الدرس السادس

فضيلة الشيخ د. سعد بن تركي الخثلان

إحصائية السلسلة

2358 11
الدرس السادس

تفسير آيات الأحكام (2)

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم على مائدة كتاب الله وفي تفسير آيات الأحكام مع فضيلة شيخنا الشيخ/ سعد بن ترك الخثلان، أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام، باسمي وباسمكم أرحب بفضيلة الشيخ}.
أهلًا حيَّاكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{شيخنا الفاضل كنا قد وصلنا عند قول الله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى﴾، نستأذنكم في سماع تلاوة لهذه الآيات، ثم نعود -بإذن الله- للشرح والتعليق}.
هذه الآية والتي بعدها ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ وأيضًا ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَان﴾، نتكلم عنهما جميعًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 238- 239].
{تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآيات}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد.
فكنا قد وصلنا في تفسير آيات الأحكام إلى قول الله -عز وجل-: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾.
نبدأ أولاً بالكلام عن أبرز معاني الآيات، ثم الفوائد والأحكام، قوله سبحانه: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ أمر الله تعالى بالمحافظة، والمحافظة يعني: الاستمرار في حفظ الشيء مع العناية به، ولم يُبَيِّنُ في هذه الآية كيفية المحافظة لكن في مواضع أخرى من القرآن والسنة بينت ذلك، وأن من المحافظة على الصلوات تكون بالمحافظة على شروطها وأركانها وواجباتها، ومن أكد شروط الصلاة شرط الوقت ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوت﴾[النساء: 103]، والصلاة هي أحب العمل إلى الله تعالى، وقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ وهذا سؤال عظيم، أي العمل أحب إلى الله؟ أنا أريد أن أعمل وأريد أن أتعبد لله -سبحانه وتعالى-، ما هي أحب عبادة إلى الله؟ أحب عمل إلى الله -عز وجل-، سؤال عظيم من هذا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، فماذا أجابه النبي -عليه الصلاة والسلام-؟
قال: «الصَّلاةُ علَى وقْتِه» هي أحب عمل إلى الله الصلاة، الصلاة على وقتها، هي أفضل الأعمال وأحب الأعمال إلى الله -عز وجل-؛ لأن الصلاة يجتمع فيها من العبادات القلبية والقولية والفعلية ما لم يجتمع في غيرها، فالصلاة يجتمع فيها الخشوع وتعظيم الله -عز وجل-، يجتمع فيها أيضًا قراءة القرآن، كذلك أيضًا الذكر من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والدعاء وأنواع التعظيم والتحيات لله -عز وجل-، كل هذه تجتمع في الصلاة بأقوال وبأفعال، بأقوال يقولها المصلي كقراءة الفاتحة وما تيسر من القرآن والأذكار في الركوع وفي الرفع منه وفي السجود وفي الجلسة بين السجدتين وفي جلوس التشهد، وكذلك أيضًا بالأفعال، فإنه يقوم في الصلاة ثم ينحني لربه -عز وجل- تعظيماً له، ثم يرفع رأسه، ثم يسجد ويضع أشرف أعضائه جبهته وأنفه على الأرض تعظيماً لله -سبحانه وتعالى-، ولهذا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وهذا هو سر العبودية، فيأتي بهذه التعظيمات ويكون في مقام المناجاة لله -سبحانه وتعالى-؛ ولذلك الصلاة هي الصلة بين العبد وربه، وإذا أقبل العبد على صلاته عندما يقول: الله أكبر، قال بعض أهل العلم: عندما يشير بيديه يقول: الله أكبر، إشارة إلى رفع الحجاب بينه وبين الرب -سبحانه وتعالى-، عندما يقول:﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾، الرب سبحانه يجيبه يقول: «حَمِدَنِي عَبْدِي»، وعندما يقول المصلي: ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ يقول الله تعالى: «أثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي»، وعندما يقول: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ يقول الله: «مَجَّدَنِي عَبْدِي»، وعندما يقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، يقول الله: «هذا بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ»، وعندما يقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ يقول الله: «سألني عبدي ولعبدي ما سأل».
فالصلاة هي مناجاة بين العبد وبين ربه وصلة بين العبد وبين ربه -جل وعلا-، ولهذا هي أحب العمل إلى الله -سبحانه وتعالى-، ولذلك نقول: إذا استطعت أن تشغل وقتك بالصلاة مثنى مثنى في غير أوقات النهي، فأفعل؛ لأنها هي أحب عبادة إلى الله -سبحانه وتعالى-، ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة كان يصلي لله تعالى تطوعا من غير فريضة في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة، وهذا مشهور عنه ومستفيض عنه وذكر في تراجمه، وكان الحافظ عبد الغني المقدسي صاحب عمدة الأحكام يقتدي بالإمام أحمد في هذا ويصلي في اليوم والليلة تطوعًا من غير فريضة ثلاثمائة ركعة، لعلمهم أن الصلاة هي أحب عبادة إلى الله، لكن الإمام أحمد في آخر حياته ضعف بدنه بعد ما حصلت له المحنة وضرب وجلد، كان يضرب ضرباً شديداً لدرجة أنه يغمى عليه من شدة الضرب، فضعف بدنه فأصبح يصلي لله تعالى في اليوم والليلة تطوعًا من غير فريضة مائة وخمسين ركعة، لماذا هذا الإكثار من هذه الركعات؟ لعلمهم أن هذه العبادة هي أحب عبادة إلى الله -عز وجل-، ولهذا يقول -عليه الصلاة والسلام-: «واعلَمْ أنَّك لن تسجُدَ للهِ سجدةً إلَّا رفع اللهُ لك بها درجةً وحطَّ عنك بها خطيئةً».
ومن حافظ على الصلاة وحفظها فقد حفظ دينه، وهو لمن سواه أحفظ، ومن ضيعها فهو لِمَا سواها أضيع، ولهذا كتب عمر بن الخطاب لولاته وعماله، قال: "إن أهم أموركم عندي الصلاة، فإنه من حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لِمَا سواها أضيع"، تجد الإنسان إذا حافظ على الصلاة تجد أنه قد حفظ بقية أمور دينه، لما سواها أحفظ، لكن إذا ضيع الصلاة تجد أنه مضيع لبقية أمور دينه، فالصلاة هي عمود دين الإسلام، هي الصلة بين العبد وبين ربه، ولهذا كان القول الراجح أن من ترك الصلاة بالكلية قطع صلته بالله لم يركع لله ركعة لا جمعة ولا جماعة، أن هذا يخرج من دائرة الإسلام، لا يصبح مسلماً كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «بيْنَ الرَّجُلِ وبيْنَ الشِّرْكِ والْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ »، ويقول: «العَهدُ الَّذي بيننا وبينهم الصَّلاةُ، فمَن تركَها فَقد كَفرَ»، وبهذا إشارات في القرآن كما في قول الله سبحانه: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ﴾[مريم: 59- 60].
دليل على أن من قطع الصلاة ليس بمؤمن، هذا إذا قطع صلته بالله، لأن الصلاة هي الصلة بين العبد وبين ربه -جل وعلا-، ولذلك فلما فرض الله تعالى هذه الصلاة على هذه الأمة فرضها على صفة خاصة، أولاً: أُسري بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وصلى بأرواح الأنبياء إماماً في المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء حتى جاوز السبع الطباق، ووصل إلى سدرة المنتهى فوق السماء السابعة وهو أعلى مكان وصله البشر حتى أنه سمع صوت صرير الأقلام بكتابة القدر، ورأى شيئًا عظيماً مهولاً لكنه -عليه الصلاة والسلام- ﴿مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى﴾[النجم: 17- 18]، فكلمه الله تعالى مباشرة بغير واسطة ولكنه لم يرَ الله سبحانه؛ لأن البشر لا يستطيعون بتكوينهم البشري أن يتحملوا رؤية الله العظيم الذي تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن لشدة عظمته -جل وعلا-، ولهذا قال موسى: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ﴾ مجرد تجلي فقط، ﴿تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِق﴾ [الأعراف: 143]، بل إن البشر لا يتحملون رؤية ما هو أقل من ذلك، الملائكة على صورتهم الحقيقية إلا في أحوال قليلة يمكنهم الله منها، وإنما يرون الملائكة بصورة بشر كما رأت أم سلمة جبريل على صورة دحية الكلبي، رأت جبريل على صورة دحية الكلبي جالس مع النبي -عليه الصلاة والسلام- يتحدث معه، فلما خرج قال النبي -عليه الصلاة والسلام- لأم سلمة: من هذا؟ قالت: هذا دحية الكلبي، ففهمت فيما بعد أنه جبريل كما جاء ذلك في صحيح مسلم.
لكن نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- رأى جبريل على صورته الحقيقية مرتين كما قال الله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى﴾ يعني: أفق الشمس، ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾[النجم: 7- 9]، يعني من جبريل ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ يعني في ليلة المعراج عند سدرة المنتهى، فرآه فقط مرتين، رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- جبريل على صورته الحقيقة مرتين، ما عدا ذلك لم يراه على صورته الحقيقية، والبشر إذا كانوا لا يستطيعون رؤية الملائكة على صورتهم الحقيقية إلا في أحوال نادرة أو قليلة، فكيف برؤية الرب الجليل العظيم -جل وعلا-؟ لكن الله تعالى يمكن المؤمنين في الجنة من رؤيته، ﴿وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾[القيامة: 22- 23]، وقوله: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ﴾ يعني: الجنة ﴿وَزِيَادَةٌ﴾ والزيادة هي النظر إلى وجه الرب الكريم -جل وعلا-، فكلمه الله تعالى من غير أن يراه، كلمه الله مباشرة وفرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة في اليوم والليلة، ففرضت الصلاة هكذا أولاً، ثم النبي -صلى الله عليه وسلم- كان شديد الحياء من ربه، رضي بذلك ولكنَّ الله تعالى من رحمته بهذه الأمة قيَّض موسى -عليه الصلاة والسلام-، "سأل نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-: ما فرض ربك على أمتك؟ قال: «خمسين صلاة في اليوم والليلة»، قال موسى: إني قد جربت الناس قبلك وعالجت بنو إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك فأسأله التخفيف".
تصور لو أن الصلاة فرضت هكذا ولم يلقَ نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- موسى ولم يسأل الله التخفيف، فمعنى ذلك أنها خمسين صلاة، يعني كل نصف ساعة تقريبًا صلاة، لكن الله من رحمته قيض موسى لأجل هذا، فقال: "فارجع إلى ربك فأسأله التخفيف، فرجع إلى الله فسأله التخفيف، فحط عنه عشرة ثم عشر ثم عشر ثم خمسة" يعني ما بقي إلى خمس صلوات، قال موسى: "ارجع إلى ربك فأسأله التخفيف"، قال: «إني قد اسْتَحْيَيْتُ من ربي»، فنادى منادٍ أني أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، هي خمسٌ في الفعل وخمسون في الميزان، فسبحان الله من رحمة الله بهذه الأمة أن التخفيف فقط للفعل وأما الأجر والثواب لم تخفف، هذه الصلاة الخمس التي نصليها أجرها أجر خمسين صلاة، ليس من باب الحسنة بعشر أمثالها، إذا صليت خمس فأنت كأنك صليت خمسين صلاة، ثم يأتي بعد ذلك التضعيف الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة، وهذا كله يبين لنا عظيم شأن الصلاة وعظيم منزلتها في دين الله -عز وجل-.
ولهذا هنا في هذه الآية الكريمة أمر الله تعالى بالمحافظة عليها ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾، وقال: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾[المؤمنون: 9]، ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾[المعارج: 23]،
فعلى المسلم أن يعظم شأن الصلاة وأن يهتم بها وأن يصلي كل صلاة في وقتها، والرجل يجب عليه أن يصلي الصلاة مع الجماعة في المسجد، قد جاء في صحيح مسلم أن رجلاً أعمى جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يا رسول الله إني رجل أعمى وليس لي قائد يلائمني يقودني للمسجد، فهل تجد لي رخصة يا رسول الله في أن أصلي في بيتي؟ ماذا قال له النبي -عليه الصلاة والسلام-؟
رجل أعمى ليس له قائد يقوده للمسجد، ماذا قال له النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ قال: «هل تَسْمَعُ حَيَّ عَلى الصَّلاةِ، حَيًّ عَلى الفَلاحِ»، قال: نعم، قال: «فأجب»، جاء في رواية أخرى «فإني لا أجد لك رخصة»، سبحان الله إذا كان لا يجد رخصة لهذا الأعمى؟ فكيف بالصحيح المبصر القادر، وهذا من أظهر الأدلة على وجوب الصلاة مع الجماعة في المسجد، وهذا حديث صحيح مسلم، حديث صحيح وصريح أيضًا «لا أجد لك رخصة»، هذا دليل على وجوب الصلاة مع الجماعة في المسجد مع الرجال، والنساء يجب عليهن أن يصلين الصلاة في وقتها ولا يجوز تأخيرها عن وقتها، وتأخير الصلاة عن وقتها معدود عند أهل العلم من كبائر الذنوب.
فأمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات عموماً، ثم خص من هذه الصلاة صلاة واحدة، هي أعظم الصلوات وهي أفضل الصلوات، قال: ﴿وَالصَّلاةِ الوُسْطَى﴾، والوسطى يعني الفضلى فهي أفضل الصلوات.
ما هي الصلاة الوسطى؟
من أهل العلم من قال: إنها صلاة العصر، ومنهم من قال: إنها صلاة الفجر، وهناك أقوال أخرى، والصحيح أنها صلاة العصر، وقد جاء في هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته، فكما قال -عليه الصلاة والسلام-: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملى الله بيوتهم وقبورهم نار»، يعني بذلك الكفار في غزوة الخندق، فهذا نصح صريحٌ وصحيحٌ في البخاري ومسلم، وهذا يدل على أن المقصود بالصلاة الوسطى هي صلاة العصر، فهي أفضل الصلوات الخمس وأعظمهن أجر، وهي أكد الصلوات في المحافظة عليها، ولهذا قال: ﴿وَالصَّلاةِ الوُسْطَى﴾.
ثم قال سبحانه: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾، قوموا لله أمر الله تعالى بالقيام في الصلاة والمقصود يعني بذلك القيام على قدميه، وأيضًا القيام المكث والاستمرار، ﴿لِلَّهِ﴾ يعني مخلصين لله، ﴿قَانِتِينَ﴾ من المراد بالقنوت؟ القنوت له عدة معاني حتى أن الشوكاني ذكر أن للقنوت ثلاث عشر معنًى، من المعاني التي يطلق عليها القنوت: دوام العبادة والطاعة، ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ﴾ [التحريم: 12]، ويطلق القنوت أيضًا على السكوت والخشوع، وهذا هو الأقرب في معنى الآية بدليل سبب النزول.
فقد جاء في الصحيحين عن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: " كَانَ الرَّجُلُ يُكَلِّمُ صَاحِبَهُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، فِي الْحَاجَةِ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ قال: " فَأُمِرْنا بِالسُّكُوتِ ونهينا عن الكلام"، فسبب النزول يُبَيِّنُ لنا المعنى، فمعنى ﴿قَانِتِينَ﴾ يعني ساكتين، خاشعين لله -عز وجل-، وبعد نزول الآية أصبح الصحابة لا يتكلمون في الصلاة، قبل ذلك كانوا يتكلمون في الصلاة، كان الرجل يكلم الآخر في حاجته، لما نزلت الآية أمروا بالسكوت، ونهوا عن الكلام في الصلاة وأصبح الكلام في الصلاة بعد نزول هذه الآية محرم، بل إنه من مبطلات الصلاة أنه يتكلم الإنسان والصلاة عمداً، هذا من مبطلات الصلاة.
فإذاً سبب هذه الآية يفسر المراد بقوله: ﴿قَانِتِينَ﴾ يعني ساكتين خاشعين لله -عز وجل-.
ثم قال سبحانه: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ لما أمر بالمحافظة ثم أمر بالقيام ذكر رخصة فيما إذا كان خوف، قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ يعني خفتم حصول مكروه بالمحافظة على هذه الصلوات أو على بعض أركانها أو شروطها، بأن أخافكم عدو أو حريق أو غيره مما يخاف منه الإنسان، ﴿فَرِجَال﴾ رجالاً يعني على الأرجل، جمع رجل والرجل الذي يمشي على رجليه، يعني صلوا على أرجلكم راجلين، ﴿أَوْ رُكْبَان﴾ يعني راكبين، يعني صلوا رجالاً أو ركباناً، صلوا على أرجلكم أو راكبين، ﴿فَإِذَا أَمِنتُمْ﴾ يعني زال الخوف ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ يعني أقيموا الصلاة، وسماه الله تعالى ذكراً، سماه الله تعالى الصلاة ذكراً لأنها ذكر ومشتملة على الذكر، ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت: 45].
﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ الكاف هنا هل هي للتعليل أو للتشبيه؟ على الأول يعني: اذكروا الله -عز وجل- لتعليمه إياكم ما لم تكونوا تعلمون، يكون هذا هو المعنى وعلى القول بأن الكاف للتشبيه يكون المعنى اذكر الله على الصفة التي بينها لكم، وهي أن تكون الصلاة صلاة أمن لا صلاة خوف، وكلا المعنيين صحيح.
ننتقل بعد ذلك لأبرز الفوائد والأحكام:
أولاً: وجوب المحافظة على الصلاة لقوله: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾، فيجب على المسلم أن يحافظ على الصلوات الخمس المفروضة وأن يحافظ على إقامتها بجميع شروطها وأركانها وواجباتها، وأكد شروطها شرط الوقت، فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، وتأخير الصلاة عن وقتها عمداً من غير عذر معدود عند أهل العلم من الكبائر، والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوت﴾ [النساء: 103]، ولذلك إذا عرض للإنسان عارض وأشكل عليه هل يجمع أو لا يجمع؟ فيرجع للأصل، وهو أن الأصل أن الصلاة تصلى في وقتها فلا يجمع، كأن يكون مثلاً مسافر وأقام في مكان واختلفت فتيا العلماء هل يقصر أو لا يقصر في مثل هذه الحالة؟ فهنا يأخذ بالأصل، يعني هل يقصر وهل يجمع أو لا؟ هنا يأخذ بالأصل والأصل في الإنسان الإقامة فلا يقصر ولا يجمع، أو مثلاً نزل مطر ثم اختلف الناس هل هذا المطر مصحوب بمشقة غير معتادة أو ليس مصحوب بمشقة معتادة؟ هل هو مصحوب بمشقة غير معتادة أو أنه ليس كذلك؟ فهنا يرجع للأصل، وهو أن الأصل أن الصلاة تصلى في وقتها وهذا من الأمور المحكمة، وكون الإنسان يقدم صلاة العشاء إلى وقت المغرب أو يقدم صلاة العصر إلى وقت الظهر أو يؤخر هذا لا بدَّ فيه من أمر واضح بيَّن ينقلنا عن هذا الأصل.
فالأصل إذاً أن الصلاة تصلى في وقتها، فهذا مما يقتضيه الأمر بالمحافظة على الصلوات، فلا يجمع الإنسان بين الصلاتين إلا بأمر واضح، لأن بعض الناس يتساهل في قضية الجمع، يتساهل في الجمع وربما إذا تساهل في القصر لا يقصر ولا يجمع إلا بأمر واضح يقتضي القصر أو الجمع.
أيضًا من الفوائد: فضيلة صلاة العصر، لأن الله تعالى خصها بالذكر وقال: ﴿وَالصَّلاةِ الوُسْطَى﴾، وهذا من باب التأكيد على أهميتها والعناية بها، وقلنا أن الصلاة هي صلاة العصر بدلالة السنة، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: « شغلونا عن الصلاة وصلاة العصر »، وصلاة العصر هي أفضل الصلوات الخمس ويليها في الفضل صلاة الفجر، وهي قرآن الفجر، فإن الله قال: ﴿وَقُرْآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُود﴾[الإسراء: 78]، وقرآن الفجر يعني صلاة الفجر، ومشهودة يعني تشهدها الملائكة، والملائكة تشهد هاتين الصلاتين، صلاة الفجر وصلاة العصر.
وذلك أن الملائكة الموكلة بالإنسان، على كل إنسان وكل الله به ثمانية من الملائكة، كما قال سبحانه: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 11]، وقال: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ﴾ [الانفطار: 10-11].
ذكر ابن كثير وغيره أن تفسير هذه الآية: أن عدد الملائكة الموكلين بالإنسان ثمانية، أربعة في الصباح وأربعة في المساء، يتعاقبون في صلاة الفجر وصلاة العصر، اثنان كاتبان واثنان كاتبان، أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال ﴿إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَانِ عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[ق: 17- 18]، فاثنان كتبة يكتبان كل شيء، أحدهم عن اليمين يكتب الحسنات والآخر عن الشمال يكتب السيئات، واثنان حفظة يحفظان الإنسان بأمر الله، ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾[الرعد: 11] يعني بأمر الله، لكن يحفظان الإنسان حتى إذا جاء القدر خلي بينه وبينهم، فعندئذٍ كل إنسان موكل به ملائكة يحفظونه، اثنان يحفظونه واثنان يكتبان أعماله، وهذا من صلاة الفجر إلى صلاة العصر أربعة، ثم يجتمعون في صلاة العصر وهؤلاء الموجودين الذين كانوا من الصبح إلى العصر يصعدون إلى السماء، والذين كانوا في السماء ونزلوا هم الذين يتعاقبون، فيتناوبون عليه من العصر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني، فيجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، هم ثمانية أربعة وأربعة، اثنان حافظان واثنان كاتبان من صلاة الفجر للعصر، ثم أربعة آخرون أيضًا من صلاة العصر إلى صلاة الفجر، اثنان كاتبان واثنان حافظان.
فانظر إلى عناية الله -عز وجل- بابن آدم، هذا المخلوق الصغير جدًّا في ملكوت الله سبحانه، انظر إلى عناية الرب -جل جلاله- بهذا المخلوق، ثمانية من الملائكة في أربعة وعشرين ساعة، ثمانية من الملائكة على هذا الإنسان، اثنان حافظان واثنان كاتبان، ثم يتعاقبون معهم أربعة آخرون، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ باللَّيْلِ ومَلَائِكَةٌ بالنَّهَارِ، ويَجْتَمِعُونَ في صَلَاةِ الفَجْرِ وصَلَاةِ العَصْرِ، فَيَسْأَلُهُمْ وهو أعْلَمُ بهِمْ: كيفَ ترَكْتُم عبادي؟ فيقولونَ: ترَكْناهم وهم يُصَلُّونَ وأتَيْناهم وهم يُصَلُّونَ».
وأيضًا مما يدل على خصوصية هاتين الصلاتين، قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صلَّى الْبَرْديْنِ دَخَلَ الْجنَّةَ» والبردان هم الفجر والعصر، متفق عليه هذا الحديث في الصحيحين.
فهاتان الصلاة: الفجر والعصر آكد الصلوات الخمس لكن العصر أفضل لأنها هي الصلاة الوسطى، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه»، وهذا أيضًا في الصحيحين، وقال: «الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ العَصْرِ، كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ».
أيضًا من الفوائد: وجوب القيام في الصلاة لقول الله تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ﴾، والقيام في صلاة الفريضة ركن من أركان الصلاة، ولا يجوز للإنسان أن يصلي قاعداً إلا إذا عجز عن القيام أو كان القيام يشق عليه مشقة شديدة، والضابط في هذه المشقة الشديدة هي أن يفوت بسببه الخشوع في الصلاة، يعني يكون قادر على القيام لكن بمشقة بحيث يكون مشغولاً بنفسه، ينتظر بفارغ الصبر متى يركع الإمام، هنا يجوز له أن يصلي جالسًا، لكن إذا كانت المشقة محتملة ولا تعيقه عن الخشوع في الصلاة، هنا يلزمه أن يصلي قائماً، يلاحظ على بعض الناس أنهم يتساهلون في الإتيان بهذا الركن، بعض العامة وبعض كبار السن تجد أنه يصلي جالساً وهو قادر على أن يصلي قائماً، ولذلك نجد الآن خاصة في السنوات الأخيرة كثرت الكراسي في المساجد، ما كان هذا المظهر موجوداً في سنوات سابقة، لكن الأمر فيه تساهل، ومما يدل على التساهل أن بعض هؤلاء الذين يصلون قاعدين في الصلاة، تجد أنهم يزاولون أمور دنياهم بنشاط كبير، وأيضًا بعض النساء تصلي وهي جالسة وإذا أتت إلى عرس قامت ترقص وهي قائمة مدة طويلة، طيب يا فلانة أنت تصلين وأنت جالسة، فالإنسان ينبغي أن يكون صادقاً مع نفسه، لا يُصلي جالساً خاصة في الفريضة، النافلة والقيام ليس ركناً، القيام مستحبٌ في صلاة النافلة، لكن في صلاة الفريضة يتأكد القيام وهو ركن من أركان الصلاة، إلا إذا عجز الإنسان أو كان القيام يشق عليه مشقة شديدة.
أيضًا من الفوائد: أنَّ الأمر بالقنوت لله -عز وجل- وهو خشوع القلب الذي يظهر منه سكون الجوارح لقوله: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾.
أيضًا من الفوائد: تحريم الكلام في الصلاة؛ لأن الصلاة كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية، فنهوا عن الصلاة وأمروا بالسكوت، والكلام في الصلاة عمداً يبطلها، وهو من مبطلات الصلاة، فلا يجوز للإنسان أن يتكلم في الصلاة متعمداً.
أيضًا أن الخائف لا يجب عليه القيام في الصلاة، لقول الله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَان﴾، قال: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ ثم قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَان﴾، فالخائف قد تسقط عنه بعض الأركان وبعض الشروط لخوفه، مثل مثلاً أن يصلي خلف جدار جالساً ولو قام لنال منه عدوه، فيجوز له أن يصلي جالساً.
وأيضًا من الفوائد: جواز الحركة الكثيرة في الصلاة للضرورة، لقول الله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَال﴾، ورجالًا جمع رجل، والرجل هو الذي يتحرك حركة كثيرة بسبب الخوف.
وأيضًا من الفوائد: جواز الصلاة على الراحلة لقوله: ﴿أَوْ رُكْبَان﴾ في حال الخوف، في حال الخوف يجوز الصلاة على الراحلة، ومثل الراحلة في وقتنا الحاضر السيارة والطائرة ونحو ذلك، وكذلك أيضًا في صلاة النافلة في السفر، فإن في حال الخوف مطلقًا وفي صلاة النافلة في السفر، لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي صلاة النافلة في السفر على بعيره، وفي وقتنا الحاضر نقول: يجوز للإنسان أن يُصلي صلاة النافلة على السيارة وعلى الطائرة وعلى القطار وعلى السفينة، ولا يلزم استقبال القبلة إلا حيث توجهت به ويومأ بالركوع والسجود ويجعل السجود أخفض من الركوع، والإنسان في السفر قد يتهيأ له وقت متسع وقت كثير ينبغي أن لا يضيع عليه هذا الوقت من غير ذكر الله -عز وجل-، يشغل بما يفيد ومن ذلك أنه يتطوع في غير أوقات النهي يصلي مثنى مثنى، ركعتين ركعتين ولو إلى غير القبلة.
يعني مثلاً رجل مسافر من الرياض إلى مكة، يعني تقريبًا إذا كان يسير بسرعة مائة وعشرين أو مائة وثلاثين كم ساعة؟ يعني تقريبًا سبع ساعات مثلاً، سبع ساعات هذه طويلة وهو اغتنم فقط ساعة واحدة منها في الصلاة، كم سيصلي من ركعة؟ مثنى مثنى يصلي ولو إلى غير القبلة، يعني ما يلزم استقبال القبلة ويومأ بالركوع والسجود ويجعل السجود أخفض من الركوع، هذه الساعة كم سيصلي فيها من ركعة؟ والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «إنَّكَ لا تَسْجُدُ لله سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ الله بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً»، فمن جهات الخير كثيرة لكن المسألة مسألة توفيق من الله -عز وجل-.
أيضًا من الفوائد: أن الصلاة من الذكر لقول الله تعالى: ﴿فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ يعني فصلوا، فسماه الله تعالى ذكراً لأن الصلاة مشتملة على الذكر.
أيضًا من الفوائد: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ أن الأصل في الصلاة أنها لذكر الله سبحانه، ولهذا قال: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾[طه: 14]، ولذلك لا بدَّ أن يستشعر المسلم هذا المعنى حتى يخشع في صلاته، وحتى يشعر بأن صلاته هذه كانت سببًا في زيادة إيمانه وخشوعه وطمأنينته، تكون حاله بعد الصلاة خيرًا من حاله قبل الصلاة، هذه علامة الخشوع، علامة الخشوع في الصلاة أن تكون حالة الإنسان بعد الصلاة خيرًا من حاله قبل الصلاة، وهذه هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
بهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن هاتين الآيتين.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه»، ما المقصود بحبوط العمل هنا جميع العمل أم عمل ذلك اليوم؟}
هذه من نصوص الوعيد التي تجرى على ظاهرها، وهي وعيد في ترك صلاة العصر وحبوط العمل عموماً ليس فقط صلاة العصر، وإنما كل ما ورد في حبوط العمل، لا يكون إلا إذا مات الإنسان على ذلك، لقول الله تعالى: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾[البقرة: 217]، شرط الله تعالى لذلك أن يموت على هذه الردة، فأولئك حبطت أعمالهم، حبوط العمل إنما يكون إذا مات الإنسان على ذلك، لكن إذا تاب قبل أن يموت لا يحبط عمله، ومن تاب، تاب الله عليه، ولكن لو أنه ترك صلاة العصر طيلة عمره حتى مات، فهذا إذا ترك العصر سيترك غيرها، إذا ترك الصلاة هذا من أسباب حبوط العمل -نسأل الله العافية.
{ما سر تفضيل صلاة العصر على غيرها من الصلوات؟}
الله أعلم نحن لا ندري لله تعالى الحكمة في هذا، بعضهم يقول: إن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى بين صلاة الخمس، يسبقها صلاة الفجر والظهر وبعدها المغرب والعشاء، لكن لماذا فضل الله صلاة العصر على غيرها الله تعالى أعلم، لله تعالى الحكمة في هذا.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 240- 241].
{تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآية}.
ننتقل بعد ذلك لقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، ثم قال سبحانه: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ﴾.
يعني هاتان الآيتين هما آخر آيات الطلاق والعدد في سورة "البقرة" بدأنا في هذه الدروس بتفسير آيات الأحكام المتعلقة بالطلاق وبالعدد، وهذه هي آخر الآيات المتعلقة بالطلاق والعدد في سورة "البقرة"، نختم بها -إن شاء الله- هذا الموضوع، ثم ننتقل في حلقة قادمة إلى الآيات المتعلقة بالربا ومسائله وأحكامه.
يقول الله -عز وجل-: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ بعض أهل العلم يقول: إن هذه الآية منسوخة، وأن الآية التي نسخت هي الآية التي مرت معنا، ومر معنا كلام عن أحكامها وهي قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْر﴾[البقرة: 234]، فقالوا: إن عدة المتوفى عنها زوجها كانت سنة كاملة لقول الله تعالى في هذه الآية: ﴿مَّتَاعاً إِلَى الحَوْلِ﴾، ثم نسخ ذلك بقول الله تعالى: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْر﴾.
فتكون هذه الآية على هذا القول من أنواع النسخ، نسخ الحكم دون التلاوة، لأن النسخ على أنواع: نسخ الحكم والتلاوة، نسخ التلاوة دون الحكم، نسخ الحكم دون التلاوة، نسخ الحكم دون التلاوة هذا مثاله عند القائلين به، ونسخ التلاوة دون الحكم مثاله آية الرجم، كان في القرآن آية الرجم ثم نسخ وبقي حكمها، كما قال عمر: "فتلوناها وحفظناها ورجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجمنا بعده"، وأما ما قيل بأنه الشيخ والشيخة إذا زنيا فأرجمهما فهذا لا يصح، الحديث أصلاً ضعيف حتى في المتن نكارة، كيف يكون الزنا من الشيخ والشيخة، الزنا يكون من الشباب أكثر من الشيخ والشيخة، فيه نكارة سنداً ومتناً، لكن الآية الله أعلم بها نسخ تلاوتها وبقي حكمها هي آية الرحم، فهذا نسخ التلاوة دون الحكم.
هناك آيات نسخ تلاوتها وحكمها مثل آيات الرضاعة، تحريم الرضاعة بعشر رضعات، نسخ الحكم والتلاوة لله تعالى الحكم والحكمة -جل وعلا- الله -سبحانه وتعالى- يقول: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَ﴾ [البقرة: 106]، فالجمهور يقولون: إن هذه الآية الرحيم ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ أنها منسوخة بقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْر﴾.
وقال بعض أهل العلم: أن هذه الآية غير منسوخة، قالوا: لأن قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْر﴾ هذه عدة المتوفى عنها زوجها، أما هذه الآية ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ هذه لم يذكرها فيها عدة المتوفى عنها زوجها، إذا تأملنا الآية ما فيه ذكر للمتوفى عنها زوجها أن هذه عدتها، الله تعالى قال: -: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ فأين الدليل على أن هذه هي عدة المتوفى عنها زوجها؟
ولهذا قال ابن عباس، قال: هذه الآية لا تدل على وجوب الاعتداد سنة، وإنما نزلت من باب الوصاة بالزوجات بأن يمكن من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاته حولاً كاملاً بوصية أزواجهم إذا اختاروا ذلك، ولهذا قالوا: ﴿وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾.
وعلى هذا تكون هذه الآية غير منسوخة، ويكون معناها -: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم﴾ يعني أزواج يوصون بأن أزواجهن يبقينا في سكن البيت سنة كاملة، ﴿مَّتَاعاً إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ ما يخرجن من البيت، فيجب تنفيذ وصية الأزواج لكن إذا الزوجات بعد أربعة أشهر وعشرة اختارن الخروج فلا بأس، ولهذا قال: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ﴾، وهذا المعنى الأخير وهو الأقرب -والله أعلم- أن هذه الآية أنها غير منسوخة، وهذا اختار هذا القول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره، وأن هذه الآية غير منسوخة، والأصل عدم النسخ، فتكون هذه الآية يعني في أن الله تعالى أوصى الأزواج إذا رأى أن الأزواج في حاجة إلى البقاء في بيوتهم بأن يوصوا بأن تبقى الزوجة في بيت زوجها سنة كاملة ولا تخرج حتى لو انقضت عدة الوفاة، فإذا انقضت عدة الوفاة الزوج بالخيار، إن خرجت لا جناح عليكم اتركوها، فيكون هذا معنى الآية، هذا هو القول الراجح الذي رجحه ابن كثير، على ذلك لا تكون هذه الآية منسوخة، تكون محكمة.
قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم﴾ يعني أزواجهم أوصوا بوصية ﴿مَّتَاعاً إِلَى الحَوْلِ﴾ يعني يمتعنهن متاعاً إلى الحول ويبقون في بيوتهم ﴿غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ يعني غير إخراج من أحد من الورثة، لا يجوز لأحد من الورثة أن يخرج هذه الزوجة التي أوصى زوجها بأن تبقى في بيته بعد وفاته سنة كاملة، لا يجوز لأحد من الورثة أن يخرجها من البيت، يكون هذا هو معنى الآية.
﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾ يعني خرجت الزوجة من البيت بطيبة نفسها وباختيارها بعد انقضاء عدتها أربعة أشهر وعشرا، ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ لا إثم عليكم ﴿فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ﴾ بشرط أن يكون خروجها هذا بالمعروف، ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
ثم قال سبحانه: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ﴾ الألف واللام هنا من ألفاظ العموم، يعني لأي مطلقة فيشمل جميع المطلقات بلا استثناء ﴿مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي أنها تمتع بمتعة كما تكلمنا عن ذلك في الحلقة السابقة، قال ابن عباس: جعل لها خادم، لكن الصحيح أنه يعطيها مالاً من غير تحديد بقدر معين، لكن الغني يعطيها أكثر من الفقير ﴿على الموسع قدره وعلى المقتر قدره﴾.
﴿مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يعني يكون هذا المتاع بالمعروف لا يجحف بحق الزوج المطلق ولا يكون زهيدًا، ﴿حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ﴾ يعني أنه متأكد إمتاع المطلقة على المتقين، وسبق أن ذكرنا في الدرس السابق أن القول الراجح أن المتعة إنما تجب لأي واحدة من المطلقات يا شيخ محمد؟
{لمن عقد عليها ولم يدخل بها}.
وأيضًا فيه وصف آخر، عقد عليها ولم يدخل بها ولم يسمى لها مهر، إذًا عقد عليها ولم يدخل بها ولم يسمى لها المهر، هذه يجب أن تعطى المتعة، من عداها يستحب ولا يجب، تكلمنا عن هذا بالتفصيل في الدرس السابق.
ننتقل بعد ذلك لأبرز الفوائد والأحكام:
أولاً: من الفوائد أن الزوجة تبقى زوجيتها بعد موت زوجها، لقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاج﴾ وهذا فيه رد على من قال: إن الزوجة لا تبقى زوجة بعد وفاة زوجها، وهذا قول مرجوح والصواب أن الزوجية تبقى، ولذلك يجوز للمرأة أن تغسل زوجها ونقل الإجماع على ذلك، فلو كانت أحكام الزوجية منقطعة ما جاز لها أن تغسل زوجها.
أيضًا من الفوائد: أنه يشرع للزوج إذا رأى أن زوجته محتاجة للسكنى في بيته يشرع له أن يوصي بأن تبقى زوجته مدة حول كامل في بيته، تسكن بيته وينفق عليها لقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾، وهذا بناءً على القول الراجح وهو أن هذه الآية محكمة غير منسوخة.
أيضًا من الفوائد: رحمة الله تعالى بعباده حيث أوصى الأزواج أن يوصوا لأزواجهم إذا كن في حاجة لهذا الإمتاع، وأن تبقى الزوجة في بيت الزوج حولاً كاملاً ينفق عليها لقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾.
أيضًا من الفوائد: أن المرأة يحل لها إذا أوصى زوجها أن تبقى في البيت، أن تخرج ولا تنفذ وصيته بعد انقضاء العدة، لقوله: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ لأن هذا الشيء متعلق بها وليس لزوجها فيه مصلحة إنما أراد الزوج الإحسان إليها، فإذا أرادت هي بطيبة من نفسها أن تخرج فلا جناح عليها إذا كان هذا الخروج بالمعروف لقوله: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ﴾.
ويتفرع عن هذا أنه لو أوصى الزوج الزوجة أن لا تتزوج بعده، فإن هذا لا يلزمها، وهذا يحصل أن بعض الناس يقول لزوجته يوصي زوجته يقولها لها لا تتزوجين بعدي، هذا يلزمها ذلك، لأنه إذا كان لا يلزمها أن تبقى في البيت في مدة الحول فإن لا يلزمها أن تبقى غير متزوجة من باب أولى، وكذلك أيضًا يؤخذ من هذا أن كل من أوصى من غيره بأمر متعلق بالشخص الموصى له، فإن الحق له في تنفيذ الوصية أو في عدم تنفيذها.
ومن فوائد هذه الآية: مسئولية الرجال عن النساء فيما يكون فيه المسئولة كالزوج مع زوجته، والأب مع بناته ومع من ولاه الله تعالى المسئولية لقوله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ والخطاب للرجال.
ومن الفوائد: أن المرأة إذا خرجت عن المعروف وخرجت من بيتها وهي خرجت عن المعروف، يلحق الرجال الإثم، لقوله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ﴾، يفهم من هذا أنه إذا لم يكن هذا الخروج بمعروف فيلحقهم الإثم، فالإنسان مسئول عن من ولاه الله تعالى عليه، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
ومن الفوائد: أن المرأة لا يجوز لها أن تخرج عن المعروف في جميع أحوالها لقوله: ﴿مِن مَّعْرُوفٍ﴾، والمعروف هو ما أقره الشرع والعرف جميعًا، فلو خرجت في لباسها أو في مشيتها أو في صوتها عن المعروف فإنه يلحقها الجناح والحرج.
ومن الفوائد: إثبات اسمين من أسماء الله -عز وجل- العزيز الحكيم، لقوله: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
ومن فوائد الآية الأخرى: مشروعية المتعة لكل مطلقة، وبينا فيما سبق أنها تجب للمطلقة التي عُقد عليها ولم يدخل بها ولم يسمى لها المهر، فالمتعة لها واجبة، وأما من عداها من المطلقات فالمتعة لها مستحبة استحبابا مؤكداً، لقول الله تعالى: ﴿حَقاًّ عَلَى المُحْسِنِينَ﴾ وفي هذه الآية ﴿حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ﴾.
أيضًا من الفوائد: أنه ينبغي ذكر الأوصاف التي تحمل الإنسان على امتثال الأمر، فإن الله تعالى لما ذكر هذا المتعة قال: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قال: ﴿حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ﴾ وهذا من باب الترغيب في امتثال هذا الأمر.
ومن الفوائد: اعتبار العرف فإن الله تعالى قال: ﴿مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾، وعند العلماء قاعدة من القواعد الكبرى الكلية الخمس وهي العادة محكمة.
ومن الفوائد: أن الله تعالى ختم الآية بقوله: ﴿عَلَى المُتَّقِينَ﴾ هذا يشير إلى أن التقوى تحمل صاحبها على طاعة الله -عز وجل- بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
ثم ختم الله تعالى هذه الآية بقوله: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[البقرة: 242].
فبين الله تعالى أن هذه الأحكام التفصيلية الدقيقة ووضحها وبينها، قال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ وفي هذا ثناء على العقل، المقصود به عقل الرشد السالم من الشبهات والشهوات، فصاحب هذا العقل هو الذي يمدح ويثنى عليه وهو الذي سماه الله -عز وجل- أولي الألباب، سمى الله أصحاب هذه العقول بأولي الألباب، فأتقوني يا أولي الألباب، هؤلاء هم أصحاب العقول السليمة الراشدة.
فهنا ختم الله تعالى هذه الآيات بقوله: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن تفسير آيات الأحكام المتعلقة بالطلاق والعِدد، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، إن أمكن في بقية الوقت، بعض العلماء ذكر حكمة لمجيء آية ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ بين آيات الطلاق، فقال: إن هذا من أسباب الاستقرار في البيوت، المحافظة على الصلوات من أسباب الاستقرار في البيوت، كون الله -عز وجل- ذكر هذه الآية وسط آيات الطلاق.}
نعم هذا ذكرها بعضها لكن يظهر أن هذا فيه تكلفًا، فيه تكلف، يعني نجد من هو محافظ على الصلوات وليس عنده استقرار أسري، هذا واقع في المجتمع، فيعني لا يلزم من أن يكون الإنسان، يعني لا يربط الصلاح بالاستقرار الأسري، قد يبتلى الإنسان الصالح بامرأة لا تكون مناسبة له، فيحصل الطلاق، ولذلك ذكر الله تعالى أحكام الطلاق، فليس معنى ذلك أن من طلق امرأة أنه غير صالح وأنه عنده مشكلة، قد لا يكون هناك توافق، والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها تلف، وما تنافر منها اختلف، فهذا فيه شيء من التكلف، لكن يعني الأمر بالتقوى -بتقوى الله عز وجل- في جميع الأحوال، يعني سواءً كان أثناء استقامة الحياة الزوجية أو حتى بعد الطلاق ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، لكن الله تعالى أعلم، يعني لماذا دخلت هذه الآية بين هذه الآيات ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى﴾ يعني قبلها متعلق بأحكام الطلاق والإمتاع وبعدها أيضًا متعلقة بهذه الأحكام، ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ﴾. الله تعالى أعلم، لله تعالى الحكمة في هذا.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، ونفع بعلمكم}.
وشكرًا لكم ولإخوتي المشاهدين.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك