الدرس الأول

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

10424 11
الدرس الأول

القواعد الفقهية

الشيخ/ معالي الدكتور. سعد الشثري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد..
فأرحب بكم في فصلٍ جديدٍ ولقاءٍ جديدٍ ومقررٍ جديدٍ نتدارس فيه علمًا من العلوم المهمة التي يستفيد الإنسان منها في جميع أفعاله، وفي جميع أجزاء حياته، هذا العلم هو القواعد الفقهية.
ما هي القواعد الفقهية؟ وماذا نستفيد من دراستها؟ وكيف نطبقها على واقعنا؟ وكيف نستمد من هذه القواعد الفقهية أحكام النوازل الجديدة، والمسائل الحادثة التي توجد في عصرنا الحاضر؟
هذه أشياءٌ نبتدئ بها في دراسة هذا الفن، ثم بعد ذلك ندرس القواعد الفقهية، و القواعد الفقهية منها ما هو قاعدةٌ كبرى، تدخل في جميع أبواب الفقه، ومنها ما هو قاعدةٌ كليةٌ لكنها ليست كبرى، تدخل في عددٍ من الأبواب، ومنها ما هو ضابطٌ يختص ببابٍ واحدٍ لا يدخل في غيره من الأبواب.
لماذا ندرس القواعد الفقهية؟ وما هي الأسباب التي تجعلنا ندرس القواعد الفقهية؟
إذن ما هو العنوان عندنا: فوائد دراسة القواعد الفقهية.
- أول فائدةٍ من فوائد دراسة القواعد الفقهية: ضبط الفقه.
عندنا هناك الفقه مسائل كثيرةٌ، هناك في أبواب العبادات، وهناك في أبواب المعاملات، وهناك في أبواب الجنايات، وفي أبواب النكاح، وفي أبواب الأطعمة، والنذور، والقضاء، وغيرها من الأبواب، إذا أراد الإنسان أن يعرف جميع تلك المسائل سيعجز لكثرتها، وعدم إمكانية أن يستحضرها الإنسان في وقتٍ واحدٍ، لكن إذا عرف القاعدة التي ترجع إليها تلك المسائل، فحينئذٍ سيكون بقاعدةٍ واحدةٍ يتمكن من معرفة جميع أو أكثر أحكام مسائل الفقه.
ولذلك من فوائد دراسة القواعد الفقهية: ضبط الفقه.
مثال ذلك: من القواعد: الأمور بمقاصدها، هذه القاعدة تدخل فيها فروعٌ كثيرةٌ في مسائل النيات والمقاصد، مثلًا في أبواب الوضوء والطهارة، هل يشترط للوضوء نيةٌ، أو لا يشترط؟ هل يشترط للغسل نيةٌ أو لا يشترط؟ هل يشترط للتيمم نيةٌ أو لا يشترط؟ هل يشترط لإزالة النجاسات نيةٌ أو لا يشترط؟ ما هو الحكم فيما لو نوى الإنسان بوضوئه النظافة والنزاهة فقط، أو باغتساله، وما هو الحكم فيما لو نوى استباحة صلاة الظهر فقط بوضوئه هل له أن يصلي صلاة العصر، أو لا يلزمه ذلك؟، كل هذه المسائل في هذا الباب كلها تعود إلى هذه القاعدة، هكذا في باب الصلاة، هناك مسائل متعلقةٌ بالنيات والمقاصد تعود إلى هذه القاعدة، كذلك في بقية أبواب العبادات وأبواب المعاملات وأبواب الجنايات، كيف يدخل في باب الجنايات، هناك مسائل متعلقةٌ بالعمد والخطأ كلها تدخل في قاعدة الأمور بمقاصدها.
فانظر هذه الجملة الواحدة المكونة من كلمتين فقط، اختصرت لك مسائل كثيرةً عديدةً من أبوابٍ مختلفةٍ.
الفائدة الثانية، طبعًا هناك ما يتعلق بالحصول على الأجر الأخروي، لماذا تكون دراسة القواعد الفقهية من أسباب الحصول على الأجر الأخروي، أليس علمًا شرعيًّا، ألا يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»، يدخل أو لا يدخل؟ فكذلك «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع»، يدخل ولا ما يدخل؟ إذن هناك أجورٌ عظيمةٌ.
كذلك أيضًا معرفة علل الأحكام، وحكمها.
يعني مثلًا لما تقول الضرر يزال، هذه قاعدةٌ فقهيةٌ، المشقة تجلب التيسير، تعرف حينئذٍ المعنى الذي لاحظه الشارع، الأمور بمقاصدها، يجعلك تلتفت إلى المعنى من أجله التفت الشارع، أو أثبت الشارع هذا الحكم.
وبالتالي ننطلق من ذلك إلى تطبيق الحكم على المسائل الأخرى، ومن ثم من فوائد دراسة القواعد الفقهية: معرفة أحكام النوازل الجديدة.
لأننا عرفنا القاعدة، وبالتالي نجري الحكم، مثلًا الضرر يزال، عرفنا بها أنواع الضرر، لو جاءنا إنسانٌ وأضر بغيره في الانترنت أو في وسائل التواصل الاجتماعي ولا أضر بغيره في الهاتف والجوال، ؟؟؟ من القاعدة، الضرر يزال، لا ضرر ولا ضرار، أليس كذلك، فهكذا نستطيع قياس المسائل الجديدة على مسائل وردت في الشريعة بناءً على العلل التي ذكرت في القواعد الفقهية.
وبالتالي دراسة القواعد الفقهية تعينك على تطبيق مباحث القياس الأصولي.
هناك فوائد كثيرةٌ من دراسة القواعد الفقهية لكن أشرتُ إلى بعض الأشياء المتعلقة بها.
حينئذٍ ما هي القواعد الفقهية؟
إذن هذا الدرس، الجزء الأول: فوائد دراسة القواعد الفقهية، الثاني: يتعلق بتعريف القواعد الفقهية.
نحن نريد أن نعرف في اللغة قواعد جمع قاعدة، وهي الأساس الذي يبنى عليه غيره، والفقهية مأخوذةٌ من الفقه، وهو في اللغة الفهم، وفي الاصطلاح معرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
نحن نريد أن نعرف ما هي القواعد الفقهية؟
القواعد الفقهية: حكمٌ كليٌّ ينطبق على جزئياتٍ فقهيةٍ من أبوابٍ متعددةٍ أو مختلفةٍ.
ما معنى حكم؟
هنا ليس المراد بالحكم الشرعي، الحكم يراد به إثبات أمرٍ لآخر أو نفيه عنه.
محمدٌ قائمٌ، هذا حكمٌ، أثبتنا له حكم القيام، أو نفيه عنه: محمد ليس بجالسٍ، هذا أيضًا حكمٌ.
ما معنى كلي؟
بعض العلماء يقول: أغلبيٌّ، وبعضهم يقول: كليٌّ، هل القواعد الفقهية كليةٌ أو أغلبيةٌ، انظر هذا العنوان: الأمور بمقاصدها، هل حكم على بعض الأمور، أو أغلب الأمور بمقاصدها، ولا قال: الأمور بمقاصدها.
الضرر يزال، جميع الضرر، ولا بعضه، إذن هو حكمٌ كليٌّ، يأتينا من يقول: لكن هناك أشياءٌ لم تعتبر فيها النية، استثنيت، نقول: الحكم في نفسه كليٌّ، القاعدة في نفسها حكمٌ كليٌّ، لكن استثناء بعض الجزئيات منها هذا خارج عن ذات لفظ القاعدة، واضح لنا.
طيب.. حكمٌ ينطبق، ما معنى كلمة ينطبق؟
أنه يمكن تطبيقه وتنزيله على جزئياتٍ، هي الأحكام والمسائل الجزئية.
فقهية: نحن نتكلم عن قواعد فقهيةٍ، لا نتكلم عن قواعد نحويةٍ، ولا قواعد أصوليةٍ، القواعد الأصولية تُطبق على الدليل، ما تُطبق على المسألة الفقهية.
قال: من أبوابٍ مختلفةٍ، أبوابٌ فقهيةٌ مختلفةٌ لأن القاعدة جزئياتها تدخل في أبوابٍ متعددةٍ، بخلاف الضابط، الضابط هذا يكون من بابٍ واحدٍ، بينما القاعدة الفقهية تكون من أبوابٍ مختلفةٍ.
مثال ذلك: عندما نقول: كل ما جاز بيعه جاز رهنه.
هذا ضابطٌ، لماذا؟ لأنه يتعلق بباب الرهن فقط، فبالتالي يكون ضابطًا.
مثلًا: عمد الصبي خطأٌ.
بابٌ واحدٌ من أبواب الجنايات، فبالتالي أصبح ضابطًا وليس قاعدةً.
إذن عرفنا الفرق بين الضابط وبين القاعدة، الضابط: من بابٍ واحدٍ، بينما القاعدة من أبوابٍ مختلفةٍ.
هناك شيءٌ آخر في الفرق بينهما: أن القاعدة فيها إشارةٌ إلى علة الحكم ومأخذه، يعني الضرر يزال، فيه إشارةٌ إلى هذا المعنى من أجله ثبت الحكم، بخلاف الضوابط فإنها ليس فيها إشارةٌ إلى مأخذ الحكم.
واضح هذا؟، نأتي بمثالٍ: كل غُسلٍ سببه قبله فهو واجبٌ، وكل غسلٍ سببه بعده فهو مستحبٌ، قاعدةٌ ولا ضابطٌ؟
{قاعدة}
لماذا قاعدة؟، كل غسلٍ سببه قبله فهو واجبٌ، وكل غسلٍ سببه بعده فهو مستحبٌ.
{أبواب الغسل مختلفةٌ، الغسل أنواع}
كل الغسل بابه واحدٌ، باب الغسل مهما اختلفت أسبابه، مثلًا هناك مواطن يشرع فيها الاغتسال كقبل صلاة العيد، وكمثلًا مسألة قبل الوقوف بعرفة، وقبل دخول مكة، هناك يقررون الحكم فقط، لكن متى يجب ومتى لا يجب يقررونه في باب الغسل، كيفية الغسل، أين تُقرر في باب الغسل، إذن هي من بابٍ واحدٍ.
هل فيها بيان مأخذ الحكم، هل هذه قاعدةٌ صحيحةٌ، هل هذا ضابطٌ صحيحٌ؟
{صحيح}
صحيح، استحضروا يعني مثلًا..
{أرى ذلك صحيح، لأنه كل غسلٍ سببه قبل}
ما هي الأسباب التي تكون قبله: جنابة، نفاس، حيض، جماع، دخول الإسلام، بخلاف ما كان سببه بعده، مثلًا:
{غسل الجمعة، غسل العيدين، غسل الوقوف بعرفة، دخول مكة، ...}
إذن عرفنا الآن الفرق بين الضابط والقاعدة، ننتقل إلى جزئيةٍ أخرى وهي:
من أين نأخذ القواعد الفقهية، العنوان: مصادر القواعد الفقهية
هل أتينا بها اعتباطًا، لابد لها مصدرٌ، كيف يكون لها اعتمادٌ وقبولٌ وحكم بناء عليها إلا وهي ثابتةٌ مبنيةٌ على مصدرٍ، إذن ما هي مصادر القواعد الفقهية.
هناك بعض القواعد تؤخذ من القرآن، من أمثلته: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، ومثل: قوله عزَّ وجلَّ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، ﴿فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْر﴾ [الشرح: 5].
أيضًا من المصادر السنة النبوية: مثل ماذا؟ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الدين يسرٌ»، «إنما الأعمال بالنيات»، «لا ضرر ولا ضرار»، هذه من القواعد أيضًا، مثلًا: «الخراج بالضمان»، هذا حديث في السنن، الولد للفراش، قاعدةٌ ولا ضابطٌ؟، ضابطٌ مأخوذٌ من السنة.
«أعطوا كل ذي حق حقه، فما بقي فلأولى رجلٍ ذكرٍ»، هذه قاعدةٌ ولا ضابطٌ؟ ضابطٌ في باب العصبات، باب المواريث.
أيضًا هناك من مصادر القواعد الفقهية: الإجماع.
فهناك مسائل ومعانٍ مجمعٌ عليها ثابتةٌ في الأمة، من مثل اعتبار النيات، من الأدلة مثلًا تقديم اليقين على الشك، موطن إجماع الأمة، أخذنا منه قاعدة اليقين لا يزال بالشك.
المصدر الرابع: الاستقراء.
استقراء ماذا؟ استقراء الأحكام الشرعية، عندما نتلفت إلى الأحكام الشرعية نجد أنها تؤكد عددًا من المعاني، هناك معانٍ واجبةٌ مثل العدل، هذا معنى دلت عليه النصوص الكثيرة في الشريعة، مثل اعتبار المصالح أو ما يتعلق بالتخفيف بسبب المشقة، التفتنا إلى الشريعة وجدناها تخفف في مواطنَ كثيرةٍ بسبب ما يكون عليهم من أنواع المشاق، المشاق مثل ماذا؟ مرضٍ، عجزٍ، سفرٍ، إلى غير ذلك مما سيأتي إن شاء الله عند بحث قاعدة المشقة تجلب التيسير.
هل هناك قواعد أخذت من لغة العرب، نقول هذه قواعد شرعيةٌ، وبالتالي اللغة ليست وحدها مصدرًا لتلقي القاعدة الفقهية، إلا إذا عرضها الدليل الشرعي، هناك قواعد في علمٍ آخر اسمه علم الأصول، أو أصول الفقه، فذلك علمٌ مستقلٌ، يمكن أن تؤخذ قواعده من اللغة العربية.
نمثل للتفريق بين القواعد الفقهية وقواعد الأصول:
عندنا قاعدة: الأمر للوجوب، وعندنا قاعدة: المشقة تجلب التيسير.
جاءنا شخصٌ مقعدٌ يعجز عن الصلاة واقفًا، فنقول له: صلِّ قاعدًا، هل قاعدة الأمر بالوجوب تدل عليه؟ تدل عليه لكن بضمه لدليلٍ جزئيٍّ: صلِّ قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا، يعني فصلِّ قاعدًا، فصلِّ هنا أمرٌ، أليس كذلك؟، إذن لم نستفد الحكم من القاعدة وحدها، حتى ضممناها إلى الدليل الجزئي، لكن لما جاءت المشقة تجلب التيسير، قال: أنا عاجزٌ عن الصلاة قائمًا، قلنا له: صلِّ قاعدًا، أليس كذلك؟، هل احتجنا إلى ضم هذه القاعدة لدليلٍ جزئيٍّ تفصيليٍّ، لا نحتاج إليه.
إذن عندنا أولًا: الدليل مثل: صلِّ قائمًا فإن لم تستطع، بعد الدليل تأتينا قاعدةٌ أصوليةٌ، بعد القاعدة الأصولية، نصل إلى حكمٍ فقهيٍّ، يصلي قاعدًا المقعد، ثم بعد ذلك من الأحكام الفقهية نستخرج قواعد فقهيةً.
هذا يجرنا إلى شيءٍ وهو هل القاعدة في ذاتها دليلٌ؟ نقول الاستدلال مبنيٌّ على الاستدلال بمصدرها، لأنها استندت إلى دليلٍ شرعيٍّ، وبالتالي أمكن أن يستدل بها.
هناك قواعد تكلم بها الأئمة الأوائل، ثم اتفقت عليها الأمة وأصبحت قاعدةً سائرةً فيها، من ذلك مثلًا: قال عمر: "مقاطع الحقوق عند الشروط"، هذه كلمةٌ لمن؟ لعمر رضي الله عنه، فأخذنا منها هذه القاعدة وركبناها فيه.
هناك مثلًا: أقوالٌ أيضًا أخذت من بعض التابعين، ومن بعض تابعي التابعين، يعني مثلًا قال الإمام الشافعي رحمه الله: "لا يُنسب لساكتٍ قولٌ"، فسارت قاعدةً فقهيةً، قال الإمام أحمد: "من يبيع لا يشتري"، فأخذ منها ضابطٌ فقهيٌّ في هذا الأمر.
إذن عرفنا الأمر الرابع وهو الفرق بين القاعدة الأصولية والفقهية.
ننتقل إلى أمرٍ خامسٍ: وهو أنواع القواعد.
القواعد تنقسم بتقسيماتٍ مختلفةٍ، فهناك قواعد كبرى تدخل في جميع الأبواب الفقهية، هذه القواعد الكبرى هي خمس قواعد:
الأولى: الأمور بمقاصدها.
الثانية: اليقين لا يزول أو لا يزال بالشك.
الثالثة: المشقة تجلب التيسير.
الرابعة: الضرر يزال.
الخامسة: العادة محكَّمةٌ.
إن شاء الله نتدارس هذه القواعد، كل قاعدةٍ في محاضرةٍ فيما يأتي.
عندنا هناك قواعد كليةٌ، ليست كبرى، تدخل في كثيرٍ من الأبواب، لكنها لا تدخل في جميع الأبواب، من أمثلتها:
قاعدة: التابع تابعٌ، مثلًا قاعدة: الضمان بالخراج.
أيضًا من أنواعها الضوابط، معنى الضابط: يختص ببابٍ واحدٍ.
كذلك القواعد يمكن تقسيمها إلى:
قواعد متفقٌ عليها، وقواعد مختلفٌ فيها.
مثلوا لي بقواعد متفق عليها.
{مثل القواعد الخمس}
ممتاز.
مثلوا لي بقواعد مختلفٍ فيها، مثلًا عندنا: العبرة في العقود، بعضهم يقول: بالألفاظ والمباني، وبعضهم يقول بالمقاصد والمعاني.
مثال ذلك: لو قال بعتك هذا البيت لمدة سنةٍ، قال بعتك إن نظرنا إلى لفظ البيع، قلنا هذا بيعٌ، وإذا نظرنا إلى التوقيت في قوله لمدة سنةٍ، قلنا هذا عقد إجارةٍ، إذن هذه قاعدةٌ مختلفٌ فيها.
هذا يجرني على شيءٍ وهو: أنواع الاختلاف في القواعد.
يقع الاختلاف في المسائل الفقهية نتيجة الاختلاف أو نتيجة القواعد الفقهية بثلاثة أمورٍ:
مراتٍ يكون الاختلاف نتيجة اختلافٍ فقهيٍّ بسبب الاختلاف في القاعدة، مثال ذلك: هناك من يقول الأصل في اللحوم التحريم، وهناك من يقول الأصل في اللحوم الإباحة، هناك من يقول الأصل في الأبضاع التحريم، وهناك من يقول الأصل في الأبضاع الإباحة.
فعندما تأتينا مسألةٌ نتردد في أي القولين، فيقع الاختلاف بيننا، لأنني أرجح أصلًا وأنت ترجح أصلًا آخر.
النوع الثاني: اختلافٌ فقهيٌّ بسبب الاختلاف في أي القواعد أو إلى أي القواعد ترجع المسألة.
مثال ذلك: التهنئة، أو الرقية، هل هما عبادةٌ أو هما من العادات؟
هناك قولان فقهيان، واحد يقول عادةٌ، وآخر يقول عبادةٌ، إذا قلنا بأنها عبادةٌ نرجعها حينئذٍ إلى أن الأصل في العبادات الحظر والمنع، وإذا قلنا بأنها عادةٌ، قلنا الأصل في الأشياء أو في العادات الإباحة.
لما دخل الشهر وهنأه بدخله الشهر، يجوز يهنئه بدخول الشهر؟ إن قلنا بأن التهنئة عادةٌ حينئذٍ يباح، وإن قلنا التهنئة عبادةٌ قلنا يمنع.
كذلك في باب الرقية هي التداوي، أو هو عبادةٌ، إذا قلنا تداوٍ إذن هو عادةٌ، وبالتالي الأصل فيها الإباحة والحل، إذا جاءنا برقيةٍ جديدةٍ لم تخرج عن النبي صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ نقول نشطب عليها، ولا يجوز هذه الرقية، أو نقول بأن الرقى من باب العادات، وتؤخذ من التجارب، وبالتالي تكون على قاعدة: الأصل في العادات الإباحة.
إذن هنا اختلافٌ نشأ عن الاختلاف في، إلى أي القاعدتين نرجع المسألة، مراتٍ، اختلافٌ فقهيٌّ بسبب كيفية إدراج الفرع في القاعدة، اختلافٌ فقهيٌّ بسبب الاختلاف في كيفية الإدراج في القاعدة.
إذن هذه المسألة هم يتفقون على القاعدة، ويتفقون على اندراج هذا الفرع في نفس القاعدة، كما في واحد واثنين، لكن يختلفون في كيفية الإدراج، وبالتالي يقع الاختلاف.
يمكن تمثلون لنا؟
أنا أمثل لكم:
{في مسألة اليقين لا يزول بالشك}
دعنا نأتي بهذه القاعدة، عندنا طلق زوجته، ثم تردد هل هي ثلاثٌ ولا واحدةٌ؟ الجمهور يقولون نعتبرها واحدةً، لماذا؟ قالوا: أخذا من قاعدة اليقين لا يزال بالشك، كيف؟ قالوا: اليقين النكاح لا نزيله بطلاقٍ مشكوكٍ فيه، فبالتالي نثبت واحدةً، وننفي الطلقتين الباقيتين.
قال المالكية: ثلاث، نوقع ثلاث طلقاتٍ، لماذا؟ قالوا: لأن اليقين لا يزال بالشك، كيف، قالوا: اليقين تحريم وطء الأجنبية لا نزيله بنكاح مشكوك في بقاءه، فبالتالي قالوا: نجعلها ثلاثًا.
نأتي بمثالٍ آخر: في نفس القاعدة اليقين لا يزال بالشك، إنسانٌ متوضئٌ للفجر، لم ينم بين الفجر والظهر، لكن شك هل أحدث أم لم يحدث؟ الجمهور يقولون يجوز له أن يصلي، لماذا لأن الوضوء الأول متيقنٌ منه، فلا نزيله بحدثٍ مشكوكٍ فيه، واضح، المالكية يقولون: لا، يجب الوضوء، لماذا يا أيها المالكية؟ قالوا: لأن القاعدة اليقين لا يزال بالشك، الجمهور قالوا لا يزال بالشك، وبالتالي قالوا هو متوضئٌ، قالوا: بقاء الصلاة في ذمته متيقنٌ منه، فلا نزيله بصلاةٍ مشكوكٍ في وضوئها.
ننتقل إلى جزئيةٍ أخرى: هذه الجزئية متعلقةٌ بتاريخ القواعد الفقهية.
متى ابتدأت القواعد؟
نزل بعضها في القرآن، وجاء بعضها في السنة، وتكلم بعد ذلك الأئمة مثل عمر ومن بعدهم ثم بعد ذلك ابتدأ تأليف مؤلفاتٍ في هذه القواعد.
من أوائل المؤلفات أصول الكرخي في سنة ثلاثمائة وأربعين، من أين أخذوا هذه القواعد؟ الأئمة الأوائل ألفوا مؤلفاتٍ فقهيةً، فكان عندهم تعليلٌ للأحكام، فأخذوا من تعليل الأئمة الأوائل للأحكام عددًا كبيرًا من هذه القواعد.
وقد تكلم الأئمة كما تقدم بعددٍ من هذه القواعد، ثم بعد ذلك وُجدتْ مؤلفاتٍ، هذه المؤلفات منها ما يكون خاصًّا بالقواعد الفقهية، ومنها ما يكون معه علومٌ أخرى، مثلًا: كتاب الفروق للقرافي، فيه قواعد فقهيةٌ وفيه قواعد أيضًا من علومٍ أخرى، أصولٌ وعقيدةٌ.
عندنا الآن ترتيب القواعد الفقهية في المؤلفات.
بعض كتب القواعد الفقهية رتبها بحسب أهمية القواعد، فجاء بالقواعد الكبرى ثم القواعد الكلية، ثم القواعد المختلف فيها، ثم الضوابط، وهكذا، إذن بحسب أهمية القاعدة.
ومن أمثلته: كتاب الأشباه والنظائر للسيوطي.
وهناك مؤلفون أَلفوا القواعد بحسب الأبواب الفقهية، فأتوا بالقواعد التي تتعلق بالطهارة أولًا، ثم القواعد التي تتعلق بالصلاة، ثم بالزكاة، وهكذا.
ومن أمثلة من ألف في ذلك المقري في كتابه القواعد، المقري هذا مالكي.
وهناك من رتبها بالحروف الهجائية، حرف الألف مثل الأمور بمقاصدها، ثم حرف الباء وهكذا، ومن أمثلته كتاب المنثور للزركشي بدر الدين.
كذلك من المؤلفات ما ليس فيه ترتيبٌ، سيقت القواعد هكذا بدون ترتيبٍ، ومن أمثلته قواعد ابن رجب الحنبلي.
يبقى عندنا ما حكم تعلم علم القواعد؟
نقول: علم القواعد علمٌ شرعيٌّ فبالتالي يؤجر عليه هذا لا إشكال فيه، هل هو واجبٌ على جميع أفراد الأمة؟ نقول لا ليس بواجبٍ على جميع أفراد الأمة، لكنه يغبط للفقيه، وبالتالي هو من فروض الكفايات.
في عصرنا الحاضر وجد العديد من الجهود في القواعد الفقهية، وجد موسوعاتٍ تحاول أن تضم هذه القواعد، كذلك وجد تنظيماتٍ وتشريعاتٍ أقرت في عددٍ من الدول أخذت من هذه القواعد، ولذلك في مجلة الأحكام ابتدأت بتسعٍ وتسعين قاعدةً فقهيةً.
المحاضرة القادمة بإذن الله نأخذ القاعدة الأولى، وهي قاعدة: الأمور بمقاصدها، ذاكروها وراجعوها، ونتناقش فيها في الدرس القادم، وفقكم الله لكل خيرٍ، وجعلكم الله من الهداة المهتدين، رزقكم الله علمًا نافعًا وعملًا صالحًا، وفقهًا سديدًا، وقولًا صوابًا، ومغفرةً من ربكم ورضى، كما أسأله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يصلح ولاة أمورهم،وأن يوفقهم إلى كل خيرٍ، هذا والله أعلم،وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك