الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

10955 9
الدرس الرابع

كتاب التوحيد 2

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على حبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد، فمرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذا الدرس الجديد من دروس شرح (كتاب التوحيد) للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، والذي يشرحه لنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، فأسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يجعلنا وإياكم وشيخنا الفاضل من أهل العلم العاملين به، فمرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة جميعًا، وعلى بركة الله نبدأ، تفضل يا شيخ.
{الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في كتابه (كتاب التوحيد): (بابُ
ما جاءَ من التغليظِ فِيمَنْ عَبَدَ اللهَ عِنْدَ قَبْرِ رَجُلٍ صالِحٍ فَكَيْفَ إِذا عَبَدَهُ؟
في الصَّحيحِ عن عائِشةَ رضي الله عنها أنّ أمّ سَلَمةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ الله كَنيسةً رأتها بِأرْضِ الحَبَشَةِ، وَما فِيها مِنَ الصُّوَرِ، فقالَ: «أُولئِكَ إِذا ماتَ فِيهِم الرَّجُلُ الصَّالِحُ، أوِ العَبْدُ الصَّالِحُ، بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّروا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولئِكَ شِرارُ الخلْقِ عِنْدَ اللهِ».
فَهَؤلاءِ جَمَعُوا بَيْنَ الفِتْنَتَيْنِ: فِتْنَةِ القُبُورِ، وَفِتْنَةِ التَّماثِيل.
وَلَهُما عَنْها، قالتْ: "لَما نُزِلَ بِرَسُولِ الله طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ علَى وَجْهِهِ، فَإذا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَها، فَقَالَ-وَهُوَ كَذَلكَ -: «لَعَنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى، اتَّخَذوا قُبُورَ أَنْبيائِهِم مَسَاجِدَ»، يُحذِّر مَا صَنَعُوا، وَلَوْلا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أن يُتَّخذَ مَسْجِدًا" أخرجاهُ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا الباب باب عظيم مهم جدًّا ويحتاجه المسلمون في هذه الأزمنة التي كثُرت فيها الأخطاء والشبهات والانحرافات فيما يتعلق بالمقابر وفيما يتعلق ببناء المساجد على المقابر؛ فيجب على المسلم والمسلمة في كل مكانٍ أن يعرف ماذا قال الله وماذا قال رسوله في هذا الأمر، والمؤلف-رَحِمَهُ اللهُ- جعل العنوان بهذه الطريقة (باب ما جاءَ من التغليظِ فِيمَنْ عَبَدَ اللهَ عِنْدَ قَبْرِ رَجُلٍ صالِحٍ فَكَيْفَ إِذا عَبَدَهُ؟)، وهذا من حسن التَّأليف والتَّعبير أيضًا، فهو يؤلِّف كتابًا في التَّوحيد، ويبين حق الله -سبحانه وتعالى- وهو إخلاص العبادة له، ويقول: اُنظر فيما ورد في هذه الأحاديث التي سأسوقها لك من التَّغليظ -أي التشديد والتهديد من العقوبات- والنكال والعذاب والسخط الذي ينال هؤلاء، من هم؟ أناس ظاهر الأمر أنهم عبدوا الله ولم يعبدوا غيره، لكنهم فعلوا أمرًا منكرًا استحسنوه بعقولهم، وتشاوروا فيما بينهم فاتفقوا عليه، وكلهم إمَّا ذو جهل وإمَّا ذو علم لكن انحرف -نسأل الله العافية والسلامة- فعبدوا الله لكن عند قبر، خصَّص؛ فبيَّن أن العبادات يجب أن نحذر من الإحداث فيها، فالعبادات توقيفية، العبادات يجب أن نفعلها كما أمر الله وكما أمر رسوله الله ولا نبتدع في دين الله -عَزَّ وَجَلَّ.
قد يقول قائل: هم يعبدون الله؟
نقول: نعم لكنهم ابتدعوا في دينه، وعبدوا الله -عَزَّ وَجَلَّ- في مكانٍ نهاهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يفعلوا هذه العبادة فيه، إذًا العبادة يجب أن تكون على وِفق ما شرع الله، ومن العبادات بناء المساجد، ومن العبادات الصلاة بما فيها من ركوع وسجود، ومن العبادات الصدقات، هذه العبادات إذا خصصتها بمكانٍ عند قبر رجلٍ صالحٍ أو عند قبر أيًّا كان وتعمدت أن تكون هذه العبادة عند القبر؛ فهنا جاء هذا الوعيد الشديد.
قال الشيخ: (فَكَيْفَ إِذا عَبَدَهُ)، إذا كان هذا الوعيد الشديد ورد فيمن هو في الأصل موحد عبد الله، فكيف إذا كان هذا الشَّخص لا يعبد الله بل يعبد هذا المقبور -نسأل الله العافية والسلامة.
نستمع لهذه النصوص ونتفقه فيما قاله الرسول .
قال: (في الصَّحيحِ عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه)، أم المؤمنين، الصديقة بنت الصديق، عائشة بنت أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْها- وعن أبيها وعن جميع أمهات المؤمنين.
قال: (أنّ أمّ سَلَمةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ الله )، في الرواية الأخرى: (أنَّ أم سلمة وأم حبيبة)، وأم سلمة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- هند بنت أبي أمية المخزومية ممن هاجر إلى الحبشة وكذلك أم حبيبة أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان أيضًا ممن هاجرت إلى الحبشة، فذكرتا لرسول الله كنيسة رأياها في الحبشة.
وهنا في الرواية: (أنّ أمّ سَلَمةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ الله كَنيسةً رأتها بِأرْضِ الحَبَشَةِ، وَما فِيها مِنَ الصُّوَرِ)، اسمها "كنيسة ماريا"، وفيها صور وتماثيل ومصورات لأناس ماتوا قديمًا يزعمون أنهم صالحين، فيُتعجَّب من منظرها، والحبشة بلاد فيها نصارى من قديم الزمان، فذكرتا لرسول الله هذه الكنيسة اللاتي رأينها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، وهذا يبين لنا أنَّ ما يوجد في الكنائس الآن هو على نفس النَّسق السَّابق، وأنَّ في هذه الأمة من شابه الأمم السابقة.
فقال رسول الله : «أُولئِكِ»، يخاطب أم سلمة ويصح أن يقال: (أولئِكَ).
قال: «إِذا ماتَ فِيهِم الرَّجُلُ الصَّالِحُ، أوِ العَبْدُ الصَّالِحُ» شكَّ الراوي هل قال: «العبد» أو قال: «الرجل». لكن الشاهد هو قوله: «الصَّالِحُ».
قال: «بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّروا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولئِكَ شِرارُ الخلْقِ عِنْدَ اللهِ»، لَمَّا ذكر أمر أهل الباطل علَّق عليه الرسول ، فهذا من الأخبار التي تجري في المجالس، وفيه حكم الاطلاع على هذه الكنائس، وأنَّه يُنكر عليهم، فيُقال: هؤلاء شرار الخلق، هؤلاء على ضلال، هؤلاء كذا وكذا؛ لأنَّ الرسول كان بالإمكان أن لا يذكر شيئًا بعد ما يسمع كلام أم سلمة، لكن بيَّن هذا الضَّلال الذي وقع فيه الأولون وهذا مهم جدًّا، ولهذا نحذر حقيقة من دخول المعابد الشركيَّة والأماكن التي يشرك فيها بالله -عَزَّ وَجَلَّ- إلا لغرض النصيحة وإقامة الحجة، وإذا خشي فيبتعد عن هذه الأماكن ولا يكثِّر سوادهم.
قال : «بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا»، والثانية: «وَصَوَّروا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ»، إذًا جمعوا بين فتنتين كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب تعليقًا على هذا الحديث، قال: (فهؤلاءِ جمعوا بينَ الفتنتيْنِ؛ فتنةِ القبورِ وفتنةِ التماثيلِ)؛ لأنَّ التماثيل يقال لها: "صور"، وهذه فتنة مستقلة، وهذه فتنة مستقلة، فالقبور إذا بُني عليها مسجد فهي فتنة عظيمة.
ما الوعيد فيمن فعل هذا؟
قال: «أُولئِكَ شِرارُ الخلْقِ»، انظر لأنواع المجرمين، انظر إلى أنواع أهل الذنوب؛ هؤلاء شرارهم بمحكم كلام النبي ، فهذا تغليظ شديد، هؤلاء ظاهر الأمر الآن أنهم لم يعبدوهم، والواقع ممن يفعل هذه الأمور أحد أمرين:
الأمر الأول: الدافع له المحبة والاستحسان العقلي والتعظيم للصالحين، كما فعل قوم نوح بود وسواع ويغوث ويعوق ونسر. هذا الدافع الأول.
الدافع الثاني: أناس يعبدونهم من دون الله، هم يعتقدون فيهم ويظنون فيهم أنهم يدعون، ويستقبلون الدعاء، ويستقبلون الشَّفاعة، ويستقبلون الطلبات، ويغيثون اللهفات فلذلك يفعلون هذه الأفعال الشركية.
إذًا الفتنة الأولى: بناء المساجد على القبور.
الثانية: تصوير الصور للصالحين والأنبياء ونحوهم من المعظَّمين وتعليقها أو التَّماثيل وتعليقها.
ما حكم ذلك؟
الجواب: أنَّ هذا من أعظم المحرمات، وهو من وسائل الشرك.
وهؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال وهي بناء المساجد على القبور فيدخل فيها لو بنى غرفة فوق القبر، أو بنى قُبَّة فوق القبر، أو بنى مسجدًا وقال للناس: تعالوا صلوا فيه لأجل هذا القبر؛ هذا يدخل فيه دخولًا أوليًّا وستأتي بقية الصور، فيحدث من هؤلاء الناس الغلو في هذا الصالح ثم عبادته من دون الله، والاستغاثة به، والذبح له، والاعتقاد فيه؛ وهذا الذي يقع كثيرًا ويتكرر كثيرًا.
وقوله : «أُولئِكَ شِرارُ الخلْقِ عِنْدَ اللهِ» تحذير حتى لا نقع فيما وقعوا فيه، ونهي للأمة بالذَّم لأولئك حتى لا يتشبهوا بهم، فكثير من الناس قد يقول: هذا فعله مَن قبلنا؟ نقول: نعم، ولكن النبي ماذا فعل؟ وماذا قال؟ حذر منه ولعن من فعله وقال: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» .
{بعضهم يستدل بحديث أم سلمة بجواز دخول الكنائس؟ هل دخول الكنائس في حكم الجواز على الإطلاق أو بشروط؟ كيف نوجه هذا الحديث؟}.
لم يثبت أنَّ أم سلمة قد دخلت، قد تكون رأتها من الخارج، قد تكون لها نوافذ وكوَّات فنظرت ما في داخلها، ولم يثبت أنهم دخلوها، ولكن ربما تكون دخلتها، ودخول الكنائس عند أهل العلم له ضوابط شرعية، وقد يحتاج الإنسان في بعض البلدان التي لا يوجد فيها أماكن للصلاة، قد يحتاج إلى الدخول مثلًا، لكن يشترط لصحة الصلاة فيها لو قُدر أنه احتاج إلى الصلاة، ألا يكون فيها صور ولا تماثيل، ولكن هذا لا يخلو من هذه المعابد الكفريَّة الوثنيَّة، فالأغلب أنها معابد مليئة بالصور والتماثيل والصلبان، ولذلك يحرم أن يصلِّي فيها المسلم.
لكن إذا قال: أنا ما وجدت مكانًا والمطر في الخارج أو الثلوج في الخارج؟
فنقول له: الصلاة داخلها فيها إشكال من جهة ما فيها من الصور والتماثيل، والعلماء تنازعوا في هذا الأمر، والخلاف مشهور بينهم في صحة الصلاة، فما دام الأمر هكذا؛ فإذا كان هناك وقت فعليه أن يؤخِّر الصلاة حتى يجد مكانًا آخر، على كلٍّ؛ هذا يراجَع فيه أهل الفتوى.
{الضرورات تقدر بقدرها، أقصد أنَّ لها فتاوى خاصَّة}.
إذا وجدت ضرورة فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، لكن نحن نتحدث الآن عن أن بعض الناس يدخلها من باب السياحة أو من باب الفرجة؛ وهذا أمر خطير! وقد ذكرتُ في درس سابق أن بعض الناس يذهب حتى إلى معابد فيها أصنام، هذا غلط كبير! حتى قال بعض الناس: إنهم يطلبون من الزُّوار أو السياح أن يشترون وردة فيضعونها بين يدي الصنم، وهذا مثل ما سبق ذكرناه في حديث «قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا! فَقَرَّبَ ذُبَابًا، فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ. قَالَ: فَدَخَلَ النَّارَ» .
{وتكثير سواد الناس الزيارة هذه مدعاة لتعظيمها صراحة}.
لا شك، ولذلك النبي لَمَّا ذكر هذا الأمر بين الضَّلال الذي لديهم، فمن دخل هذه الأماكن ليبين وينصح ويدعو بالرفق وبكلمة طيبة وبالأسلوب الحسن، فجزاه الله خيرا، أمَّا من أراد مجرد الفرجة فقد يفتتن، وقد يقع في محظورٍ.
قال: (وَلَهُما عَنْها، قالتْ: «لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ الله »)، يعني: نزل به الموت وصار يعاني من الموت صلوات الله وسلامه عليه، وهو كان في بيتها، وهي التي كانت تمرضه في مرضه الأخير صلوات الله وسلامه عليه، فهي تحكي أمرًا عاينته وشاهدته عن قرب -رَضِيَ اللهُ عَنْها وأرضاها.
قالت: (طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً)، الخميصة: كساء مخطط له أعلام، فيطرح هذا الخميصة على وجهه للتبريد، لأنها تكون مبللة بالماء، والنبي كان يقول: «إنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ» ، فكان يعاني من ذلك .
قالت: (فَإذا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَه)، يعني: إذا اغتم بالخميصة أزالها عن وجهه حتى يدخل شيء من الهواء ويتنفس.
قالت: (فَقَالَ وَهُوَ كَذَلكَ)، يعني: وهو في هذه الحالة الشديدة، وهذا يؤكد لنا يعني اهتمام النبي البالغ العظيم بالتَّحذير والتَّغليظ على مَن فعل هذا الشيء.
قالت: (فَقَالَ وَهُوَ كَذَلكَ: «لَعَنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى، اتَّخَذوا قُبُورَ أَنْبيائِهِم مَسَاجِدَ» يُحذِّر مَا صَنَعُوا، وَلَوْلا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أن يُتَّخذَ مَسْجِدًا)، وفي ضبط آخر: «خَشِيَ أن يُتَّخذَ مَسْجِدًا».
إذًا هذا الحديث العظيم فيه عدة فوائد، منها:
الأولى: أن النبي لم يترك التحذير من هذا الأمر حتى في اللحظات الأخيرة من حياته، إذًا على جميع الدعاة إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وعلى جميع من ينصح للمسلمين أن يسلك مسلك النبي ، ويحذِّر من هذا الأمر.
الثانية: أنَّ بيان التوحيد ومسائل التوحيد وبيان مسائل العقيدة لا يقال هذا شيء في وقت محدد وينتهي ولا نكرره على الناس؛ هنا هذا الأمر سيأتي في حديث جندب أنه «سَمِعْتُ النّبيَّ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ» وهنا الآن في السكرات يعيده، وأمام أم سلمة وعائشة تكلم وبين، إذًا التوحيد يُعاد ويُكرر ويذكَّر به الناس دوما وأبدًا.
الثالثة: استحقاق من يفعل هذا الشيء لعنة الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فالذي يفعل هذا الفعل هو مستحق للعنة الله، قال : «لَعَنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى، اتَّخَذوا قُبُورَ أَنْبيائِهِم مَسَاجِدَ».
نشرح هذه الجملة، وكنتُ ذكرتُ منها صورة واحدة قبل قليل، اتخاذ القبور مساجد له ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يصلي عند القبر، أن يتردد عند القبر للصلاة عنده ويصلي لله، فيصلي ركعتين عند القبر، ويقول: هذا قبر النبي، أو هذا قبر الولي أو هذا قبر الرجل الصَّالح أو المرأة الصالحة وسأصلي عنده ركعتين؛ هذا اتخذ القبر مسجدًا، كيف؟
قال النبي : «وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، فأيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ» ، فإذا اتَّخذَ هذا المكان للصَّلاةِ فقد اتَّخذه مسجدًا، ولهذا فُسِّر قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدً﴾ [الجن: 18] بتفسيرين:
الأول: أنه مواضع السجود السبعة.
الثاني: أن المساجد هي البيوت التي بُنيت لعبادة الله، وينادَى فيها بالصلوات الخمس.
وكلا التفسيرين حق، ولكن المعنى الأول معنًى صحيح، فمساجدك هي التي تسجد عليها هي لله -عَزَّ وَجَلَّ- فلا تسجد بها لغيره، فإذا أنت اتَّخذت مكان القبر للسجود، وبعضهم يُسميه مقامًا وليس قبرًا، فيقولون: هذا المكان صلى فيه رجل صالح، هذا المكان أقام به رجل صالح، أمَّا القبور فيسمونها: "المشاهد".
الصورة الثانية وهي أعظم وأطم: أن يُبنى بناية سواء من طين أو من خشب أو من زنك أو حديد أو يبنى من بلوك وخرسانة، يبنى مسجد كامل لأجل هذا القبر، فهذا يعتبر اتخذ القبر مسجدًا، وهذه اشد من الصورة الأولى.
الصورة الثالثة: وهي أن يدخل القبر في المسجد، لكن هذه الصورة الجناية جاءت من المُدخِل للقبر، مثلًا يبني رجل مسجدًا ثم يوصي وصية ويقول: إذا أنا مت فادفنوني في مسجدي، أو حتى لو لم يوصِ، فيأتي شخص ويبني مسجدًا ثم يأتي آخر يموت فيدفنونه فيه من غير وصية من هذا، فهذا المسجد صار فيه قبر.
والواجب على ولاة الأمور وعلى كل مَن يقدر من المسلمين من أهل الشأن والسلطة والحل والعقد: أن يخرجوا هذا القبر من المسجد، فينبشونه ويخرجونه ويدفنونه في مقابر المسلمين.
أمَّا الصورة الثانية: وهي أن يبني بناءً على القبر، فهذا لو بُني بالملايين من الذَّهب والفضة لوجب هدمه، إذا بناء المسجد لأجل القبر، ولا يُقال يُخرج القبر؛ لأن هذا المسجد أُسِّس على الشِّرك، وأُسِّس على ما لَعن الرسول فاعله، فاللعن والذَّم والنَّهي والتَّحذير صريح منه على هذه الصورة، فهذا البناء كله باطل ما يُصحَّح، لماذا لا يصحح؟ لأنه مضاد لكلام الرسول .
اسمع للحديث، قال: «لَعَنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى، اتَّخَذوا قُبُورَ أَنْبيائِهِم مَسَاجِدَ»، فإذا جاءنا واحد وبنى قبرًا، وقال: هذا قبر الولي، هذا قبر رجل صالح هذا قبر نبي، هذا قبر كذا، وأحيانًا يكون كذبًا وإفكًا، لو قال: أنا سأبني مسجدًا فوق هذا القبر، فما الواجب على ولاة الأمور؟
الواجب على ولاة الأمور إزالة هذا المسجد لأنه بني على عين ما حذر منه رسول الله .
قولها -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (وَلَوْلا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أن يُتَّخذَ مَسْجِدًا)، يعني: أنَّ الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- خشوا من علمهم ومعرفتهم بتحذيرات النبي لم يدفنوه في البقيع؛ لأنهم خشوا أن يأتي جيل بعد الجيل من الجهال فيتخذون مكان القبر مسجدا افتتانًا منهم بهذا الأمر، فلذلك دفنوه في بيته، وصانوه ومنعوا من الوصول إليه، حتى لا يتَّخذه الجهال مصلًّى يُعبد من دون الله -نسأل الله العافية والسلامة- فهذا هو السبب الأول الذي أدى إلى أن يدفن النبي في بيت عائشة.
السبب الثاني: أنَّ أبا بكر الصديق قال سمعت النبي يقول: «إن الأنبياء يدفنون حيث ماتوا»، فحيثما كان مكانه لما كان في سكرات الموت وقُبضت روحه الشريفة يُدفن في نفس البقعة هذه، وهذه البقعة التي مات فيها هي بيت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- وليس هذا من المسجد أبدًا، فهو مدفون في بيت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- ثم بعد سنتين وثلاثة أشهر توفي أبو بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فدفنوه بجانبه في بيت عائشة، وليس هذا من المسجد بالإجماع، ثم بعد قرابة عشر سنين وستة أشهر توفي عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- شهيدًا ثم دفنوه أيضًا بقرب أبي بكر الصديق، فالثلاثة: رسول الله محمد ثم أبو بكر ثم عمر دفنوا في حجرة عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- ولم تكن من المسجد أبدًا.
وفي حدود سنة تسعين من الهجرة وبعد ذهاب أكثر الصحابة أُدخلت الحجرات كلها وما حولها توسعة للمسجد من الجهة الشرقية، وأُدخلت بأمر من حاكم ليس من أهل العلم وهو الوليد بن عبد الملك، فدخل البيت كاملًا، ولكن هذ البيت لا يستطيع أحد الوصول إليه، وإلى يومنا هذا لا يعتبر البيت من المسجد، والنبي لم يُدفَن في المسجد، وإنما دُفن في بيت عائشة، وكان يقول: «مَا بيْنَ بَيْتي ومِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِن رِياضِ الجَنَّةِ» ، فهو دُفن في بيته ولم يدفن في المسجد.
وضعفاء العلم والبصيرة ودعاة الخرافة يحتجون بوجود القبر في المسجد النبوي، ويظنون أن هذا مشروعٌ، وأنه حجة في إدخال القبور في المساجد في جميع المناطق وفي جميع أرجاء الأرض، وهذا كلامٌ باطل، وهذه حجَّة فاسدة، وهذا جهلٌ كبيرٌ، لأن الرسول صرَّح بالنهي عن ذلك، وبيَّنَ خطره ونهى عنه، ومع ذلك يأتي هؤلاء ويحتجون بهذه الحجة التي هم يعلمون أن النبي نهى عنها، والنبي لَمَّا توفي ما دفن في المسجد، وإنما دُفن في البيت، والنبي قال للمسلمين كلامًا عظيمًا مثل هذا الكلام: «لَعَنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى، اتَّخَذوا قُبُورَ أَنْبيائِهِم مَسَاجِدَ»، أما ما وقع من الجهال ومن الغوغاء ومن الذين لا يعقلون -نسأل الله العافية والسلامة- من قولهم: يا رسول الله افعل لنا، يا رسول الله أغثنا، يا رسول الله اشفع لنا، يا رسول الله اشف مريضنا، وبعضهم يقول: اغفر ذنوبنا؛ هذا سواء كان في داخل المسجد، أو كان بعضهم ينادي بذلك من بعيد، فهؤلاء كلهم وقعوا في الشرك الأكبر، الذي حذَّر منه الرسول .
ثم إن الرسول لما دُفن في بيت عائشة قد أحيط فوق البيت بجدران، ثم بعد تلك الجدران جدران ثلاثة مسنَّمة كما يقولها العلم، يعني جهة القبلة الجنوبية جدار، وطرفا الجدار جداران مبنيان حتى يلتقيا في اقصى الشمال، ثم داخل هذا جدران، ثم داخل ذلك الغرفة، كل هذا حماية لحمى التوحيد، ومنعًا أن يصل أحدٌ إلى قبر رسول الله .
وهذا كله يبين لنا معنى اتخاذ القبور مساجد، وأنَّ النبي حذَّر أشد التَّحذير من ذلك، وأنَّ الصحابة علموا فامتنعوا من دفنه في البقيع، وجعل في بيته حتى لا يصل إليه من يقع في الجهل من العبَّاد أو من الخرافيين أو من أهل البدع، وبالتالي لا يجوز الاحتجاج بأن القبر موجود في مسجد الرسول ، وأن هذا حجة أننا نفعل هذا؛ نقول: لا، وذلك لأمور:
أولًا: مسجد الرسول فضائله باقية ما تزول، فضائل النبوي مثل: الصلاة فيه بألف صلاة، وفيه فضائل أخرى كثيرة وردت فيمَن قدم وصلى ركعتين فيه، وأيضًا فضل الرَّوضة وهي ما بين المنبر وبيت النبي ، وأنَّها روضة من رياض الجنة، وفضائل أخرى كثيرة؛ هذه الفضائل ما يمكن أنها تزول، بل هي باقية إلى قيام الساعة.
ثانيًا: المساجد الأخرى غير المساجد الثلاثة -المسجد الحرام ومسجد النبي ومسجد الأقصى- ليس لها هذه الفضائل، وإنَّما هي من عموم المساجد التي وردَ في فضلها، لكن إذا أُحدث فيها إحداثات فيجب علينا أن نصحح وضعها، وإلا نمتنع من الصلاة فيها كما منع من ذلك رسول الله .
{أحسن الله إليكم، يعني حتى أعمال الناس ليست دليلًا على فرضٍ}.
تصرفات الناس ليست هي الدليل، هذا هو صحيح، ولكن بعض الناس يتبع الشبهات ويترك المحكمات، هذا علامة مرض القلب عمى القلب وعمى البصيرة، فهذا ضعف عظيم في البصيرة، لما يعرف كلام النبي ويعرض عنه، ويحتجُّ بفعل الأكثرين مثلًا ونحو ذلك من الأفعال التي ليست بحجة، ولهذا فإن جميع العلماء من جميع المذاهب الأربعة صرَّحوا بوجوب هدم المساجد التي بُنيت على القبور، وصرَّحوا بتحريم بناء القباب على القبور، جميع المذاهب الأربعة ولله الحمد، ونَهوا عن ذلك أشد النهي، فلا حجة لهؤلاء من المعارضين والمعاندين ودعاة البدعة.
ثم نقول أيضًا: أول من أحدث هذا البلاء في الأمة وانتشر في بعض البلدان هم الرافضة، وكان ذلك في المائة الرابعة تقريبًا، لما تولى الباطنية الذين هم يقال لهم العبيدية، والآن يسميهم بعض الناس "الفاطمية"، وهم ليسوا من فاطمة في شيء لا من قريب ولا من بعيد، كما حقَّق ذلك أهل العلم وأهل الأخبار وأهل التواريخ والمحققون، لكن هؤلاء العبيديون هم أول مَن بنى على القبور واتخذوا عليها المساجد، فكيف يرضى مسلم أن يقتدي بهؤلاء؟! حتى إنَّ من حكامهم شخص يقال له "الحاكم بأمر الله" هذا الرجل ادَّعى لنفسه الألوهية، نعوذ بالله! أترضى يا مسلم أن يكون هذا قدوتك وتترك كلام الرسول ؟!
وهؤلاء الغلاة الذين يدَّعون حبَّ أهل البيت والغلو فيهم يُسيئون إليهم، فأهل البيت -كما سيأتي- هم أبعد الناس عن هذا، وأشد الناس تحذيرًا من هذا كما ثبت عنهم ذلك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم- هؤلاء الرافضة اتَّبعهم بعض الجهلة من أهل السنة، خصوصًا ممن وقع في بعض ضلالات المتصوفة، وهؤلاء شابهوا الرَّافضة فبنوا على القبورِ مساجد وعظَّموها -نسأل الله العافية والسلامة.
ولهذا يوجد في بعض البلدان اليوم -مع الأسف- إسلامية وفيها أناس يعرفون العربية ويعرفون كلام الرسول ومع ذلك يوجد قبور بُني عليها مساجد، وصارت تفرش وتُطيَّب هذه المقامات وهذه القبور، ويأتي الناس يقبِّلون الجدران ويبكون ويتضرَّعون عند أصحاب هذه القبور، ويقول: بعضهم يا حسين، وبعضهم يقول: يا عيدروس، ينادونهم ويستغيثون بهم، وبعضهم يطوف في هذه القبور، وهذا مثل ما قال النبي : «لَعَنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى، اتَّخَذوا قُبُورَ أَنْبيائِهِم مَسَاجِدَ»، يحذر ما صنعوا، لأن هذا باب فتنة، باب عظيم جدًّا، فيجب علينا أن نحذر من ذلك ونحذر منه.
وقوله: (خُشِيَ)، قلنا: إنَّ الصحابة خشوا.
والرواية الثانية (خَشِيَ) يعني الرسول خشي من ذلك، فقال هذا كلام في سكرات الموت .
{أحسن الله إليك وبارك فيكم، قال-رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جُنْدَبِ بنِ عَبْدِ الله، قالَ: سَمِعْتُ النّبيَّ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ، وَهُوَ يقولُ: «إنِّي أَبْرَأُ إِلى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَليلٌ؛ فَإنّ اللهَ قَدْ اتخّذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبراهيمَ خليلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتي خَلِيلًا لاتَّخَذْتُ أَبا بَكْرٍ خَليلًا، ألا وإِنَّ مَنْ كَان قَبلَكُم كَانوا يتَّخِذُون قُبورَ أَنبيائِهم مَساجِدَ، أَلا فَلا تَتّخذوا القبورَ مَساجِدَ، فَإِنّي أَنْهاكُمْ عَنْ ذلِكَ».
فَقَدْ نَهَى عَنْهُ في آخِرِ حَياتِهِ، ثُمّ إِنّهُ لَعَنَ -وَهُوَ في السِّياقِ- مَنْ فَعَلَهُ، والصّلاةُ عِنْدَها مِنْ ذلِكَ، وَإِنْ لم يُبْنَ مَسْجِدٌ، وَهُوَ مَعنى قَوْلِها: "خُشِيَ أن يُتَّخَذَ مسجدًا"، فَإنّ الصَّحابَةَ لَمْ يكونوا لِيَبْنُوا حَوْلَ قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَكُلُّ موضعٍ قُصِدتْ الصَّلاةُ فيهِ فَقَدْ اتُّخِذَ مَسْجِدًا، بَلْ كُلُّ مَوْضِعٍ يُصلَّى فيهِ يُسَمَّى مَسْجِدًا، كَما قالَ : «جُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»)
}.
جندب بن عبد الله الصحابي الجليل -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقول: (سَمِعْتُ النّبيَّ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ)، يعني: بخمس ليالٍ.
قال: (وَهُوَ يقولُ: «إنِّي أَبْرَأُ إِلى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَليلٌ»)، هذا الكلام عام أو خاص؟ كلام على المنبر، كلام يسمعه الصحابة ومنهم جندب.
قال : «إنِّي أَبْرَأُ إِلى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَليلٌ؛ فَإنّ اللهَ قَدْ اتخّذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبراهيمَ خليلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتي خَلِيلًا لاتَّخَذْتُ أَبا بَكْرٍ خَليلًا»، هذا الحديث فيه رد على من يسُبُّ أبا بكر من أنواع الرافضة وغيرهم وأشباههم، مِن الغلاة والباطنية كذلك، فهذا أصل كبير في الرَّد عليهم، ولذلك الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- في المسألة الحادية عشرة قال: (الردَّ عَلَى الطائفتين اللَّتينِ هُما أَشرُّ أهلِ البِدَعِ، بَلْ أَخْرَجَهُمْ بَعضُ السلف مِنَ الثِّنْتَيْنِ والسَّبْعينَ فِرْقَة وهُمْ الرَّافِضَةُ والجَهْمِيَّةُ، وبِسَبَبِ الرّافِضَةِ حَدَثَ الشِّركُ وعِبادَة القُبور وهُمْ أَوَّلُ مَنْ بَنى عَلَيْها الْمَساجِدَ)، أين الرد على الجهمية؟ قوله: «فَإنّ اللهَ قَدْ اتخّذَنِي خَلِيلًا»، لأن الخلَّة هي أعلى درجات المحبة، والله -عَزَّ وَجَلَّ- اتخذ إبراهيم خليلًا، ولهذا فإن الصواب أن نقول: محمد خليل الله، أمَّا أن نقول: إن محمدًا حبيب الله؛ فهذا لا شك أنه حبيب الله لكنه ليس حبيب فقط بل أعلى من الحبيب وهو الخليل، وفي هذا الرد على الجهمية لأن معناه أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يحبه، واتخذه خليلًا، أي: غاية المحبة، وهذه المحبة الموصوف الله -عَزَّ وَجَلَّ- بها نثبتها لله كما جاء، ولا نحرِّفها بالتَّأويلات أو التَّحريفات الباطلة، بل نُثبت لله -عَزَّ وَجَلَّ- أنه يحبُّ، واتَّخذ إبراهيم خليلًا واتَّخذ محمدًا خليلًا، الجهمية أنكروا هذا، وأنكروا جميع أسماء الله وصفاته، وكذلك فروعهم وأفراخهم شابهوهم في كثير من ضلالتهم.
وقوله: «وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتي خَلِيلًا لاتَّخَذْتُ أَبا بَكْرٍ خَليلً»، وفي رواية: «ولكن إخوة الإسلام ومودته»، وهذا يبين منزلة أبي بكر الصديق عند النبي ، وأنَّه أفضل الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأرضاه.
وفي هذا الحديث أيضًا نستطيع أن نقول: إن أفضل الأولياء هو أبو بكر الصديق، لأن أفضل الصحابة هو أبو بكر، لقول النبي : «وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتي خَلِيلًا لاتَّخَذْتُ أَبا بَكْرٍ خَليلًا»، إذًا أفضل الصحابة هو أبو بكر.
وأفضل الأنبياء هو محمد ، وأفضل أتباع الأنبياء هم أصحاب النبي ، إذًا أفضل الأولياء هو أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- ويليه في الفضل عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين-، فأصحاب الأنبياء هم خير الناس، وأصحاب نبينا محمد خيرُ أصحاب الأنبياء على مرِّ الأزمنة الماضية، فأصحاب النبي محمد هم خير الناس بعد الأنبياء والمرسلين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم- وجعلنا على طريقتهم سائرين.
قال: «ألا وإِنَّ مَنْ كَان قَبلَكُم كَانوا يتَّخِذُون قُبورَ أَنبيائِهم مَساجِدَ، أَلا فَلا تَتّخذوا القبورَ مَساجِدَ، فَإِنّي أَنْهاكُمْ عَنْ ذلِكَ»؛ كم صيغة نهي؟
ثلاث صيغ نستخرجها الآن:
الأولى: الخبر عن مَن قبلنا «ألا وإِنَّ مَنْ كَان قَبلَكُم كَانوا يتَّخِذُون قُبورَ أَنبيائِهم مَساجِدَ»، فهذا نهي ذكره على سبيل الذم.
الصيغة الثانية: قوله: «فَلا تَتّخذوا القبورَ مَساجِدَ»، نهي صريح.
الصيغة الثالثة: «فَإِنّي أَنْهاكُمْ عَنْ ذلِكَ».
نقول: إنَّ هذا كله يؤكد الأمر، فجمع أنواع النهي هنا كما نرى: ذم، ونهي صريح «أَنْهاكُمْ» و «لا تَتّخذوا»، وسبحان الله العظيم! كثير من الناس وقع فيما نهى عنه الرسول وأبى إلا أن يفعل عين ما نهى عنه الرسول .
الشيخ محمد بن عبد الوهاب علق عليه بهذا التعليق، قال: (فَقَدْ نَهَى عَنْهُ في آخِرِ حَياتِهِ، ثُمّ إِنّهُ لَعَنَ -وَهُوَ في السِّياقِ- مَنْ فَعَلَهُ)، يعني سياق الموت، يعني في النزع كما قالت عائشة -رضي الله عنها-.
قال: (والصّلاةُ عِنْدَها مِنْ ذلِكَ، وَإِنْ لم يُبْنَ مَسْجِدٌ)، سبق أن ذكرنا أن أنواع اتخاذ القبور والمساجد ثلاثة، أحدها: الصلاة عندها.
قال الشيخ: (وَهُوَ مَعنى قَوْلِها: "خُشِيَ أن يُتَّخَذَ مسجدًا")، الشيخ هنا يرجح رواية "خُشِيَ".
قال: (فَإنّ الصَّحابَةَ لَمْ يكونوا لِيَبْنُوا حَوْلَ قَبْرِهِ مَسْجِدً)، هذا معلوم عندهم بالإجماع، لكن خشوا أن غيرهم يفعل هذا الشيء.
قال: (وَكُلُّ موضعٍ قُصِدتْ الصَّلاةُ فيهِ فَقَدْ اتُّخِذَ مَسْجِدًا، بَلْ كُلُّ مَوْضِعٍ يُصلَّى فيهِ يُسَمَّى مَسْجِدًا، كَما قالَ : «جُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»).
إذًا، إذا صُلي عند القبر فما حكم الصلاة؟ واحد صلى الظهر عند القبر؟
نقول: صلاتك باطلة ويجب عليه أن يعيد الصلاة، ويتوب إلى الله ويستغفره.
ونقول: إن من فعل هذا عن جهل فيعلَّم وينبَّه ويحذَّر؛ لأنَّ بعض الناس الآن، سمعت أنهم يأتون من مسافات بعيدة وبلدان بعيدة لحضور جنائز لذويهم أو أصدقائهم، ثم يقولون: الناس وصلوا إلى المقبرة، تعالَ في المقبرة، فإذا به ما صلَّى الظهر والناس صلوا العصر وانتهوا ويعدون القبر، قال: ما دام الناس يعدِّون القبر أنا أصلي الظهر ركعتين لأني مسافر ثم أصلي بعدها العصر ركعتين، وسط المقبرة! صلاتك باطلة! النبي نهى عن الصلاة في المقبرة والحمام، وقال في حديث أبي مرثد الغنوي: «لا تُصَلُّوا إلى القُبُورِ، ولا تَجْلِسُوا عَلَيهَا» ، والصلاة في المقبرة باطلة ولا تصح إلا صلاة الجنازة فقط.
والدليل على صحة صلاة الجنازة: أن النبي لَمَّا بُلِّغَ بالمرأة التي ماتت وكانت تقمُّ المسجد، فغسَّلوها بالليل وصلوا عليها ودفنوها، ثم أبلغوا النبي في الصباح فقال: «أَفلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي قالَ: فَكَأنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، أَوْ أَمْرَهُ، فَقالَ: دُلُّونِي علَى قَبْرِهِ فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَ» ، وهذا دليل على جواز صلاة الجنازة في المقبرة، وهذا في حد محدود، فليس لنا الآن نصلي على أموات قبل ألف سنة مثلًا أو مائة سنة، وإذا فُتح هذا الباب ما ينتهي، هذا ابتداع في الدين، وإنَّما هذا خاص فيمن كان مُشابهًا لحال هذه المرأة -رَضِيَ اللهُ عَنْها وأرضاها.
أيضًا لا يجوز الدفن في البيوت؛ لأنه يمنع من الصلاة في الغرفة المدفون فيها، ويحرم الورثة من الانتفاع بالبيع؛ لأنَّ المشتري الجديد سيخاف من هذا القبر، ولذلك فإن المكان الذي دُفن فيه النبي كان فيه سترة وحاجزًا، وكان هذا خاص بالنبي .
والنبي قال: «لَا تَجعَلوا بُيوتَكم قُبورًا» وإنَّ كان هذا المراد منه عدم إخلائها من الصلاة، ولكن يستفاد منه بمفهوم المخالفة أن الصلاة في القبور حرام؛ لأنه قال: «لَا تَجعَلوا بُيوتَكم قُبورًا»؛ لأنَّ القبور لا يصلى فيها عند النبي وعند الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
وأمَّا دفن النبي فإنَّه -كما تقدم- أن هذا خاص ولغرض معين وهو أن الأنبياء يدفنون حيث ماتوا.
{أحسن الله إليكم، قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولأَحْمَدَ بِسَنِدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابنِ مَسْعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «إِنّ مِنْ شِرارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعةُ وَهُمْ أَحياءٌ، والَّذينَ يَتَّخِذُونَ القُبورَ مَساجِدَ» ورواهُ أَبُو حَاتِمٍ وابنُ حِبَّانَ في صحيحِهِ أيضًا)}.
شرار الناس الذين تقوم الساعة عليهم، وذلك لأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- آخر الزمان يُرسل ريحًا تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، فلا يبقى في الأرض مؤمن ولا مؤمنة، ولا يبقى إلا شرار الناس، فهؤلاء تقوم عليهم الساعة، ومثلهم أيضًا الذين يتَّخذون قبور مساجد، مثل هؤلاء شرار الناس أيضًا؛ لأنهم يضلون الناس ببناء المساجد على القبور، ويضلون الناس بهذه التَّصرفات، فيهلك بسببهم أقوام وينحرفون ويقعون في الشرك الأكبر.
إذًا شرار الناس مَن يتخذ القبور مساجد، وهذا يشبه الحديث الأول: «أُولئِكَ شِرارُ الخلْقِ عِنْدَ اللهِ» فسبحان الله العظيم! الآن بعض علماء الضلالة يزيِّن للنَّاس هذا الشيء، ويقع بسببه أن العوام يقولون: ما دام هذا المسجد بني على قبر، واتُّخِذ عليه وانظر الآن الرخام والزينة والستور؛ فيأتي هذا الجاهل ويستغيث بهذا الميت وينذِر له ويطوف بقبره ويذبح له؛ كل هذا من الشرك، أمَّا مسجد النبي فإنَّه بُني على التوحيد.
قال ابن القيم-رَحِمَهُ اللهُ- في النونية أبياتا جميلة:

وَاللهِ لَو يَرضَى الرَّسُـول دُعاءَنَـا ... إيَّاهُ بَادَرنَا إلَى الإِذعــــــــــانِ
وَاللهِ لَو يَرضَى الرُّسُولُ سُجودَنَا ... كُنَّا نَخِرُّ لَهُ عَلَى الأذقَــــــــــانِ
وَاللهِ مَـــــــا يُرضِيـــــهِ مِنّـا غَيـرَ ... إخلاَصٍ وَتَحكِيمٍ لِذَا القُـــــرآنِ
وَلَقَد نَهَى ذَا الخَلقِ عَن إطرَائِــــه ... فِعلَ النَّصَارَى عَابِدِي الصُّلبَانِ
وَلَقَد نَهَانَا أن نُصَيِّرَهُ قَبــــــــــرَهُ ... عِيداً حِذَارَ الشِّركِ بِالرَّحمَـــــنِ
وَدَعَا بِأن لاَ يُجعَل القَبـــــرُ الذِي ... قَد ضَمَّهُ وَثَناً مِــــــــنَ الأوثَانِ
فَأجَابَ رَبُّ العَالمِينَ دُعَــــــــاءَهُ ... وَأحَاطَهُ بِثَلاَثَةِ الجُــــــــــدرَانِ
حَتَّى اغتَدَت أرجَاؤهُ بِدُعَائِــــــهِ ... فِي عِزَّةٍ وَحِمَايَةٍ وَصِيَـــــــــانِ
وَلَقَد غَدَا عِندَ الوَفَاةِ مُصَرِّحــــاً ... بِاللَّعنِ يَبصرُخُ فِيهِمُ بِــــــــأذَانِ
وَعَنَى الألَى جَعلُوا القُبُورَ مَسَاجِداً ... وَهُمُ اليَهُودُ وَعَابِدُو الصُّلبَانِ
وَاللهِ لَولاَ ذَاك أُبـــــــــــــرِزَ قَبرُهُ ... لَكِنَّهُم حَجَبُوهُ بِالحِيطَـــــــــانِ
قَصَدُوا إلَى تَسنِيمِ حُجرَتِهِ لِيَــــــمـ ... ـتَنِعَ السُّجَودُ لَهُ عَلَى الأذقَـــانِ
قَصَدُوا مُوَافَقَةَ الرَّسُولِ وَقَصدُهُ ... التّجرِيدُ لِلتَّوحِيدِ لِلرَّحمَـــــــــنِ

فهذه كلمات جميلة وأبيات جميلة في نونية ابن القيم، يبين فيها ما كان عليه الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
إذًا هذا الحديث وهذا الباب يبيِّن لنا عظم هذا الأمر وخطورته، والحذر كل الحذر من بناء المساجد على القبور، أو إدخال القبور في المساجد، أو اتخاذه مكانًا للصلاة ومقامات يشهدونها بالبناء عليها أو غير ذلك من الدعوة إليه، وإنَّما القبور تُزار لغرضين:
الأول: السلام والدعاء للموتى: اللهم اغفر لهم اللهم ارحمهم.
والثاني: للاتِّعاظ والتَّذكُّر ورقة القلب، حتى يتذكَّر الإنسانُ مصيره.
أمَّا أن تسأل أهل القبور وتطلب منهم فهذا شرك بالله -عَزَّ وَجَلَّ-، نسأل الله جل وعلا أن يثبتنا وإياكم على التوحيد وعلى السنة المحمدية، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ جزاكم الله عنَّا خيرًا، ونفع بكم الإسلام والمسلمين، وأنتم أيها الإخوة والأخوات جزاكم الله خيرًا، وشكر الله لكم استماعكم ومتابعتكم، أسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يحفظنا وإياكم بالتوحيد على كل حال وأنَّ يميتنا عليه، ونلتقي إن شاء الله في الدرس القادم وأنتم على خير والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك