الدرس الثالث عشر

فضيلة الشيخ د. إبراهيم بن عبدالكريم السلوم

إحصائية السلسلة

5417 21
الدرس الثالث عشر

عمدة الأحكام 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) التابع لجمعية هداة، والذي نشرح فيه كتاب (عمدة الأحكام) للحافظ عبد الغني المقدسي -رحمه الله-، ويشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور إبراهيم بن عبد الكريم السلوم.
حياكم الله شيخنا}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياهم العلم النافع، والعمل الصالح، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.
{أمين، نستأذنكم في البدء}.
نعم، استعن بالله تعالى.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «شَاهِدَاكَ، أَوْ يَمِينُهُ» قُلْت: إذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد، فقد ذكر المصنف -رحمه الله- حديث الأشعث بن قيس -رضي الله عنه- في كتاب (الأيمان والنذور)، والحقيقة أنَّ حديث الأشعث من أصول أبواب القضاء، وهو من العمد في هذا الباب، وذلك أن النبي بيَّنَ فيه وجه القضاء، ووجه الفصل في الخصومات، فكل قاضٍ فإنما مُعَوَّله على حديث الأشعث بن قيس، أو على حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ولكنه ليس في الصحيحين، «البينةُ على المُدَّعي، واليمينُ على من أنكرَ» ، وهو بمفهوم حديث الأشعث بن قيس -رضي الله عنه-، أو على حديث ابن عباس -رضي الله عنه-، وفيه: «قَضَى النبي أنَّ اليَمِينَ علَى المُدَّعَى عليه» .
إذًا هذا الحديث من عمد أحاديث أبواب القضاء، وأبواب الأيمان والنذور، وقد أورده المصنف -رحمه الله- في باب (الأيمان والنذور)؛ لأنَّ النبي قد غلظ فيه في اليمين الغموس، ولكنه أيضا يدخل من باب أولى في (باب القضاء)، وقد كان مظنته باب القضاء وليس باب الأيمان والنذور؛ لأنه يُغني في باب الأيمان والنذور الحديث السابق، وهو حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-؛ فإنه بمعنى حديث الأشعث في الجزء المتعلق بالأيمان، ولكنه يزيد عليه، يعني: حديث الأشعث فيما يتعلق بأبواب القضاء.
قال: (عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، والأشعث كان من رؤوس اليمن، بل كان من أكبر أمراء اليمن، وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يُصاهرون إليه؛ لأنَّ كندة كانت من أعز أحياء العرب، وكانوا هم سادة اليمن، فكان الصحابة يصاهرون إليه، بلا قد صهر إليه رسول الله ، فإنه قد تزوج "جعدة بنت قيس"، ولكن لم يدخل بها، وما ضمها إلى نسائه، ثم إنَّه أصهر إليه الحسن بن علي -رضي الله عنه-، وأصهر إليه جماعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم.
قال: (كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ) هذا الرجل كان من كندة أيضًا، وكان من أبناء عم الأشعث بن قيس رضي الله عنه.
(كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ)، وما أكثر الخصومات التي تقع دائما أو غالبا في الأراضي، أو في الآبار وفيما يقاربها، ولهذا جاء التشديد الغليظ من النبي في الظلم فيها، فإنَّ الظلم أصله مذموم بكل أحواله، ولكن جاء تخصيص الظلم في الأراضي، فقال : «مَن ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ طُوِّقَهُ مِن سَبْعِ أرَضِينَ» ، والسبب في ذلك ما يحصل بين الناس من الخصومات والنزاع فيها، ثم في الغالب أنَّ الخصومات التي تقع في الأراضي ونحوها، هي خصومات بين قرابة، أو بين جيران، وهذا هو الأمر الفادح! فالخصومة التي تقع مثلا في المال، فإنها تقع كثيرا بين البائع والمشتري، قد يفترقان فلا يلتقيان العمر كله، وقد تكون أمرًا أوجع الإنسان لحظة ثم انتهى وانصرم، والإنسان إذا كان الوجع الذي سيصيبه وجعًا مؤقتا فإنه قد يصبر عليه، ولكن ما لا يصبر عليه هو الوجع الدائم، وإنما يقع الوجع الدائم بمثل الخصومات والنزاع في الأراضي ونحوها.
ولهذا يقول: (كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ)، وجاء النبي محذرًا ومشددًا في هذا الوعيد، وقد لعن النبي كما في حديث على -رضي الله عنه- «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غيَّرَ مَنَارَ الْأَرضِ» ، ومنار الأرض هي أعلامها، ألسنا نحن نرى الآن أنَّ المخططات على سبيل المثال تخطط وتُعَلَّم بأماكن للأراضي، فيعرف بذلك الأرض رقم "1"، ورقم "2"، ورقم "3"، وإنما المقصد بذلك حتى لا يبغي بعضهم على بعض.
والآن لو حصل البغي فالأمر في ذلك سهل وميسور، أعني اكتشافه، لأنها ستكون عن طريق الرفع المساحي للأرض، وعن طريق إخراج المساح، وعن طريق الصكوك المسجلة، فالأمر فيه واضح غالبًا، ولكن الأمر قد كان في الزمان الأول ولا زال في هذا الزمان في بعض الأماكن عسير، بمعنى أن يستغل الإنسان مثلا غياب أحد جيرانه، ويعلم أنَّ هذا الجار غاب غَيبة طويلة، فيعدوا على أرضه، وينتزع منها بعض الأمتار، ثم يغير المعالم وهي المراكيز والأنصبة والإعلام التي تنصب على الأراضي لتفصيلها، يغيرها لصالحه، فيمضي الزمان ولربما نسي هذا الرجل، يعني: المعتدى عليه، وربما توفي فجاء أبناؤه من بعده لا يعلمون الأعلام الصحيحة لهذه الأرض، فيكون عدوانا وبغيًا، ولهذا جاء وعيد النبي فيه.
قال: (كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ)، فالأراضي والآبار ونحوها من أماكن ومن معالم الخصومات، ولهذا ينبغي للإنسان أن يحتاط فيها دائمًا بالكتابة ولا يتهاون، فإنَّ الثقة لا تُنافي الكتابة، بل إن الثقة حقيقة لا تتم إلا حينما يكون هناك كتابة، وإن تركن إلى ثقتك بصاحبك أو غيره، فما تدري قد يغيره الزمان، وقد يضل وينسى، وما أكثر ذلك.
وما أكثر ما ينسى الإنسان ما الذي اتفق عليه مع صاحبه قبل عشرين؟ وقد يموت ويأتي من بعده ورثة لا يعلمون هذا الاتفاق، ويكون صاحبك قد فرط في حقك، كما فرطت أنت في حقك حينما لم تكتبه، فكذلك صاحبك ما كتبه لمن بعده من الورثة، فيقع في ذلك النزاع الشديد، ولهذا ينبغي أن توثق هذه الأراضي، وهذه الآبار والأشجار والمزارع والبساتين وغيرها بالمواثيق الظاهرة، بالكتابات وشهادات الشهود.
قال: (فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ ) وهنا سيتعامل النبي معهم بوصفه قاضيًا لا مفتيًا.
قال: (فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «شَاهِدَاكَ، أَوْ يَمِينُهُ») البئر إنما كانت بيد الكندي، يعني كانت بيد الخصم، ولم تكن بيد الأشعث بن قيس، لأنها لو كانت بيد الأشعث بن قيس لقال الأشعث: فخاصمني إلى رسول الله ؛ لأنه هو الذي سيدعي، ولكن الآن لا، إنما الدعوة من الأشعث على من بيده العين، فالأشعث بينته بينة خارج، وبينة الخارج يعني: من ليست بيده العين. بينما الكندي بينته بينة داخل، لأن العين بيده، أي أنَّ الأصل أن وجود اليد يعني: الملكية، أي" التملك الظاهر، أو التملك العرفي عند الناس المستقر، ووجود اليد على العين هي من أبلغ القرائن في ملكيتها، فلا ينتقل عنها بمجرد الدعوة، ولكن ينتقل عنها ببينة يقيمها المدعي، فإذا أقام هذه البينة كانت مُقَدَّمَة.
طيب كان الأشعث يدعي أنَّ هذه البئر له، والكندي الخصم يدعي أنها له، ولكنه هو من يده عليها. طيب كيف يده عليها؟ هو ما يستطيع أن يحمل البئر معه، ولا يستطيع أن تهوي البئر بيده، ولكنه قد حازها عُرفًا، يعني: كانت ترد منها إبله مثلا، وترعى منها شياهه، وعندها رعاته، وتعارف الناس عليها أنها لفلان ظاهرًا، فهذا معنى كانت يده عليها.
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «شَاهِدَاكَ، أَوْ يَمِينُهُ») فطلب النبي من الأشعث بن قيس البينة على أنّ هذه البئر له، والبينة إمَّا الشهود وهي أبلغ البينات، أو إقرار الخصم وهي أبلغ منها أيضا، فأبلغ البينات أن يقر خصمك أنَّ هذه العين لك انتهى، فالإقرار حجة قاطعة.
ولكن إذا لم يقر فما الذي يكون من البينات؟ يكون الشهود، قال: («شَاهِدَاكَ»)، وقد ثبت أنَّ النبي قد قال في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: «الْبَينَةُ عَلَى المدَّعِي»، وظهر لنا من هذا الحديث أنَّ البينة ها هنا الشهود؛ لأنَّ النبي إنما قال: («شَاهِدَاكَ»).
هل يتصور أن تكون ثم بينة أخرى غير الشهادة وغير الإقرار؟
نقول: نعم، لأن الأصل أنَّ البينات ليست قاصرة على الشهادة والإقرار، وإنما هي أوسع منها، وعلى هذا نظم الإمام ابن القيم -رحمه الله- كتابه الجليل المسمى: "الطرق الحكمية"، يعني: الوسائل والأساليب التي يحكم بها، هذا هو كتاب الطرق الحكمية للإمام ابن القيم، والكتاب قائم في أصله على إثبات أنَّ الحكم لا يكون فقط بالإقرار وبالشهادة، وإنما يكون بقرائن أخرى كثيرة، قد تقوم مقام الشهادة، وتقوم مقام الإقرار؛ لأنَّ الأصل أنَّ الإقرار قد يقع فيه الكذب، فقد يقر الإنسان على نفسه كاذبًا، والشهود يحتمل منهم الكذب أكثر وأكثر، ولهذا جاء في هذا الحديث التحذير من الحلف الكاذب، فالشهود قد يقع منهم -والعياذ بالله- شهادة الزور، وما أكثرها خاصة عند فساد الأزمان، ورقة الأديان.
ولكن ثمَّ بينات قد تكون أكثر قَطْعِيَّة من ذلك، والأصل أنَّ البينة هي كل ما أوصل إلى الحق أو دل عليه، والبينة كل ما أبان الحق وأظهره، فهي مأخوذة من لفظ البينة، فما أبان الحق وأظهره فهو بينة، سواء كان بشهود أو بإقرار أو بأمر من وراء ذلك.
وانظر إلى صنيع الإمام النسائي -رحمه الله- حينما بَوَّبَ في سننه بابا جليلا، فقال: "باب من أوهم خلاف الحكم ليستبين الحكم"، وساق فيه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في قصة سليمان بن داود لَمَّا تخاصمت امرأتان إليه في غلام، كل واحدة منهما تدعيه، فتخاصمتا إلى داود فقضى به للكبرى، وتخاصمتا إلى سليمان -عليه السلام- فقال: «ائْتُونِي بالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بيْنَهُمَا، فَقالتِ الصُّغْرَى: لا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هو ابنُهَا فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى» ، ما في بينة هنا من البينات التي يدعيها بعض الفقهاء من الإقرار أو من الشهود، ولكن ثم ما هو أبلغ من ذلك، وهو ما بدر من هذه المرأة من الحنان الشديد تجاه هذا الطفل الذي أشعرنا بأنها هي أمة، ولهذا من البينات القاطعات مثلا في هذا الزمان عند تعذر مثلا الشاهد واليمين وغيرها أن يقال: من البينات ها هنا مثلا تحليل الحمض النووي، فهو من البينات القاطعة في هذا الزمان، فعلى سبيل المثال لو أن رجلا قتل قتيلا ثم ادَّعى على هذا الرجل دعوة أنه هو القاتل ولم يكن ثمة بينة، ولا لا إقرار منه ولا شهادة، ولكن عُثِرَ على ما يدل على أنه هو القاتل من خلال اختلاط دمه بدم المقتول، مع تباعد ما بينهما من المسافات والأماكن، فهذه بينة تزيد أيضا.
ثم إذا عثر مثلا على بعض حاجيات المقتول عند القاتل، كان هذا أبلغ في الأمر، ومما يؤكد هذا المعنى ويقرره القَسَامَة، فإنَّ القسامة أهون من هذا كله، أعني أن البينة فيها التي حكم باستحقاق القتل للمدعى عليه أهون مما ذكرناه. ما هي البينة؟ البينة أمران:
الأول: اللوث، وهو العداوة الظاهرة.
الثاني: هو إقسام الخمسين رجلا على هذا الرجل بعينه أنه هو القاتل، فكيف إذا حصلنا على قرائن هي أبلغ من ذلك؟
ولهذا أصبحت المحاكم الآن تعتمد على هذا، بل تراه مقدما أحيانا حتى على الشهادة، فإذا أتى في مسرح القضاء ما يُبين أنَّ هذا الرجل هو الفاعل بأمور كثيرة وما وجدنا الشهادة ولا وجدنا الإقرار، فإنه يكتفى بهذه القرائن، وتكون حاكمة في الحكم عليه، أو قاطعة في الحكم عليه، وهذا كثير أيضًا في قضاء الفقهاء والسلف رحمهم الله. وما أقضية إياس بن معاوية الصحيحة عنه إلا جانب يسير في هذا، فإنَّ إياس بن معاوية إنما وسم بما وسم به من الفطنة، وحتى قيل: أقضى من إياس؛ لأجل أنه كان يحكم بالشهود فحسب، أو بالإقرار هذا كل واحد يحكم بها، ترى هذا المعيار ليس هو معيار تميز القاضي، أعني الحكم بالشهود، والحكم بالإقرار، لأن كل إنسان يستطيع أن يحكم به.
وإنما معيار تميز القاضي أن يستخرج ما يظهر الحق ويبينه عند عدم هذين الطريقين، فيستخرجه أحيانًا من منطوق الخصوم، أو يستخرجه من القرائن التي تحتفي بكل واحد منهما، فهذه كلها من القرائن التي قد تكون أبلغ من شهادة الشهود.
ومن ذلك مثلا: ما يُحكى أن إياس بن معاوية، ادعى رجل أنه قد ذهب هو وفلان إلى مكان فدفنا فيه مالا لهما، وأنَّ فلانًا قد جاء إلى هذا المال فانتبشه واعتدى عليه وأخذه، فلما سأل إياس بن معاوية هذا المدعى عليه عن هذه الدعوة قال: غير صحيح، والدعوة كلها غير صحيحة، ولا أعرف أصلا المكان، ولا أعلم به، وما ذهبت مع هذا الرجل، وما قمت بدفن شيء.
فقال معاوية لهذا الرجل المدعى عليه: اجلس، ثم قال للمدعي: انطلق إلى هذا المكان، وابحث فلعلك تكون قد نسيت أو ذهلت على الموضع.
ثم أخذ مع إياس بن معاوية يخوض في الحديث مع أصحابه ومن معه، وانشغل ببعض القضايا، ثم التفت إلى الرجل -المدعي عليه-، فقال له: أتراه قد وصل إلى المكان؟ قال: لا. قال: ائْتنِي بالمال. أنت زعمت قبل قليل أنك ما تعرف المكان، ولا تستدل عليه، والآن عرفت المكان وظهر لك. فكانت هذه قرينة بليغة؛ لأن الرجل قد كذب، لأنه كان له أن يقول: نعم أنا دفنته معه، ولكني لم آخذ شيئًا، ولكن أن بنكر القضية من أساسها، فإنه يدل على أنه قد بيت أمرًا سيئًا منكرًا، فهذه إذًا من البينات التي يُحكم بها.
إذا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «شَاهِدَاكَ، أَوْ يَمِينُهُ»).
وقوله ها هنا: («شَاهِدَاكَ») لا يصح أن يُحتج به على أنه ليس ثم في البينة إلا الشهود، وإنما -والله أعلم- أنه قد ظهر من حال الأشعث بن قيس أنه ليس له من القرائن والبينات شيء، فَلَمَّا لم يكن له من القرائن والبينات شيء؛ طلب النبي الشهود.
إذا قوله: («شَاهِدَاكَ») يعني: إن أتيت بشاهدين يشهدان لك على ما تدعي قضيت لك، والأصل في هؤلاء الشهود أن يكونوا شهود عدول؛ لأنَّ شهادة الفاسق ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات:6]، هذا هو الأصل في الشهود بوجه عام، أن الشاهد لا يكون الشاهد إلا شاهد عدل، وشاهد العدل هو من لم يعرف منه الفسق. هذا هو الأصل في شهادة العدل.
والفسق هو الإعلان بالأمور المفسقة، ويلحق به بعض الفقهاء من لم يعرف منه التدنس بما يخرم المروءة، ولو لم يكن فسقًا.
والحقيقة أن هذا المعنى نفيس؛ لأنَّ من تدنس بما يخرم المروءة مثل: المهرج على سبيل المثال، وهو الذي يُهرج عند الناس.
قد يقول المهرج: أنا لم أرتكب الفسق، بل هذا عملي، ثم أتى يشهد، فجماعة من الفقهاء يَرُدُّون هذا الرجل، ويقولون: ما تشهد، ولا تقبل شهادتك. لماذا؟ لأنك تمتهن بعض الأمور الخسيسة، التي لا يستبعد معها أن تشهد شهادة باطلة.
إذًا هذا المعنى وجيه، ويدل عليه واقع الحال، وهو أن الناس الذين لا يُبالون بمكارم الأخلاق، قد يكونون أسرع الناس في شهادة الزور؛ لأنَّ شهادة الزور لها وازعان:
الأول: الوازع الديني الذي يرده العدالة، وما ينافي الفسق والديانة.
الثاني: الوازع العرفي الذي يرده المروءة.
فإذا عُدِمَ هذان الوازعان أو اختل أحدهما؛ فإن الرجل قد يتجرأ على شهادة الزور، والأصل كما سبق وذكرنا أنَّ الأصل في الشهود أن شهادتهم ليست قاطعة، أي: لا يتبين بها أن الحق في جانب هذا الرجل مئة في المئة، وأن هذا هو حكم الله -عز وجل- الحقيقي في هذا.
بل نقول: على العكس فكم من الشهود الذين يشهدون إمَّا شهادة زور، وإمَّا شهادة خطأ، فإنه قد ثبت كما أخرجه بن أبي شيبة -رحمه الله- في مصنفه بإسناد صحيح عن علي -رضي الله عنه- أنه جاءه شاهدين يشهدان على رجل أنه قد سرق، فقطع يد هذا الرجل المشهود عليه، ثم أتياه من الغد فقالا: لقد أخطأنا، ولم يكن هذا هو السارق، وإنما السارق هذا، وقد أتيا بسارق آخر، فَرَدَّ عليٌّ -رضي الله عنه- شهادتهما، وأغرمهما الدية، وقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما.
إذا قد يقع من الشاهد الفجور، وقد يقع من الشاهد النسيان والذهول والخطأ ونحو ذلك، ولكن الأصل أننا نحكم بغلبة الظن، وهذا هو المعيار الأساسي، ولَمَّا حكمنا بشهادة الشهود حكمنا بغلبة الظن، فإذا كان كذلك، فكل ما كان يفيد غلبة الظن أو يُرجِّح أحد الجانبين فإنه يحكم به، كما سبق وذكرنا من القضايا.
قد يكون هناك قرائن يستخرجها القاضي من منطوق المدعي، ومن حاله، أو من حال المدعى عليه ومن منطوقه، تدل على أن الحق معه أو ضده.
قال ها هنا: («شَاهِدَاكَ») إن أتيت بشاهدين استحققتها.
وقوله: («شَاهِدَاكَ») إنما هو على الأصل والأغلب، وإلا ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾ هذا هو الأصل، ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ﴾.
وقوله («شَاهِدَاكَ») يعني: هذا هو الأصل في الأمور المالية؛ لأن النزاع هنا في مال، وليس النزاع على دم، أو عرض، وإنما هو نزاع مالي، فالأصل في النزاع المالي أنه يُقبل فيه شهادة الرجل مع المرأتين، بقول الله -تبارك وتعالى-: ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ﴾ [البقرة:282]، وهذا معنى جليل، وهو أنَّ شهادة المرأتين ليست لنقص فيهما أو في ديانتهما، وإنما هو نقص في الذاكرة، يعني: أنهما قد تذهلان؛ لأن الأصل في النساء أنَّ المرأة تعرض للحمل وللولادة ولرعاية الأطفال، فيعتريها النسيان.
ولهذا قد نرى أنَّ المرأة قد تكون أذكى في بعض الجوانب من الرجل، ولكن في الحفظ الأصل في الرجل أنه أحفظ، ولهذا ما نرى حافظات في النساء، مع أنه قد كان حريا بهن أن يكن كذلك؛ لأنهن في البيوت، ولهذا لو استعرضنا مثلا المحدثات، أو النساء من أهل الحديث، أو الروايات، سنجد أن العدد منهن قليل جدا ويسير، وأن الأغلب في الرجال.
ولو نظرنا إلى حال النساء حولنا، لرأينا أن المرأة يسرع فيها النسيان، خاصة إذا تزوجت، وأصبحت ذات أولاد، وأصبح عندها الحمل، فإنَّ الحمل يستنزف الذاكرة، ولهذا كمْ من النساء يأتين ويسألن عن حديث سعد بن عبادة، «من حفظ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم» وهذا حديث منكر شديد النكارة، فربما فجعت منه كثير من النساء، وتسأل وتقول: حملت وولدت وبعد الولادة نسيت شيئا كثيرا من القرآن؛ لأن المرأة يعتريها الحمل والولادة ويعتريها النفاس بعد ذلك، وربما انقطعت عن كتاب الله -عز وجل-، وتعتريها أيام الدورة، فتنقطع عن كتاب الله -عز وجل- وتنسى؛ فلأجل ذلك قال الله -عز وجل-: ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ﴾ [البقرة:282].
وقد بين -عز وجل- أن هذا ليس بذنب في المرأة، أو عيب في أمانتها؛ لأنه لو كان هناك عيب في أمانة المرأة لَمَا استُشهدت ابتداء، وإنما هو أمر يقع في خلقتها من حيث الحفظ، وهذا ليس بعيب، بل هو من خلقتها، يعني: قد خلقها الله -عز وجل- على ذلك، فلا تلام عليه.
وإذا كان الأمر كذلك فنحن نقول: الأصل أن كل من قيل فيه: "صدوق" من رواة الحديث مع أن الأصل في الخبر أقوى من الشهادة، ولهذا يقبل خبر الرجل الواحد في كتاب أخبار الآحاد، فالإخبار أقوى من الشهادة، ومع ذلك فإنَّ الهدف من الكلام هذا كله هو إغلاق باب الوساوس والشكوك التي يزلف منها كثير من أدعياء العلم في هذا الزمان، وأقصد به العلم الدنيوي وليس العلم الديني.
أقول: الأصل في رواية الحديث أنَّ كل من قيل فيه: صدوق، أو لا بأس به أو فيه، أو ليس بالقوي، أو قيل فيه: شيخ، أنه لا يقبل ما انفرد به، وإذا كان هذا في باب الأخبار فكيف بباب الشهادة؟
فنقول للنساء: الأصل في حالكن أنكن صدوقات، أو لا بأس بكن، فهذا هو حالكن، فلا تغضب المرأة منكن إذا قيل: نحتاج إلى شهادة امرأة ثانية؛ لأننا قلنا هذا في رجال الحديث ولم يغضبوا.
ولو قسمنا رجال الحديث لوجدنا أنهم على قسمين، ثلث هؤلاء هم الثقات الأثبات الذين تقبل روايتهم حتى لو تفردوا، وثلث ما تقبل روايتهم حتى يكون معهم غيرهم، وثلث لا تقبل روايته حتى ولو كان معه غيره، وهؤلاء هم الضعفاء، وأحيانَا إذا كان مع ضعيف ثان فمات تزده إلا ضعفا.
إذا ليس هناك مبرر حتى تغضب المرأة من هذا أو أن يطعن بهذا الأمر على النساء.
قال: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «شَاهِدَاكَ، أَوْ يَمِينُهُ»)، فبين النبي أنه إذا لم يكن لك شاهدان فإننا سنلجأ لليمين؛ لأن النبي قال: «البينةُ على المُدَّعي، واليمينُ على من أنكرَ» ، وأنَّ الأصل في القضية إذا رفعت إلى القاضي، فإنه لا يَسلم منها المدعى عليه حتى يحلف، وهذا بخلاف القضية إذا كانت مجرد دعوة عند غير القاضي، فلو جاءك رجل وادَّعى أنَّ هذا الكتاب له، فقلت له: لا، ليس لك. فيقال له أين بينتك؟ فيقول: ما عندي بينة، ولكن احلف أنت. فهنا يسوغ لك أن تقول له: لا لن أحلف، سواء كنت محقا أو مبطلا، وأما في القضاء فلابد من اليمين، إلا إن رفض المدعي اليمين، كأن يقول: ما احتاج يمينه، أو ما أقبل يمينه، كما قالها الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، قال: (إذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي) أي أنَّ يمينه ما تقدم ولا تؤخر.
قال: («شَاهِدَاكَ، أَوْ يَمِينُهُ») فإن حلف برئ، وحكم فيه القاضي.
وليعلم كثير من المتقاضين أنَّ اليمين الفاجرة لا تُبطل البينة العادلة. كيف؟
بعض المدعين يقول: إذا حلف المدعى عليه ذهب حقه، نقول: حقك بكل الأحوال ذاهب حلف أو لم يحلف. ولكن استحلفه فربما ينكث عن الحلف، واعلم أنه إن لم ينكث عن الحلف، وأتيت أنت ببينة عادلة تدل على ما ادعيت به؛ فإنها ستقبل منك حتى لو حُكم في القضية.
ترى حتى الآن في الأحكام القضائية -عندنا في المحاكم- حتى لو حكم في القضية بناء على يمين المدعى عليه، كأن تكون قد ادعيت أنت على رجل ببئر -على سبيل المثال- كدعوة أشعث بن قيس، وسألك القاضي أين بينتك؟ فقلت: ما عندي بينة، فقال القاضي: تقبل يمينه؟ قلت: نعم أقبل يمينه، ولكن إن أتيت ببينة فأنا على بينتي، فحلف وقال: والله ليس له عندي شيء، ثم عثرت أنت على البينة، عثرت مثلا على ورقة كان قد كتبها لك، هذه بينة وإقرار، أو عثرت على شهود كانوا غائبين عنك في ذلك الزمان، أو عثرت على وثائق أخرى تدل على أن هذه البئر لك! فإن هذا لا يهدم القضية، بل هناك ما يسمى طلب إعادة النظر في القضية، فلك أن تطلب إعادة النظر في القضية، وهذا مأخوذ من الشريعة.
إذًا اليمين الفاجرة لا ترد البينة، أو كما قال شريح -رحمه الله-: "البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة".
إذا تقرر معنا هذا المعنى، فإن حلف المدعى عليه بريء، وإن لم يحلف ونكل، أي قال: ما أحلف، فإن اليمين ها هنا على الأصح تكون قرينة على عدم صدقة، نقول قرينة ولكنها ليست دلالة قاطعة. لماذا ما تحلف؟ قال: أرى أنها لا تساوي اليمين. فنقول: ما دام أنها دعوة فإنها تستحق اليمين، وإلا تنازل عنها ما دام أنها ما تسوى اليمين. فإن نكل عن هذه اليمين فإن اليمين على الأصح تُرَدُّ إلى المدعي. فيقال للمدعي: احلف، فإن حلفت استحققتها.
وهذا يسمى عند العلماء بالنكول عن اليمين، أي: التراجع عنها، ورفض اليمين من المدعى عليه، وهذا ما يسمى عند العلماء برد اليمين، لأن الأصل في اليمين أن تكون في جانب المُدَّعى عليه، ولكن ها هنا رُدَّت على المدعي، فإن حلف استحقها.
ومقولة الأشعث بن قيس (إذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي) هو لسان حال كثير من المدعين، يحلف ولا يبالي، سيحلف على الاستحقاق وأنها له. فقال رسول الله في اليمين الفاجرة هذه، والتي هي من أجزاء اليمين الغموس؛ لأن اليمين الغموس هي اليمين الصبر، المصبورة يعني: التي يُصْبَر عليها الإنسان، («مَن حَلَفَ علَى يَمِينِ صَبْرٍ»)، والصبر ذكرنا أن فيه معنى التقاضي، وأنَّ اليمين الصبر إنما تكون عند القاضي، هذا هو الأصل في اليمين. («مَن حَلَفَ علَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بها مالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ») يعني: يريد أن يأخذ بها مال المسلم ويحوزه إليه، ويدعيها لنفسه، («هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ») يعني: ليس بمنصف فيها، وإنما هو كاذب فيها، ويدعي شيئًا ليس له، وهذا يدل على أن ادعاء ما ليس لك هو فجور، لأن الأصل في الفجور هو ادعاء ما ليس لك، فإن خاصمت به كنت فاجرًا، ولهذا قال النبي في صفات المنافق: «وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» ، أي: ادَّعى ما ليس له.
قال: («مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»)، وأنزل الله -عز وجل- قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [أل عمران:77]، وكما في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- وأرضاه.
وقوله: («لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ») فيه دلالة على أن هذا اليمين من أعظم الكبائر عند الله -عز وجل-.
إذا في هذا الحديث جملة من الفوائد سبق ذكرها، منها:
- أنَّ البينة على المُدَّعي، وأنَّ اليمين على من أنكرَ.
- وأنَّ المدعى عليه لا ينفلك في مجلس القضاء إلا بيمين، فإن نكل اليمين رُدَّ اليمين على المدعي؛ لأنه قال: («شَاهِدَاكَ، أَوْ يَمِينُهُ») يعني: إذا لم يحلف على اليمين، فإنها سترد عليك.
- أنَّ اليمين على الداخل، والبينة على الخارج، وقد ذكرنا أنَّ الخارج هو الذي يدعي العين من خارجها، والداخل هو الذي يدعي العين من داخلها، يعني: يده عليها، فمن كانت يده على الشيء سميت يمينه يمين داخل، ومن كانت يده خارجها سمي خارجا، فاليمين على الداخل، والبينة على الخارج.
ماذا لو تعارضت بينة الداخل وبينة الخارج؟ يعني كل واحد منهما أدلى بشهود، فالداخل الذي بيده الأرض أتى بشاهدين، والخارج الذي يدعي أتى بشاهدين!
نقول: هذه مسألة خلافية بين العلماء، والمشهور: تقديم بينة الخارج، أي: بينة من ليس بيده العين. قالوا: لأنَّ بينته أقوى، لماذا؟ لأن بينة الداخل قد يكون هؤلاء الشهود إنما شهدوا عليه لأجل أنهم يرونها بيده، ولكن هؤلاء الذين شهدوا مع الرجل الآخر، إنما شهدوا بناء على مستندات.
والأصل أنَّ القاضي يحقق في هاتين البينتين، فإن تساوتا فإن تساوتا، فقد تقدم بينة الخارج على بينة الداخل.
وبعض العلماء قال: لا، بل تقدم بينة في الداخل لماذا؟ لأن العين بيده، فهو قد أضاف قرينة أخرى على هذه القرينة.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله-: (عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ، كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا، لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا قِلَّةً»)}.
هذا حديث ثابت عن الضحاك -رضي الله عنه وأرضاه-، والحديث يعد من عمد أحاديث النذور؛ لأنَّ فيه قول النبي : («وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ»)، وهو أيضًا يدخل في أكثر من مسألة.
قال: إنه (بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)، إذا ذُكِرَ أنَّ الصحابي بايع رسول الله تحت الشجرة، فإن هذا يدل على فضيلته، ولكنه يدل على أنه ليس له قبل ذلك من الفضائل ما يُذكر به، يعني: أنه ليس بدريًا أو أُحديًا، أو عَقَبيًا؛ لأنه لو كان من أهل بدر أو أحد أو أهل العقبة؛ لَقُدِّمَ على ذلك، ولهذا نجد أنَّ البدري إذا كان من المبايعين تحت الشجرة، فالأصل في وصفه أن يقال: وكان من أهل بدر؛ لأنَّ الأصل في الوصف أن يكون بالأول، وأما إذا قيل في الصحابي أنه ممن بايع تحت الشجرة، فما من شك أنَّ ذلك فيه دلالة على فضيلته، ولكنه لم يشهد بدرًا، فدلَّ هذا الوصف على أنَّ ثابت بن الضحاك ليس بدريًا؛ لأنه لو كان بدريًا لقيل ذلك.
قال: (بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) أي: بيعة الرضوان، وقد كانت الشجرة هذه في الحديبية، وهي التي مدح الله -عز وجل- وأثنى على أهلها بقوله: ﴿لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح:18]، وأثنى عليهم رسول الله بقوله في حديث جابر -رضي الله عنه-: «لا يَدْخُلُ النارَ أحدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحتَ الشَّجَرَةِ» ، وقد كانوا أكثر من ألف وخمسمئة من الصحابة -رضوان الله عز وجل عليهم-، وقد كانت الشجرة باقية حتى كان زمن عمر، فأمر -رضي الله عنه- بقطعها، وذلك لَمَّا أخذ الناس يتبركون بها، ويذهبون إليها، ويقصدونها.
قال: إنه (بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ») كأن يقول الإنسان: هو يهودي أو نصراني، أو يقول: والله إني ليهودي أو نصراني، إن لم أفعل كذا وكذا، أو إن لم أصنع كذا وكذا، أعوذ بالله.
قال: («كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا») أي: إن كان كاذبًا في هذه اليمين، فهو كما قال، يعني: قد دخل في هذا المعنى، ولكن لا يحكم عليه حقيقة بالكفر، وإنما هو ترهيب شديد له، يعني حاله كحال هؤلاء. ونقول: لا يُقدم على هذا إلا إنسان ليس لله -عز وجل- في قلبه شيء من التعظيم، وإلا لو كان في قلبه شيء من التعظيم لله -عز وجل- لَمَا أقدم على هذا الأمر؛ لأنه لا ينبغي للإنسان أن يقول هذا المعنى حتى وإن كان صادقا. فكيف به إذا كان كاذبًا؟!
إذًا ما يجوز للإنسان أن يقول: أنا يهودي إن لم أفعل كذا! أو أنا نصراني إن لم أفعل كذا، حتى لو كان عازمًا عليه، فكيف الحال بأن يقول هذا المعنى فيما لا يفعله، أو فيما يكون كاذبًا متعمدًا فيه؟!
وقوله: («فَهُوَ كَمَا قَالَ») فيه تغليظ شديد، والظاهر -والله أعلم- أنه قد تلبس بأفعالهم وصفاتهم، ولا ينافي ذلك -والله أعلم- أن تمسخ أعمالهم، لماذا؟ لأن هذه اليمين يمين فاجرة، قد جمع فيها مع الفجور براءته من دين الإسلام، والعياذ بالله.
وقد يفسر قوله: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ، كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ) على أنه قد يكون أيضًا في قلبه نية أو اعتقاد فاسد، فيكون كافرًا فعليًا، ولهذا فالمعنى قد يحتمل أم يكون الإنسان بالفعل كافرًا إذا اطلع على القرائن التي تدل على أنَّ هذا الرجل قد فسد اعتقاده، وأنه ليس من أهل الإسلام، وأنه فعلا يريد بذلك الدخول في ديانة غير ديانة الإسلام، خاصة إذا احتفَّ به من القرائن ما يدل عليه.
والأصل حقيقة أن هذا الكلام لا يقع إلا من رجل رقيق الديانة جدً ا، ليس معه من الإسلام إلا اسمه.
قال: («وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»)، وقد سبق حديث جندب -رضي الله عنه- وشرحناه، وهو في الانتحار، وفيه: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيءٍ عُذِّبَ بِهِ يَومَ القِيَامَةِ» ، وقد جاء تفسيره في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، والذي رواه الإمامان البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، «مَن تَرَدَّى مِن جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهو في نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فيه خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَن تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ في يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَن قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ يَجَأُ بِهَا في بَطْنِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا». فهذا تفسير من النبي لقوله: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيءٍ عُذِّبَ بِهِ يَومَ القِيَامَةِ»، أي: يكلف يوم القيامة بأن يقتل نفسه ألاف وملايين المرات حتى يدركه الله -عز وجل- برحمته.
انظر إلى العذاب الذي يقع على الإنسان، حينما وقع عليه العذاب إنما كان مرة واحدة في الدنيا، وقد كان يظن أنه به الخلاص، فإذا هو والعياذ بالله الهلاك الشديد.
قال: («وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ») بَيَّنَ النبي أن النذر لا ينعقد على ما لا يملكه الإنسان. كيف؟ لو قال الإنسان: لله على نذرٌ إن شفى الله مريضي أن أُعتق غلام محمد. هذا نذر، ولكنه في شيء لا يملكه. نقول: هذا النذر غير صحيح. لماذا؟ لأنه لا يملك الغلام، وقد جاء نحو هذا المعنى في حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- في المرأة التي كانت على ناقة النبي ، فلما نجت بها، نذرت لله -عز وجل- أن تنحرها مع أنها غير مملوكة لها، وإنما هي ناقة من نوق النبي . فقال النبي : «بئس ما جزيتها، إنه لا نذر للإنسان فيما لا يملك»، فلا تنذر فيما لا تملك من مال غيرك، وهذ النذر لا قيمة له.
قال بعض العلماء -رحمهم الله-: إذا نذر الإنسان مثل هذا النذر، فعليه كفارة يمين.
قال هنا: («وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ») فيه دلالة على أنَّ أذية المؤمن والمسلم باللسان لا تقل عن أذيته باليد، وأن اللعن أمر عظيم، وأنَّ من لعن أخيه فكأنما قتله؛ لأن اللعن إنما هو طرد وإبعاد عن رحمة الله -عز وجل-، وأنت بلعنك له كأنما تميت الجانب الديني فيه، وما من شك أن موت الجانب الديني فيه، أو الدعاء عليه بالهلاك الديني، أعظم من الدعاء عليه بالهلاك الدنيوي.
قال النبي : («وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ») فالقتل أذية للمؤمن، وكذلك اللعن أذية له، فشبه اللعن بالقتل من جهة الأذية، وأن كليهما محرم، ولهذا جاء عن النبي أنه قال: «سِبابُ المسلِمِ فُسوقٌ وقتالُه كفرٌ» ، فما من شك أنَّ اللعان فاسق، ولهذا جاء عن النبي أنه قال: «ليسَ المؤمنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحشِ ولا البَذيءِ» ، فهذه معان ينبغي للإنسان أن يستحضرها، وقد رأينا الآن كثرة ورود اللعن -والعياذ بالله- على ألسنة كثير من الناس، وهذا من تهاونهم بالشريعة، ومن تهاونهم بحصائد الألسن، والأصل حقيقة ألَّا يُلعن حتى الشيطان، مع أنَّ الله -عز وجل- قد لعنه؛ لأنَّ اللعن إنما هو لله -عز وجل-، ولرسوله ، ولذا كان الأصل أنَّ المؤمن لا يلعن إلا من لعنه الله، ولعنه رسوله .
ومما يدل على عظم اللعن وقبحه أنَّ رجلاً لعنَ ناقةً له، فقال النبي : «خُذُوا ما عَلَيْهَا وَأَعْرُوهَا؛ فإنَّهَا مَلْعُونَةٌ» ، وقال : «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَاعَةَ نَيْلٍ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ» ، فدلَّ ذلك على تعظيم اللعن، وأنك قد تعلن ابنك أو أخاك أو غير ذلك، فيصادف من الله -عز وجل- ساعة استجابة، فيحقق الله -عز وجل- ذلك.
وإنما قلت قبل قليل: إن المؤمن لا يلعن حتى الشيطان مع أن الله- عز وجل- قد لعنه؛ لأنه لم يحفظ أن السلف كانوا يلعنون الشيطان، فلا يحفظ أن السلف كانوا يقولون: لعن الله الشيطان، وإنما قال النبي في الرجل الذي قال: تَعِسَ الشَّيْطَانُ قال: «لَا تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَعَاظَمَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْبَيْتِ، وَلَكِنْ قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَصَاغَرَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ» ، وكون الإنسان يتعود على لعن الشيطان، فإنه يعود لسانه على اللعن، ولهذا تجد من تعود على لعن الشيطان يكثر من اللعن في حق غير الشيطان من عباد الله -عز وجل، ولهذا كان تدريب اللسان حقيقة وتعويده على محاسن الكلام هو من الأمور التي ينبغي أن لا يغفل عنها الإنسان، حتى ولو أجاز لك الشرع أن تتكلم في بعض الأمور، إلا أنه ينبغي لك أن تترفع عنها. وقد جاء ذلك في عيسى -عليه السلام- لَمَّا مرَّ به كلب، فقال: "تَنَحَّى يا هذا"، فقيل له: كيف تقول هذا؟ فقال: "كرهت أن أعود لساني السوء"، وهذا أخرجه الإمام مالك -رحمه الله- في الموطأ.
إذًا هذا حتى لا يتجرأ الإنسان على مثل هذه العبارات، وهذا فقه جليل ينبغي للإنسان أن يستشعره.
قال ها هنا: («مَنْ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا، لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا قِلَّةً») نسأل الله العافية، فكم من الدعاوى الآن التي يتعامل بها كثير من الخلق يتكثرون بها!
وهل قامت السوشيال ميديا الآن وكثير من وسائل التواصل الاجتماعي، وهل اشتهر -والعياذ بالله- من اشتهر إلا بسبب هذه الدعاوى الكاذبة، يمثل لنفسه واقعًا ليس هو واقعه، ويدَّعي دعاوى كاذبة في نفسه، وفيمن حوله، أنه على منزلة من الفضل والذكاء والخلق والعقل والكرم والجود، وما إلى ذلك، وهي كلها دعاوى كاذبة، وربما إذا فُتِّش عنهم وجد أنهم بالنقيض من ذلك، ولهذا ما يبدو للناس عنهم فيما بعد يُناقض ذلك.
وهذه أيضًا من الأمور التي يقع فيها كثير من التجار، فإنهم يدعون أصحاب دعاوى، يدعي أنه يملك كذا ويملك كذا، وأنه قد اشترى بكذا وباع بكذا، كل هذه الدعاوى يسأل ما المقصود بها؟ إذا كانت دعواك هذه إنما تقصد من ورائها نصرة الإسلام والمسلمين، والذبِّ عن حياض المسلمين فالحمد لله ولك أجرك، ولكن إنما كنت تقصد بهذه الدعوة الكاذبة أن تزيد بها مالك وجاهك وسلطانك، فاعلم أنَّ الله -عز وجل- لا يزيدك بها إلا قلة.
إذا هذه الدعاوى الكاذبة كلها لا تقدم ولا تؤخر، ولا تزيد الإنسان إلا نقصا، وإنما يزيد الإنسان ويرفعه التواضع لله -عز وجل-، وإنما يتواضع الإنسان لله -عز وجل- بمعرفته بقدر نفسه، وأنك إنسان فقير وضعيف في جانب الله -عز وجل-، فما الذي قدمته؟ ما قدمت شيئًا لله -عز وجل-، ولا قدمت شيئًا لدين الله -عز وجل-.
إذا هذا هو تفسير حديث ثابت من ضحاك ر-ضي الله عنه-، ولعلنا نكتفي بذلك، والله -تبارك وتعالى- أعلم وأحكم.
{أحسن الله إليكم، ورضي عنكم وشكر لكم، وشكر الله لكم على حسن الاستماع، وإلى حلقة جديدة -بإذن الله-، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك