الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7803 24
الدرس الرابع

عمدة الفقه (4)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله أيها الإخوة المشاهدون، حيى الله الإخوة طلبة العلم، أسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يجعل هذا المجلس مجلس خيرٍ وبرٍّ وهدًى وتقًى، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، النبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
بين يدي هذا المجلس من المجالس التي اعتدنا أن تكون بحثًا لمسائل العلم، ونقلًا أو شرحًا وتوضيحًا لما ذكره الفقهاء -رحمهم الله تعالى-، فإننا اعتدنا أن نستهل بكلمةٍ، أو مقدمةٍ، أو مسألةٍ يكون فيها وصيةً لطالب العلم، بما يليق بالطالب، والمُقبل على الله -جلَّ وعلَا- في العلم، والمنقطع عن الدنيا، إرادة لوجه الله -سبحانه وتعالى-.
أيها الإخوة، ليس شيءٌ أعظم لطالب العلم من الأدب، ومن لم يكن متأدبًا بأدب العلم، فلا فائدة في علمه، ولأجل ذلك، لم يزل أهل العلم يؤلفون في آداب طلبة العلم، فمنها المختصر، ومنها المتوسط، ومنها الكبير، حتى ذكروا في مثل هذه الكتب أدق المسائل وأصغرها، في ما يليق بطالب العلم، في لحظه، وفي قوله، وفي أدبه، في مجلس العلم، وفي خلوته، ومع أهله، ومع أقرانه وإخوانه، وفي كل أحواله.
فإذا رأيت على سبيل المثال كتاب: "التبيان في آداب حملة القرآن"، لـ "الإمام النووي"، فهو من الكتب اللطيفة الجميلة في هذا الباب، وإذا رأيت على سبيل المثال كتاب: "حلية طالب العلم"، وما ينبغي أن يتحلى به لـ "بكر بن عبد الله أبو زيد" -رحمه الله تعالى-، فهو أيضًا مثل ذلك، وعلى هذا المنوال.
إذا أردت أن تتوسع في ذلك في ما هو أكبر، كمثل كتاب: "تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم"، فهو من أوسع الكتب في أدب الطلب، وإن وُجِدَ فيه بعض الملحوظات في بعض المسائل المتعلقة بالأذكار ونحوها، لكنه كتابٌ جمع أدب الطلب، والخطيب البغدادي في ذلك في كتابه في أدب طالب الحديث، أيضًا جملةٌ من هذا.
لا يُغني عن الإنسان أن يقرأ هذه الكتب، أو يسمع بعض المجالس فيها، ولكن الذي ينفعه ويُغنيه، هو أن يتحلى بذلك، وأن يكون له دِثارًا وشِعارًا، لباسًا لا يخلعه حيث ما كان، وأين ما توجه.
وليكن العلم حاضرًا نُصب عينيه، وطلبه لمرضاة الله -جلَّ وعلَا- في كل أحواله، وأنا أوصيكم بهذا، فكما أنك تتأدب أو تتعلم بعض المسائل حتى تترقى فيها، فتبدأ بالأحرف حتى تقرأ الكتب الطوال، فكذلك الأدب، ليس كما يظنه بعض الناس، أنَّ الآداب هي جِبِلَّةٌ تُجبل عليها النفوس، ولكنها أخلاقٌ تُربَّى عليها، فيلاحظ الإنسان نفسه، كيف خرجت هذه الكلمة، ولم لا يستبدلها بما هو أتم، ولماذا لا يحتمل من أخيه الضيم، ولماذا يرد وينفعل ويغضب، وهكذا كلما راجع نفسه، إن كان ذلك في خصلةٍ جميلةٍ، أن يزيدها ويربِّيها، وإن كان ذلك في خلةٍ قبيحةٍ، أن يتخلص منها وأن يباعدها.
وإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى، فإنه يوشك أن يكون له حليةً وهيبةً في العلم كبيرةً، وأن يوفَّق -بإذن الله جلَّ وعلَا- لتحصيل العلم، وأن يترقى في درجاته ومنازله، ولا خير في من جعل العلم صنعةً ومهنةً، إنما هي كلامٌ وأحاديث، حينما تتعلم أو تعلم أنك تتعلم كتاب الله، وسنة رسوله، والعلم بالله، والعلم بأحكام ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن ذلك لا يكون كمثل علم الهندسة أو الطب أو الاقتصاد، مهما كان فيها من الخيرية، فإن هذه علم ديانةٍ، وعلم نجاةٍ في الآخرة، وعلم فلاحٍ عند الله -سبحانه وتعالى-، كل ما كان الإنسان أعلى خُلُقًا في ذلك، كان هذا تشريفًا منه لهذا العلم، وكلما شرَّف الإنسان العلم، بورك له في علمه، وشرَّفه الله -جلَّ وعلَا- بحمله.
هذا كما تعودنا إطلالةٌ يسيرةٌ، وإن كان مثل هذا الموضوع الحقيقة يحتاج فيه إلى بسطٍ، ولا ينفك أيضًا من زيادة الرغبة في التوسعة في ذكر بعض ما يتعلق بالطلاب، وما يحتف بهم أحيانًا مما يفارق به هذه الآداب وتلك الأخلاق، لكن لعل في الإشارة ما يغني عن العبارة، ونحن أيضًا بصدد كلامٍ كثيرٍ، لا نُذهب علينا الوقت، والله -جلَّ وعلَا- يوفقنا ويوفقكم.
عند أي شيءٍ توقفنا؟ أيكم حفظ ما وقفنا عنده؟
{وبالمجهول كحظٍّ من ماله، أو جزءٍ، ويعطيه الورثة ما شاءوا}.
أحسنتَ، بارك الله فيك، من يقرأ؟
أظن، وبغير معينٍ كعبدٍ من عبيده، ما شرحناها، والتي قبلها، وبما لا يملكه كمائة درهمٍ لا يملكها، طيب اقرأ وبما لا يملكه كمائة درهمٍ.

{أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، قال المصنف -رحمه الله وإيانا: وبما لا يملكه كمائة درهمٍ لا يملكها، وبغير معينٍ كعبدٍ من عبيده، ويعطيه الورثة منهم ما شاءوا، وبالمجهول كحظٍّ من ماله أو جزءٍ، ويعطيه الورثة ما شاءوا}.
إذن يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: (وبما لا يملكه كمائة درهمٍ لا يملكه)، هذه هي المسألة التي توقفنا عندها، بعد أن شرحناها، وذلك أنَّا قلنا: إن باب الوصية أوسع من باب البيوع والمعاوضات والإجارة ونحوها، فإنه لما يكون فيها المعاوضة، لا يحتمل فيه الغرر، لأن الإنسان إذا دفع عِوضًا فإنه يحتاج ما يقابله، أما باب الوصية، فإنها باب تبرعاتٍ، فبناءً على ذلك، لو أنه أوصى بشيءٍ لا يملكه، فإنه إن تحصَّل فخيرٌ وإحسانٌ وإن لم يتحصَّل، فإنه لا يضر في ذلك شيئًا، ولا يفوت على الإنسان قليلًا ولا كثيرًا، ولأجل ذلك أجاز أهل العلم أن يوصي الإنسان بما لا يملكه، فإذا قال الإنسان مثلًا: إذا أنا متُّ، فإن لفلانٍ بيتًا أو دارًا أو نحو ذلك، وليس عنده دارٌ، يرجو أن يملكها، ويريد أن يُحسن بها، فنقول: إن ملكها ومات وعنده تلك الدار التي وصفها، فإنها تُعطى لمن أوصي له بها، وإن لم توجد، فإنه قد فات المقصود، وذهب الموصى به.

فإذن هذا كمائة درهمٍ لا يملكها، وبغير معينٍ كعبدٍ من عبيده، لو كان عنده أعبدٌ كثيرةٌ، منهم الحاذق الذي يُحسن الصنعة، ومنهم الساذج الذي لا يُحسن شيئًا، ومنهم القوي المتين، ومنهم الشيخ الهرِم الكبير، فبينهم مفارقةٌ في أسعارهم، وفي أقيامهم، وفي الانتفاع بهم، فلو قال عبدًا من عبيده، هل نقول من أن ذلك صحيحٌ من جهة الوصية أو لا؟ مع ما يوجد فيها من الجهالة، فنقول: الجهالة هنا مغتفرةٌ؛ لأن باب الوصية باب التبرعات، هذا من جهةٍ.
إذا جئنا إلى المسألة الثانية، طيب صحت الوصية، فهل له أن يأتي فيختار؟
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: ويعطيه الورثة منهم ما شاءوا.
قد يعطونه الأقل، وقد يعطونه الأوسط من هؤلاء، وقد يعطونه الأحسن، لماذا؟
قيل: إن الورثة يعطونه ما شاءوا؛ لأنه ثبت له عبدٌ، فيتحصل إنفاذ الوصية بأي من انطبق عليه أنه عبدٌ، فسواءٌ أُعطي أتم العبيد، أو أقلهم، فبناءً على ذلك ما زاد يعني من أن يكون له وصفٌ بالكتابة، أو بحسن الصناعة، أو بالتجارة، أو نحو ذلك، هذا شيءٌ زائدٌ، فلا يلزمهم، وتبرأ ذمتهم بأن يعطوه أي عبدٍ من العبيد؛ لأنه يتحقق بذلك أنهم قد وفَّوا بالوصية، وأنفذوا ما أوصى به مورثهم، فلأجل ذلك قال: ويعطيه الورثة منهم ما شاءوا.
بعضهم يقول: لا، يُرجع إلى العرف، فإذا كان فيه عرفٌ، نقول: أصلًا هذه المسألة لا ترد، إذا كان ثمَّ عرفٌ معينٌ، فلا تدخل فيه هذه المسألة، هذه المسألة في الأشياء المجهولة، الأشياء المطلقة، التي لا يُعتاد فيها إلى قيدٍ يُرجع إليه، فيكون فيه الإطلاق، ويتحقق الإطلاق بأقل ما يمكن أن يُطلق عليه ذلك الاسم.
قال: وبالمجهول كحظٍّ من ماله أو جزءٍ، ويعطيه الورثة ما شاءوا.
هذه المسألة والمسائل التي تليها تُسمَّى عند أهل العلم، أو دائمًا يبوِّبون لها بـ (باب الوصية بالأجزاء والأنصبة)، ما معنى الأجزاء والأنصبة؟
الأجزاء جمع جزءٍ، والأنصباء جمع نصيبٍ. ما الفرق بين الجزء والنصيب؟
الفرق بين الجزء والنصيب، -تأملوا هذه فائدةٌ لطيفةٌ-، الفرق بين الجزء والنصيب، كالفرق بين الوقت والزمان، تعرفون الفرق بين الوقت والزمان؟، الزمان هو المطلق، أما الوقت يكون مضافًا إلى شيءٍ مختصٍّ، فلذلك في الغالب، أو يعتاد الناس ألا يقولوا: زمان الصلاة، وإنما يقولون: وقت الصلاة، وقت صدقة الفطر، وقت طلوع الشمس، وقت الإفطار، سواءً كان في العبادات، أو في غيرها، فكذلك النصيب والجزء، النصيب دائمًا في الشيء المحدد كالوقت، ولذلك دائمًا إذا أُطلق عند الفقهاء النصيب فيقصدون مثل: نصيب أحد الورثة، الذي هو جزءٌ مقدَّرٌ محددٌ، أما الجزء فهو عندهم مطلقٌ، فإذا كان الجزء مطلقًا، فيكون على إطلاقه، ولذلك في هذه المسائل تجدون أنه ذكر ما يتعلق في ما إذا أوصى بالأجزاء، يعني بالأشياء المطلقة، ويذكرون في هذا أيضًا ما يكون من الوصية بالأنصباء، يعني بالنصيب المقدَّر بأحد الورثة، وقد يُجمع بينهما أيضًا في حالٍ واحدةٍ، كأن يُقال: لفلانٍ مثل ما للأم من الورثة، فهذا نصيبٌ، ولفلانٍ جزءٌ من الإرث، أو قدرٌ من الإرث.
إذن قد يُعبَّر بالأنصباء، وقد يُعبَّر بالأجزاء، وقد يُجمع بينهما، فهذه الأمثلة التي يذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- هي أنواعٌ مما قد يكون من هذا، وقد يكون من هذا، وقد يجتمع فيه الأمران.
طبعًا بعض الفقهاء يُعبِّر بالسهم، السهم في الغالب أنهم يقصدون به السدس؛ لأن السهم متعارفٌ عليه في الغالب أنه السدس، فإذا وجد عرفٌ أخص، يمكن أن يُنفذ، لكن إذا يوجد، فإنه يكون السهم كما عُرف عند جمعٍ من أهل العلم أنه السدس.
فبناءً على ما ذكرنا، لما قال: وبالمجهول كحظٍّ من ماله، أو جزء، الحظ والجزء والقدر ونحوه، كما قلنا، هذه أشياء مطلقة، فمن أوصي له بشيء من ذلك، فإن الوصية صحيحةٌ مع الجهالة، كما قلنا قبل قليلٍ؛ لأن بابها باب التبرع.
ثم تبرأ ذمة الورثة بإعطاء ما شاءوا، فإن طابت نفوسهم فأعطوه من أقيم أموالهم أو أحسنها فذاك، وإن أعطوه الأقل، برئت ذمتهم، فإن اختلفوا، قال بعضهم نعطيه كذا، وبعضهم نعطيه كذا، يعني بعضهم يقول نعطيه شيئًا كثيرًا، وبعضهم قال نعطيه شيئًا قليلًا، فنقول: لا يلزم من أبى أن يُعطي الشيء الكثير أن يُلزم بذلك، بل يُعطى الشيء القليل، فإذا أمكن أن أولئك يأذنون في ما يخصهم، أو في ما يقبلون من نصيبهم، فلهم ذلك، لكن مادام أنهم اختلفوا، فإنه يُصار إلى الأقل، فإن أجاز بعض الورثة أن يُعطى من نصيبهم قدرًا زائدًا فذاك إليهم.

{قال: وإن وصَّى له بمثل نصيب أحد ورثته، فله مثل أقلهم نصيبًا، يزاد على الفريضة، فلو خلَّف ثلاثة بنين، ووصى بمثل نصيب أحدهم، فله الربع، فإن كان معهم ذو فرضٍ كأمٍّ صححت مسألة الورثة بدون الوصية من ثمانية عشر، وزيدت عليها بمثل نصيب ابن، فصارت من ثلاثة وعشرين وزدت عليها}.
إذن كما قال المؤلف -رحمه الله تعالى: وإن أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته، إذن هذا من النوع الثاني، الذي يتعلق بالأنصباء، هو إذن مثَّل للأول، التي هي الأجزاء المطلقة، وقال: حظٌ أو جزءٌ، أو قدرٌ، قلنا الأشياء المطلقة، ثم لما قال بمثل نصيب أحد الورثة، فإن هذا هو النصيب المقدَّر، فإذا أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته، فله مثل أقلهم نصيبًا، يعني في النصيب قد يقول مثل: الابن، فيكون محددًا مبيَّنًا فيأخذ مثل ما يأخذ الأبناء، فإذا كان له ثلاثة أبناءٍ، فيكون رابعهم، ويُقسم المال على أربعةٍ، هذا إذا كان، وإذا قال: مثل نصيب أحد الورثة مطلقًا، فإذا كان فيهم صاحب ثلثٍ، وصاحب ثمنٍ، على سبيل المثال، فإنه يأخذ مثل الثمن، كمثلًا: مسألةٌ وجد فيها زوجةٌ ومثلًا بنتان، الزوجة لها الثمن، والبنتان لهما الثلثان، ففي مثل هذه الحالة يكون له مثل نصيب الزوجة، الذي هو الثمن، فيكون مثل ما لأقلهم نصيبًا، ولأجل ذلك قال المؤلف -رحمه الله-: فلو خلَّف ثلاثة بنين، ووصى بمثل نصيب أحدهم، فله الربع، لأنه يكون بدل الثلاثة أرباعٍ.

هنا الحقيقة أحب أن أقف وقفةً، وهذه الوقفة مهمةٌ لطلبة العلم، بعد هذا المثال ذكر المؤلف جملةً من المسائل، وجملةً من الأمثلة، قد يكون في بعضها صعوبةٌ، وقد يكون في بعضها شيءٌ قد يظنه بعض الطلبة من التكلُّف، وأنا أريد أن أنبه في مثل هذا الموضع على تنبيهٍ، وهو أن بعض الفقهاء -رحمهم الله تعالى- قد يتكلفون في بعض المسائل، أو كذا، لكن هذه ليست سمةً غالبةً، وليست طريقةً دائمةً، وما يظنه بعض الطلاب أو بعض المتفقهة الذين يكونون جديدين على العلم، فيقول: لم يذكر الفقهاء هذه المسألة؟
أولًا ينبغي أن تعلم أن الفقهاء لا يشرحون لك ولفلانٍ، يعني لاثنين أو ثلاثةٍ، دائرة نظرهم محدودةٌ، أو في مجتمعٍ محددٍ، فما يوجد في مثلًا في الرياض، أو في السعودية، غير ما يوجد في اليمن، ما يوجد في اليمن يختلف عما يوجد في نيجيريا، ما يوجد في نيجيريا يختلف عما يوجد في مصر، فالفقهاء -رحمهم الله تعالى- حينما يعرضون للمسائل يستحضرون أعم من الوقائع الخاصة لمجتمعٍ محددٍ، وما يذكرونه الآن هم يذكرون لهذا الوقت، ولما يلحقه من الأوقات، ويجتهدون في استيعاب ذلك بقدر ما أوتوا.
ثم هم أيضًا يذكرون بعض المسائل لوعورتها، فإن الطالب إذا أتقن الصعب الوعر، فإنها لما يكون أسهل منه أقدر على ذلك.
أيضًا هم يذكرون أبعد المسائل، كأنها تكون الحد الأبعد، فما دونها يُعلم أنه داخلٌ فيها، يعني لو عندك الآن مزرعةٌ، هل تجعل الحد في وسط المزرعة أو في طرفها؟ في طرفها، حتى يُعلم أن كل ما دون ذلك الحد فهو داخلٌ فيها، فكذلك الفقيه إذا أراد أن يضبط ضابطًا، فإنه يذكر الحد الأبعد، ليُعلم أن ما بين أصل المسألة إلى حدها هو داخلٌ فيها.
تجدون على سبيل المثال في باب الطلاق أمثلةً كثيرةً، وربما توسعوا في ذلك توسعًا كثيرًا، فمبناه على ما ذكرنا، ثم أيضًا أن تكرار الأمثلة مما يزيد الطالب مرانًا ودُربةً، ويفهم ملكته الفقهية.
فهذه الأمثلة التي ستأتينا فيها شيءٌ من الصعوبة، وأنا الحقيقة قد ترددتُ في إيضاحها، ربما كانت تحتاج إلى سبورةٍ لو وجدتْ، لكن لو رأيتم، فإن الشرح لعموم الناس قد يكون فيه شيءٌ من الصعوبة في بعض هذه المسائل.
تصحيح المسائل وما يتعلق به سيأتينا -بإذن الله جلَّ وعلَا- في كتاب الفرائض، لأجل ذلك نحن أوضحنا ما يتعلق بأصل هذه المسألة، وطرائق الفقهاء فيها، ثم سنشير إشارةً لطيفةً إلى كل مسألةٍ ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- بعد ذلك.
فإنه قال: فإن كان معهم ذو فرضٍ كأمٍّ صححت مسألة الورثة بدون الوصية من ثمانية عشر.
يعني لو كان معهم أمٌّ وثلاثة أبناءٍ، وهو قال: مثل مال أحد أبنائه، فإنه سيكون إذن كأنه مات الميت عن أمٍّ وأربعة أولادٍ، ثم أيضًا تصحح المسألة من ثلاثٍ وعشرين، حتى أيضًا يكون الأم قد نقص منها بقدر ما أخذه الموصى له.

{قال: ولو وصَّى بمثل نصيب أحدهم، ولآخر بسدس باقي المال، جعلت صاحب السدس الباقي كذي فرضٍ له السدس، وصححتها مثل التي قبلها}.
إذن المثال الأول، إذن الموصى له كواحدٍ من أهل التعصيب، الأبناء أهل تعصيبٍ، فذكر كيف تكون المسألة، ولو كان كلهم أهل تعصيبٍ، ثم ذكر المثال الثاني في ما لو كان معهم ذو فرضٍ، والموصى له صاحب تعصيبٍ، وذكر في هذا المثال بما إذا أوصى بمثل نصيب أحدهم بأن يكون ذا تعصيبٍ، كمثل مال الابن ونحوه، ولآخر بالسدس، فمثل هذه المسائل اجتمعت الوصية السدس، الذي هو فرضٌ، وهو وصيةٌ، وأيضًا بمثل نصيب أحد الورثة، الذين هم من العصبة، فتكون المسألة صحيحةً، بشرط ألا يكون مجموع ما أوصي لهم يزيد عن ثلث المال، فإن زاد عن ثلث المال، فإننا نرجع إلى ما قد تقدم بنا، وهو أنه لا يجوز إلا بإجازة الورثة، فإن أجازه الورثة، وإلا ردَّ وحصل عليهم النقص، يعني على سبيل المحاصة، حتى يكون لهم الثلث لا يزاد عليه.

{قال: فإن كانت وصية الثاني بسدس الباقي الثلث صححتها أيضًا، كما قلنا سواءً، ثم زدت عليها مثليها، فتصير تسعةً وستين، تعطي صاحب السدس سهمًا واحدًا، والباقي بين البنين والوصي الآخر أرباعًا}.
يعني مثل ما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أنه إذا صححت فإنه ستضاعف المسألة، لماذا؟ حتى يتيقن أنه أخذ السدس من مجموع المال، وهذا السدس الموصى به يكون أيضًا قد جرى النقص به على جميع الورثة، ليس على المشاركين له فقط، الذين هم الأبناء ونحوهم.
كما قلت لكم: ربما تحتاج بعض هذه المسائل إلى رسم ونحوه، لكن لعل ذلك أن يكون بعد أن ندرس في كتاب الفرائض ما يتعلق بتصحيح المسائل، وذكر الكلام فيها على سبيل الحساب.
وهنا أذكر أن بعض الفقهاء -رحمهم الله تعالى- ربما عرض لجملةٍ من هذه الأمثلة، وذكر حلها، يعني كيف تصحح، وكيف يتحصل الموصى به للموصى له.
ثم قال: وإني قد جعلتها على وجهٍ، وثمَّ وجوهٌ كثيرةٌ لحلها، وإيصال المال إلى صاحبه، واختصرتها على سبيل الاختصار لضعف الهمم.
ما الذي نستفيده من هنا؟ هذه المسائل مسائل حسابيةٌ، يعني يمكن أن تحلها بطريقةٍ، ويمكن أن تصل إليها بطريقةٍ أخرى، فكلام الفقهاء لها على سبيل التكميل، ولذلك سيأتينا أن كتاب الفرائض قسمان، قسمٌ يتعلق بالأحكام الشرعية، وقسمٌ ثانٍ كله يتعلق بالحساب، فذكر الفرضيين له على سبيل التكميل، حتى ولو أعيى الفقيه أن يقسمها حسابيًّا، لكنه بيَّن ما لكل شخصٍ حقه، وجاء من يختص بالحساب فقسمها، فذلك قدرٌ جيدٌ.
فعلى كل حالٍ، هذه الأمثلة، فيها شيءٌ من الصعوبة، وعرفها جمع من أهل العلم، أو تتابع أهل العلم على ذلك، فقد تُذكر لخواص الطلاب ونحوهم، وربما يكون في إفاضة الكلام فيها شيءٌ من الطول، ويفوت علينا الوقت، وأيضًا نراعي طبقات المتعلمين في ذلك، فقد لا يحسنون ذلك، فيذهبون علينا.

{وإن زاد البنون على ثلاثةٍ زدت صاحب السدس الباقي بقدر زيادتهم، فإن كانوا أربعةً أعطيته مما صححت منه المسألة سهمين، وإن كانوا خمسةً فله ثلاثةٌ، وإن كانت الوصية بثلث باقي الربع، والبنون أربعةٌ، فله سهمٌ واحدٌ، وإن زاد البنون على أربعةٍ، زدته بكل واحدٍ سهمًا}.
هذه مثل ما ذكرنا، تحتاج إلى شيءٍ من التوضيح، لكنها راجعةٌ إلى القاعدة التي ذكرنا، وهو أنه إذا أوصى لشخصٍ بمثل نصيب أحد الورثة، أو كان بأكثر من ذلك، سواءً كان مما يرثه بالتعصيب، أو يرث بالفرض، أو جعل له فيها اشتمل على الأمرين، منهم من أوصي له بمثل أصحاب الفروض أو بعضهم، وأوصي لآخر بمثل أهل التعصيب، أو واحدٍ منهم.
{وإن وصى بضعف نصيب وارثٍ أو ضعفيه، فله مِثْلا نصيبه}.
طبعًا التنوين هنا ليس بجيدٍ، لأنه مثلًا يكون، فله مِثْلا- مثنى مِثْل- نصيبه.
{فله مثلا نصيبه، وثلاثة أضعافٍ، ثلاثة أمثاله، وإن وصى بجزءٍ مشاعٍ كثلثٍ أو ربعٍ، أخذته من مخرجه، وقسمت الباقي على الورثة}.
يعني لو أوصى بالضعف، ضعف الشيء هو مِثْلَاه، فكأن المؤلف -رحمه الله تعالى- استحضر أن بعضهم يقول: إن الضعف يعني مثل، لا، هو يقول: إن الضعف هو ضعف المثل، فبناءً على ذلك إذا قلت بضعف مال فلانٍ، فإذا كان لفلانٍ واحدٌ، فإن الموصى له يأخذ اثنيْن، وهكذا، لأجل ذلك قال: فله مثلَا نصيبه، وثلاثة أضعافٍ، ثلاثة أمثالٍ؛ لأنه نصَّ على الثلاثة هنا، نصَّ على العدد، وهو ثلاثةٌ فتكون ثلاثة أمثاله.
وإن وصى بجزءٍ مشاعٍ كثلثٍ أو ربعٍ، أخذته من مخرجه، يعني لو قال له ربع المال، فيأخذ واحدًا على أربعةٍ، ثم الثلاثة الباقية من الأربعة تُقسم على الورثة، وهكذا.
{وإن وصى بجزأين كثلثٍ وربعٍ، أخذتهما من مخرجهما}.
نعم، بثلثٍ وربعٍ.
{وهما اثنا عشر، وقسمت الباقي على الورثة، فإن ردوا جعلت سهام الوصية ثلث المال، وللورثة ضعف ذلك، وإن وصى بمعينٍ من ماله}.
على كل حالٍ، يقول: وإن وصى بجزأين أخذتهما من مخرجهما، وهما اثنا عشر، الذي هو الثلث والربع، لأن ثلاثةً في أربعةٍ باثني عشر، فيكون مخرج المسألة من اثني عشر.
فإن ردوا جعلت سهام الوصية ثلث المال، وللورثة ضعف ذلك.
يعني يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- سواءً إذا كان الوصية أكثر من الثلث، فإنك لا تعطيهم، لا تعطيهم أكثر من الثلث، لماذا؟ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الثلث، والثلث كثيرٌ»، فبناءً على ذلك، لا يكون لهم إلا الثلث، وثلثا المال للورثة.
بعضهم يقول: وإن ردوا، يعني هذا في المسائل التي أوصي للموصى له بأكثر من الثلث، فكأن المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: لا يخلو من حالين: الحال الأولى: أن يوافق الورثة على إمضاء الوصية ولو زادت على الثلث، فيعطون، سواءً كان النصف أو أكثر، لكن لو ردوا، قال الورثة: نرد ذلك، لا نقبل إلا أن يعطوا الثلث، أما ما زاد، فهو حقٌّ لنا، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنهم إذا ردوا، فذلك حقهم، وهو قد أوصى بما ليس له الإيصاء به، فلا ينفذ إلا في الحق الذي له، وهو ثلث المال، وما زاد فإنه يرجع إلى الوصية، فيكون لهم الثلثان.
{وإن وصى بمعينٍ من ماله، فلم يخرج من الثلث فللموصى له قدر الثلث، إلا أن يجيز الورثة}.
هذه المسألة من المسائل التي يكثر وقوعها، وذلك بأن يقول المورِّث أو الموصي: أوصيت لفلانٍ بمزرعتي، فلما جاء الورثة يعطونه المزرعة، وجدوا أن المزرعة تساوي نصف ماله، والنصف الثاني أملاكه الأخرى، سيارةٌ، دارٌ، مالٌ، ذهبٌ أو فضةٌ، فهنا أوصى له بمعينٍ، فهل نقول مادام أنها خارجةٌ عن الثلث، وهي مزرعةٌ، لا يأخذ شيئًا؟ أو نقول من أنه يأخذها جميعًا، ولو جاوزت الثلث؟
لا هذا ولا ذاك، فالفقهاء -رحمهم الله تعالى- يقولون: مادام أن الوصية بمعينٍ وزاد عن الثلث، فنحن لا نمضيها، لماذا؟ لئلا يكون ذلك مخالفةً، لما جاء من الإذن في أنه لا تجوز الوصية إلا بالثلث، ولا يُمنع الموصى له لإمكان تسليمه القدر الذي يجوز له، فيُعطى قدر الثلث، فإن اصطلحوا مثلًا على أن تُقسم المزرعة، وإن اصطلحوا على أن يبيعوا هذا المِلك، ويعطوه القدر الذي هو الثلث، والباقي يرجع إلى الورثة، وهو سدس هذه المزرعة، نعم، وكيف ما اصطلحوا في أنه يُعطى القدر الذي له من الوصية، فذاك.

فإذن يُفهم في مثل هذا أن الوصية إذا كانت بمعينٍ، كأن تكون سيارةً، أو دارًا، أو مزرعةً، أو نحو ذلك، فنحن نقول: إن كانت أقل من الثلث، فهذا لا إشكال فيه، إن كانت زائدةً عن الثلث، فليس كونها معينةً يجيز أن نمضيها بأكثر من الثلث، والورثة يتضررون، لا، ولا نفوِّتها على الموصى له، بل إننا نعطيه بقدرها، وذلك بأحد الطرق الآتية، إما أن تُقسم إذا أمكن قسمها كالمزرعة، إذا لم يمكن قسمها لكونها سيارةً، أو دارًا، أو مزرعةً صغيرةً لا يمكن قسمها وتتضرر، فبأن تُباع على سبيل المثال ثم يُعطى من ذلك قدر الثلث ويُرد ما زاد للورثة، وإما أن يعوضوه الورثة ما يساوي ثلثها، أو ثلث المال، وكيف ما اتفقوا، فذلك يحصل به المقصود، ويتحقق به المراد، وتُنفذ به الوصية.
قال: إلا أن يجيزه الورثة، أما إذا أجازوا الورثة، أن يأخذ هذا المعين، ولو كان أكثر من الثلث فجائز، سواءً كانت تساوي النصف، أو الثلثين، أو حتى جميع المال.
{قال: وإن زادت الوصايا على المال، كرجلٍ وصى بثلث ماله لرجلٍ، ولآخر بجميعه، ضممت الثلث إلى المال، فصار أربعة أثلاثٍ، وقسمت التركة بينهما على أربعٍ، إن أجيزت لهما، والثلث على أربعةٍ إن رُدَّ عليهما}.
هذه إن زادت الوصايا على المال كله، ليس على الثلث، يعني هو الآن عنده نفرض مليون ريال، فأوصى لشخصٍ بمليون، ووصى لآخر بثلث المليون، ثلاثمائة ألف أو أربعمائة ألفٍ، فإذن هذا ليس إيصاءً بالثلث، بل بجميع المال وزاد على ذلك، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: لا يخلو من حالين: الحالة الأولى: أن يمتنع الورثة، قالوا: لا نجيز إلا الثلث، فهنا لهم ثلث المال، فإذا كان عنده ثلاثمائةً وثلاثةً وثلاثين ألفًا مثلًا التي هي ثلث المليون، فيكون بين الموصى لهما، فالموصى لهما أحدهما ثلاثة أثلاثٍ، وآخر ثلثًا، أليس كذلك؟ فكأنهما أربعةٌ، فيُقسم هذا الثلث بينهما على أربعةٍ، الذي يحصل يكون لهذا ثلاثةٌ من أربعةٍ، ولهذا واحدٌ من أربعةٍ.
والحالة الثانية: أن يجيز الورثة، قالوا: ما أوصى والدنا، أو مورِّثنا لهؤلاء إلا لحاجتهم، ونحن في غُنيةٍ، أو أننا نحب أن ننفذ ما طلبه مورِّثنا، وأجرنا على الله، أو نحن يرزقنا الله -جلَّ وعلَا- من فضله، فأنفذ ذلك.
فنقول: حتى من الإنفاذ، المال أقل من الوصية، لأن الوصية بمليون وثلاثمائةٍ وثلاثةٍ وثلاثين ألفًا، وهذا المال مليون، فأيضًا يكون فيه التحاص، فيُقسم على أربعةٍ، فيكون لمن أوصي له بالثلث ربع المال، وثلاثة أرباعه للآخر.
{قال: ولو وصى لمعينٍ لرجلٍ، ثم وصى به لآخر، أو أوصى إلى رجلٍ، ثم أوصى إلى آخر، أو قال: ما أوصيتُ به للأول..}.
خلِّ هذه المسألة، لأنها تخالف هذه.
لو وصى بمعينٍ لرجلٍ ثم وصى به لآخر، جاء اليوم وعنده مجموعةٌ من زملائه، أو أحبته، وقال: هذه الكتب أو هذه المكتبة لفلانٍ، لكونه طالب علمٍ، ومقبلٌ على العلم، ثم بعد أسبوعٍ جاءه طلبة علمٍ من بلادٍ أخرى، ورأى حرصهم على العلم، وإقبالهم عليه، وفرحهم بهم، التقى بهم في الحج، فقال: مكتبتي لكم، هي وصيةٌ إذا أنا مت فأعطوني رقمكم، ونكتبه في الوصية، وتُرسل إليكم.
فهذا أوصى به لشخصٍ، وأوصى به لآخر، فكيف يُفعل بها؟ أو كان عنده سيارةٌ فقال: هي لجاري، وقال: هي لإمام المسجد، فجاء بعد ذلك إمام المسجد والجار، يطلبون هذه الوصية لما مات، فمن نعطيها؟
فكأن المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: ولو أوصى بمعينٍ لرجلٍ، ثم وصى به لآخر، أو أوصى إلى رجلٍ، ثم أوصى إلى آخر، فهو بينهما.
يعني سواءً كان في ذلك عُلم الترتيب، يعني أن أحدهما أوصي له في وقتٍ، ثم الآخر، نعرف أن هذا في عام خمسةٍ وثلاثين، وأربعمائةٍ وألفٍ للهجرة، وهذا أوصي له في عام ألفٍ وأربعمائةٍ وأربعين، وهو مات في ألفٍ وأربعمائةٍ واثنين وأربعين، نقول: الوصية لهما، لماذا؟ لأن الوصية ثبوتها بالموت، وقت استحقاقها الموت، وحين مات هو أوصى لهما أو لم يوص لهما؟ أوصى لهما، وكون أحدهما متأخرًا عن الآخر لا ينفي حقه فيها، فبناءً على ذلك قال: هو بينهما.
نحن نقول: إن هذه السيارة، أو هذه المكتبة، بين طالب العلم الذي جاءه أولًا، وبين هؤلاء الذين جاءوه آخرًا، ثم يقسمونها بقسمةٍ معروفةٍ، وقد مر بكم باب القسمة، وهو معروفٌ عند أهل العلم، في ما يمكن قسمه، وما لا يمكن قسمه كيف يُقسم.
لماذا قالوا بذلك؟
قالوا لما ذكرنا لكم، أن الوصية ثبوتها إنما هو بالموت، وهو حين مات أوصى لهما أو لم يوص لهما؟ أوصى لهما، وكونه أوصى بها لآخر، لا يعني ذلك نسخًا للأول، فإن الوصية للآخر قد تحتمل نسخًا، وقد تحتمل اشتراكًا، ونحن عندنا قطعٌ بالإيصاء إليهما، وشكٌّ في أنه منع أحدهما، أو غيَّر، فإذن نعمل باليقين، وهو أن لكل واحدٍ قد ثبتت الوصية، ولا ندري هل رفع الأول أو لم يرفعه.
فبناءً على ذلك، تكون بينهما؛ لأنه قد يكون مثلًا نسي أنه أوصى للأول، فهو لو تذكر أنه أوصى للأول لم يوص للثاني، وقد يكون تذكر ذلك، وأراد أن يشتركا، ففي كل هذه الأحوال كلها محتملةٌ، فبناءً على ذلك نقول: الوصية حاصلةٌ بيقينٍ، وأما ارتفاعها فمشكوكٌ فيه، فبناءً على ذلك، يكون الأمر بينهما بالمحاصة والمشاركة، فيشتركان.
لو كان للإنسان مثلًا على الإنسان ديْنٌ، وقال: عليَّ ديْنٌ لفلانٍ، فإذا أنا متُّ فبيعوا هذه الأرض وأعطوه، ثم جاء بعد شهرٍ، وقال: عليَّ ديْنٌ لفلانٍ، إذا متُّ، فأعطوه من الأرض الفلانية، هل كون هذه الأرض قد أمر بالتسديد منها لشخصٍ ينفي حق الآخر؟ حتى ولو اشترك في هذه الأرض في المحاصة بينهما، فكذلك الوصية.
لأجل ذلك قال: فهو بينهما، وإن كان بعضهم يقول: المتأخر ينسخ المتقدِّم، هذا ليس بصحيحٍ، لما ذكرنا أولًا، أن وقت الاستحقاق هو الموت، والثاني أن الوصية قد ثبتت بيقينٍ، وارتفاعها مشكوكٌ فيه، قد يكون قصد رفع الأول، وقد يكون نسي، وقد يكون أراد الاشتراك، فلما تبينا ذلك، فإنا نُعمل اليقين، واليقين أن يكونا مشتركيْن.
{وإن قال ما أوصيتُ به للأول فهو للثاني، فهو بينهما}.
بطلتْ وصية الأول، وإن قال: ما أوصيت به للأول فهو للثاني بطلتْ وصية الأول.
يحسن أن يكون معكم المتن منفردًا، غير الشرح الذي معكم، فهذا أنفع لاستيعابكم للمسائل، وارتباطها ببعضٍ.
على كل حال، أظن أننا قد اعتدنا أن نقف على نصف المسألة، لنجذب ما قبلها، وما تقدَّم في سابق الدرس معها، فلما كان الأمر كذلك، والوقت قد شارف على الانتهاء أو انتهى، فنقف على مثل هذه المسألة، وتكون -بإذن الله جلَّ وعلَا- هي استهلال درسنا في المجلس القادم.
أسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يجزيكم خيرًا، وأن يرزقكم العلم، وأن يزيدكم من الفضل، وأن يتم علينا وعليكم نعمه، وأن يعقبنا وإياكم أعظم المنة.
جزاكم الله خير الجزاء، وجزى الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، وجزى الله كل من كان سببًا في هذا المجلس المبارك، رفع الله قدرهم، وأعلى منزلتهم، وأبقى ذكرهم، وجعلهم من أهل العلم، الذين يذيعونه وينشرونه، والذين يبقونه ويخلِّدونه، وجعله أجرًا دائمًا، وصدقةً جاريةً، وكل من سعى في نقل هذا المجلس، وبلوغه ما بلغ الليل والنهار، والله -جلَّ وعلَا- نسأل أن يعيننا على الثبات على العلم، ويوفقنا لتحصيله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك