فهو مسيرٌ ومخيرٌ.

{(عَنْ قُتَيْلَةَ: أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ. تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ. وَتَقُولُونَ: وَالْكَعْبَةِ.
فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا: «وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَأَنْ يَقُولُوا مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ)
}
جاء يهوديٌّ إلى الصحابة وقال: (إِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، وَتَقُولُونَ: وَالْكَعْبَةِ)، انتقد المسلمين؛ لأنَّ العدو يُحصي عليك السيئات، وينتقدها عليك، فاليهود أعداءٌ للمسلمين، ومع هذا، فهذا اليهودي جاء يُعيِّر المسلمين بذلك، قال: (إِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، وَتَقُولُونَ: وَالْكَعْبَةِ)، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قَبِلَ هذه الملاحظة من اليهودي، وهذا يدل على أنَّ الحق يُقبل ممن جاء به، ولو كان عدوًا أو كان يَهوديَّا أو نصرانيَّا؛ لأنَّ الحق ضالة المؤمن أين وجده أخذه.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء هذا اليهودي بهذه الملاحظة وهي ملاحظةٌ صحيحةٌ وحقٌّ، قَبِلَها النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «لا تقولوا ما شاء الله وشئتَ»، ولكن قولوا: «وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَأَنْ يَقُولُوا مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ»، إذا أرادوا أن يحلفوا فلا يقولون: والكعبة؛ لأن الكعبة مخلوقةٌ، والمخلوق لا يُحلف به، وإنما يُحلفُ بالله -عزَّ وجلَّ- فَبَدل أن يقولوا: والكعبة أن يقولوا: «وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» وهو الله -سبحانه وتعالى، هو: رب الكعبة، ورب الخلق كلهم، والكعبة مخلوقةٌ، فلا يجوز الحلف بها، وإن كان لها فضلٌ ولها مكانةٌ وهي قبلة المسلمين، وهي أول بيتٍ وضع للناس، فلا يجوز الحلف بها؛ لأنها مخلوقةٌ، ومبنيةٌ من حجارةٍ وغير ذلك، فهي مخلوقةٌ، وإنما هي مَشعرٌ من المشاعر، يُعبد اللهُ عندها، يُطاف بها، ويُحج إليها، ويُعتمر إليها، فهي مشعرٌ من مشاعر الله -سبحانه وتعالى- والمعبود ليس هو الكعبة، وإنما المعبود هو الله -سبحانه وتعالى.
فلا يجوز تعليق الآمال بالكعبة، وسؤال الكعبة، والتعلق بأستار الكعبة، وما أشبه ذلك، إنما الكعبة يُطاف بها، ويُصلى إليها، يُطاف بها لحجٍ أو عمرةٍ، ويُصلى إليها بالصلاة، ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: 115].
والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان في أسفاره وبالمدينة وفي أي مكانٍ يتوجه إلى الكعبة، ﴿وَحَيْثُمَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: 144]، يعني: شطر المسجد الحرام، أي: الجهة التي فيها المسجد الحرام، فالذي يُصلي في المسجد الحرام، ويرى الكعبة، لابد أن يستقبل عينها، والذي لا يرى الكعبة، يستقبل الجهة التي فيها الكعبة، هذا هو الواجب على المسلم. واستقبال القبلة شرطٌ من شروط صحة الصلاة، هذا هو الواجب نحو الكعبة.
وأما المشيئة، فالمخلوق له مشيئةٌ، ولكنها بعد مشيئة الله، فلا يُقال: " مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ " أي: بـ " الواو"؛ لأنَّ هذا يقتضي الاشتراك والمساواة بين مشيئة الله، ومشيئة المخلوق، فالواو لمطلق الجمع كما يقولون، وأمَّا "ثُـــمَّ" فهي للترتيب، فيُقال: "ما شاء الله ثم شئت"، فتُجعل مشيئة العبد بعد مشيئة الله -سبحانه وتعالى.

{إذن فأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت}.
أي نعم، إذا جاء بـ "ثُـــمَّ"، فإن العبارة تكون صحيحةً؛ لأنَّ "ثُـــمَّ" تقتضي الترتيب، ترتيب مشيئة العبد بعد مشيئة الله -سبحانه وتعالى، فهي تابعةٌ لها ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29]، فهذا من كمال التوحيد، أن تأتي بـ "ثُـــمَّ"، ولا تأتي بـ "الواو".
{(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ)}.
النسائي في سننه، في سنن النسائي، وهي إحدى السنن الأربعة، وصححه النسائي، يعني: حكم بأن سنده صحيحٌ، وإن لم يخرِّجه الشيخان.

{(وَلَهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ: «أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا؟ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ»)}.
نعم، رجلٌ قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئتَ، يعني الرسول -صلى الله عليه وسلم، النبي أنكر عليه هذه العبارة، وقال: «أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا؟» يعني: شريكًا؛ لأنَّ الواو تقتضي التشريك، والاجتماع، وأمَّا "ثُـــمَّ" فإنها تقتضي الترتيب، فتكون مشيئة الله أولاً، ثم مشيئة العبد بعدها، فالعبد له مشيئةٌ، ولكنها بعد مشيئة الله، فلا يجتمع في الشيء مشيئة الله ومشيئة العبد على حدٍّ سواءٍ، وإنما مشيئة العبد بعد مشيئة الله، وتابعةٌ لمشيئة الله، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29].

{المشيئة هل تختلف من إنسانٍ إلى آخر؟}.
لا، كلٌ له مشيئةٌ، مادام أنه عاقلٌ، مكلفٌ، فله مشيئةٌ وإرادةٌ، ولذلك يُعذَّب إذا عصى الله، ويُنعَّم إذا أطاع الله؛ لأنه يفعل الطاعة باختياره، ويفعل المعصية باختياره.

{النظر إلى الكعبة عبادةٌ، هذه المقولة صحيحة يا شيخ؟}.
لا أعرف لهذا أصلاً، الذي يجب علينا نحو الكعبة، أن نطوف بها في الحج والعمرة، ونطوف بها أيضًا طواف تطوعٍ، ونتجه إليها في صلاتنا، هذا الذي يجب علينا نحو الكعبة.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (في هذا الباب مسائل، الأُولَى: مَعْرِفَةُ الْيَهُودِ بِالشِّرْكِ الأَصْغَرِ)}.
نعم، اليهودي استدرك على المسلمين أنهم يقولون: والكعبة، يعني: يحلفون بغير الله، والحلف بغير الله شركٌ، لكنه شركٌ أصغر، وكذلك في المشيئة، يقولون: "ما شاء الله وشئتَ"، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قَبِلَ هذه الملاحظة، وعدَّل العبارة، بأن يقول: ما شاء الله ثم شئتَ، فهذا فيه قبول الحق ممن جاء به، ولو كان عدوًا، والحق ضالة المؤمن، أين وجده أخذه.

{هذه المسألة مهمةٌ يا شيخ صالح، وهي في قوله -صلى الله عليه وسلم: «أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا؟»، فكيف بمن قال: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواكَ؟}.
نعم، لما قال الرجل: ما شاء الله وشئتَ، أنكر عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم، وإن كان صحابيًّا، أنكر عليه، قال: «أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا؟»، أي: شريكًا في المشيئة، خلطتَ بين مشيئة الله ومشيئة العبد، هذا يقتضي أن العبد شريكٌ لله -عزَّ وجلَّ، وندٌّ لله، الند هو الشريك، فهذا فيه إنكار المنكر، وبيان الحق، وألا يُترك الناس على أغلاطهم وجهلهم، بل يُبيَّن لهم.
«أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا؟ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ».
فإما أن تقول: ما شاء الله وحده، وإما أن تقول: ما شاء الله ثم شئت.

{أحسن الله إليكم، وبارك فيكم، على ما بينتم لنا في هذا الدرس، وأفضتم في شرحه، جزاكم الله عنا، وعن أمة الإسلام خير الجزاء شيخ صالح الفوزان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك