الدرس الثاني

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

4664 11
الدرس الثاني

الاجتهاد والفتوى

الحمد لله رب العالمين، أحمده على نعمه، وأشكره على مننه، وأسأله المزيد من فضله، وأصلي وأسلم على نبيه الكريم، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد.
فأرحب بكم في لقاءٍ جديدٍ من لقاءاتنا في هذه المدة الشيقة الطيبة، المتعلقة بتنظيم أحوال الناس في معرفة أحكام الشريعة، وقد ذكرنا في لقائنا السابق شروط الاجتهاد، التي لا يجوز للإنسان أن يدخل في باب الاجتهاد إلا إذا كان من أهلها، ولا يجوز له أن يستند في استصدار الأحكام من الأدلة إلا إذا وجدت فيه هذه الصفات، وهي أربع صفاتٍ:
الشرط الأولى: أن يكون الإنسان عالمًا بالأدلة، الواردة في المسألة المُجتهد فيها، بحيث لا يفوته شيءٌ من هذه الأدلة، ويغلب على ظنه أنه لا يوجد دليلٌ غير ما أمامه من الأدلة.
والشرط الثاني: أن يكون عالمًا بقواعد الاستنباط، بقواعد علم الأصول، وقادرًا على تطبيقها على النصوص الشرعية.
والشرط الثالث: أن يكون عارفًا بمواطن الاتفاق والاختلاف.
والشرط الرابع: أن يَعرف من لغة العرب ما يمكِّنه من فَهم الأدلة.
وكنا في ما مضى أشرنا إلى أن المجتهدين الذين توجد فيهم هذه الصفات، منهم مَن توجد عنده هذه الصفات في جميع الأبواب، وفي جميع المسائل، ومنهم من توجد عندهم في بابٍ، أو في بابيْن، أو توجد في بعض المسائل دون بعضها الآخر، وهذا ما يسميه العلماء بتجزؤ الاجتهاد، بحيث قد يكون الإنسان مجتهدًا في بابٍ كباب الفرائض، عنده أساسيات هذا الباب وقواعده، وعنده معرفةٌ بأدلته، وإن كان لا يعرف أدلةَ باقي الأبواب، بينما يكون هناك من وصل إلى رتبة ذوي الاجتهاد في جميع الأبواب.
فالأول يقال له: تجزؤ الاجتهاد، وجمهور أهل العلم يرون أنه يمكن تجزؤ الاجتهاد، فيكون المرء مجتهدًا في بابٍ دون بابٍ، أو في مسائلَ دون مسائلَ.
واستدلوا على ذلك باتفاق السلف، على الامتناع عن الجواب في عددٍ من المسائل، حتى ورد عن بعضهم في ذلك الشيء الكثير.
يقول قائلهم: من أخطأ لا أدري أصيبت مَقَاتِلُه، وورد عن الإمام مالك -رحمه الله- أنه جاءه من يسأله عن اثنتين وأربعين مسألةً، فقال في ستٍّ وثلاثين منها: لا أعلم.
استدل بذلك على أن السلف كالإمام مالك وغيره، يرون تجزؤ الاجتهاد؛ ولذلك امتنعوا من الفتوى في بعض المسائل، حتى قال له القائل: قد أتيت لك من مصر لأسألك عن هذه المسائل، وتقول: لا أدري، قال: أخبر من وراءك بأن مالكًا لا يدري.
ومِن هذا المنطلق استدل العلماء بتجزؤ الاجتهاد، ولذلك ورد عن طائفةٍ عن السلف، الامتناع عن الفتوى في بعض المسائل، وورد عنهم الإحالة إلى غيرهم.
كذلك أيضًا يمكن أن يُقسَّم أهل الاجتهاد بحسب محل الاجتهاد ونوعه، إلى خمسة أقسامٍ، أظن أني أشرتُ إليها في اللقاء السابق على جهة الإجمال، ولعلي الآن أفصَّل فيها.
فالمجتهدون من العلماء خمسة أنواعٍ:
النوع الأول: مَن يكون مجتهدًا في الأصول والفروع، بحيث لا يتقيد بمذهب إمامٍ في القواعد الأصولية، ولا في الفروع الفقهية، فهذا يقال له المجتهد المطلق، لماذا؟ لعدم تقيده بمذهب إمامٍ، لا في الأصول ولا في الفروع، بحيث يكون عنده اجتهادات في مسائل أصول الفقه، واختيارات لا يلتزم بمذهبٍ بعينه، ينظر في مسائل الأصول، ويعرف الراجح من المرجوح، ويكون له اختياراتٌ، قد تتوافق مع مذهب إمامٍ ينتسب إليه في التعلم، وقد لا تتوافق معه.
فهذا هو الرتبة الأولى، وهؤلاء نوادر في العالم، وقلَّةٌ، وهم الذين يًعوَّل عليهم، ولا يخلو زمانٌ منهم على الصحيح، كما هو مذهب الإمام أحمد وأصحابه، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق منصورين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم إلى قيام الساعة»، ومما يكونون على الحق أن يكون في الأمة أهل اجتهادٍ.
وقول من يقول أن باب الاجتهاد قد أُغلق من القرن الخامس أو الرابع، كل هذه أقوالٌ تخالف الواقع، ولا تتوافق مع مقتضى النصوص الشرعية الواردة ببقاء الحق في الأمة، وأن الأمة لابد أن يكون فيها فقهاء يجتهدون في بحث المسائل والنظر فيها، ولأن المسائل تحتاج إلى اجتهادٍ، هناك مسائل جديدةٌ ومتعددةٌ، وتحدث في كل زمانٍ، فلابد من وجود الفقهاء أهل الاجتهاد.
القسم الثاني: المجتهد المنتسب إلى مذهبٍ، المنتسب إلى إمامٍ.
إذن الأول: الاجتهاد المطلق، والثاني: المجتهد المنتسب، وقد يسميه بعضهم: صاحب الوجه، أو أصحاب الوجوه، فإنه الوجه هو القول الذي قام به بعض الأصحاب، يخالف أقوال الإمام، ما من مذهبٍ فقهيٍّ إلا وفيه أصحاب وجوهٍ، لهم اختياراتٌ، يخالفون بها مذهب إمامهم، اختياراتٌ فقهيةٌ، وإن كانوا في الأصول قد يتوافقون معه، وقد يختاروا من الأقوال الأصولية ما يختاره إمامهم، لكنهم عند تطبيق هذه القواعد على الفروع الفقهية يختارون أقوالًا تخالف مذهب إمامهم، فإذا رأيت مثلًا الإمام أبا يوسف، الإمام الزفر، الإمام محمد بن الحسن، وجدت أن لهم اجتهاداتٍ يخالفون بها أقوال الإمام، أبي حنيفة -رحمهم الله جميعًا-، فهؤلاء أصحاب وجوهٍ، فهم وإن وافقوا الإمام في قواعده، إلا أنهم يخالفون في الاجتهادات الفقهية، ويختارون أقوالًا قد لا يقولها الإمام، فأصحاب هذا الصنف يسمون أصحاب الوجوه.
النوع الثالث من أنواع المجتهدين: أصحاب الترجيح، وهؤلاء لا يأتون بأقوالٍ جديدةٍ في المسائل الفقهية، وإنما يختارون من الأقوال الواردة عن الإمام ما يتوافق مع أصول الإمام وقواعده، يرد على الإمام ثلاث رواياتٍ، يرد عنه قولان، وبالتالي هذا الفقيه المجتهد يختار أحد هذه الأقوال الواردة عن الإمام، فهؤلاء يسمون أصحاب الترجيح، يرجِّحون بين الأقوال الواردة عن الإمام.
النوع الرابع: أصحاب التخريج، والمراد بهؤلاء من يستنبط أحكام الوقائع الجديدة، بقياسها على المسائل التي تكلَّم فيها الإمام، كلما جاءت مسألةٌ جديدةٌ بحثوا عن نظائر، أو عن مثائل، وعن المسائل المشابهة لهذه المسألة، من أقوال الإمام، التي للإمام فيها قولٌ، فيستخرجون ذلك القول، ويقيسون عليه.
وقد يكون عند الإمام قاعدةٌ فقهيةٌ، مقررةٌ في مذهبه، فكلما جاءت مسألةٌ جديدةٌ، استخرج حكمها من هذه القواعد الواردة عن الإمام، هؤلاء يسمون أصحاب التخريج، فهم لا يأتون بأصولٍ جديدةٍ، ولا يخالفون الإمام في الأصول، ولا يخالفونه في الفروع، وإنما يقيسون على كلامه.
والصنف الخامس: أصحاب الحفظ، الذين يحفظون مسائل المذهب، ويعرفون مواطن بحث هذه المسائل، ويفرِّقون بين المسائل التي فيها نوع شبهٍ، فهؤلاء يسمون أصحاب الحفظ، وهؤلاء كُثر.
وهؤلاء الأصناف الخمسة مِن الذين يحق له أن يجتهد، وأن يُفتي في المسائل؟ ومن هو الذي عنده أهلية للاجتهاد؟
نقول: عندنا الصنف الأول، الفقيه المجتهد المطلق، فهذا لا إشكال في أنه يفتي، وأنه يقضي، وأنه يتكلم في استخراج الحكم الشرعي.
والقسم الثاني وهم أصحاب الوجوه، الذين يوافقون الإمام في أصوله، لكنهم يخالفونه في بعض الترجيحات، وبعض الاختيارات، فهؤلاء أيضًا فقهاء، وعندهم قدرة على الاستنباط، وبالتالي فيجوز الاعتماد على أقوالهم في الفتوى.
وهكذا أيضًا على الصحيح أصحاب الترجيح، الذين يرجحون بين الروايات الواردة عن الإمام.
وكذلك يبقى عندنا أصحاب التخريج، وقع اختلافٌ بين العلماء في أصحاب التخريج، هل يجوز الاعتماد على أقوالهم في باب الفتوى؟ أم أن أقوالهم إنما تعتبر في البحث؟ لا في باب الفتوى، وأكثر العلماء على أن هذا الصنف لا يعتبرون من أهل الاجتهاد حقيقةً، لأنهم لا يستخرجون الحكم من النص، وإنما يستخرجون أحكام الوقائع الجديدة من أقوال الأئمة، فعملهم في القياس فقط، القياس على قول الإمام، وعلى اختياراته وترجيحاته، ولذلك فهذا الصنف ليسوا من أهل الاجتهاد الذين يجوز الرجوع إليهم، إلا في حال الضرورة، إذا لم نجد الفقيه، الذي يستطيع معرفة الحكم من دليله، فإننا حينئذٍ نكون بمثابة من وقع في ضرورةٍ، لمعرفة الحكم الشرعي، ولا يجد من أصحاب الاجتهاد من يفتيه، فيعتمد على هذا القول؛ لأنه خيرٌ من ترك الناس بلا فتوى، وبلا إرجاعٍ إلى الحكم الشرعي.
وأما الصنف الخامس، فهؤلاء الذين هم أصحاب الحفظ، هؤلاء هم أصحاب التدريس، الذين يدرِّسون المذاهب الفقهية، ويعرِّفون الناس بها، وهم الدرجة الأولى من درجات سلم الوصول إلى رتبة الاجتهاد، فلهم فضلٌ ولهم مكانةٌ، لكنهم ليسوا من أهل الفتوى، ولا يجوز الاعتماد على أقوالهم في مسائل الفتوى، إنما يُرجع إلى السابقين؛ لأن الله تعالى قال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وأهل الذكر هم أهل النصوص الشرعية، أهل الكتاب والسنة، وأهل النص الشرعي، ليس المراد به مجرد حفظه، وإنما لابد أن يكون حافظًا، وأن يكون قادرًا على الفهم والاستنباط، ومن لم يكن كذلك لم تجز مراجعته، ولذا قال الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83]، فهذا يدل على أن الاستنباط إنما المراد به الاستنباط من النص، وأصحاب الحفظ لا يستنبطون من النص، وليس لديهم قدرةٌ على ذلك، إنما لديهم قدرةٌ على فهم كلام الفقهاء، ولديهم قدرةٌ على معرفة مواطن بحث المسألة في كلام الفقهاء.
ومن ثمَّ فهذا القسم ليسوا من أهل الاجتهاد، ولا يُرجع إلى أقوالهم، إلا في مواطن الضرورات، حيث لا يوجد فقيهٌ، ولا يمكن التواصل معه، فالاعتماد على قول هؤلاء في مواطن الضرورات، خيرٌ من ترك الناس بلا رجوعٍ أو بلا ارتباطٍ بالحكم الشرعي.
إذن عرفنا أقسام المجتهدين، وبيَّنا حكم كل قسمٍ من هؤلاء المجتهدين.
ننتقل إلى مسألةٍ أخرى، وهي متعلقةٌ بالمسائل المُجتهد فيها.
هل كل مسألةٍ من مسائل الشريعة يحق الاجتهاد فيها؟ أو أن هذا خاصٌّ بالمسائل التي أدلتها ظنيةٌ؟
فنقول في هذا: بأن كلمة الاجتهاد قد يُراد بها استخراج الحكم من الدليل، وهذا كما يشمل المسائل الظنية، يشمل المسائل القطعية، وقد يُراد بكلمة الاجتهاد المسائل أو البحث في المسائل التي ليس فيها دليلٌ قاطعٌ، ويكون للاجتهاد فيها مجالٌ.
هذا الصنف أو هذا المعنى من معاني الاجتهاد لا يقع في المسائل القطعية، لا يقع في المسائل التي دليلها قطعيٌّ، إنما يقع في المسائل التي فيها دلائل ظنيةٌ، أو فيها احتمالاتٌ.
إذن عرفنا مجال الاجتهاد، وعرفنا من هو المجتهد، وعرفنا طريقة العملية الاجتهادية.
يكون عندنا نصٌّ، ثم عندنا فقيهٌ، ثم عندنا قاعدةٌ استدلاليةٌ، فنطبق القاعدة الاستنباطية على الدليل الذي هو النص؛ لاستخراج الحكم الشرعي.
من الأمور المتعلقة بهذا ما يتعلق بنتيجة الاجتهاد، ما الذي نأمل من الاجتهاد وقوعه أو حصوله؟
الجواب: معرفة حكم الله، أي حكمٍ؟ هل هو الحكم التكليفي أو الوضعي؟
الأحكام التكليفية خمسةٌ: ما هي؟
{الواجب، المندوب، المستحب، الحرام، المكروه}.
هذه هي الأحكام التكليفية، وكذلك قد يكون ناتج الاجتهاد حكمًا وضعيًّا، المراد بالحكم الوضعي ما جعله الشارع معرِّفًا أو وصفًا أو أثرًا للحكم التكليفي، وهذا أخذناه في المستوى الأول، عندما تكلمنا عن الأصول.
من أمثلة ذلك: قد تحتاج إلى معرفة هل العقد صحيحٌ أو ليس بصحيحٍ، صحة العقد وعدم صحته هذا حكمٌ وضعيٌّ، يترتب عليه النظر في الآثار، هل هذا العقد منتجٌ لآثاره، أو أنه غير منتجٍ لآثاره.
إذن هذا ناتج الاجتهاد، استخراج الحكم الشرعي سواءً كان حكمًا تكليفيًا أو حكمًا وضعيًّا.
يبقى عندنا: هل المجتهد يسعى إلى معرفة حكم الله في الوقائع؟ أو أنه لا يوجد حكمٌ لله في الوقائع إلا بعد اجتهاد المجتهد؟
مثال ذلك: جاءنا هذا الجهاز الجديد، ما حكمه؟ نحتاج إلى الأدلة لنطبق عليه القواعد؛ لنستخرج الحكم في هذا الجهاز.
الآن هل أنا أطلب حكم الله في الجهاز، بحيث يكون حكم الله سابقًا لاجتهادي، وأنا أبحث عن ما هو حكم الله؟ أو أنه لا يوجد لله حكمٌ إلا بعد أن أجتهد؟ وبالتالي يكون حكم الله تابعًا لاجتهادي؟
الجمهور قالوا: هناك حكمٌ لله واقع في المسألة قبل اجتهاد المجتهدين، بعض المجتهدين يصيبه، وبعض المجتهدين لا يصيبه، فهذا قول الجمهور، وبنوا على ذلك أن المجتهدين منهم مصيبٌ ومنهم مخطئٌ، وقد يستدلون على ذلك بعددٍ من النصوص، يستدلون على أن المجتهد قد يخطئ، قد يوافق حكم الله، وقد يخطئه، في مثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحدٌ»، ويستدلون على ذلك بما تواتر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطَّأ بعض أصحابه في عددٍ من المسائل، وقد يستدلون على ذلك بقوله -جلَّ وعلَا- في سورة ص: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمً﴾ [الأنبياء: 79]، فهذه القصة فيها أن داود -عليه السلام- حكم، ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمً﴾ [الأنبياء: 78، 79]، ثم بعد ذلك اعترض سليمان على حكم داود، فقال الله تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾، معناه أن المُصيب هو سليمان؛ لأنه هو الذي فهم المسألة، بخلاف داود -عليهم السلام-، إذن هناك مصيبٌ وهناك مخطئٌ في الاجتهاد.
لماذا قلنا بأنه يصيب ويخطئ؛ لأن هناك حكمًا لله في الوقائع قبل اجتهاد المجتهدين، قد يصيبه المجتهد، وقد يخطئه، وبناءً على ذلك: قلنا بأن المجتهد قد يصيب وقد يخطئ.
وقد يستدل على ذلك أيضًا بما ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما استدعى سعد بن معاذ يحكم في بني قريظة قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لقد حكمتَ فيهم بحكم الله من فوق سبع سماواتٍ» أو: «من فوق سبع أرقعة»، معناه هناك حكمٌ لله قبل وقوع الواقعة، وأن المجتهدين منهم من يصيب، ومنهم من يخطئه.
فيه نصوصٌ كثيرةٌ كلها تدل على هذا المعنى.
هناك طائفةٌ من الأشاعرة قالوا: كل مجتهدٍ مصيبٌ، لأن المطلوب من العبد الاجتهاد، فإذا اجتهد فقد أصاب، ويقولون بأن حكم الله في الوقائع تابعٌ لاجتهاد المجتهدين.
هل هذا الكلام صحيحٌ؟ وبماذا أجاب الجمهور؟
أجابوا عنه بعددٍ من الأجوبة:
الجواب الأول: أن هذا القول فيه تناقضٌ، عندنا رجلٌ متزوجٌ بامرأةٍ، فخالعها ثلاث مراتٍ، فجاءنا وسأل الفقيه الأول، وقال: الخلع ليس بطلاقٍ كما هو مذهب الحنابلة، وينبني عليه أنها زوجته، وأنها باقيةٌ في عصمته، وقال الآخر: بل هو طلاقٌ، كما قال الجمهور، فالآن طلقت أو لم تطلق؟ إذا قلنا أن كل مجتهدٍ مصيبٌ، معنى أنها طلقت ونفس الوقت لم تطلق، وهذا تناقضٌ، كيف يجتمع القول وضده ونقيضه في محلٍ واحدٍ، إذن هذا اعتراضٌ اعترضه الجمهور على هؤلاء المخالفين.
من اعتراضات الجمهور قالوا: أنتم تقولون: بأن الحكم الشرعي هو خطاب الله، وعندكم أن خطاب الله قديمٌ، ثم الآن تقولون حكم الله تابعٌ لاجتهاد المجتهدين، مع أن اجتهاد المجتهدين أمرٌ طارئٌ ناشئٌ، فكيف يكون حكم الله القديم في مذهبكم تابعًا لما هو طارئٌ ناشئٌ؟
هناك أيضًا لهم اعتراضاتٌ أخرى، لكن هذا لمحةٌ عن استدلالات كل من الفريقين.
{فضيلة الشيخ، ذكرتم في المسألة أن المجتهد إذا اجتهد وأصاب فله أجران، وأما إذا اجتهد وأخطأ فله أجرٌ، فما موقفه إذا تبين له بعد أن نفذ الحكم أنه قضى الحكم الخطأ، ما محله في ذاك الوقت؟ نفذ الحكم، ثم تبين له أنه نفذ الحكم إلى الخطأ}.
الخطأ الذي يقع فيه القاضي المجتهد لا يقضي عندنا إلا مجتهدٌ، والمجتهد قد يصيب وقد يخطئ، إذا أفتى أو قضى في مسألةٍ، ثم بعد ذلك رأى أن الراجح في غير القول الذي قد قاله سابقًا، فحينئذٍ هذا يقع على ثلاثة أنواعٍ:
النوع الأول: أن يكون الخطأ في تحقيق مناط المسألة، أي في الصفة التي يُعلَّق عليها القول فيها، ففي هذه الحال نقول بأنه يُنقض الحكم السابق.
مثال ذلك: شهد الشهود بأن فلانًا عليه ديْنٌ لفلانٍ، ثم أكذب الشهود أنفسهم، بعد أن صدر الحكم بإثبات الديْن، ماذا نفعل؟
ننقض الحكم الأول، تبين لنا أن الحكم الأول خاطئٌ.
صلى يظن أن ثوبه طاهرٌ، ثم بعد ذلك تبين له أن ثوبه نجسٌ، ماذا نقول؟ طاهرٌ أو نجسٌ؟ نجسٌ، تحقيق مناطٍ.
النوع الثاني من المسائل: ما خالف فيه الدليل القاطع، فحينئذٍ يُنقض قول الفقيه، الدليل القاطع واجب الاتباع.
النوع الثالث من أنواع الخطأ: الخطأ في الاجتهاد، إذا كان يرجِّح قولًا فتغير اجتهاده، ففي هذه الحال في الفتوى في ما يأتي يُفتي بالقول الجديد، وفي ما مضى من القضايا التي عُرضت عليه سابقًا يبقى على اجتهاده السابق، أنا أفتيتُ عشرةً، بأن الخُلع طلاقٌ، بعد خمس سنين تبين لي بأن الخلع فسخٌ وليس بطلاقٍ، ماذا نقول؟ في القضايا السابقة نحكم بالاجتهاد الأول، ثم بعد ذلك تحكم بالاجتهاد الجديد.
إذن قررنا أن المجتهد المصيب واحدٌ، وأن ما عداه مخطئٌ، وأن حكم الله في الوقائع واحدٌ، قد يصيبه المجتهد وقد يخطئه، وحينئذٍ لا يتنافى هذا مع قولنا بأنه يجوز تقليد أي واحدٍ من المجتهدين؛ لأن العامي ما عنده أهليةٌ للتميز بين المجتهدين.
إذا تقرر هذا الباب، فإن الاجتهاد إذن منه ما هو صوابٌ، ومنه ما هو خطأٌ، المجتهد المصيب مأجورٌ بلا إشكالٍ، والمجتهد المصيب نقول له أجران، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمجتهد المخطئ له أجرٌ واحدٌ، وبالتالي هو معذورٌ، لأنه بذل ما في وسعه، وليس منه تفريطٌ في استخراج الحكم الشرعي.
إذن المجتهد بين حالين، إما أن يكون مصيبًا فيكون له أجران، وإما أن يكون مخطئًا فله أجرٌ واحدٌ.
هناك مسائل قد يجتهد فيها الإنسان ويكون اجتهاده مبنيًّا على أصولٍ أو قواعد يتبين بطلانها، حينئذٍ نقول: القاعدة عندنا في هذا الباب أن ما بُني على باطلٍ، فهو باطلٌ، هذه قاعدةٌ مقررةٌ عند علماء الشريعة.
من مسائل الاجتهاد أيضًا: ملاحظة أن العبد لا يجوز له أن يُفتي، أو يقضي إلا بعد أن يكون من أهل الاجتهاد، من لم يكن من أهل الاجتهاد فلا يجوز له أن يقضي ولا يُفتي إلا في مواطن الضرورات كما تقدَّم.
من المسائل المتعلقة بهذا الباب: أن أقوال الأئمة والاجتهادات الفقهية في مذاهبهم، هي طرائق للتعلم، والدراسة، بحيث يستفيد الإنسان تصور المسائل، ويعرف المقارنة بينها، ويكون لديه الأهلية للنظر في أدلتها؛ لمعرفة الراجح من المرجوح.
إذن عندنا الاجتهادات التي بُنيت على تأصيلٍ باطلٍ فإننا نُبطلها.
من المسائل المتعلقة بالاجتهاد أن مذاهب الأئمة طرائق للتعلم والدراسة، مذهب الإمام أبي حنيفة، مذهب الإمام الشافعي، مذهب الإمام مالك.
والفتوى، لا يفتي الإنسان بما في هذه المذاهب، إن كان مجتهدًا أفتى بما يتوافق مع اجتهاده، وإن لم يكن مجتهدًا، فإنه حينئذٍ لا يفتي، لا يفتي إلا مجتهدٌ.
ومما يتعلق بهذا أنه في بعض البلدان يُنسب إلى العلم من كان ابنًا لعالمٍ، أو حفيدًا لعالمٍ، فيولَّى على الأمور الشرعية الدينية، من ليس بأهلٍ لكون والده أو جده متأهلًا لذلك الموطن، ما حكم هذا؟ قولٌ على الله بلا علمٍ، لا يجوز، لابد أن يكون المتكلم في هذه المسائل من أهل الاجتهاد، لا ينفع أنه ابن المجتهد، أو ابن الفقيه، أو حفيده، بل لابد أن يكون هو في نفسه مجتهدًا.
من المسائل أيضًا المتعلقة بباب الاجتهاد: أن الفقيه إما أن يختار قولًا واحدًا، وإما أن يتوقف في المسألة، لا يجوز له أن يختار قولين في وقتٍ واحدٍ، تناقض، كيف يقول بالجواز وعدم الجواز في وقتٍ واحدٍ، وهكذا في الروايات، إلا أن تكون هذه الأقوال والروايات واردةً في زمانين مختلفين، لإمكانية تغير اجتهاد الفقيه.
من المسائل المتعلقة أيضًا بباب الاجتهاد: أن الاجتهاد له أصولٌ وطرائق، وليس بالأمور الاعتباطية، والتقديرات، وإنما لابد من السير فيه على أصولٍ، من لم يسر في اجتهاده على هذه القواعد والأصول فحينئذٍ سيكون اجتهاده فوضويًّا، وأعرض لكم بعض هذا.
لابد في الفقيه المجتهد أن يعرف آثار المجتهد، ولوازم المسألة، وأسباب المسألة، قبل أن يتكلم فيها، لأنه فيه مراتٌ يُفتي الإنسان بشيءٍ، بناءً على ترجيحٍ، ثم يُفتي في ما يلازمه بترجيحٍ آخر يقابله، وأظنني أشرتُ في ما مضى إلى مثال من يصلي في صلاة الجمعة.
اختلف الفقهاء في صلاة الجمعة، هل يجوز أداؤها قبل الزوال أو لا يجوز؟
قال الحنابلة وجماعةٌ: يجوز، كيف؟ ما هو دليلكم؟ قالوا: لأن الجمعة فرضٌ مستقلٌ.
ثم بعد ذلك جاءتنا مسألةٌ: هل يجمع العصر مع الجمعة؟
فإذا قلنا بأن الجمعة فرضٌ مستقلٌ، لم يجز أن تجمع العصر معها، فمن جاءنا وقال: يجوز أن تُصلى قبل الزوال، ويجوز أن يُجمع العصر معها، قلنا: هذا فقهٌ فوضويٌّ، هذه مسائل مترابطةٌ، يلزمك من ترجيح قولٍ في مسألةٍ، ترجيح قولٍ ينتج عنه في المسألة الأخرى، ولا يصح منك أن تتناقض في هاتين المسألتين لترابطهما.
من القواعد الفقهية المقررة في هذا الباب: أن الاجتهاد لا يُعارض النص، فكل اجتهادٍ في مقابلةٍ، فإنه يعد لاغيًا، لا اجتهاد في مورد النص، كما في حديث معاذ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل: «بم تحكم؟»، قال: بكتاب الله، قال: «فإن لم تجد؟»، قال: بسنة رسول الله، ثم قال: «فإن لم تجد؟»، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فهنا قدَّم الاستدلال بالكتاب والسنة على الرأي والاجتهاد.
إذن الاجتهاد له طرائق لابد من مراعاتها من أجل استخراج الأحكام الشرعية.
هناك أيضًا قاعدةٌ الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد، أي أن الحكم المبني والمقرر على اجتهادٍ سائغٍ، فإننا لا ننقضه، لأنه ذلك الفقيه مجتهدٌ، وبالتالي الأصل صحة اجتهاده.
{مثلًا الذي في بلده مجتهدٌ في البلد عرض عليه مسألةٌ، فطلب إفتاء هذه المسألة في بلدٍ آخر، فما حكم هذه الفتوى؟}.
هذه المسألة ليست من باب الاجتهاد، من باب الفتوى.
الفقهاء على نوعين، من يعرف أعراف البلدان، فهذا يفتي في المسائل المتعلقة بالبلدان الأخرى، من لا يعرف أعراف البلدان، نقول المسائل عنده على نوعين: مسائل متعلقةٌ بالعرف، لا يجيب فيها، لأنه لا يعرف العرف، ومسائل غير متعلقةٍ بالعرف، الصلاة واجبةٌ أو ليست بواجبةٍ، أنت عالمٌ من أهل المشرق، وجاءك مستفتٍ من أهل المغرب، قال: الصلاة واجبةٌ أو غير واجبةٍ؟ تقول له: اسأل عالم بلدك؟ لا، هذه مسألةٌ ليست متعلقةً بالعرف، تغير المكان والزمان لا أثر له في الحكم الشرعي في هذه المسألة، وبالتالي لا فرق بين عالمٍ البلد وغيره.
إذن الفقيه العارف بأعراف وتقاليد البلدان الأخرى فهذا يُستفتى، وهكذا في المسائل التي لا تُبنى على عرفٍ.
عندنا من المسائل التي يهتم بها العلماء، ويذكرونها: كيف نثبت مذهب ونعرفه؟
هناك فرائق لمعرفة مذهب الفقيه، منها ما صرَّح به، ونمها ما يكون ظاهر كلامه، ومنها ما يكون من باب العموم، أو من باب الإطلاق ونحو ذلك، فهذه طرائق نعرف بها مذهب الإمام، وكذلك طرائق الفهم، وأنواع الدلالات، هذه طرائق لمعرفة قول الفقيه في المسألة، إذا جاء وأفتى في مسألةٍ، ثم وجدنا ما يشابهها، فإننا نستدل بكلامه السابق على المسألة الجديدة، لأن هذا من مفهوم الموافقة، وقد تكون الدلالات بأنواعٍ متعددةٍ، دلالة إشارةٍ، ودلالة تنبيهٍ، ودلالة إيماءٍ، إلى غير ذلك من أنواع الدلالات.
إذن مذهب الإمام نعرفه من لفظه الصريح، أو من ظاهر كلامه، أو بواسطة الدلالات، سواءً كانت دلالاتٍ نصيةً أو غيرها، وهكذا نعرف مذهب الإمام بواسطة فعله، إذا فعل فعلًا أثبت لنا مذهب إمامه، وهكذا نعرف مذهب الإمام بواسطة التخريج على كلامه، والقياس عليه.
{ما أثر معرفة مذهب المجتهد أو الإمام هذا؟ هل له أثرٌ في المسائل؟}.
نحن الآن نريد أن نتعرف على كيفية استخراج مذاهب الأئمة، وأن معرفة مذهب الإمام ليس أمرًا اعتباطيًا.
بارك الله فيكم، ووفقكم الله للخير، إن شاء الله نُكمل هذه ا لدروس في لقائنا القادم، نسأل الله -جلَّ وعلَا- لكم التوفيق، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك