الدرس الثامن

فضيلة الشيخ د. سعد بن تركي الخثلان

إحصائية السلسلة

2367 11
الدرس الثامن

تفسير آيات الأحكام (2)

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم على مائدة كتاب الله -عز وجل- في تفسير آيات الأحكام مع فضيلة شيخنا، الشيخ الأستاذ الدكتور/ سعد بن ترك الخثلان، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام، باسمي وباسمكم أرحب بفضيلة الشيخ}.
أهلًا حيَّاكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{شيخنا الفاضل كنا قد وقفنا تفسير آيات الأحكام عند آيات الربا من سورة "البقرة" فنستأذنكم في سماع تلاوة لآيتين من آيات الربا، ثم نعود بإذن الله للشرح والتعليق.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ [البقرة: 275- 276]
تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآيات.

الحمد لله رب العالمين، وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد.
فكنا قد انتهينا من الكلام عن تفسير آيات الأحكام المتعلقة بمسائل الطلاق والعدد وما يتعلق بذلك، وننتقل بعد ذلك للكلام عن المسائل والأحكام والفوائد واللطائف المتعلقة بآيات الربا في سورة "البقرة" والتي ابتدأها ربنا -عز وجل- بقوله: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
ذكر الله تعالى آيات الربا بعد آيات الصدقات والحث عليها، فلما ذكر الله تعالى الأبرار المؤدين للنفقات والصدقات، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل؛ لأن الربا يضاد الصدقة، الصدقة أن يبذل الإنسان ماله للمحتاجين، والربا أن يأخذ الأموال من المحتاجين ويظلمهم، فالربا مضاد للصدقات، ولذلك نجد أن آيات الربا وقعت بعد الحث على الصدقات، والحث على البذل والإنفاق في سبيل الله -عز وجل.
ابتدأ الله -عز وجل- هذه الآية بقوله: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَ﴾، ﴿يَأْكُلُونَ﴾ عبر بالأكل ولكن المقصود عموم الانتفاع بالربا، يعني: يأخذون الربا، يأكلون الربا يعني يأخذون الربا، سواءٌ جعلوه في الأكل أو في الشرب أو في اللبس أو في السكن أو في غير ذلك، ولكن عُبر بالأكل؛ لأن الأكل هو أعم وجوه الانتفاع وأكثرها إلحاحاً، كما قال الله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ﴾[المائدة: 3]، فذكر الله تعالى لحم الخنزير مع أنه يحرم جميع أجزاء الخنزير بالإجماع، شحمه ودمه وجميع أجزائه محرمة، لكن هنا التعبير باللحم؛ لأنه هو غالب ما ينتفع من الخنزير باللحم، هكذا أيضًا هنا يعني غالب وجوه الانتفاع بالربا في الأكل.
﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَ﴾ الرِّبا معناه في اللغة الزيادة، ومنه قول الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ [فصلت: 39]، يعني: علت وارتفعت، ومعناه في الشرع: زيادة في أشياء مخصوصة، يعني: هذا هو الأصل أنه زيادة، وقد يكون الربا ليس زيادة، قد يكون نسيئة، ولذلك العلماء يقسمون الرِّبا لأقسام، ربا الفضل وربا النسيئة وربا الدِّيون.
وأكل الربا من السبع الموبقات، وقد جاءت جميع الشرائع السماوية بتحريمه، وهو محرم على جميع الناس، محرم عند اليهود، ومحرم عند النصارى، ومحرم في جميع الشرائع السماوية، ولذلك أنكر الله -عز وجل- على اليهود أنهم يأخذون الربا، ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ [النساء: 161].
فالربا محرم في جميع الشرائع السماوية، وذلك لأثره الاقتصادي السيئ والمدمر على الأفراد وعلى المجتمعات، فالربا فيه ظلم للفقير والمسكين والمحتاج، فإن هذا الدائن يريد أن يُوسِّعَ ثروته على حساب المدين، فمن أشهر أقسام الربا ربا الديون، كانوا في الجاهلية إذا أحلَّ الدين أتى الدائن للمدين وقال له: إمَّا أن تقضي الدين وإمَّا أن تُربي، يعني: إذا حلَّ الدين أتى عند حلول الدين، يقول: تسدد أو نؤخر السداد لكن تزيد في الدين، هذا هو ربا الجاهلية، وأنزل الله تعالى في ذلك قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً﴾ [آل عمران: 130]، فيزداد الغني غنىً ويزداد الفقير فقرًا، وتتسع الهوة بينهما، وتتلاشى الطبقة الوسطى، فيصبح المجتمع طبقتين، طبقة غنية تزداد غنىً وطبقة فقيرة تزداد فقراً، وهذا فيه ظلم لهذه الطبقة الفقيرة الكادحة، فهؤلاء الأغنياء يمتصون ثرواتهم وأموالهم بغير حق، أي: بظلم.
ثم أيضًا الربا له الأثر السيئ المدمر على الاقتصاد، ولذلك أدرك بعض الخبراء من الاقتصاديين، قالوا: إذا أردنا اقتصادًا مَتينًا -وهم غير مسلمين-، ما ينظرون إلى مسألة الربا حلال أو حرام لكنهم يتكلمون عنها من ناحية اقتصادية بحتة، يقولون: إذا أردنا نظامًا اقتصاديًا متينًا لا يمكن هذا إلا إذا جعلت الفائدة الربوية صفر.
الربا أيضًا يشجع على البطالة والكسل؛ لأنَّ هذا الذي عنده مالٌ بدل ما يكدح ويضع مشاريع تفيد المجتمع يجعله في البنك -البنك الربوي- وتأتيه فوائد، هذا يُشجع على البطالة والكسل، أيضًا يعطل من عجلة الإنتاج والنفع المجتمعي.
كذلك الرِّبا يتسبب في غلاء الأسعار، لماذا؟ لأن هذا الذي يريد أن يُنشئ مصنعًا أو هو مزارع أو يريد أن يفيد المجتمع بأي وجه من وجوه الانتفاع، لماذا يتعب نفسه إذا كان سيأخذ ربحًا مثل ربح المرابي، فيقول: لماذا أتعب نفسي، أنا أخذ فائدة ربوية مضمونة، فيضطر إلى رفع الربح، يعني: الفائدة الربوية لو افترضنا مثلاً 1% يضطر أنه يأخذ الربح 2% حتى ما يتساوى مع المرابي، وإلا أجعل مالي في البنك وأخذ عليه فوائد ربوية ولا أحتاج إلى أن أنشئ مصنعًا أو أن أضع مزرعة أو نحو ذلك، فهو يرفع الربح حتى تكون فوق مستوى الفائدة الربوية، فيتسبب ذلك في غلاء الأسعار.
الربا لو تأملناه فيه مفاسد كثيرة جدًّا، وربما هناك حِكَمٌ تخفى علينا، الله تعالى أحكم الحاكمين، ولذلك نجد أنَّ الشريعة الإسلامية شددت في الرِّبا، شددت فيه تشديدًا عظيماً، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لعن أكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده، ليس فقط من يأخذ الربا ومن يدفع الربا، بل حتى من يشهد الربا، من يكتب الربا، كل من أعان على الربا بأية صورة من صور الإعانة فهو ملعون.
وأيضًا -كما سيأتينا- لعله ربما في الحلقة القادمة: أن الله تعالى آذن آكل الربا بالحرب، وعندما تكون حرب من الله، أنت أيها الإنسان ماذا تكون في هذا الكون؟ ذرة أو أقل من ذرة في هذا الكون الفسيح تحارب الله -عز وجل-، تفتح جبهة حرب مع من؟ مع الجبار، مع خالق كل شيء، تفتح جبهة حرب معه بسبب أكلك الربا، إذا فتحت جبهة حرب معنى ذلك توقع المصيبة تأتيك من أي طريق، تأتيك من حيث ما تدري أو من حيث ما تحتسب، تأتيك مصائب، مصائب في بدنك، مصائب في أهلك، مصائب في حريتك، مصائب في كل شيء، لماذا؟ لأنك فتحت جبهة حرب مع الله، تحارب من؟ تحارب رب العالمين، ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾[البقرة: 279]، أنت الآن فتحت جبهة حرب مع الرب -جل جلاله-، فتوقع أن تأتيك المصائب بأي صفة وبأي طريقة ومن أي جهة.
فالشريعة الإسلامية شددت في الربا، حتى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- منع من الذرائع الموصلة للربا ولو من وجه بعيد، لما سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الرطب بالتمر، يعني: بيع مثلاً كيلو رطب وكيلو تمر مع التقابض، هذه تجوز أو ما تجوز؟ كيلو رطب مع كيلو تمر مع التقابض، تقابض وأيضًا كيلو وكيلو، طرح هذا السؤال على النبي -عليه الصلاة والسلام-، بيع الرطب بالتمر، ماذا قال؟ قال: «أينقصُ الرُّطَبُ إذا يبِسَ؟» قالوا: نعَم، قال: «فلا إذَن»، الحديث في الصحيح أخرجه أصحاب السنن بسند صحيح.
يعني: كيلو رطب وكيلو تمر مع التقابض لا يجوز، لماذا؟ لأن هذا الرطب سينقص إذا يبس، فمنع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الربا ولو من وجه بعيد، وهذا يدل على خطورة المسألة،
فالربا أمرٌ عظيمٌ وشديدٌ، شددت فيه الشريعة الإسلامية، ولهذا ذكر أبو عبد الله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن قصة، يقول: "إنَّ رجلاً أتى للإمام مالك يستفتيه، وقال: إنه البارحة رأى رجلاً سكراناً يتعاقر، يريد أن يصطاد القمر" يعني: من شدة سكرته ذهب عقله، أصبح يقفز يقفز يريد أن يصطاد القمر، فتأثر من هذا الموقف، كيف الخمر يذهب بصاحبه لهذه الدرجة، يجعله كمستوى الحيوان أو أقل، يريد أن يصطاد القمر، فتأثر من هذا الموقف، فحلف بالطلاق أنه ليس هناك شيء يدخل جوف ابن آدم أخبث ولا أشر من الخمر.
الإمام مالك استعظم هذه المسألة، قال: "أمهلني حتى أتأمل وأنظر، أتاه من الغد قال: أمهلني، أتاه من الغد قال: أمهلني، آتاه اليوم الثالث، قال: امرأتك طالق، لأني تأملت كتاب الله -عز وجل- فلم أرى شيئًا يدخل جوف ابن آدم أخبث ولا أشر من الربا، إن الله أذن فيه بالحرب"، كأن الإمام مالك يقول له: أنت حلفت بالطلاق أنه ليس هناك شيء يدخل جوف ابن آدم أخبث وأشر من الخمر، لا، هناك شيء أخبث وأشر من الخمر وهو الرِّبا، فهذا يُبَيِّنُ لنا خطورة الربا وأنه من الموبقات ومن كبائر الذنوب، وآكله وموكله مستحقٌ للعنة، أي: للعنة الله -عز وجل- وسخطه وعقابه.
هنا في هذه الآية يقول ربنا سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ﴾، لا يقومون، للمفسرين قولان في معنى قوله: ﴿لاَ يَقُومُونَ﴾، هل المقصود لا يقومون من قبورهم يوم القيامة؟ أو المقصود لا يقومون عند التعامل بالربا، قولان: فأكثر المفسرين قالوا: إن معنى الآية: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع الذي يتخبطه الشيطان مِنَ الْمَسِّ.
والقول الثاني: أن المقصود أنهم لا يقومون عند التعامل بالربا إلا كما يقوم المصروع لشدة شغفهم بالربا كأنما يتصرفون تصرف المتخبط الذي لا يشعر، كأنهم سكارى فيما يربحونه، التعبير بالقيام هنا يعني: تشبيه تصرفاتهم بأنها عشوائية جنونية كهذا المصروع الذي يتخبط، هذا المرابي تجد -أيضًا- أنه يتخبط، يريد أن يحصل على المال بأي طريقة، ويريد أن يتضخم المال عنده بالربا بأي طريقة، والقول الأول هو الأشهر، أن المقصود لا يقومون يوم القيامة من قبورهم، وهو أيضًا مأثور عن بعض الصحابة والتابعين، ولذلك يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "آكِلُ الرِّبا يُبْعَثُ يَوْمَ القِيامَةِ مَجْنُونًا يُخْنَقُ" يعني: كالمصروع.
وجاء في قراءة ابن مسعود: "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة" يعني بزيادة يوم القيامة، قراءة ابن مسعود هي ليست من القراءات المتواترة، ابن مسعود -رضي الله عنه- لما جمع الصحابة المصاحف وجعلوها على مصحف واحد وحرقوا بقية المصاحف وكان رأيًّا مُوفقاً جمع الله تعالى به الأمة، ابن مسعود -رضي الله عنه- أخفى مصحفه ورفض أن يُسلم مصحفه يعني: اجتهادًا منه -رضي الله عنه-، يقول: إن هذا أقرانيه النبي -عليه الصلاة والسلام-، وجعل يقول: ومن يغل يأتي بما غل يوم القيامة، يريد أن يأتي بمصحفه يوم القيامة، لكن ابن مسعود -رضي الله عنهما- هذه وإن قلنا: إنها ليست قراءة متواترة إلا أنه سمع هذا من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا يمكن أن يأتي بهذه القراءة من نفسه، وهذا لا شك أن هذا التفسير من النبي -عليه الصلاة والسلام- هو الصواب، وهذا مما يرجح قول جمهور المفسرين أن المقصود لا يقومون من قبورهم، هذا قراءة ابن مسعود وأثر ابن عباس ترجح هذا القول، وأنَّ معنى الآية ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ﴾ من قبورهم ﴿إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ﴾، شبهه الله -عز وجل- آكل الربا بأنهم يقومون يوم القيامة من قبورهم كما يقوم المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس.
تخبط الشيطان، الشيطان يتسلط على الإنسان، المقصود به الجان، فيصرع الإنسان، يصرعه وهذا هو الذي قد يؤدي إلى الجنون عندما يتلبس الجني بالإنسي ويبدأ من تلبس به يتخبط ويتكلم بكلام غير مناسب ويصرع، يتخبط فعلاً وقولاً، وهذا يدل على أن إثبات المس وأن الجني قد يمس الإنس ويلابسه، وهذه مسألة سنتكلم عنها -إن شاء الله-، سنتكلم عنها في الأحكام، فيها كلام كثير سنتكلم عنها، لكن هذا هو تفسيرها، هو أن آكل الربا لا يقوم إلا كما يقوم هذا المصروع الذي قد تلبس به الجان.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَ﴾، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ﴾ يعني: أكلة الربا، ﴿قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَ﴾ هل المقصود أنهم قاسوا وأخطأوا في القياس؟ يعني: القياس أن يقولوا ذلك بأنهم قالوا إنما الربا مثل البيع، لأنهم يريدون أن يبينوا الربا ما فيه بأس، يقولون: الربا مثل البيع ما الفرق بينه وبين البيع؟ لكنهم من شدة تخبطهم عكسوا القياس، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَ﴾، فأخطأوا في القياس وعكسوه من شدة التخبط.
وقال بعض المفسرين: إن هذا ليس قياساً وإنما هو اعتراض منهم على شرع الله -عز وجل-، فيقولون: الربا نظير البيع، هو نظيره، فلما حُرِّمَ هذا وأبيح هذا؟، وهذا القول الثاني رجحه الحافظ ابن كثير في تفسيره، وكلا المعنيين صحيح، فهم من شدة التخبط أخطأوا في القياس ﴿قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَ﴾ وكان القياس أن يقولوا: إنما الربا مثل البيع، وأيضًا هذا أتى منهم على سبيل الاعتراض على شرع الله -عز وجل-، يقولون لماذا يباح هذا ويحرم هذا؟ البيع والربا شيء واحد، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَ﴾.
﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ﴾ نظير هذا الاعتراض لماذا يباح البيع ويحرم الربا؟ نظير هذا الاعتراض اعتراض بعض الناس على المعاملات المصرفية المباحة، بعضهم يقول كلها واحد، لا يدرك الفرق بين المعاملات المحرمة والمعاملات المباحة، الفرق بينها فرق دقيق قد يخفى على بعض الناس، لكن بعض الناس ما يدرك هذا الفرق فيقول كما قال هؤلاء: ما الفرق بينها كلها واحد؟ نقول: لا هذا حلال وهذا حرام، فتجد أن هذا من قديم، ولذلك تجد أن بعض الناس يسوي بين المصارف الإسلامية وبين المصارف الربوية، يقول ما بينها فرق، كلها واحد، هذا غير صحيح، هذا نظير مقولة هؤلاء ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَ﴾، من القديم وهذه المقولة تتردد، يقول تعالى عن المشركين، يقولون ما الفرق بين البيع والربا كلها واحد.
أيضًا بعض الناس يقول: ما فيه فرق بين مصرف إسلامي ومصرف ربوي كلها واحد، كلها فيها ربا وهو يرى أنها متشابهة ولا يدرك الفرق بينهما، ويقول: كلها واحد، وهذا غير صحيح، أحيانًا الصورية قد تُؤثر، النبي -عليه الصلاة والسلام- لما أوتي بتَمْرٍ بَرْنِيٍّ أعجبهُ، قال: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟» قالوا: لا يا رَسولَ اللهِ، إنَّا نَبِيعُ الصَّاعَ مِن هذا بالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بالثَّلَاثَةِ، قال: «أوَّهْ هذا عَيْنُ الرِّبَا ولَكِنْ»، انظر إلى المخرج الذي أرشد عليه «بعِ الجَمْعَ بالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اشتَرِ بالدَّراهمِ جَنيبً» يعني: بع التمر الرديء بدراهم واشتري بالدراهم تمراً جيداً، النتيجة واحدة، يعني: بعت صاعين بصاع حصلت على تمرٍ مقابل تمر رديء، هذا عين الربا، بعت صاعين بدراهم ثم اشتريت بالدراهم صاعاً من التمر الجيد، حصلت على التمر الجيد مقابل التمر الرديء، نفس النتيجة، ومع ذلك هذا عين الربا، وهذا مخرج أرشد إليه النبي -عليه الصلاة والسلام-، فهناك دقة في هذه المسائل.
الفرق بين الحلال والحرام في مسائل المعاملات فرق دقيق قد لا يدركه بعض الناس، ولذلك تجد أنهم يتكلمون في المجالس ويقولون: ما فيه فرق بين المصرف الإسلامي والمصرف الربوي، هذا غير صحيح بل بينهما فرق كبير، هذا أعلن المصرفية الإسلامية ويقوم على المعاملات المباحة ولا بدَّ إذا كان مصرفًا إسلاميًا يكون عنده هيئة شرعية، وهذا مصرف ربوي لا يتورع عن الربا، بينهما فرق كبير، وكون بعض المعاملات قد تؤدي نفس النتيجة نقول: النبي -عليه الصلاة والسلام- هو الذي أرشد لهذا، لما قال عن بيع الصاع بالصاعين قال: «عَيْنُ الرِّبَ» لكن أرشد إلى عمل آخر يؤدي نفس النتيجة، قال: بع الصاعين بدراهم واشتر بدراهم صاعاً من التمر الجيد، نفس النتيجة، فالله تعالى له الحكمة البالغة في هذا لكن بعض الناس تخفى عليهم هذه الأمور، فيقول: لا فرق بين مصرفية إسلامية وبين بنوك ربوية.
هذا نظير مقولة هؤلاء المشركين ﴿إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَ﴾ لا فرق بين هذا البيع وهذا البيع كلها واحد، وهؤلاء يقولون المصارف الإسلامية والربوية كلها واحد، نحن نقول كما قال الله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَ﴾ المصرفية الإسلامية تمشي على المعاملات المباحة بينما البنوك الربوية لا تتورع عن الربا، تتعامل بالربا الصريح.
قال الله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَ﴾ يعني: الله تعالى رد مقولتهم وأبطل هذه الشبهة بما ذكر، أن هذا هو شرع الله والله تعالى أعلم وأحكم، الله هو الذي أحل البيع وحرم الربا، ولم يناقشهم في مقولتهم هذه، يعني: أن البيع يختلف، وأن البيع يفيد المجتمع، وأن الربا يترتب عليه مفاسد، وأن فيه ظلم للفرد وللمجتمع..الخ، لم يناقشهم الله تعالى في هذا، لأن الله تعالى أحكم الحاكمين لا يُسأل عما يفعل -جل وعلا-، فالله تعالى هو الله أحل البيع وحرم الربا يكفي هذا، لأن الله حكيم عليم وأنه أحكم الحاكمين -جل وعلا-.
﴿فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ يعني: من بلغه حكم الربا بعد أن تعامل به، فجاءه موعظة من الله تعالى ﴿فَانتَهَى﴾ يعني: كَفَّ عن الربا بالتوبة إلى الله -عز وجل-، ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ يعني: ما أخذه من الربا قبل العلم بالحكم، ﴿وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ يعني: شأنه في الآخرة إلى الله -عز وجل-، وهذا فيه نوع من التهديد، هل هو صادق في توبته أم لا؟
﴿وَمَنْ عَادَ﴾ رجع إلى الربا بعد ما أتته الموعظة ﴿فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، توعده الله -عز وجل- بالنار وسنتكلم عن مسألة الخلود، أنه ليس المقصود به الخلود المؤبد ولكن الخلود المؤقت.
ننتقل بعد ذلك إلى أبرز الفوائد والأحكام من هذه الآية.
أولاً: التحذير من الربا حيث أن الله تعالى شبهه بما يتخبطه الشيطان من المس، وهذا تشبيه شنيع لأكلة الربا، فعلى المسلم أن يجتنب الربا كله قليله وكثيره، بل أن يجتنب ما فيه شبهة الربا، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُمَا أمورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَنْ وقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ فَقَدِ وقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ».
ومن الفوائد أيضًا: أن الله تعالى شبه المتعامل بالربا بما يتخبطه الشيطان من المس، وذلك إشارة إلى أن التعامل بالربا يصاب بالنهمة العظيمة في طلبه حتى يكون كالمصروع في الدنيا والآخرة، الدنيا همه تضخيم الثروة وتضخيم المال الذي عنده من غير مبالاة بأحوال هؤلاء الفقراء والمساكين، وفي الآخرة أيضًا يقوم من قبره كالذي يتخبطه الشيطان كالمصروع، كما قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "آكِلُ الرِّبا يُبْعَثُ يَوْمَ القِيامَةِ مَجْنُونًا يُخْنَقُ".
ومن الفوائد أيضًا: أن الشيطان يتخبط ابن آدم فيصرعه، وأنكر ذلك المعتزلة وأنكره أيضًا بعض الناس في الوقت الحاضر، وابن القيم -رحمه الله- في الطب النبوي، قال: إن الصرع ينقسم إلى قسمين، قسم مُتعلقٌ بصرع الدماغ وتشنج الأعصاب، وهو الذي يعرفه الأطباء ويقرونه ويعالجونه بما عندهم من الأدوية.
القسم الثاني من الصرع: صرعٌ من الشيطان وهذا القسم لا علم للأطباء به ولا يعرفونه؛ لأنه متعلق بعلم الأرواح، وعلم الأرواح لم تنكشف أسراره، فلعل هناك ارتباطات إشعاعية ونحو ذلك، فهذا لا يعرفه الأطباء وليس للإنسان إذا جهل شيئًا ينكره، فهذا موجود وواقع، والمعتزلة أنكروا هذا كما أنكره بعض الناس أيضًا، ينكرون هذا النوع من الصرع وهو تلبس الجني بالإنسي، مع أن الواقع يؤكد وقوعه خاصة بالنسبة للسحر؛ لأن السحر غالباً لا يكون إلا عن طريق الجان، والشيطان يخدم الساحر في سحر من أراد سحره، فيتلبس به ويعينه على السحر، يعني: غالب السحر يُربط بجان، ولذلك هذا القسم يُعالج بالرقية الشرعية وكذلك بالأدعية النبوية الواردة أيضًا ونحو ذلك، ونجد من أصيب بهذا النوع وهو تلبس الجان رُقي وشفي.
وأذكر حتى أثبت صحة ما أقول؛ لأن هناك من ينازع في هذا وينكر المس بالكلية، أقول: أحد الرقاة ذكر لي بأنه قد رقى رجلاً عاش في البادية، ولم يسافر خارج منطقته فضلاً عن أنه يسافر خارج المملكة، وقد تبين أنه قد تلبس به جان يتكلم اللغة الأردية، ويقول: إن أحد الدعاة المترجمين من مكاتب الدعوة ترجم كلامه، فأردت أن أتأكد من هذه القضية، فذهبت إلى هذا الداعية المترجم وسألته: هل ما ذكره الراقي صحيح؟ قال: نعم، قلت له: وأنت ترجمت له من اللغة الأردية، كان يتكلم باللغة الأردية، قال: نعم، يتكلم معي باللغة الأردية وأنا أتكلم معه، وهو يتكلم اللغة الأردية وأترجم للراقي بالعربية، هذا الرجل لا يعرف الأردية، لم يسافر قط خارج المملكة بل حتى خارج منطقته، عاش معظم وقته في البادية كيف تعلم الأردية!؟ وأنا طرحت هذا على بعض من ينكر التلبس، قالوا: وما يدريك أن هذه أردية يهذي هذيان؟ يتكلم ويهذي هذيان، نقول: الآن الرجل تكلم الأردية والمترجم ترجم له من الأردية إلى العربية، لو كان هذيانًا لم يترجم، كيف يترجم الهذيان!؟ فمثل هذا إنكاره مكابرة، فمن ينكر التلبس كيف يجيب عن هذا السؤال؟ الرجل ثقة من الدعاة في أحد مكاتب الدعوة، وترجم وهذا الرجل لم يعرف الأردية ولم يسافر أصلاً ولا عمره تكلم لا الإنجليزية ولا الأردية، لا يعرف غير العربية، ومع ذلك تكلم بلغة أردية طليقة أيضًا وترجم له، ترجم للراقي، فماذا يقول هؤلاء الذين ينكرون التلبس؟ صحيح أن هناك مبالغات، فننكر المبالغة لكن لا ننكر أصل الموضوع، إنكار أصله فيه نوع من المكابرة، كيف تجيب على مثل هذه الحالات؟ وإن كانوا يقولون: إن الآية ليست صريحة، والصحيح أنها ليست صريحة لكن مجموع الأدلة، نحن نستدل بمجموع الأدلة والقرائن والوقائع تدل لهذا، وإن كان هذا أيضًا كما ذكرت فيه مبالغة، يعني: عند الناس عندما يأتيه مرض نفسي يقول: إنه متلبس به، فيه مبالغة من بعض الناس في المس، في السحر، في العين، فهذه تنكر مبالغات لكن لا ينكر أصل الموضوع.
فإذًا جمهور أهل السنة على إثبات تلبس الجني بالإنسي، وأن هذا ممكن وواقع، بعض الأطباء النفسانيين يقولون: الصرع نعرفه ونعالجه، نقول: تعرفون القسم الأول وهو الصرع الذي يصرع الدماغ ويكون معه تشنج الأعصاب، تعرفون هذا القسم صحيح، الأطباء من قديم يعرفونه ويعالجونه، لكن لا يعرفون القسم الآخر من الصرع، وهو الذي يكون عن طريق المس، فهذه الآية فيها إشارة إلى هذا، كالذي يتخبطه الشيطان من المس.
أيضًا من الفوائد: مبالغة أهل الباطل في ترويج باطلهم؛ لأنهم جعلوا المقيس هو المقيس عليه، فقالوا: ﴿قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَ﴾ كان مقتضى الحال أن يقولوا: إنما الربا مثل البيع، ولكنهم يبالغون في ترويج باطلهم، وأيضاً حتى على القول الآخر يوردون الاعتراض على شرع الله -عز وجل- بمثل هذا، يقولون: هذا بيع وهذا ربا ما فيه فرق بينهما، وإنما البيع مثل الربا.
أيضًا من الفوائد: أن الحكم لله -عز وجل- وحده فما أحله فهو حلال وما حرمه فهو حرام سواءً علمنا الحكمة أو لم نعلمها؛ لأن الله تعالى أحكم الحاكمين، وأخذنا هذا من أن الله ردَّ مقولة هؤلاء بقوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَ﴾، كأنه قال: ليس الأمر إليكم في التحليل والتحريم وإنما الأمر إلى الله، فلماذا تقولون إنما البيع مثل الربا، مرد هذا إلى الله، الله تعالى أحل الله البيع وحرم الربا.
ومن الفوائد: أنَّ بين الربا وبين البيع فروقاً أوجب اختلافهما في الحكم، الله تعالى يفرق بين المتماثلين إلا لحكمة، وهو أحكم الحاكمين -جل وعلا-.
أيضًا من الفوائد: أن ما أخذه الإنسان من الربا قبل العلم وبعد أن قبضه فهو حلال له بشرط أن يتوب، لقوله -جل وعلا-: ﴿فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾، يعني: هذا الإنسان راب قبل خمس سنين معاملة ربوية وقبض الربا وانتهت المعاملة، أراد أن يتوب الآن هل نأمره برد الربا؟ لا، ما مضى وانتهى وقبض فتكفي التوبة، ولهذا قال: ﴿فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾، لكن المعاملة الربوية القائمة هذه يبطل الربا ويكون للإنسان رأس ماله،﴿وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾[البقرة: 279]، يبطل الربا ويكون للإنسان رأس ماله فقط، هذا في المعاملات الربوية القائمة، ما مضى وقبضه الإنسان وانتهى يكفي فيه التوبة، ﴿فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى﴾.
إنسان مثلاً كان طيلة عمره يتعامل بالربا، ثم تاب إلى الله -عز وجل-، نقول: ما مضى مضى، لكن لا بدَّ أن تتوب إلى الله -عز وجل- وتحقق شروط التوبة، المعاملات الربوية القائمة يجب عليك أن تضع الربا وتأخذ رأس مالك فقط، هذا هو الحكم الذي تدله هذه الآية، ولذلك نقول: لو تاب من الربا قبل أن يقبضه فيجب عليه إسقاطه ويكتفي بأخذ رأس المال لقوله تعالى: ﴿فَانتَهَى﴾، لكن من أخذه بعد العلم فإنه لم ينتهي ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: «ألَا وإنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِباً أَضَعُهُ رِبَا العَبَّاسِ بن عبد الْمُطَّلِبِ فإنه مَوْضُوعٌ كُلُّهُ» رواه مسلم.
فبين -عليه الصلاة والسلام- أن ما لم يؤخذ من الربا فإنه موضوع، ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية، بل عفا عمَّا سلف، فيكون إذًا المتعامل بالربا يكون له حالان:
الحالة الأولى: أن تكون المعاملة انتهت وقبض الربا، فيكفي التوبة إلى الله -عز وجل-.
الحالة الثانية: أن تكون المعاملة قائمة، فهنا يسقط الربا ويكون له رأس ماله، ﴿وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾.
أيضًا من الفوائد: التحذير من الرجوع إلى الربا بعد موعظة لقوله: ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
أيضًا من الفوائد: الوعيد الشديد لمن عاد للربا بالنار، لقوله: ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، والمراد بالخلود في هذه الآية الخلود المؤقت وليس الخلود المؤبد، لأن الخلود في لغة العرب نوعان: خلود مؤبد في خلود المشرك في النار، وخلود مؤقت ومنه قولهم: أخلد فلان في المكان، إذا بقي فيه مدة طويلة، والنصوص يجمع بعضها مع بعض ويفسر بعضها بعض، هذه طريقة الراسخين في العلم وهذا منهج أهل السنة والجماعة، الخوارج قالوا: إن مرتكب الكبيرة كافر، وقالوا: أن آكل الربا كافر ومخلد في النار، والمرجئة قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب، وأهل السنة والجماعة توسطوا وقالوا: أن آكل الربا ومرتكب الكبيرة عموماً في الدنيا مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأما في الآخرة فهو تحت مشيئة الله لكنه لا يخلد في النار، هذا هو الحق وهو معتقد أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة.
وعلى هذا يحمل الخلود المذكور في هذه الآية على أن المقصود به الخلود المؤقت، وأن آكل الربا أو من جاءه موعظة من ربه وعاد إلى الربا مرة أخرى ولم ينتهي عنه، أنه يتوعد بالنار لكنه لا يخلد فيها أبد الآباد، وإنما المقصود بالخلود في الآية الخلود المؤقت، أي: يطول مكثه في النار لكنه لا يخلد فيها أبد الآباد، وإنما قلنا ذلك جمعًا بين النصوص، فإن النصوص قد دلت على أنَّ مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار أبد الآباد وهو معتقد أهل السنة والجماعة خلافًا للخوارج والمعتزلة الذين قالوا: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، والصواب ما عليه أهل السنة والجماعة من أن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار.
على هذا آكل الربا ومن لم ينته عن أكل الربا نقول: هو متوعد بالخلود في النار لكن الخلود المؤقت وليس الخلود المؤبد جمعًا بين النصوص، ونظير ذلك قول الله -عز وجل-: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَ﴾[النساء: 93]، المقصود بالخلود هنا الخلود المؤقت، لأن أيضًا قاتل النفس مرتكب لكبيرة ولا يكفر بذلك، آكل الربا وقاتل النفس لا يكفرون بهذا وإنما هو مرتكبون لكبائر، ومرتكب الكبيرة لا يخلد في النار أبد الآباد، فيحمل الخلود الوارد في النساء ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّد﴾، ويحمل الخلود الوارد في آية الربا في قوله: ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ على أن المقصود بالخلود هنا الخلود المؤقت وليس المقصود به الخلود المؤبد، وأيضًا هذا يدل على أن أيضًا قاتل النفس وآكل الربا أنهما لا يكفران كما هو معتقد أهل السنة والجماعة وإنما هما واقعان في كبيرة ويفسقان بهذه الكبيرة، لكن لا يخرجان من دائرة الإيمان.
فأهل السنة والجماعة يرون أن مرتكب الكبيرة عموماً سواءً كانت قتل النفس أو أكل الربا أو الزنا أو أي كبيرة من الكبائر أنه يبقى مسلماً، يبقى في دائرة الإسلام لكنه في الدنيا هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأما في الآخرة تحت مشيئة الله -عز وجل- إن شاء عذبه وإن شاء عفى عنه، لكنه لا يخلد في النار، هذا معتقد أهل السنة والجماعة، وأخذنا هذا من مجموع النصوص، يعني الخوارج والمعتزلة أخذوا نصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، بينما المرجئة أخذوا بنصوص الوعد وتركوا نصوص الوعيد، أهل السنة والجماعة جمعوا بين نصوص الوعد والوعيد وهداهم الله -عز وجل- للحق.
{شيخنا سؤال الله يحفظك، بعضهم يقول: ترك الصلاة، بعض العلماء كفر من ترك الصلاة أو قال: من ترك صلاة واحدة فهو كافر، فهل يعد هذا من كبائر الذنوب؟}
ترك الصلاة القول الراجح أن من ترك الصلاة بالكلية: أنه يكون كافراً لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «بَينَ الرَّجُلِ وبينَ الشِّركِ والكُفرِ تَرْكَ الصَّلاةِ»، وقوله: «العَهدُ الَّذي بينَنا وبينَهُمُ الصَّلاةُ من ترَكَها فقد كفرَ»، وأجمع الصحابة على ذلك، لا يعلم بينه خلاف في أن تارك الصلاة يقول بأنه كافر، ثم حكى هذا عبد الله بن شقيق وأيضًا نقله إسحاق بن راهويه وغيرهم، لكن هذا في تارك الصلاة بالكلية، قطع صلته بالله، لم يركع لله ركعة لا جمعة ولا جماعة، أما من كان يصلي أحيانًا ويترك الصلاة أحيانًا فأكثر أهل العلم وهو الصواب أنه لا يكفر، هو لا يكفر وإنما يكون من الساهين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾[الماعون: 4- 5]؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- قال: «بَينَ الرَّجُلِ وبينَ الشِّركِ والكُفرِ تَرْكَ الصَّلاةِ» ولم يقل: تارك الصلاة، أي: تارك الصلاة بالكلية.
فالقول الراجح: أن من ترك صلاة واحدة لا يكفر، لكن تركها بالكلية قطع صلته بالله -عز وجل- لا يعرف الله طرفة عين لا جمعة ولا جماعة، هذا هو الذي يكفر بالكلية.
ثم قال الله سبحانه: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ﴾[البقرة: 276]، يمحق: المحق بمعنى المحو وهو إزالة الشيء، ولكن مادة المحق تعني أنه يذهب شيئًا فشيئًا من يد صاحبه حتى يتوارى دون أن يشعر صاحبه به، ومن ذلك المحاق، أي: الذهاب للهلال، يذهب الهلال وينقص نوره شيئًا فشيئًا، فالربا يكون زاهيًا لصاحبه ثم يذهب منه شيئًا فشيئًا من حيث لا يشعر، لا بدَّ أن يتحقق المحق للربا عندما يقول رب العالمين: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَ﴾ لا بدَّ من وقوعه، رب العالمين خالق الكون عندما يقول في كتابه الذي يقرأه الناس كلهم جيلاً بعد جيل وقرن بعد قرن، يقول: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَ﴾ لا بدَّ يتحقق المحق كما أنه الشمس تطلع من المشرق وتغرب من المغرب، وهذا المحق يكون شيئًا فشيئًا من حيث لا يشعر الإنسان، طيب هذا المحق يكون لأي شيء؟
قال الله: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَ﴾ قد يكون المحق للمال نفسه، فيسلط الله عليه آفات تذهبه، قد يكون المحق لبركة المال، الأموال المنزوعة البركة، كما يقول الناس محروم، محرومًا من ماله، محروم بعض الناس محروم، يجمع الأموال ويكدسها للورثة من بعده، هذه صورة من صور المحق، قد يكون المحق للمرابي نفسه في صحته، تسلب منه الصحة والعافية ويتقلب في أمراضه وأوجاعه ولا يدري ما السبب، والسبب هو الربا الذي يتعاطاه، قد يكون المحق مثلاً أنه لا يستقر أسريًا، يكون قلقًا متوترًا غير مستقر أسريًا، قد يكون لاحقه أمور أخرى بحيث ما تقتضيه حكمة الله -عز وجل-.
المهم أن من لم يتب من الربا وكان مستمراً في التعامل بالربا، فالله تعوده بالمحق، لا بدَّ أن يتحقق المحق ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ يربي يعني ضاعف ثوابها ويزيدها، وجاء في قراءة "يُربي"، جاء في قراءة وإن كانت ليست من القراءات المتواترة ذكرها ابن كثير "يُربي الصدقات" يعني أنه يزيدها، فينتفع المتصدق بصدقته بمنافع أكبر منها، وقد جاء في الصحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ تصدَّقَ بعدْلِ تمرَةٍ مِنْ كسبٍ طيِّبٍ، ولَا يقبَلُ اللهُ إلَّا الطيِّبَ، فإِنَّ اللهَ يتقبَّلُها بيمينِهِ، ثُمَّ يُرَبيها، كما يُرَبِّى أحدُكم فَلُوَّهُ » يعني ولد الفرس «حتى تكونَ مثلَ الجبَلِ».
فالله تعالى يربي هذه الصدقة، يزيدها وينميها في الثواب وفي الأجر في الآخرة، وأيضًا يخلف على صاحبها، إما بزيادة حسية أو البركة أو بدفع البلاء عنه، وهذا أمر واقع، الصدقة لها أثر عظيم في دفع البلاء عن الإنسان ودفع الشرور والآفات وفي زيادة ماله، إما زيادة حسية أو بالبركة، ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾.
﴿وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ الكفار أي المقصود هنا كفور القلب، أثيم الفعل، فإن المرابي يتصف بهاتين الصفتين، المرابي كفور القلب لا يرضى بما قسمه الله تعالى له من الحلال، فهو يسعى لأكل أموال الناس بالباطل، فهو جحود لنعمة الله عليه، وأيضًا أثيم ظلوم لأكله أموال الناس بالباطل، فهذا معنى قوله: ﴿وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ﴾.
وقوله: ﴿لاَ يُحِبُّ﴾ يعني يكره ويبغض، وهذا فيه إثبات صفة المحبة لله وإثبات أيضًا صفة الكراهية والبغض من الله -عز وجل- لبعض الناس.
ننتقل لفوائد هذه الآية.
أولاً: أن الله تعالى يمحق الربا -كما ذكرنا- إما محقًا حسيًّا أو محقًا معنويًّا للمال أو لصاحبه بأية صورة من صور العقوبة، وفي هذا التحذير من الربا وسد أبواب الطمع أمام المرابين.
أيضًا من الفوائد: أن الله تعالى يربي الصدقات ويزيدها في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فإن الله تعالى يُربيها حتى تكون مثل الجبل كما جاء في الحديث، يزيد ثوابها وحسناتها، «مَنْ تصدَّقَ بعدْلِ تمرَةٍ مِنْ كسبٍ طيِّبٍ، يقبَلُ اللهُ إلَّا الطيِّبَ، فإِنَّ اللهَ يتقبَّلُها بيمينِهِ، ثُمَّ يُرَبيها كما يُرَبِّى أحدُكم فَلُوَّهُ حتى تكونَ مثلَ الجبَلِ»، وأما في الدنيا فإن الله تعالى يخلف على المتصدق، ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾[سبأ: 39]، لا بدَّ من الخلف، لا بدَّ أن الله تعالى سيخلف عليك هذه الصدقة إما بزيادة حسية أو بمعنوية أو بدفع البلاء أو غير ذلك.
ومن الفوائد أيضًا: إثبات صفة المحبة لله -عز وجل-، لأن الله قال: ﴿وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ﴾، فنفي المحبة عن الموصوف بالكفر والإثم يدل على إثباتها لمن لم يتصف بذلك، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة إثبات صلة المحبة لله -عز وجل- وهي محبة حقيقية ليست كمحبة المخلوقين على الصفة اللائقة بالله -عز وجل-.
هذه أبرز الفوائد والأحكام المتعلقة بهذه الآية.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ ونفع بعلمكم}.
بارك الله فيكم.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك