الدرس السابع

فضيلة الشيخ د. سعد بن تركي الخثلان

إحصائية السلسلة

2358 11
الدرس السابع

تفسير آيات الأحكام (2)

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في تفسير آيات الأحكام وضيفنا في هذه الحلقة فضيلة الشيخ الدكتور/ سعد بن ترك الخثلان، باسمي وباسمكم أرحب بفضيلة الشيخ}.
أهلًا حيَّاكم الله وبارك فيكم، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{شيخنا الكريم كنا نتحدث بعد أن انتهينا من آية الربا، وقفنا عند قول الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾، ثم آيتا الدين، فهل تأذنون باستماع تلاوة لهذه الآيات، ثم نعود للشرح والتعليق}.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].
{تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآيات}.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد.
فيقول ربنا -تبارك وتعالى-: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾.
هذه الآية هي آخر آية نزلت من القرآن كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "آخر آية نزلت من القرآن هذه الآية، عاش النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدها تسع أو سبع ليال"، وقيل: عاش ثلاث ساعات بعدها، فهي آخر آية نزلت من القرآن ومناسبتها ظاهرة، إن الله -عز وجل- وعظ الناس بأن يتقوا ربهم ويتقوا هذا اليوم الذي يرجعون فيه إلى الله، ومن مات فقد قامت قيامته، كأنه يقال يعني اتقي الله -عز وجل- واتقي ما سيأتي بعد هذه الحياة الدنيا وهو هذا اليوم الذي ترجع فيه إلى الله، ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾.
فهذه هي آخر آية نزلت من القرآن الكريم، نبدأ أولاً بالكلام عن المعاني: ﴿وَاتَّقُوا يَوْم﴾ التقوى هو أن يجعل الإنسان بينه وبين عذاب الله وقاية بإتباع أوامره واجتناب نواهيه، هذا هو تقوى الله -عز وجل-، لكن قد يضاف التقوى لغير الله سبحانه كما في هذه الآية ﴿وَاتَّقُوا يَوْم﴾ المقصود باليوم يوم القيامة، يعني: اتقوا شر هذا اليوم، وذلك بأن تستعدوا له بفعل الطاعات واجتناب المعاصي، هذا اليوم ترجعون فيه إلى الله -عز وجل-، فإن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يكدح فيها ويكدح ثم لا بدَّ أن يرجع إلى الله سبحانه، ولا بدَّ من لقاء الله سبحانه كما قال الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾[الانشقاق: 6].
فالإنسان يسير في هذه الحياة الدنيا، يتقلب فيها بين أحوال شتى، ثم في الأخير يرجع إلى الله -سبحانه وتعالى- ويلقى الله سبحانه، لا بدَّ في الأخير من نقطة وهذه النقطة يتوقف عندها تمامًا، وهي نقطة لقاء الله سبحانه، ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾، هذه النقطة نقطة فاصلة بين عالم الدنيا والآخرة بالنسبة للإنسان، وهي ساعة الاحتضار، عندما تحين ساعة الاحتضار هذه ساعة النقلة من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، يُرجع الإنسان فيها إلى ربه سبحانه، يلاقي الله -عز وجل-، ينتقل من دار العمل إلى دار الجزاء والحساب.
ولذلك يقول بعضهم: إن الموت هو ولادة جديدة، يعني: مرحلة جديدة من حياة الإنسان، حياة الإنسان تقلب في مراحل: كان أول عدماً، ثم بعد ذلك نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا، ثم كسيت العظام لحمًا، ثم نفخ فيه الروح، ثم خرج من هذا الرحم الضيق المظلم في ظلمات ثلاث إلى الدنيا، إلى دار الرحمة الواسعة وهي هذه الدنيا، ثم يعيش في هذه الدنيا ما شاء الله أن يعيش، ثم بعد ذلك يرجع إلى الله -سبحانه وتعالى-، يلاقي الله -عز وجل-، ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾، ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾. يرجع إلى الله -سبحانه وتعالى- بعد ما يقفل في وجهه باب العمل وينتقل إلى دار الجزاء والحساب، ومن مات فقد قامت قيامته.
﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ توفى يعني تعطى كل نفس ما كسبت، أي: أنها تعطى ثوابها وأجر المكتوب لها إن كان العمل صالحاً، أو تعطى العقاب على عملها إن كان العمل سيئاً، ولهذا قال: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾.
التوفية والجزاء على الأعمال في الأصل إنما يكون في الدار الآخرة، فالإنسان في هذه الدنيا يعمل ويعمل لكن الجزاء ثوابًا أو عقابًا، الأصل الأصل، أنه يكون في الدار الآخرة، وقد يجزي الله تعالى الإنسان في الدنيا بعض الجزاء، سواءً على العمل الصالح أو على عمله السيئ، فمثلاً صلة الرحم قد يجزئ الله تعالى الإنسان على صلة الرحم في الدنيا بعض الجزاء، بأن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له أثره، أيضًا قد يرزقه الله من حيث لا يحتسب ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2- 3]، فقد يجزئ بعض الجزاء في الدنيا، لكن جزاء التوفية الكامل هذا إنما يكون في الآخرة، هكذا أيضًا بالنسبة لمن يعمل السيئات، قد يعاقب عليها بعض العقوبة في الدنيا، لكن العقوبة الكاملة إنما تكون في الآخرة، ولذلك قد نجد أن بعض الناس يكون قد طغى وبغى وظلم وفسد وأفسد ومع ذلك لا يعاقب في الدنيا؛ لأن الدنيا ليست هي دار الجزاء، وإنما دار الجزاء هي الدار الآخرة، فتجد أن بعض الناس ربما يتساءل كيف أن الله تعالى لم يجزِ فلانًا وهو قد فعل ما فعل من الفساد ومن البغي ومن كذا؟ فنقول: الدنيا ليست دار التوفية، دار التوفية على الأعمال هي الدار الآخرة، دار الجزاء هي الدار الآخرة، دار العدالة المطلقة هي الدار الآخرة، الدنيا فيها ظالم ومظلوم، ليست بدار عدالة مطلقة، فيها ظالم ومظلوم، وقد لا يعاجل الظالم بظلمه، قد يبقى يظلم ويبطش في هذه الدنيا لكن يؤخر الله -عز وجل- العقوبة في الآخرة، كما قال سبحانه: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: 42].
فإذًا هذه الحقيقة لا بدَّ أن يفهمها المسلم؛ لأن بعض العامة يصبح عندهم شيء من الارتباك، كيف نرى من يفعل كذا وكذا ومع ذلك لم يعاقب؟ فالدنيا ليست بدار توفيه بالأعمال، إنما دار التوفية هي الآخرة، دار الجزاء هي الآخرة، ودار العدالة المطلقة الآخرة، ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليَوْمَ﴾ [غافر: 17]، هذا في الدار الآخرة، فهذا معنى قوله سبحانه: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾، ثم أكد -عز وجل- العدالة المطلقة قال: ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾، عدالة مطلقة في منتهى الدقة، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه﴾.
أبرز فوائد هذه الآية: وجوب اتقاء يوم القيامة الذي يرجع فيه الإنسان إلى الله سبحانه ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ واتقائه يكون بفعل الطاعات واجتناب المعاصي.
وأيضًا من الفوائد: أن التقوى قد تضاف لغير الله -كما ذكرنا- مثلاً تتقي الله، لكن لغير الله تعالى، كما في هذه الآية ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾، اتق دعوة المظلوم، اتقوا النساء، ونحو ذلك.
أيضًا من الفوائد: أن دار التوفية هي الدار الآخرة، وأن الجزاء الكامل على الأعمال إنما يكون في الدار الآخرة؛ لقوله: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾، فالإنسان لا يوفى على عمله توفية كاملة إلا يوم القيامة.
أيضًا من الفوائد: أن الدار الآخرة هي دار العدالة المطلقة لقوله: ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾، فلا ظلم في الدار الآخرة، وإنما ينال الإنسان جزاءه ثوابًا أو عقابًا، ويتعجب المجرمون من هذه الدقة، كما قال سبحانه: ﴿وَوُضِعَ الكِتَابُ﴾ يعني كتاب الأعمال ﴿فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَد﴾[الكهف: 49].
{جزاكم الله خير وأحسن إليكم، ننتقل لآيتي الدين}.
عندنا آيتان: آية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ﴾، والآية التي بعدها: ﴿وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ﴾، وبها ننتهي من تفسير آية الأحكام في سورة "البقرة" -إن شاء الله.

بسم الله الرحمن الرحيم
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 282- 283].
{تفضل يا شيخنا بالتعليق على الآية}.
هذه الآية آية الدَّيْن هي أطول آية في كتاب الله -عز وجل-، سبحان الله أطول آية في القرآن في توثيق الديون، وهذا يدل على أهمية توثيق الديون، وأن الإنسان ينبغي أن يحرص على التوثيق؛ لأن التوثيق له فوائد كثيرة، وقد أشار الله تعالى لشيء من هذه الفوائد: ذلك أدنى ألا ترتابوا، فالإنسان إذا وثق لا يرتاب ولا يشك، والإنسان إذا وثق أيضًا يقطع الطمع، طمع الآخرين فيه؛ لأن الإنسان إذا لم يوثق ربما يطمع طامع ويجحد حقه الذي له.
ولذلك فهذه الآية تدل على أهمية التوثيق، وأنه ينبغي أن يجعل المسلم هذا التوثيق في حياته، إذ أن أطول آية في القرآن هي في الإرشاد إلى توثيق الديون.
ابتدأ سبحانه هذه الآية بقوله، طبعًا هذه الآية قلنا: إنها أطول آية في القرآن، وأقصر آية في القرآن هي: ﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾ [المدثر: 21]، فأطول آية آية الدَّيْن، وأقصر آية ﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾.
قال سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ﴾ الدَّيْن هو كل ما ثبت في الذمة من حقوق الله تعالى أو من حقوق الآدميين، والمراد به في الآية ما ثبت في الذمة من حقوق الآدميين، كالقرض مثلاً، وكالبيع بثمن مؤجل، والصداق المؤجل ونحو ذلك.
﴿إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ يعني: إلى مدة محدودة، ﴿فَاكْتُبُوهُ﴾ أي: اكتبوا الدَّيْن المؤجل إلى أجله، وهذا فيه إرشاد للكتابة مع أن أكثر الذين نزلت عليهم هذه الآية كانوا من الأميين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، ولكن هذا القرآن هو لجميع الأمة، ثم أيضًا حتى من لا يعرف القراءة والكتابة بإمكانه أن يستعين بمن يعرف القراءة والكتابة، فالكتابة مُهمة، ولذلك أرشد الله -عز وجل- إلى كتابة الدَّيْن.
قال: ﴿وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ بالعدل وهو ضد الجور، والمراد بالعدل ما طابق الشرع، ﴿وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ لا يأبى يعني: لا يمتنع كاتب إذا طُلب منه كتابه، وذلك لأنه -كما ذكرنا- من كان يعرف الكتابة من العرب في ذلك الوقت قليل، فربما أن بعضهم يمل ويمتنع ونحو ذلك، والله تعالى يقول: ﴿وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ﴾ يعني: لا يمتنع إذا طُلب منه كتابة فينبغي أن يبادر.
وقوله: ﴿كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ قيل: إن "الكاف" هنا للتشبيه، أي: يكتب كتابة حسب علمه كما علمه الله -عز وجل- أن يكتب، وتكون مستوفية لِمَا ينبغي أن تكون عليه، وقيل: إن "الكاف" هنا للتعليل أي: أنه ليكتب لما علمه الله -عز وجل-، فيشكر الله تعالى على نعمته، فكما علمك الله -سبحانه وتعالى- الكتابة وغيرك لم يعلم، فينبغي أن تشكر الله -عز وجل- وتكتب للناس، وكلا المعنيين صحيح.
وعندنا قاعدة في التفسير: وهي أن الآية إذا احتملت معنيين أو أكثر وليس بينها تضاد بأي وجه من الوجوه فتحمل على هذه المعاني كلها؛ لأن هذا أبلغ في الدلالة؛ ولأن هذا يتوافق مع إعجاز القرآن العظيم الذي يدل الدلالات الكثيرة باللفظ الوجيز.
ثم قال سبحانه: ﴿فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ﴾، ﴿وَلْيُمْلِلِ﴾ يعني: يُملي، ويملل لغة أهل الحجاز، ويملي لغة تميم، وجاء بهما القرآن الكريم باللغتين، فبهذه الآية قال: ﴿وَلْيُمْلِلِ﴾ بلغة أهل الحجاز، وأيضًا جاءت "وليملي" جاءت لغة تميم في آية أخرى في سورة "الفرقان" ﴿فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيل﴾ [الفرقان: 5]، فاللغتان وردت في القرآن الكريم، "يملل" و "يملي" وكلاهما لغتان صحيحتان، "يملل" لغة أهل الحجاز و"يملي" لغة تميم.
فالذي ورد هنا في آية الدَّيْن لغة أهل الحجاز ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ﴾ يعني: يملي، المقصود يملي الذي عليه الحق، ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئ﴾ يعني: عندما يملي ليتق الله -عز وجل- في ذلك ولا يبخس من الحق شيئًا لا في كميته ولا كيفيته ولا في نوعه، ﴿فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ﴾ لا يستطيع أن يملل لكونه ﴿سَفِيه﴾ يعني لا يحسن التصرف، ﴿أَوْ ضَعِيف﴾ الضعف هنا ضعف الجسم وضعف العقل، فضعف الجسم المراد به الصغير، وضعف العقل المراد به المجنون، ﴿أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ﴾ لا يقدر على أن يملي لخرس أو لغيره، إما لخرس أو لعدم قدرة بحيث ما يستطيع أن يملي، يصيبه عي في الكلام أو أنه أخرس.
﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ يعني: ولي هذا الإنسان السفيه أو الضعيف أو الذي لا يستطيع، وليه الذي يتولى شئونه من أب أو غيره، هو الذي يملي بدلاً عنه، ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ يعني: إملاءً بالعدل بحيث لا يجور على من له الحق، ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ﴾ بعدما أمر الله -عز وجل- بكتابة الدَّيْن أمر بالإشهاد عليه بعد الكتابة، لا تكفي الكتابة بل لا بدَّ من الإشهاد، وسيأتي الكلام عن حكم الإشهاد هل هو واجب أو مستحب؟
﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ﴾ وهنا قال: ﴿شَهِيدَيْنِ﴾ ولم يقل: شاهدين، وذلك لأن مُطلق الشاهد قد يكون زورًا فأتى بصورة المبالغة، كأنه شاهد قد عرفه الناس بعدالة الشهادة حتى صار شهيدًا، وقد تكررت منه الشهادة العادلة وهو مؤتمن عند الناس، وهذا هو السر في أنَّ الله -عز وجل- اختار كلمة ﴿شَهِيدَيْنِ﴾ ولم يقل: شاهدًا، ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ﴾ ولم يقل: شاهدين، كأن المعنى: استشهدوا من عُرِفَ بالعدالة وتكررت منه الشهادة وعرفه الناس بالشهادة العادلة، لا تأخذ أي شاهد فقد يكون هذا الشاهد شاهد زور ونحو ذلك.
﴿مِن رِّجَالِكُمْ﴾ يعني في الأمور المالية يكفي شهادة شاهدين من الرجال، النساء هل يشهدن في الأمور المالية؟
قال: ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾، يعني: إن لم يكن الشاهدان رجلين فرجل وامرأتان، وهذا يدل على التخيير مع ترجيح الرجلين على الرجل وامرأتين، ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ وهذا طبعًا في الأمور المالية، في المال وما يقصد من المال، ﴿مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ يعني: يكون هؤلاء الشهود مرضين عند الناس، وهذا يدل على اشتراط العدالة في الشهداء، وأنه لا بدَّ أن يكون هؤلاء الشهود عدول، فلا بدَّ إذًا أن يكون هؤلاء الشهود مرضيون عند الناس ﴿مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾، يعني: عرفت عدالتهم.
ذكر ابن كثير، هنا مقولة عن بعض السلف، قال: "هل تعلمون مظلومًا دعا ربه فلم يُستجب له"، ثم قال: "هو رجل باع بيعًا إلى أجل فلم يشهد ولم يكتب، فلمَّا حلَّ ماله جحده صاحبه، فدعا ربه فلم يَستجب له؛ لأنه عصى ربه"، يقول: هذا الذي فرط لم يكتب الدَّيْن ولم يُشهد عليه، ثم جحد الدين، ثم يقوم يدعو الله تعالى على هذا الذي جحده، وهو قد فرط، كيف يريد من الله إجابة دعوته وهو الذي قد خالف هذه التوجيهات من الله -سبحانه وتعالى- بتوثيق هذا الدَّيْن؟
ثم قال سبحانه: ﴿أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَ﴾، تضل بمعنى تنسى، المقصود بالضلال هنا النسيان، ﴿أَن تَضِلَّ﴾ يعني: تنسى ﴿إِحْدَاهُمَ﴾ إحدى المرأتين ﴿فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى﴾ يعني: هذا هو المعنى لكون شهادة المرأتين تعادل شهادة رجل، وسنبين -إن شاء الله- في الفوائد لماذا جعلت شهادة امرأتين تعادل شهادة رجل، ما هو السبب؟ هل لأن الرجل أكثر حفظاً أو لسبب آخر؟ سنبين هذا في الفوائد -إن شاء الله.
ثم قال: ﴿وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُو﴾ يعني: لا يمتنع الشهداء عن تحمل الشهادة أو أدائها، فعلى الشاهد إذا دعي لتحمل الشهادة أن يقبل، لأن هذا من التعاون مع أخيه المسلم، تعاون على البر والتقوى، كذلك إذا شهد يجب عليه أن يؤدي الشهادة، فلا يأبى الشهداء إذا دعوا للشهادة، إذا ما دعوا تحملاً أو أذى.
﴿وَلاَ تَسْأَمُو﴾ يعني: لا تملوا ﴿أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كبِيراً إِلَى أَجَلِهِ﴾ اكتب كل شيء، ما دام أنه الدَّيْن، اكتب كل شيء وأشهد عليه حتى لو كان صغيراً.
﴿ذَلِكُمْ﴾ يعني: ما سبق من الإرشادات والأحكام، ﴿أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ﴾ يعني: أقوم وأعدل، ﴿وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ﴾ يعني: أقرب إلى إقامة الشهادة، ﴿وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُو﴾ أقرب لانتفاء الريبة.
ثم استثنى الله -عز وجل- من ذلك، قال: ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً﴾، التجارة هي كل صفقة يراد بها الربح، كل ما يراد به الربح فهذه تجارة، فالبيع الذي يراد به الربح تجارة، ولذلك الزكاة تجب في العقار الذي يراد به التجارة، لكن العقار الذي أعد للبيع ولم يرد به صاحبه التجارة، هل تجب فيه الزكاة؟
إنسان عنده عمارة ثم أراد أن ينتقل من حي إلى حي، عرضها للبيع وبقيت سنتين ما اشتراها أحد؟ هل تجب فيه الزكاة؟ الجواب: لا؛ لأنها لم تعرض للتجارة وإنما للبيع، والله تعالى فرَّق بين البيع والتجارة، قال: ﴿رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ﴾ [النور: 37]، معنى ذلك: أن البيع يختلف عن التجارة، فمن يعرض مثلاً سلعته للبيع ليس بالضرورة أن يكون قصد بذلك التجارة، فإذا كان مجرد البيع بقصد التخلص، بقصد الرغبة عنها، بقصد بيعها لأجل الحصول على سيولة، هذا لا يعتبر تجارة، هذا لا تجب فيه الزكاة لو حالت عليه الحول، لكن الذي يجزم بنية البيع في الحال أو في المستقبل بقصد التربح، هذه عروض تجارة، وهي التي تجب فيها الزكاة.
﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً﴾، حاضرة هذا مُقابل قوله: ﴿إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ﴾ يعني: ليست مؤجلة وإنما حاضرة ﴿تُدِيرُونَهَ﴾ يعني تتعاطونها فيما بينكم، وهذا يؤكد معنى التجارة، التجارة لا بدَّ فيها من الإدارة وطلب التربح، ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألاَّ تَكْتُبُوهَ﴾ يعني: التجارة الحاضرة لا يلزم كتابتها، أنت لو أردت الآن أن تشتري مثلاً من محل سلعاً وتنقد الثمن مباشر لا يلزم أنك تكتب ولا أن تشهد، تذهب لمحل تسوق اشتريت بضاعة بخمسمائة ريال، ثم أعطيتهم المبلغ لا يلزم لا إشهاد ولا كتابة لهذه الآية، لقوله: ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً﴾، ما دامت أنها حاضرة لا يحتاج الأمر إلى إشهاد ولا إلى كتابة.
﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ هذا تأكيد للإشهاد عند البيع، ﴿وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ﴾، ولا يضار مأخوذة من الإضرار، فأصلها ولا يضارر، هل هي لا يُضارَر أو لا يُضَارِر؟ تحتمل المعنيين.
فإذا قلنا لا يُضارَر للمفعول، فمعنى ذلك: أنه لا يضارَر كاتب ولا شهيد؛ لأن هذا محسنٌ وما على المحسنين من سبيل ولا يجوز أن يضار، وأيضًا تحتمل المعنى الثاني، ولا يضارِر الكاتب ولا الشهيد بأن يكتب كتابة فيها زور أو يشهد شهادة زور، وكلا المعنيين صحيحان.
﴿وَإِن تَفْعَلُو﴾ بمضارة الكاتب أو الشهيد، ﴿فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ خروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ختم الله تعالى هذه الآية بالأمر بتقواه، ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ الواو هنا للاستئناف، وليست جواباً للشرط، ليس المعنى واتقوا الله ويعلمكم، لأنه لو كان كذلك لقال ويعلمكم بالجزم بإسكان الميم، لكن هنا بضم الميم ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾، فهي على الاستئناف، ولذلك تجد أن بعضهم يقول: إن من يتقي الله فإن الله يعلمه، ويستدل بالآية ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ هذا استدلال غير صحيح؛ لأن التعليم يحصل مع تقوى الله ومع غير تقوى الله، بعض الناس من أفجر الفجار ومع ذلك عنده علم عالم، حتى في أمور الشريعة، حتى في أمور الشريعة تجد أن عالم السوء عنده علم غزير لكنه ما عنده تقوى، فإذاً ليس بالضرورة أن الإنسان إذا اتقى الله أنه يحصل على العلم، قد يتقي الله ولا يحصل على العلم.
ولذلك فهذا الاستدلال الذي يستدل به بعض الناس استدلال غير صحيح، يقول من ثمرات التقوى العلم والدليل ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ هذا استدلال غير صحيح، لو كانت الآية واتقوا الله ويعلمكم بإسكان الميم لكان هذا صحيحاً، لكن الله قال: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ فهي استئنافية ويعلمكم، الواو استئنافية هنا، فأمر الله بتقواه ثم هذا استئناف وقال: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾، يمكن أن يستدل على أن تقوى الله يعين الإنسان على طلب العلم؛ لأنه يضبطه له وقته وأموره بأدلة أخرى، لكن لا يستدل بهذه الآية، لأن الاستدلال بها فيه تكلف، وهذه الآية لا تدل لهذا المعنى، وكما ذكرنا أن التعليم قد يحصل مع تقوى الله ومع غير تقوى الله، فإذاً الواو هنا واو استئنافية،﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ثم قال: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾
﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ -سبحانه وتعالى- أحاط علمه بكل شيء، الصغير والكبير يعلم السر وأخفى، لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء -جل وعلا.
ننتقل بعد ذلك لأبرز الفوائد والأحكام من هذه الآية:
أولاً: أهمية توثيق الديون وذلك لأن الله -عز وجل- جعل أطول آية في القرآن الكريم في إرشادات متعلقة بتوثيق الديون، وهذا يدل على أهمية التوثيق وأن الإنسان إذا داين غيره إمَّا بقرضٍ أو ببيعٍ مؤجل أو بغير ذلك، فينبغي أن يُوثق هذا الدَّيْن بالكتابة وبالشهود، وأن لا يفرط في ذلك، وأن يكون الإنسان مُرتبًا، فلا يكون فوضويًا، لأن بعض الناس عنده فوضى، تجده أنه يبيع بالدين ويشتري بالدين وليس عنده كتابه وليس عنده شهود، ثم بعد سنوات تتغير الأمور ثم يقع في مشاحنات ومخاصمات مع من تبايع معهم، أو ورثته يقعون في مشاحنات معهم، ولو أنه رتب أموره ووثق هذا الدَّيْن لسلم من ذلك، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُو﴾، وهذا فيه إشارة أيضًا إلى أن الإنسان ينبغي أن أيضًا أن يرتب جميع أمور حياته، ليس فقط فيما يتعلق بالبيع بالدين، تكون أموره كلها مرتبة، ويرتب وقته، يحسن إدارة وقته، لا يكون فوضويًا يذهب عليه الوقت، عندما يتبايع بالدين لا يوثق، وتكون حياته مبنية على الارتجال والفوضى، بل ينبغي أن تكون مبنية على الترتيب وعلى التوثيق، فإن ذلك مما يريحه ويحفظ له حقوقه، وأيضاً يقطع دابر النزاع والمخاصمة مع الآخرين.
أيضًا من فوائد هذه الآية: جواز الدَّيْن لقوله: ﴿إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾، والدَّيْن كما ذكرنا يشمل القرض الذي يُسميه الناس سلف، وقد وردت تسميته بالسلف في بعض الأحاديث، كما في قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ»، الذي يسمى القرض الحسن أو السلف، ويشمل كذلك البيع بثمن مؤجل، فالبيع بثمن مؤجل دَّيْن وهو جائز، كان ابن عباس -رضي الله عنهما- يستدل على جواز السلف بهذه الآية، ويقول: "أشهد أن السلف قد أحله الله في كتابه" ويقرأ هذه الآية، لأن السلم دين، ومن ذلك أيضًا أنه يجوز الزيادة في الثمن مقابل الدَّيْن، وذلك أثناء إنشاء العقد وليس بعد إنشاء العقد، يعني: عندما يأتي إنسان يريد أن يشتري سيارة قيمتها نقداً خمسون ألفًا، وقيمتها مؤجلة سبعون ألفًا، هذا جائز ولا بأس به وقد نقل الإجماع على ذلك، نقله الحافظ ابن حجر وغيره، ومخالفة بعض المعاصرين في هذا وأنها لا تجوز هذه مسبوقة بالإجماع على الجواز، ثم أيضًا مالك السلعة هو حر في تحديد الثمن، هو يقول إن أردت أن تشتري مني هذه السلعة أنا أرغب أن أبيعها عليك خمسين ألفًا وأرغب أن أبيع عليك مؤجلاً بسبعين ألفًا، هو حر بتحديد الثمن، لماذا نفرض عليه أن يبيعها بخمسين ألف؟ هو حر.
إذاً الزيادة في قيمة السلعة مقابل الأجل عند إنشاء العقد لا بأس بذلك، لكن بعدما يثبت الدَّيْن في الذمة لا تجوز الزيادة في الدَّيْن مقابل زيادة الأجل، لأن هذا هو نظير بل جاهلية، كانوا إذا حل الدَّيْن على المدين، أتى الدائن إلى المدين وقال إما تقضي وإما تربي، فمثلاً في مثالنا السابق لو أنه باع عليه هذه السيارة بسبعين ألفًا يسددها بعد سنة، ثم بعد سنة أتى الدائن للمدين وقال له أنا أطلب لك سبعين ألفًا، فإما أن تقضي لي السبعين ألف أو أخرها لك سنة مقبلة لكن تكون ثمانين ألفًا، هذا هو الذي لا يجوز، هذا هو ربا الجاهلية، كانوا إذا حل الدَّيْن على المدين قال الدائن للمدين إما تقضي وإما تربي، لكن عند ابتداء العقد لا حرج أن يزيد في ثمن السلعة مقابل الأجل، لأن حتى الآن لم ينشأ الدَّيْن بعد، ففرق بين المسألتين، فبعض الناس التبس عليه الأمر فجعل هذه مثل تلك، وهذا غير صحيح.
فإذاً الزيادة في ثمن السلعة لأجل الدَّيْن ولأجل الأجل عند إنشاء العقد لا بأس به ونقل إجماع العلماء على ذلك.
أيضًا قوله: ﴿أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ يدل على أن الدَّيْن ينقسم إلى دين بأجل مسمى ودين بأجل غير مسمى وأيضًا دين بأجل مجهول، فالدين إلى غير أجل هذا جائز، مثل يشتري سلعة ولا يعطيه الثمن ولا يعين له أجلاً، ففي هذه الحال لهذا الدائن أن يطالب المدين في الحال، بمجرد أن ينتهي العقد، له أن يطالبه، أما الدَّيْن إلى غير أجل مسمى فهذا لا يجوز، مثل أن يشتري سلعة ويقول إلى قدوم زيد أو إلى حصول كذا، يعلقها لأمر مجهول فهذا لا يجوز لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «من أسلفَ في شيءٍ فليُسلِفْ في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ إلى أجَلٍ معلومٍ».
أيضًا من فوائد الآية: جواز السلم وقد ذكرنا عن ابن عباس أنه استدل بهذه الآية على جواز السلم، والسلم هو عقد على موصوف في ذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد، فهذه الآية مما استدل بها على جواز السلم وهو جائز بالإجماع.
ومن فوائد هذه الآية: مشروعية كتابة الدَّيْن المؤجل لقوله سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾، وهل كتابة الدَّيْن واجبة أو غير واجبة؟
من العلماء من قال بوجوبها، ولكن أكثر أهل العلم قالوا: إن كتابة الدَّيْن غير واجبة؛ لأن الله تعالى في الآية التي بعدها: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾، فهذا يدل على عدم أنه إذا حصل الثقة ونحو ذلك لا تجب الكتابة، ولهذا قال ابن عطية في تفسيره، قال: الأصل عدم وجوب الكتابة، لأن للمرء أن يهب هذا الحق ويتركه، له أن يهب هذا الحق ويتركه بالإجماع، فكيف يجب عليه أن يكتبه؟ وهذا استنباط دقيق، يقول: الأصل عدم وجوب الكتابة لأن للمرء أن يهب هذا الحق وأن يدعه بالإجماع، فكيف يجب عليه أن يكتبه؟ فإذاً الكتابة غير واجبة ومما يدل لهذا دلالة السنة، فقد باع النبي -صلى الله عليه وسلم- بيوعات لم يكتبها، فإذاً الكتابة مستحبة، كتابة الدَّيْن مستحبة استحبابًا مؤكداً لكنها ليست واجبة.
أيضًا من فوائد هذه الآية: أنه يجب على الكاتب أن يكتب بالعدل، لقوله: ﴿وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾، فلا يجحف مع الدائن ولا مع المدين وإنما يكون عدلاً في كتابه.
ومن فوائد هذه الآية: أنه ليس للكاتب أن يمتنع عن الكتابة كما علمه الله -عز وجل-، لقوله: ﴿وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾، ثم أكد هذا النهي بالأمر بكتابة في قوله: ﴿فَلْيَكْتُبْ﴾.
وأيضًا من فوائد هذه الآية: أن من عليه الحق يملل، من عليه الحق يملي ولا يكتب، وينبغي أن يكون الكاتب كاتب بين الطرفين، يعني يكون طرف محايد إن تيسر لقوله: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ﴾ فأمر الله تعالى بأن يملل ولم يقل وليكتب الذي عليه الحق وإنما قال وليملل، فالمدين هو الذي يملي لأن كتابة عليه للدائن وليس الدائن هو الذي يملي، لأن هو الذي عليه الحق، ولأن الكتابة حجة عليه، حتى لا يؤخذ بسيف الحاجة، فجعل المدين هو الذي يملي على الكاتب، فالمدين يقول للكاتب اكتب كذا وكذا والدائن يستمع.
ومن فوائد هذه الآية: أنه يحرم على من عليه الدَّيْن أن يبخس شيئًا، لا كمية ولا نوعاً ولا صفة لقوله: ﴿وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئ﴾.
ومن فوائد هذه الآية: أن الولي يقوم مقام المولى عليه في الإملاء، لقوله: ﴿فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾، وهذا يدل على أن أسباب السفه ثلاثة، أنها أسباب القصور، وهذا يدل على أن أسباب القصور ثلاثة:
أولاً: السفه.
وثانيا: الضعف.
وثالثا: عدم الاستطاعة.
أما السفه فبأن لا يحسن التصرف، يكون سفيهًا، وأما الضعف -كما ذكرنا- يشمل ضعف البدن وضعف العقل، ضعف البدن يشمل الصغير وضعف العقل يشمل المجنون، أما عدم الاستطاعة فهو الذي لا يقدر على الإملاء لخرس أو لعي أو نحو ذلك.
ومن فوائد هذه الآية: قبول قول الولي فيما يقر به على من ولي عليه، لقوله: ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾.
ومن فوائد هذه الآية: أن البينة والشهود إما أن يكونوا رجلين أو رجل وامرأتان، وجاءت السنة أيضًا ببينة ثالثة وهي الرجل ويمين المدعي، فتكون أنواع طرق الإثبات في هذه المسألة هذه الثلاث، وهذه تكلم عنها الفقهاء بالتفصيل.
أيضًا من فوائد هذه الآية: أن شهادة المرأتين تعادل شهادة رجل فيما يتعلق بالأموال، وما يراد منه المال، والسبب في كون شهادة المرأتين تعادل شهادة رجل، الذي يظهر والله أعلم أنه ليس لأن ذاكرة الرجل أقوى من ذاكرة المرأة، فإن الواقع بخلاف هذا، نجد أحيانًا أن بعض النساء أقوى ذاكرة من كثير من الرجال، وأنا أدرس في الجامعة طلابًا وأدرس أيضًا طالبات عبر الشبكة وأحيانًا بعض الطالبات يتفوقن على كثير من الطلاب في قوة الذاكرة وقوة الحفظ، فالواقع إذاً أن هناك نساء أقوى ذاكرة من الرجال.
إذاً ما هو السبب؟ الذي يظهر -والله أعلم- أن السبب أن المرأة لما كانت مأمورة بالقرار في البيت وعدم مخالطة الرجال، وأيضًا لما كانت الثقفات التجارية والبيوعات ليست هي من أكبر اهتمامات المرأة، فهذا يدل على أن المرأة قد لا تضبط الشهادة فيما يتعلق بالأمور المالية، وأن الرجال أكثر ضبطاً لذلك بسبب كثرة مزاولتهم لها وملابستهم لها، والإنسان إنما يضبط الشيء الذي يهتم به ويزاوله ويمارسه، ولذلك في شأن الرضاعة يكتفى بشهادة امرأة واحدة، امرأة واحدة إذا كانت ثقة في الرضاعة، لماذا؟ لأن الرضاعة بالنسبة للمرأة أمور مهمة، من الشيء التي تهتم به المرأة ولذلك اكتفي بشهادة امرأة واحدة، لكن في الأمور المالية هذا ليس أكبر اهتمامات المرأة، الإنسان إذا لم يهتم بالشيء لا يضبطه في الغالب، تجد الإنسان يحفظ الشيء الذي يهتم به ويضبطه، الشيء الذي لم يهتم به يضعف ضبطه له ويضعف حفظه له.
اذكر أنني قابلت رجلاً مشهوراً بقوة الذاكرة فيما يتعلق بالرحلات ونحوها، يصف وصفًا دقيقاً ويتعجب الناس من قوة ذاكراته، لكن عندما طلبته من أمراً من الأمور، يعطيني معلومة في أمر من الأمور، قال والله ما أحفظ هذه المعلومة، مع أنها معلومة سهلة لكن لأنها ليست من مواضع اهتمامه، فالإنسان إنما يحفظ الشيء الذي يهتم به، فالمرأة فيما يتعلق بالأموال والصفقات التجارية ونحو ذلك، يعني الأصل لا تهتم بها كثيرًا، ليست هي أكبر اهتماماتها، وخاصة في الأزمنة السابقة، يمكن في الوقت الحاضر أصبحن بعض النساء يزاولن التجارة أكثر مما كان عليه الأمر في الأزمنة السابقة، مع ذلك تبقى مزاولة الآن الرجال للتجارة أكثر من النساء، هذا هو الواقع، فلذلك الشيء لا يزاوله الإنسان وليس هو أكبر اهتماماته ربما ينسى، هذا -والله اعلم- هو السبب في جعل شهادة المرأتين تعادل شهادة رجل، ليس في هذا احتقار المرأة ولا نقص للمرأة أبدًا، ولذلك جعلت المرأة في باب الرضاع شهادة امرأة واحدة تكفي، وهذا يدل على أن هذا هو السبب ليس المقصود تقليل من شأن المرأة.
ولذلك فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- نقص عقل المرأة بأن شهادة امرأتين تعادل شهادة رجل، فهذا هو نقص العقل، ونقص الدين قال: «أَليسَ إذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ ولَمْ تَصُمْ»، فيعني لا يتخذ من هذه النصوص وسيلة لتحقير المرأة أو للتقليل من شأنها أو لانتقاصها أبدًا، لا بدَّ أن تفهم هذه النصوص على الوجه الصحيح.
أيضًا من فوائد هذه الآية: تحريم امتناع الشاهد إذا دُعي لأداء الشهادة، فيجب عليه أن يؤدي الشهادة لقوله: ﴿وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ﴾ في الآية التي بعدها، ﴿وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾، وأما تحمل الشهادة فيقول العلماء إنه فرض كفاية وليس فرض عين.
وأيضًا من الفوائد: النهي عن السأم في كتابة الدَّيْن سواءً كان صغيراً أو كبيراً، والظاهر أن هذا النهي أنه للكراهة.
أيضًا من فوائد هذه الآية: أن الله تعالى ذكر لكتابة الدَّيْن فوائد، الفائدة الأولى: أنه أقسط عند الله يعني أعدل عنده لما فيه من حفظ الحق.
والثاني: أنه أقوم للشهادة.
والثالثة: أنه أقرب لعدم الريبة وعدم الشك.
أيضًا من الفوائد: العمل بالكتابة واعتبارها حجة شرعية إذا كانت من ثقة ومعروف بخطه، وأيضًا أن الشهادات تتفاوت فمنها الأقوم ومنها القيم ومنها ما ليس بقيم، فالذي ليس بقيم هو الذي لا تتوفر فيه شروط قبول الشهادة، الأقوم الأكمل، يعني مثلاً شاهد ويمين هذا مثال القيم، الأقوم شهادة رجلين.
أيضًا من فوائد هذه الآية: الأمر بالإشهاد عند التبايع، وهذا الأمر عند جماهير أهل العلم للاستحباب وليس للوجوب، بدلالة السنة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترى ولم يشهد، فهو توجيه وإرشاد محمول على الاستحباب وليس على الوجوب.
أيضًا من فوائد هذه الآية: تحريم مضاررة الكاتب أو الشهيد سواءً وقع الإضرار منهما أو عليهما وأن هذه المضارة فسوق، وهذا يقتضي أن هذا الإضرار أنه من كبائر الذنوب، ثم قال سبحانه: ﴿وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ﴾ يعني مسافرين ﴿وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ﴾ وفي قراءة "فرهن" والرهن هو توثيق دين بعين يمكن استيفائه منها أو بثمنها.
يعني إذا كنتم على سفر ولم تجدوا كاتب يكتب لكم الدين فوثقوا هذا الدين بالرهن، وهذا الرهن يكون مقبوضًا من الراهن، ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ يعني إذا كان هناك ثقة بينكم فيؤدي الذي أؤتمن أمانته ولا يلزم كتابة ولا الإشهاد ولا الرهان، ولهذا روى ابن أبي حاتم بإسناد جيد عن أبي سعيد أنه قال: "إن هذه الآية نسخت ما قبلها"، وقال الشعبي: "إذا أتمن بعضكم بعض فلا بأس أن لا تكتبوا وأن لا تشهدوا"، وهذا يدل على أن الكتابة والإشهاد في الآية السابقة ليست للوجوب وإنما هي للاستحباب.
ثم قال سبحانه: ﴿وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾، يعني من يكتم الشهادة متعمداً فيكون آثما قلبه، يعني وقع في الإثم.
من أبرز فوائد هذه الآية، أولاً: أن لم يجد كاتبًا في السفر فإنه يشرع له أن يوثق الحق بالرهن المقبوض.
ومن فوائد هذه الآية: جواز الرهن وهو جائز بالإجماع، واختلف العلماء على هل القبض شرط للزوم الرهن أم لا، بناءً على اختلافنا في فهم هذه الآية، فمن العلماء من قال: إن القبض شرط للزوم الرهن، يعني الرهن صحيح لكنه ليس بلازم، لأن الله قال: ﴿فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ﴾، وهذا هو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
والقول الثاني: أنه لا يشترط للزوم الرهن القبض وإنما يكفي العقد وهذا هو مذهب المالكية، الجمهور استدلوا بظاهر الآية قالوا إن الله قال: ﴿فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ﴾، وأما المالكية ومن وافقهم فقالوا: إن مقبوضة إنها تدل على أن أكمل الرهن أن يكون مقبوضاً لكن ليس فيها دلالة أنه يشترط لزوم الرهن أن يكون مقبوضًا، لتمام التوثقة بالرهن أن يكون مقبوضًا، والقول الثاني هو القول الراجح واختاره جمع من المحققين من أهل العلم، وهو أنه لا يشترط من لزوم الرهن أن يكون مقبوضًا، بل مجرد أن يعقد الرهن فيكون لازمًا بمجرد العقد ولا يشترط للزومه القبض، هذا هو القول الراجح في هذه الآية.
أيضًا من فوائد هذه الآية: أنه إذا حصل الائتمان -يعني الثقة- لم يجب رهن ولا إشهاد ولا كتابة لقوله: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾.
أيضًا من فوائد هذه الآية: تحريم كتمان الشهادة وإخفاءها سواءً كان كتمان أصلها أو وصفها، وسواءً كان البعث على هذا كتمان القرابة أو الصداقة أو الغنى أو البعد أو الفقر أو نحو ذلك، وظاهر الآية أن كتمان الشهادة من كبائر الذنوب، لقوله: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾.
ومن فوائد هذه الآية: بيان شمول علم الله -عز وجل- لكل شيء وأن الله مطلع على أعمال العباد لقوله: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾، فالله تعالى عليم بكل شيء وعليم بما يعمله الناس، وتكرر في القرآن ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾، ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ إشارة إلى أن الله تعالى مطلع على أعمالكم، خبير بها، عالم بها -جل وعلا-.
وبذلك نكون قد انتهينا عن الكلام عن تفسير آيات الأحكام في سورة "البقرة" الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
{أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين}.
بارك الله فيكم.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك