الدرس الثاني

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

3175 12
الدرس الثاني

العقيدة الطحاوية (2)

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه، مرحبًا بكم أيُّها الإخوة الكرام في الدَّرس الثَّاني من المستوى الثَّاني والمرحلة الثَّانية في الأكاديميَّة، أسأل الله -جل وعلا- أن يوفقنا وإيَّاكم وجميع إخواننا المسلمين لما يحبُّه ويرضاه، ويرزقنا العلم النَّافع، والعمل الصَّالح.
نرحبُ بالإخوة الكرام الذين يشاركوننا في هذا الدَّرس، ونسأل الله -جل وعلا- أن يجزيَهم خيرَ الجزاء، ونبدأ بقراءة متن الطَّحاوية، فليتفضل أخونا سعيد -حفظه الله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، وصلَّى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلِّم، اللهمَّ اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين ولجميعِ المسلمين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى: (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ؛ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ، وَسُلَّمُ الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ؛ فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23]، فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ؛ وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)}.
أحسنت، بارك الله فيك.
يقول الطَّحاوي -رحمه الله: (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ؛ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ).
قوله: (أَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ) هذا مِن كلامِ علي بن أبي طالب مرويٌّ عنه رضي الله عنه أنه قال: "الْقَدَرُ سِرُّ اللَّهِ فَلَا تَكْشِفْهُ"[16].
ما معنى هذا؟
معناه: أنَّ تقدير الله -عزَّ وجلَّ- لأمورِ خلقِه وتدبيره لهم لحكَمٍ ومصالحٍ وغاياتٍ يعلمها ربنا-سبحانه وتعالى- فأعطى هذا، ومنع هذا، وأغنى هذا، وأفقر هذا، وأحيا هذا وأمات هذا؛ هذا لأفعال ولحكم ولغايات يعلمها الله -سبحانه وتعالى- فلا تكشفْه، ولا تَخُضْ فيما لا يَعنيك، ولا تسألْ عمَّا ليس لك به طاقة ولا علم لك به، هذا معنى "الْقَدَرُ سِرُّ اللَّهِ فَلَا تَكْشِفْهُ".
فالخوضُ في القدرِ: أن تَسأل أحدَ السُّؤالين الخبيثين، سؤالين يدسُّهما الشَّيطان في قلب الملاحدة وفي قلب المفتونين:
الأوَّل: يقول: لِمَ فعل ربنا هذا؟ لِمَ أعطى هذا ومنع هذا؟ على وجهِ الاعتراض.
والسؤال الثَّاني: أن يقول: كيف فعل هذا؟ على وجه الاعتراض.
"لمَ" و"كيف" على وجهِ الاعتراض على قدر الله تعالى يُعدُّ مِنَ السَّعي في الكشفِ لقدرِ الله، وأنت أيُّها العبد مَربوبٌ مدبَّر مسخَّر، لا تملكُ لنفسك ولا لغيرك ضرًّا ولا نفعًا، وعقلك محدود، وبصيرتك محدودة، مهما أوتيت مِن ذكاء، ومهما أوتيت مِن مَعلومات، ومهما حفظت من أشياء؛ فإنَّه قد غابت عنكَ أشياء أعظم وأعظم، ولهذا في قصَّة موسى -عليه الصَّلاة والسَّلام- مع الخضر أنَّ الخضر قال لموسى: "يا موسى، ما علمي وعلمك في علم الله -عزَّ وجلَّ- إلا مثل هذا المخيط إذا أدخل البحر"[17]
كم يخرج من الماء وكم يبقى؟!
كم تأخذ الإبرة -المخيط؟
لا يأخذ شيئًا. فعلم البشر محدود، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً﴾ [الإسراء: 85]، فالله هو الحكيم العليم، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ- في سورة الأنبياء: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23]، فالله -عزَّ وجلَّ- لا يُسأل لمَ فعلتَ يا ربنا هذا؟ لمَ صنعتَ هذا؟
لأنَّ الله –عزَّ وجلَّ- أفعاله كلها حِكمة، وغايتها حميدة، وأنتَ أيُّها العبد لا تستطيع ولا تقدر أن تعرف عشر معشار ذلك، فلكمال ربنا -سبحانه وتعالى- لا يجوز أن يعترضَ العبادُ عليه، ولا أن يُعقبوا لحكمه، فالله لا مُعقب لحكمه، ولا رادَّ لقضائه -سبحانه وتعالى.
أمَّا إذا سَألَ العبد سؤالَ استرشادٍ كأن يقول مثلًا:
ما الحِكَمُ في شرْعِ الله -عزَّ وجلَّ- للزَّكاة؟ أو هل هناك حِكمة في مشروعيَّة الزَّكاة؟ هل هناك حِكمة في مشروعيَّة الصَّلاة؟ أو في مشروعيَّة الصِّيام؟ إلى آخره.
هذا سؤالُ استرشادٍ وتعلُّم، ولا شكَّ أنَّ أعظم الحِكَم في الصَّلاة والزكاة هي عبادة الله وحده لا شريك له، وهناك أيضًا مَصالح كثيرة رتَّبها الله على طاعتِه مِن الخير في الدنيا والآخرة، ولله الحمد والمنَّة.
فالله -عزَّ وجلَّ- سَتَر القَدَرَ عَن خلقِه، فلا أحد يعلم ماذا سيقع، ولماذا أعطيَ هذا ومُنعَ هذا؛ لا أحد يعلم، الله الذي يعلم -وحده لا شريك له.
ولهذا في غزوة أُحد حصل للمسلمين مَا حصل من ابتلاء، واستشهد من الصَّحابة مَن استشهد، حتى النَّبي صلى الله عليه وسلم كُسرت رباعيته، وشُجَّ رأسه، ودخلت حلقة المغفر في خدِّه صلى الله عليه وسلم، حتى قال: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ»[18] فأنزل الله -عزَّ وجلَّ: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران: 128]، هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا في آخر سورة آل عمران قال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ﴾ [آل عمران: 179]، فالله-عزَّ وجلَّ- ذكر حكمًا وأسرارًا ومصالحَ عظيمة، وهذا غيضٌ من فيضٍ، ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً﴾ [الإسراء: 85]، ولهذا لا يجوز للعبد أن يخوض في القدر على وجه الاعتراض على الله -سبحانه وتعالى-مَن أنت أيُّها العبد المسكين؟! فعقلك محدود، كيف تعترض على الله سبحانه؟! ألم تُخلَق أنت من عدمٍ؟! ألم تُخلَق ولستَ بشيءٍ ولا تعلم شيئًا؟! الله -عزَّ وجلَّ- ألهمك، ومدَّةُ حياتك في الدنيا محدودة؛ إذن كيف تعترضَ على الله -سبحانه وتعالى ؟! كيف تتألَّى على الله -سبحانه وتعالى؟!
هذا معنى قول علي رضي الله عنه: "الْقَدَرُ سِرُّ اللَّهِ فَلَا تَكْشِفْهُ"، وهذا معنى قول الطَّحاوي: (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ؛ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ)، فهو غيب.
متى كُتبت المقادير؟
قبل أن يخلق السماوات بخمسمئة ألف سنة.
هل اطَّلع أحدٌ على الغيب؟
لا أحد يعلم الغيب حتى الرسل، قال الله -عزَّ وجلَّ- لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الأنبياء والرسل: ﴿قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾ [الأعراف: 188]، لأنَّه صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وقول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [النمل: 65].
هذا أمر عظيم إذا استقرَّ في قلبك أيُّها المؤمن ارتاح القلب، وابتعدت عنه وساوس الحسد، وساوس النَّظر إلى النَّاس، ووساوس الجزع والسَّخط وغيرها، ولهذا عنوان السَّعادة: إذا أُعطيَ العبد شكر، وإذا ابتُليَ صبر، وإذا أذنب استغفر. هذا عنوان السعادة.
فإذا أعطيَ عطاءً دينيًّا كالقرآن والإيمان؛ شكرَ، أو عطاءً دنيويًّا مثل المالِ والزوجةِ والولدِ؛ شكرَ، وإذا أُعطي الشَّقيُّ -وهو عكس السَّعيد- بَطَرَ وأشِرَ وفَخَرَ، ورأى أن هذا من كدِّه ومن جهده ونسي فضل الله، أمَّا السَّعيد فعنوان السَّعادة: إذا أُعطيَ شكر الله ونَسَبَ النِّعمة إلى الله -سبحانه وتعالى- وإذا ابتُليَ المؤمن السَّعيد صبر واحتسب، وقال: هذا بقضاء الله وقدره،﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن: 11]، قال علقمة -رحمه الله: "هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيُسَلِّمُ لذَلِكَ وَيَرْضَى"[19]، يصبر لأمر الله ويستسلم، ما يشغل باله لماذا كذا، ولا يجزع ولا يتسخَّط كالشقي.
الثَّالثة: إذا أذنب يستغفر الله -عزَّ وجلَّ- ولم يستكبر على الله -سبحانه وتعالى- أو يقول: لم أذنب، أو يقول: هذه الذُّنوب لا شيء فيها لأنَّها قَدَر، فما ضلَّ مَن ضلَّ مِن الملاحدة -أو دخل في هذا الباب- إلا وخسر خسرانًا مبينًا، ولهذا يجبُ على المسلم في باب القضاء والقدر الحذرَ، وأن يستسلمَ لأمرِ الله -سبحانه وتعالى- الكونيِّ، وأمَّا الشَّرعُ فيعمل به، فيعمل بالأوامر، وينتهي عن النَّواهي، وإذا حصل منه تقصيرٌ بادر إلى التَّوبةِ والاستغفارِ ولا يصرُّ على الذَّنب، هذا الواجب على المؤمن، إذا أُعطيَ شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر.
قال: (وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ، وَسُلَّمُ الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ).
الذي يتعمَّق -يعني يبالغ في طلب الشَّيء- ويخوض مع الخائضين، ويخوض مع المبتدعة، أو يقرأ في كتبهم، أو ينظر في كلام الملاحدة والزَّنادقة الذين يعترضون على الله -سبحانه وتعالى- ويشكِّكون في قدرته؛ كل هذا (ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ، وَسُلَّمُ الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ).
لماذا؟ لأنَّ النَّفس البشريَّة تطغى، وتخرج عن حدِّها المحدود لها، أنت عبد مربوبٌ لربِّ العالمين الذي خلقك وأوجدك، كيف تعترض على الله الذي خلق السَّماوت والأرض وخلق العالمين؟! هذا طغيان فيك، فاحذر هذا الطُّغيان، ولا تستجب لهذه الوساوس، ولا تلتفت لكلام الملاحدة، ولا تخُض معهم، ولا تُلقِ بسمعكَ إلى أهلِ البدعِ والضَّلالِ وأهلِ الإلحادِ، فالملاحدة أعداءٌ لله ولرسوله، أعداءٌ للإسلام، لا يريدون بكَ خيرًا، ولم يعرفوا حقًّا، ولم يهتدوا إلى حقٍّ، فكيف تستسلم لهم؟! أو كيف تنظر في كلامهم؟! حيارى، متهوكون، ضالُّون، لا يدرون، يتخبَّطون في الظَّلام، هذا يذهب يمنةً، وهذا يذهب يسرةً، فكيف تجلس مجالسهم وتأتي إليهم أو تتابعهم وتنظر في كلامهم وكتباتهم، هذا إجرام! والعلماء يُحذرون من هذا اتِّباعًا لسنَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم حذَّر المسلمين من هذا.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ -يعني أمور منكرة، وكلام لا يليق في الدين الإسلامي- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ ؟»قالوا: نعم. قال: «ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ»[20].
الحمد لله! مادام أنَّ قلوبَكم أنكرته ولم تتكلَّموا به هذا صريح الإيمان، وهذا الحديث في صحيح مسلم.
فأثنى النَّبي صلى الله عليه وسلم على أنَّهم لم يتكلَّموا به، وأثنى على قولهم: "يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ»يعني يستبعد أحدنا ويراه ذنبًا عظيمًا أن يتكلم به. فهذا دليل على الإيمان، عندما تبغض هذا الكلام السيء الفاسد.
وهكذا في صحيح مسلم عن ابن مسعودرضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقال: «تِلْكَ مَحْضُ الإِيمَانِ» يعني: بغضها وكراهة الكلام فيها هذا دليل على الإيمان، فلا تستجب للوساوس.
وفي الحديث الآخر قال: «فإذا بلَغه فلْيَستَعِذْ باللهِ ولْيَنتَهِ»[21]، وليقرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ ، وقوله: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: 3]»[22]، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أنواع من أنواع العلاج يحتاج إليه كل مسلم:
النَّوع الأوَّل: الاستعاذة بالله.
ومعنى الاستعاذة: اللجوء والاعتصام بالله -سبحانه وتعالى- فيقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، ولا يسترسل.
النَّوع الثَّاني: قال «ولْيَنتَهِ» أي: يوقِف التَّفكير في هذا، لا يستمر في التَّفكير وتسريح الأفكار في هذا المجال.
هذا إذا كان وسواس، فما بالك بمَن يذهب إلى مجالسِ الملاحدة والزنادقة وأعداء الله الذين ينشرون المذاهب العلمانية الكافرة، أو المذاهب الليبرالية الخبيثة، أو الاشتركيَّة، أو الشُّيوعيَّة، أو غيرهامن المذاهب الأرضية الباطلة المضادَّة لدين الله وللكتاب وللسُّنة؟!
فالمؤمن يبتعد عنهم، إلا مَن وفَّقه الله لجهادهم والرَّد على أباطيلهم، والرد على تُرَّهاتهم وخباثتهم وخداعهم للنَّاس، هذا مشكور إذا كان عنده قدرة واستعداد علمي، وهو مؤهل لذلك.
يقول ابن أبي العز الحنفي في شرح الطَّحاوية: "هذه طريقة الصَّحابة رضي الله عنهم والتَّابعين لهم بإحسان، ثم خلف من بعدهم خلف سوَّدوا الأوراق بتلك الوساوس التي هي شكوك وشبه، بل وسوَّدوا القلوب وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق".
يعني بعض النَّاس -نسأل الله السلامة- مِن علماء الكلام ممَّن وقع في الاعتزال أو غيره من البدع صاروا يكتبون هذه الشُّكوك والوساوس التي تَرِد عليهم بدلًا مِن أن يستجيبوا لكلام الله –عزَّ وجلَّ- فصاروا يكتبونها ويتناقشون فيها، ويتجادلون فيها، والجدال في هذا منهيٌّ عنه، قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ»[23]، وفي الحديث الوارد عن عبد الله بن عمرو العاص -رضي الله عنهما- قال: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ - وفي رواية: «هذا ينزع آية، وهذا ينزع آية»[24] قال عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما: وَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ"، النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا غضب ظهر على صفحات وجهه صلى الله عليه وسلم، وحبُّ الرُّمان أحمر، أي: احمرَّ وجه النَّبي صلى الله عليه وسلم من شدَّة الغضب، فغضب عليهم لمَّا خاضوا فيما لا يعنيهم.
فقال: «مَا لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟! بِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»، قَالَ: فَمَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِمَجْلِسٍ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ أَشْهَدْهُ، بِمَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ، أَنِّي لَمْ أَشْهَدْهُ"[25].
المقصود: هو الحذر مِن الخوض في القدر، المؤمن يتعلَّم ما علَّمه الله، فالله علَّمنا مراتب القدر، فنؤمن بالمراتب الأربعة:
- نؤمن بعلم الله الشَّامل المحيط بكل شيء.
- ونؤمن بأنَّ الله كتبَ مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ.
- ونؤمن بأنَّ مشيئة الله نافذة، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
- ونؤمن بأنَّ الله خالق كل شيء، فما من شيء في السماء ولا في الأرض إلا الله خالقه، لا خالق غيره، ولا رب سواه.
وأمَّا ما عدا ذلك مِن التَّعمق وأن نخوض في الأسئلة والتَّشكيك والوساوس؛ فهذا كله من أسباب الخذلان، وهذا من طغيان النَّفس عندما ينشغل الإنسان بما لا يعنيه ويترك ما يعنيه، «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ»[26]، فمِمَّا يعنيك أنَّك تُسلم وتُؤمن، وتعمل بالإسلام، وتعمل بشرائعه، وتعمل بالواجبات، فهذا الذي يعنيك.
وممَّا لا يعنيك: لماذا هذا قدَّر الله عليه أنَّه كَفَر؟! ولماذا هذا قدَّر الله عليه أنَّه أسلم؟! ولماذا لم يهتدِ فلان؟! ولماذا كذا...؟! لا تخُض في هذا.
يقول: (فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ) يعني عن طلبه، فالله نهاك عن طلب ما لا علم لك به. قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُول﴾ [الإسراء: 36].
وكذلك هذا من التَّكلُّف، قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص: 86]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ،هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ،هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ»[27] فلا تتنطَّع، ولا تنشغل بما لا يعنيك، وانشغل بما يعنيك، فالذي لا يعنيك اتركه، والذي يعنيك اعمل به واحرص عليه.
قال: (كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23])، فلا يقال: لمَ يا ربنا فعلتَ كذا؟ على وجه الاعتراض والاستنكار، لا؛ لأنَّ أفعال الله كلها حكمة؛ ولأنَّ العبد أحقر وأذل وأنقص من أن يعترض على الله -سبحانه وتعالى- أمَّا المخلوق -مثلي ومثلك- يمكن أن تقول له: لماذا أنت صنعتَ كذا؟ ما فيه إشكال، فتتعقَّبه وتصوبه إذا أخطأ، أمَّا الله-عزَّ وجلَّ- ما أحد يتعقبه، وليس في أفعاله خطأ -سبحانه وتعالى- فلا مُعقب لحكمه، ولا رادَّ لفضله.
قال: (فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ)، ما هو حكم الكتاب؟
يعني حكم القرآن.
بماذا حكم القرآن؟
﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء: 23]، لا أحد يتعقب الله عزَّ وجلَّ ويقول: لماذا يا ربِّ صنعتَ كذا؟ لماذا أسعدتَّ هذا وأشقيت هذا؟
لا، هذا ليس شأنك، هذا أمر الله -سبحانه وتعالى، (فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ)، الله قال: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ ، ما أحد يتجرَّأ عليه، الله حكيم عليم، والله-عزَّ وجلَّ- لا يظلم أحدًا، ما ضلَّ ضالٌّ إلا وقد أعذره الله،﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5]،﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَ﴾ [الشمس 7- 10].
قال: (وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).
{جزاك الله خيرًا يا شيخنا..
بالنَّسبة للسُّؤالِ على وجه الاعتراض باللسان، لو أنَّ أحدًا أنكر نعمةً أنعمها الله على إنسان، أو حدوث شيء له؛ فهذا اعترضٌ نفسيٌّ ولم يتكلَّم باللسان. هل يدخل في هذا الباب؟}.
إذا وقَعَت في قلبه هذه الأسئلة، فهذا من وساوس الشيطان -كما تقدم- فمثلًا يأتيك الشيطان ويهجم عليك ويقول:
لماذا أنت فقير وفلان غني؟!
لماذا عند فلان أولاد وليس عندك أولاد؟!
ولماذا هذا عنده بيت وليس عندي بيت؟!
لماذا هذا عنده سيارة وأنت ليس عندك سيارة؟!
هذا من الشَّيطان. فماذا يفعل المؤمن إذا جاء في قلبه هذه الوساوس؟
يقول: أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم.
ثانيًا: ينتهي. فلا يسترسل، ولا يسمح لنفسه بالتفكير في هذا، ويتوقف عن هذا.
ثالثًا: يقول: رضيت بالله ربًّا، وهذه كلمة عظيمة جدًّا. مَن الذي يُدبِّر؟ مَن الذي يرزق؟ مَن الذي قسم الأرزاق؟ مَن الذي خلق الخلق؟ مَن الذي أحيا وأمات؟
الله -سبحانه وتعالى- رضيت بقاضئه وقدره.
ولهذا في حديث عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وأسألُك الرِّضا بعد القضاءِ»[28].
هنا أيضًا ينقدح إشكال آخر: لو قال شخص: لو فعلت معصية. أرضى بها؟
نقول: "وإذا أذنب استغفر"، تقلع عنها وتستغفر، ما ترضى بالذَّنب، لأنَّ الذَّنب رتَّب الله عليه عقوبة، ويؤاخذك الله عليه، أمَّا المصيبة التي وقعت لك بغير اختيارٍ منك -كحادث، مرض فقر، دين، فقد قريب- ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة156 - 157]، اللهم اجعلنا منهم، ونسأل الله أن يرزقنا وإيَّاكم وجميع المسلمين العفو والعافية.
{(فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ دَرَجَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ عِلْمَانِ: عِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَوْجُودٌ وَعِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَفْقُودٌ؛ فَإِنْكَارُ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ كُفْرٌ، وَادِّعَاءُ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ كُفْرٌ؛ وَلَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِقَبُولِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ، وَتَرْكِ طَلَبِ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ)}.
يقول: (فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى)، كل مؤمن فيه من ولاية الله بقدر إيمانه﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس62-63]، فمن كان مؤمنًا تقيًّا كان لله وليًّا.
فكلُّ مؤمنٍ على وجهِ الأرض يحتاج إلى هذا، أن يؤمن بقضاء الله وقدره، ويُسلِّم، ويرضى بما قسمه الله له، ولا يسأل على وجه الاعتراض، ولا يعترض على الله في قضائه وقدره؛ بل يرضى ةيسلم.
وأمَّا في الشَّريعة والأعمال الواجبة والأمور المحرَّمة فيقوم بالواجبات، ويترك المحرمات، وإذا وقع منه تقصير فيسارع إلى التَّوبة والنَّدم، والرُّجوع، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135]، هذا توفيق من الله للعبد.
ولهذا مَن استقام على هذا كان مِن الرَّاسخين في العلم، فعرف الحق ولَزمه، أمَّا الموسوسون والذين دخلوا في التَّشكيكات وفي الاعتراض على الله -سبحانه وتعالى- فقد خرجوا عن العلم وخرجوا عن الرُّسوخ، وخرجوا حتى عن الدِّين إذا بلغوا مبلَغ الكفر وردُّوا حكمَ الكتاب.
ثم قال: (لِأَنَّ الْعِلْمَ عِلْمَانِ: عِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَوْجُودٌ)، يقصد به الشَّريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم. موجود أم مفقود؟
موجود، وقد حفظه الله﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وسنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم موجودة ومحفوظة في صحيح البخاري، ومسلم، والسُّنن الأربع، والمسانيد، وكتب الحديث، فهي محفوظة والحمد لله، وكلامُ الصَّحابة والسَّلف الصَّالح والتَّابعين وأئمَّة الإسلام موجودٌ.
ماذا اشتمل القرآن والسُّنَّة؟
اشتمل على أركان الإسلام، وأركان الإيمان، والإحسان، وشرائع الدِّين كلها من الصَّلاة والزَّكاة، والصَّوم، والحجِّ، وبرِّ الوالدين، والجهادِ في سبيل الله، والدَّعوةِ إلى الله، والأمرِ بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وسائرِأمور الدِّين. هذا العلمُ موجودٌ أم مفقودٌ؟
موجود، فاحرص عليه واعمل به.
قال: (وَعِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَفْقُودٌ)، يعني مغيب عنك وعن الخلق كلهم. ما هو؟
القدر، هذا لم يطلع عليه لا نبيٌّ مرسل، ولا ملكٌ مُقرَّب.
قال: (فَإِنْكَارُ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ كُفْرٌ). إنكار الشريعة، والإعراض عن الإسلام ما حكمه؟
كفر.
قال: (وَادِّعَاءُ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ كُفْرٌ)، مَن ادَّعى علمَ الغيبِ فهو كافر.
قال: (وَلَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِقَبُولِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ، وَتَرْكِ طَلَبِ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ)، يعني إيمانك وإسلامك ما يثبت لك إلا إذا تعلَّمتَ الإسلام، تعلَّمت الشَّريعة الإسلاميَّة، وعمِلت بها، وقبلتها، وتمسَّكت بها، وتركتَ ما لا يعنيك، وتركتَ طلبَ العلم المفقود.
وأيضًا ممَّا يدخل في هذا الموضوع: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»[29].
فقوله صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ» هذا المؤمن القوي في إيمانه، والقوي في عمله،«خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ»إذن على المؤمن الضعيف أن يقوي إيمانه حتى يكون أحبَّ إلى الله-عزَّ وجلَّ-وعلى المؤمن الضَّعيف أن يجتهد حتى يرتفع، لكن مع هذا حتى المؤمن الضَّعيف فيه خير، ما دام أنَّه ثابت على الإسلام فهذا خير ولو كان ناقص الدِّين وناقص الإيمان، وناقص القوة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ»، هذا أصل عظيم، ليس موضوع القدر موضع تواكل وإعراض، الإيمان بالقدر يدعوك للحرص على ما ينفعك.
قوله صلى الله عليه وسلم: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ» يشمل أمرين عظيمين:
- ما ينفعك في دينك.
- وما ينفعك في دنياك.
وهذا يدعوك للأخذ بأسباب القوة في حفظ القرآن، في تعلُّم العلم النَّافع، في المحافظة على الصَّلوات، في برِّك بوالديك، في صِلتك لرحمك، في دراستِك، في عملِك، في الخيرِ وأوجهه. هذا في أمور الدين.
وكذلك في أمور الدنيا احرص على ما ينفعك، ابحث عن العمل المناسب لك، اجتهد في تحقيق الشهادات المناسبة حتى توفر لك العمل الطيب، اجتهد في زرعك، في حرثك، في نجارتك -إن كنت نجارًا- أو حدَّادًا، أو خيَّاطًا، أو أي عمل كنت عليه، احرص على ما ينفعك.
إذن نفهم من هذا بمفهوم المخالفة أن تحذر ممَّا يضرك، لأنه قال: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ» إذن الذي يضرك ابتعد عنه، سواء من عمل سيء، أو أمور فيها مخاطر على جسمك، أو مخاطر على تجارتك، أو مخاطر على دينك، احذر من أصدقاء السوء، احذر من المثبطين، فهذه كلمة عظيمة«احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ».
ثم قال: «وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ» فإنه كما قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وفي القرآن: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5].
قال: «وَلَا تَعْجَزْ»، اترك التَّكاسل والتَّماوت، والتَّراخي، وعدم أخذِ الأمور بجدٍّ، فالعجز لا خير فيه، والنَّبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من العجز[30]؛ لأن العجز يضر، فلا تعجزن ما دام أن الله أعطاك قوَّة فلتكن همتك عالية.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ» فقد يُقدر الله عليك شيء.
«فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَ»، احذر من هذه الكلمة؛ لأنها من كلمات الشيطان.
لا تقل: لو أنَّي ذلك اليوم جئت للسُّوق مبكرًا لحصلت على الصَّفقة الفلانية..، لا، ما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه.
هنا «لو» في هذا المقام تفتح عمل الشَّيطان والوساوس، بل عليك أن تقول: الحمد لله، هذا شيء مكتوب، هذا رزقي، وأنا في بطن أمي مكتوب لي هذا، لا يزيد ولا ينقص.
«لَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ» يعني: هذا قدر الله. «قدر الله» خبر، والمبتدأ "هذا"حذف للعلم به.
«قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ»، الحمد لله، ما ربحنا اليوم، خسرنا اليوم، هذا قدر الله، حصل كذا أو كذا؛ فهذا قدر الله.
هذا حديث عظيم في باب القضاء والقدر، فالحرص على ما ينفع، والأخذ بالأسباب أمرت به الشَّريعة، والشَّريعة لم تأمرك أن تقول: أنا متوكل على الله وراضٍ بالقدر ولكن أجلس في بيتي، لا أعمل، لا أدرس، لا أنظر، لا أبحث عن أسباب رزقي! لا.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانً»[31]، ما جلست في أعشاشها، ذهبت، تغدوا في أول الصباح وهي جائعة.
خماصًا: أي بطونها ضامرة من الجوع، وفي نهاية النهار تروح -أي ترجع- وقد امتلأت بطونها برزق الله-عزَّ وجلَّ- فلابد أن نؤمن بالقدر مع الأخذ بأسباب الخير والفلاح والسعادة والسلامة، وإذا قوي إيمان العبد علم أن الله -عزَّ وجلَّ- هو الذي تفضَّل، ويُنعم على من يشاء، فلا يحسد أحدًا على شيءٍ أعطاه الله -عزَّ وجلَّ- هذا من قوة الإيمان، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء: 32]، يكفيك أن تسأل الله من فضله، لا تقل: لماذا أعطاه الله كذا؟ لا تتمنى، حتى التَّمني منهيٌّ عنه ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ﴾ ، فلا تنظر لأحد، إنما انظر إلى ما عند الله عزَّ وجلَّ، ولذلك قال في آخر الآية: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ ، فإذا مثلًا أعجبك عِلمَ عالمٍ، أو أعجبك حُسنَ خُلقِ أحدٍ، أو أعجبك حرصَ أحد على الخير وقيام الليل والصِّيام، فلا تقل في قلبك: هذا كذا وأنا كذا! لكن قل: اللهم إني أسلك من فضلك، اللهم كما تفضلت على إخواننا فتفضل علي يا ربّ، اللهم اهدنا فيمن هديت.
فلا نحسد أحدًا لأن هذا من أخلاق اليهود -قبحهم الله- قال الله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: 54]، فالمسلم يزكي نفسه عن هذا الخلق الذميم، ولهذا فإنَّ الإيمان بالقدر إذا قويَ وصلُحَ في قلبك ذهبَ عنك الحسد، وإذا ضعف جاءه الحسد.
ومِن علاج الحسد أن تتذكَّر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»[32]، فهذا علاج الحسد، افرح أنَّ هذا رُزِقَ أولادًا حتى وإن لم تُرزَق أنت أولاد، تقول: الحمد لله، الله يزيده من الخير، الله يبارك له، واسأل الله من فضله، ولا تحسد أحدًا على نعمة أعطاها الله إياه.
{أحسن الله إليك شيخنا.
قول ابن تيمية: "مَا خَلَا جَسَدٌ مِنْ حَسَدٍ لَكِنَّ اللَّئِيمَ يُبْدِيهِ وَالْكَرِيمَ يُخْفِيهِ"[33]}.
وهذا من علامات الإيمان أن يدافع المؤمن هذا الحسد، لأن الإنسان في أصله ظلوم جهول﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولً﴾ [الأحزاب: 72]، وإذا قوي إيمانه ذهب عنه الظلم وذهب عنه الجهل، ولهذا المؤمن الكريم كريم النَّفس، ومِن كرمِ النَّفسِ وخيرها أن يفرح لإخوانه المسلمين، وألا يقع في قلبِه شيء إذا رآهم على نعمةٍ ورآهم على خيرٍ، فيفرح لهم ويُسَرُّ بهذا، بخلاف اللئيم فإنَّه يبديه، ويقول: لماذا هذا كذا؟ نسأل الله العافية والسَّلامة.
{قال المصنف -رحمه الله تعالى: (وَنُؤْمِنُ بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ وَبِجَمِيعِ مَا فِيهِ قَدْ رُقِمَ؛ فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ أَنَّهُ كَائِنٌ لِيَجْعَلُوهُ غَيْرَ كَائِنٍ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ لِيَجْعَلُوهُ كَائِنًا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ؛ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَمَا أَخْطَأَ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَمَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ.
وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ فِي كُلِّ كَائِنٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَقَدَّرَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا مُحْكَمًا مُبْرَمًا؛ لَيْسَ فِيهِ نَاقِضٌ، وَلَا مُعَقِّبٌ، وَلَا مُزِيلٌ، وَلَا مُغَيِّرٌ، وَلَا مُحَوِّلٌ، وَلَا نَاقِصٌ، وَلَا زَائِدٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ؛ وَذَلِكَ مِنْ عَقْدِ الْإِيمَانِ، وَأُصُولِ الْمَعْرِفَةِ، وَالِاعْتِرَافِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِه، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرً﴾ [الفرقان: 2]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورً﴾ [الأحزاب: 38].
فَوَيْلٌ لِمَنْ صَارَ للهِ تَعَالَى فِي الْقَدَرِ خَصِيمًا، وَأَحْضَرَ للنَّظَرِ فِيهِ قَلْبًا سَقِيمًا، لَقَدِ الْتَمَسَ بِوَهْمِهِ فِي فَحْصِ الْغَيْبِ سِرًّا كَتِيمًا، وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ أَفَّاكًا أَثِيمً)
}.
هذه المسألة من الإيمان بالقدر (وَنُؤْمِنُ بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ وَبِجَمِيعِ مَا فِيهِ قَدْ رُقِمَ).
اللوح المحفوظ: الذي كتب الله-عزَّ وجلَّ- فيه مقادير الخلائق، والذي كُتب فيه كُتب بالقلم، هذا القلم الذي جرى بما هو كائن أخبر عن ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ الْقَلَمَ، قَالَ لَهُ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[34]. وفي رواية: «اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»[35]. وهذا حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
«أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ الْقَلَمُ» أو «الْقَلَمَ» على قولين لأهل العلم في رواية الحديث، والأمر سهل.
«قَالَ لَهُ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، يعني أن هذا القلم الذي خلقه الله-عزَّ وجلَّ- كتب الله به مقادير الخلائق، فما مِن شيءٍ إلا وقد كُتبوعُلم، وهذه المرتبة الأولى والثَّانية.
المرتبة الأولى: علم الله الشَّامل المحيط بكل سيء.
والمرتبة الثَّانية: كتابة الله مقادير الخلائق، قال الله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ . [الحديد: 22-23]. وقال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحج: 70]، فهذا القلم أول الأقلام وأشرفها وأفضلها، وهو القلم الذي كتبت به مقادير الخلائق كلها.
هناك كتابة أخرى كتب بها قدر مخصص، مثلأ: الكتابة التي تكون كل سنة في ليلة القدر، فليلة القدر قال اللهعزَّ وجلَّ عنها: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ [الدخان: 4]، وهذه الكتابة سنويَّة، يُكتب فيها مقادير السَّنة.
هناك كتابة أخرى عمريَّة: يُكتب بها ما يقع لكل إنسان وهو في بطن أمه، كما في حديث عبد الله بن مسعود، قال: «ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ»[36]، فهذه كتابة للعمر كله.
وهناك متابة يوميَّة: وهي التي بأيدي الملائكة، وقيل هي المراد في قول الله تعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: 39].
فهذه من أنواع الكتابة التي تقدر بها المقادير: كتابةٌ عامَّة وهي التي في اللَّوحِ المحفوظ، وكتابة سنويَّة، وكتابة عمريَّة، وكتابة يوميَّة، وكلُّ هذا يفيد المؤمن في الإيمان بالقدر، والإيمان بأنَّ الله قدَّر المقادير﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: 11]، قال علقمة رحمه الله : "هو الرجل تصيبة مصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم".
وهذه الكتابة -كتابة اللوح المحفوظ، والكتابة السَّنويَّة والكتابة العمريَّة- تدلُّ على أمرٍ عظيمٍ، وهو الإيمان بالرُّكن السَّادس وهو: الإيمان بالقضاء والقدر.
وفي حديث عبد الله بن عباس: «يَا غُلَامُ إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فاَسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتْ الصُّحُفُ»[37].
الأقلام التي يُكتب بها المقادير جفَّت وانتهت، وطُويت الصَّحائف التي كُتبت فيها مقاديرك، فالحمد لله هذا يجعل المؤمن يرضى ويسلم، وكما قال الله تعالى: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد: 23]، وهذا معنى قوله: (فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ أَنَّهُ كَائِنٌ لِيَجْعَلُوهُ غَيْرَ كَائِنٍ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ لِيَجْعَلُوهُ كَائِنًا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ؛ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا أَخْطَأَ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَمَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ).
فالشيء الذي لم يدركه العبد وأخطأه مثل: أن تأتي سفينة وفيها بضائع وأراد رجل أن يشتري، فجاءهم في يوم محدد، فقالوا: البضائع وصلت أمس واشتراها الناس، ولم يبقَ شيء. أخطأ العبد أم لم يخطئه؟
العبد هنا أخطأ الشيء، فلم يكن ليصيبه.
وما أصابه لم يكن ليخطئه: لو قُدِّر أنَّه نزل به مرض أو غيره، لم يكن ليخطئه.
فالله -سبحانه وتعالى- هو الذي يعلم كلَّ شيء، أمَّا أنت لا تعلم، فعليك أن ترضى وتُسلِّم لِما قضى الله -عزَّ وجلَّ- وقدَّر، والله -عزَّ وجلَّ-يعلم ما كان وما سيكون، وما كان لو كان كيف كان يكون، وعلم الله شامل محيط بكل شيء.
إذن هاتان مرتبتا العلم والكتابة.
وبقي معنا مرتبتان: الخلق والمشيئة، فالله خالق كل شيء، ومشيئة الله نافذة، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. هذا معنى هذه الجملة.
قال: (وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ فِي كُلِّ كَائِنٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَقَدَّرَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا مُحْكَمًا مُبْرَمًا؛ لَيْسَ فِيهِ نَاقِضٌ، وَلَا مُعَقِّبٌ، وَلَا مُزِيلٌ، وَلَا مُغَيِّرٌ، وَلَا مُحَوِّلٌ، وَلَا نَاقِصٌ، وَلَا زَائِدٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ؛ وَذَلِكَ مِنْ عَقْدِ الْإِيمَانِ، وَأُصُولِ الْمَعْرِفَةِ) يعني المعرفة الشَّرعيَّة الدينيَّة الإسلاميَّة.
قال: (والاعتراف)، يعني هذا مِن الاعتراف بتوحيدِ الله تعالى ربوبيَّته، لأنَّ القدر مِن توحيد الله كما جاء عن ابن عباس، فالقدر نظام التَّوحيد، فتوحيد الألوهيَّة وتوحيد الرُّبوبيَّة، وتوحيد الأسماء والصِّفات؛ فالذي لم يؤمن بالقدر لم يؤمن بالله -عزَّ وجلَّ- ولم يُوحِّد الله، لأنَّ الإيمان بالقدر مِن تمام الإيمان بتوحيد الرُّبوبيَّة، فالذي قدَّر المقادير وخلق ورزق وقسَّم الأرزاق؛ هذه أفعال الرَّبِّ -سبحانه وتعالى- فإذا أنكر ذلك العبد لم يؤمن بالرُّبوبيَّة، وإذا علم أنَّ الله هو الذي قدَّر وقسم ورزق ورضي بذلك؛ فهذا من توحيد الرُّبوبيَّة.
كذلك إذا أنكرَ القدرَ فهذا إخلالٌ بتوحيدِ الأسماء الصِّفات، فإذا قال: إن الله لم يعلم الأشياء قبل حدوثها؛ فهذا أنكر صفة العلم، ومَن أنكر صفة العلم فهو كافر.
وإذا قال: إن الله -عزَّ وجلَّ- لم يشأ لهذا أن يهتدي أو لذلك أن يضل؛ فهذا أنكر عموم مشيئة الله، وهذا كفر.
كذلك فإنَّ الذي ينكر أنَّ الله بيده المقادير إذا دعا الله -عزَّ وجلَّ- فدعاؤه ضعيف، ولهذا ممَّا يُنكَر على المعتزلة أنَّهم لا يرون أنَّ الأمور بيد الله -عزَّ وجلَّ- نسأل الله العافية والسلامة، حتى في الدُّعاء يضعف حالهم جدًّا.
قال: (فَوَيْلٌ لِمَنْ صَارَ للهِ تَعَالَى فِي الْقَدَرِ خَصِيمًا، وَأَحْضَرَ للنَّظَرِ فِيهِ قَلْبًا سَقِيمًا، لَقَدِ الْتَمَسَ بِوَهْمِهِ فِي فَحْصِ الْغَيْبِ سِرًّا كَتِيمًا، وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ أَفَّاكًا أَثِيمً)، لا شكَّ أنَّ مَن وقع في هذا -كما تقدَّم معنا في النُّصوصِ- وقع في ظلامٍ عظيمٍ، وشابَهَ المجوس الذين هم القدريَّة، فهم مجوس هذه الأمَّة -نسأل الله العافية والسلامة.
فالمقصود أيُّها الإخوة الكرام: أنَّ الإيمان بالقدرِ نعمة، ولا يتمُّ إيمانُ العبدِ ولا إسلامُه إلا به، فعلى المسلم أن يرضى ويسلِّم لقضاءِ الله وقدره، وفي مقام الشَّرع يمتثل للأوامر وينتهي عن النَّواهي، ويستغفر الله عما حصل من التَّقصير.
وليحذر المسلم مِن مجالسة أهلِ البدع وأهلِ الإلحاد، وأهلِ الخوضِ في القدرِ، أو النَّظرِ في كلامهم أو كتبهم؛ فإن هذا من أسباب الانحراف.
نسأل الله -جل وعلا- أن يعافينا وإيَّاكم، وأن يثبِّتنا وإيَّاكم على دينه، ونسأل الله أن يحفظ ديننا وأمننا، وعقيدتنا، وأن يجعلنا وإياكم مِن أهل السُّنة والجماعة، ويُثبِّتَنا على ذلك حتى نلقاه. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين.
----------------------
[16]ذكره الإمام ابن أبي العز الحنفي في شرح الطَّحاوية (ج1: ص 321)
[17]ورد في صحيح البخاري بهذا اللفظ: "وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ : مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ" (4381).
[18] البخاري ومسلم عن أنس بن مالك
[19]ذكره الطبري في جامع البيان في تفسير قوله: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ (31772)، ورواه البيهقي في شعب الإيمان كحديث مقطوع (9312).
[20] مسلم عن أبي هريرة
[21]صحيح البخاري (3276).
[22]جاء عند أبي داود فقي السنن (4448) وصححه الشيخ الألباني من حديث سماك بن الوليد: قال: قال لي ابن عباس: إِذَا وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا، فَقُلْ : هُوَ الْأَوَّلُ، وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ، وَالْبَاطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "
[23]صحيح البخاري (2457).
[24]مسند أحمد (6806).
[25]مسند الإمام أحمد (6491).
[26]سنن الترمذي (2317)، وصححه الألباني
[27]صحسح مسلم (4829).
[28]صححه الألباني في تخريج كتاب السنة من حديث فضالة بن عبيد (427).
[29]صحيح مسلم (4822).
[30]صحيح البخاري (2823) الحديث: «اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ منَ العَجزِ والكسَلِ، والجبنِ والهرَمِ وأعوذُ بِكَ من فتنةِ المَحيا والمماتِ، وأعوذُ بِكَ مِن عذابِ القبرِ».
[31]مسند أحمد (207)، وصححه أحمد شاكر.
[32]صحيح البخاري (12).
[33]أمراض القلب وشفاؤها، لابن تيمية (21)
[34]كتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل (774)،صححه الألباني في التعليق على الطَّحاوية (33)، وصححه ابن عثيمين في تفسير القرآن الكريم.
[35]سنن أبي داود (4080).
[36]صحيح البخاري (2987).
[37]مسند أحمد (2569). وصححه أحمد شاكر.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك