الدرس السابع

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

4412 24
الدرس السابع

المحرر في الحديث (2)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، والصَّلاة والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلينَ، أمَّا بعدُ:
فأرحبُ بكم إخواني المُشاهدين الكرام، في لقاءٍ جديدٍ، مِن لقاءاتنا في شرحِ كتابِ "المُحرَّر" للحافظِ ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى.
وكنَّا قد أتممنَا الكلامَ في بابِ المساجدِ، ولعلَّنا -إن شاءَ اللهُ تعالى- نبتدئُ في يومنا هذا ببابِ صلاةِ الجُمُعَة.
والجُمُعَةُ يومٌ من أيامِ الأسبوعِ، سُمِّي بهذا الاسم لاجتماع النَّاس فيه؛ لأنَّهم يؤدُّونَ صلاةَ الجُمُعَة، وأضيفت الصَّلاةُ هنا إلى ظرفِها -وهو يوم الجُمُعَة- وذلك أنَّ يومَ الجُمُعَة يختصُّ بصلاةٍ لا توجدُ في غيرِه من الأيَّامِ، وقد اختلفَ فقهاءُ الإسلامِ في صلاةِ الجُمُعَةِ، هل هي فرضٌ مُستقلٌّ ليسَ بدلًا عن الظُّهرِ، كما قالَ بذلك الجمهور، ومنهم الحنابلة، أخذًا مِن قولِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم: «فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ»[35]، وفي بعض ألفاظه: «وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ»[36].
وذهبَ بعضُهم إلى أنَّ صلاةَ الجُمُعَةِ بدلٌ عن صلاةِ الظُّهرِ، ولذا عَدُّوها ظُهرًا مَقصورة، وهذا القولُ يُخَالِف ظواهرَ النُّصوصِ التي وردت في تخصيصِ يومِ الجُمُعَةِ بفرضٍ وزيادةِ أمرٍ وتأكيدٍ.
وصلاة الجُمُعَة مِن الفروضِ اللَّازمةِ، وقد أمرَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- بها في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَة فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجُمُعَة: 9]، وهناك نصوصٌ أخرى مِن سنَّةِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- تدلُّ على وجوبِ صلاةِ الجُمُعَةِ.
ولعلَّنا نقرأ بعضَ النُّصوصِ الواردة في هذا البابِ، تفضَّل مشكورًا باركَ الله فيك.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاة والسَّلامُ على نبيِّنا مُحمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه وسلَّم.
اللهمَّ اغفر لنا ولشيخِنا، وللمُستمعينَ وللمُشاهدينَ، ولجميعِ المسلمينَ.
قال المصنِّف -رحمه الله تعالى- باب صلاة الخوف: (عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ وَأَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنهم- أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَو لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الغَافِلِينَ» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
هَذا الحَديث يَدلُّ على وُجُوبِ صلاةِ الجُمُعَةِ، وقوله: «لَيَنْتَهِيَنَّ» أي: ليتوقَّفَنَّ «أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ» أي: عن تركهم الْجُمُعَاتِ.
وذلك أنَّ بعضَ النَّاسِ في الزَّمانِ الأوَّلِ يُسافرون في يومِ الجُمُعَةِ، أو يذهبون في يوم الجُمُعَة، ولذا حذَّر النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من تَركِ الجُمُعَة.
قال: «أَو لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم» الختم على القلب المراد به: الطَّمس عليه، بحيثَ لا يميِّزُ الإنسان بينَ ما يَنفعه ممَّا يَضرُّه، ولذلك نجد أنَّ بعضَ النَّاسِ يُقدِم على أفعالٍ يظنُّها مِن الخير له، وتكون بضدِّ ذلك، وكم مِن إنسانٍ يُريدُ الخيرَ، ويُقدِمُ على أفعالٍ يحصُلُ بها من الشُّرورِ الشَّيءَ الكثير، وذلك لأنَّ قلبَه مفتونٌ، فمِن أسبابِ ذلك أن يُختَم على القلبِ، كما قال الله تعالى في نصوصٍ متعدِّدةٍ تتكلَّم عن خَتمِ القلبِ، قال تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: 7]، وقال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم﴾ [الأنعام: 46].
ولذلك يحذر الإنسان مِن أن يكونَ ممَّن يُختم على قلبِه، قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14].
والمعاصي لها أثرٌ على القلبِ، فتجعله لا يميِّزُ بينَ الحقِّ والباطلِ، بين ما ينفعُ وما يضرُّ، ومِن هنا على الإنسان أن يحذرَ من الذُّنوبِ؛ لئلا توقِعَه في هذه الرُّتبة -رتبة ختم القلب- ويترتب على خَتمِ القلبِ أن يكونَ صاحبُه غافلًا غيرَ مميِّزٍ بينَ ما ينفعه ممَّا يضرُّه.
ومِن هنا قالَ تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ [الجاثية: 23].
قال: ﴿فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ﴾ [الجاثية: 23]، لأنَّه قد ضلَّ بالختمِ على قلبِه.
ومِن الذُّنوبِ والمعاصي: تركُ الواجباتِ الشَّرعيَّةِ، ومن ذلكَ صلاة الجُمُعَةِ، ولذلك لصلاةِ الجُمُعَةِ مِن المَزيَّة مَا ليسَ لغيرِها من الصَّلواتِ.
قال: «ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الغَافِلِينَ»، يعني: إذا خَتَمَ اللهُ على قلوبهم أصبحوا ممَّن يَغفُل عن طاعةِ الله، وعن أداءِ الواجبات.
{(وَعَنْ قُدامَةَ بنِ وَبَرَةَ، عَنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ تَرَكَ الجُمُعَة فِي غَيْرِ عُذْرٍ فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِيْنَارٍ، فإنْ لَمْ يَجِدْ، فَنِصْفُ دِيْنَارٍ» رواه أَحمدُ وأَبو داوُد والنَّسائيُّ وابنُ ماجَهْ، ورواهُ أبو داوُد مُرْسَلًا، وَفيه: «فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِرْهَمٍ، أَو نِصْفِ دِرْهَمٍ، أَو صَاعِ حِنْطَةٍ، أَو نِصْفِ صَاعٍ»، وَقَالَ البُخَارِيُّ: قُدامَةُ بنُ وَبَرَةَ عَنْ سَمُرَةَ لمْ يَصِحَّ سَماعُهُ. وَوَهِمَ منْ رَوَاهُ عَنِ الحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ)}.
قُدامَة بن وَبَرَة من التَّابعين، وكثيرٌ من الرُّواةِ قد روى هذا الخبرَ عن قُدامة عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بدونِ ذكر سَمُرَةَ، وهو الأرجحُ في رواية الخبرِ، فيكونُ مُرسلًا، وآخرون رووه عن قُدامةَ عن سَمُرَةَ، وقُدامةَ لم يلق سَمُرَةَ، فيكونُ الخبرُ مُنقطعًا، ولذلك ضعَّفه أكثرُ أهلِ العلمِ لانقطاعِه.
وقوله: «مَنْ تَرَكَ الجُمُعَة فِي غَيْرِ عُذْرٍ فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِيْنَارٍ»
الدِّينار: أربعةُ جرامٍ ونصف تقريبًا من الذَّهبِ.
والدِّرهم: ثلاثةُ ونصفِ جرامٍ من الفضَّة، ولذا بعضُ الرُّواة رواه بلفظِ الدِّرهمِ، وبعضُ الرُّواة رواه بلفظِ الدِّينارِ.
قال: «فإنْ لَمْ يَجِدْ، فَنِصْفُ دِيْنَارٍ».
{(وَعَنْ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الجُمُعَة، ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلحِيْطَانِ ظِلٌّ يُسْتَظَلُّ بِهِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَمُسلمٌ –وَلَفظُهُ: فَنَرْجِعُ وَمَا نَجِدُ لِلحِيْطَانِ فَيْئًا نَسْتَظِلُّ بِهِ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ قَالَ: كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذا زَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ)}.
الشَّمسُ إذا كانت في وسَطِ السَّماءِ، فحينئذٍ لا يكون للجدران ظِلٌّ، فإذا زالت فإنَّه يبتدئ ظلُّ الجدرانِ قليلًا قليلًا حتى يزدادَ ويتمَّ، وصلاةُ الظُّهرِ مِن المعلومِ أنَّ وقتها يبتدئ بالزَّوالِ؛ لقوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاة لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ [الإسراء: 78]، فهناكَ طائفةٌ قالوا: إنَّ الجُمُعَة لا يبتدئُ وقتُها إلا بعدَ الزَّوالِ كما هو الشَّأنُ في صلاةِ الجُمُعَةِ، ولذا قال طائفة: إنَّه لا يبتدئ في الخطبة إلا بعدَ الزَّوالِ،.
ورأى آخرون أنَّه يُمكن أن تتقدَّم الخطبةُ الزَّوالَ، لكن لا يُصلِّي إلا بعدَ الزَّوالِ.
والقولُ الثالث يقول: يجوزُ فعلُ صلاةِ الجُمُعَةِ قبلَ الزَّوالِ.
ومرجع هذه الأقوالِ هذه الأحاديثِ الواردة في البابِ، فالشَّافعي يقولُ: لا يبتدئ بالخطبة إلا بعدَ الزَّوالِ، ومالكٌ يجيز تقدُّم الخطبةِ على الزَّوالِ، لكن يُشترط أن تكونَ الصَّلاةُ بعدَ الزَّوالِ، وأحمدُ يجيزُ الصَّلاةَ والخطبةَ قبلَ الزَّوالِ.
وكان مِن أدلَّتهم هذا الخبرُ -خبر سلمة بن الأكوع، قال: (كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الجُمُعَة، ثُمَّ نَنْصَرِفُ) يعني: بعد سلامِ الإمامِ (وَلَيْسَ لِلحِيْطَانِ ظِلٌّ يُسْتَظَلُّ بِهِ)، فمعناه أنَّ صلاتَه كانت قبلَ الزَّوالِ، وعندَ مسلمٍ: (فَنَرْجِعُ وَمَا نَجِدُ لِلحِيْطَانِ فَيْئًا نَسْتَظِلُّ بِهِ) وفي لفظٍ: (ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ).
فهذا مِن أدلَّة مَن يَرى جوازَ تقدُّمِ صلاةِ الظُّهرِ على الزَّوالِ.
{(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ سِيْدَانِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: شَهِدْتُ الجُمُعَة مَعَ أَبي بَكْرٍ -رضي الله عنه- وَكَانَتْ صَلَاتُهُ وخُطْبَتُهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ، ثُمَّ شَهِدْتُها مَعَ عُمرَ -رضي الله عنه- فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وخُطْبَتُهُ إِلَى أَنْ أَقُولَ: انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ شَهِدْتُها مَعَ عُثُمَّانَ -رضي الله عنه- فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إِلَى أَنْ أَقُولَ: زَالَ النَّهَارُ، فَمَا رَأَيْتُ أحَدًا عَابَ ذَلِكَ وَلَا أَنْكَرَهُ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَاحْتجَّ بِهِ أَحْمدُ، وَقَالَ البُخَارِيُّ فِي عبدِ اللهِ بن سِيدَان: لَا يُتَابَعُ فِي حَدِيثِهِ)}.
هذا الخبر أيضًا مِن أدلَّةِ الحنابلة على جوازِ تقدُّمِ صلاةِ الجُمُعَةِ على الزَّوالِ.
قوله: (شَهِدْتُ الجُمُعَة مَعَ أَبي بَكْرٍ -رضي الله عنه- وَكَانَتْ صَلَاتُهُ وخُطْبَتُهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ) يعني أنَّها كانت قبلَ الزَّوالِ، وهذا بمثابةِ الإجماعِ، فالصَّحَابَةُ كانوا مُتوافرين، ولم يُنقل عن أحدهم إنكارُ ذلك، ولو كان هذا ممَّا يُمنع منه لأنكره الصَّحَابَة -رضوان الله عليهم- فهذا مِن أدلَّةِ مَن يرى جوازَ تقدُّمِ صلاةِ الجُمُعَةِ على الزَّوالِ، ويترتَّبُ على هذا أن نقولَ: إنَّ صلاةَ الجُمُعَةِ فرضٌ مستقلٌّ تَسقطُ بها صلاةَ الظُّهرِ.
{(وَعَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الجُمُعَة، وَفِي رِوَايَةٍ: فِي عَهْدِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ)}.
قوله: (مَا كُنَّا نَقِيلُ)
القيلولة: النَّومُ الذي يكونُ بعدَ الزَّوالِ، (وَلَا نَتَغَدَّى) أي: لا نأكل وجبةَ الغَداءِ، فكانوا يأكلون وجبةَ الغداءِ قُبيل الزَّوالِ، وفي يومِ الجُمُعَة يؤخِّرونَها لِما بعدَ الصَّلاة.
فظاهرُ هذا أنَّهم كانوا يُصلُّون قبلَ الزَّوالِ، وهذا مِن أدلَّةِ الحنابلَةِ على القولِ بإجازة تقديمِ الجُمُعَةِ على وقتِ الزَّوالِ.
{(وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا يَوْمَ الجُمُعَة، فَجَاءَتْ عِيْرٌ منَ الشَّامِ فَانْفَتَلَ النَّاس إِلَيْهَا حَتَّى لمْ يَبْقَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ -الَّتِي فِي الجُمُعَة: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمً﴾[الجُمُعَة: 11] مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، زَادَ مُسلمٌ: حَتَّى لم يبْقَ مَعَهُ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، مِنْهُم أَبُو بَكْرٍ وَعُمرَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: أَنا فِيهِم)}.
إذن عرفنا مَا يتعلَّقُ بحكمِ تقديمِ الجُمُعَةِ على الزَّوالِ، وأنَّ منشَأ الخلاف هو القولُ: هل صلاةُ الجُمُعَةِ فرضٌ مستقلٌّ، أو هي بدلٌ عن صلاةِ الظُّهر؟
على تقريرِ هذا الخلافِ، فإنَّه لا يَحسُنُ بالإمامِ أن يُقدِّم صلاةَ الجُمُعَة على الزَّوالِ، وذلك لعددٍ مِن الأسبابِ، منها:
أنَّ بعض النِّساءِ قد تسمع الصلاة، فتصلي الظُّهرَ، فتكون قد صلَّت الظُّهرَ قبلَ وقتها.
ومنها: أنَّ بعضَ النَّاس قد لا تدرك مِن صلاة الجُمُعَةِ إلا أقلَّ من الرَّكعةِ، فحينئذٍ ستتمها ظهرًا، فتكون قد أتمتها ظهرًا قبل دخولِ وقتِ الظُّهرِ.
وهناك معنًى ثالث، وهو: أنَّ هناك عددًا مِن الأحكامِ تترتَّب على إقامَة صلاةِ الجُمُعَةِ في أوقاتٍ متقاربة، منها: أن تنتظِمَ أحوالُ النَّاسِ، وتسكُنَ طرقاتهم، وتُغلقَ محلاتهم التِّجاريَّة بسببِ ذلك، فكان هذا أولى أن لا تُصلَّي الجُمُعَةُ إلا بعدَ الزَّوالِ.
ثُمَّ أورد المؤلِّفُ حديثَ جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما: (أَنَّ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَخْطُبُ قَائِمً) فيه استحبابُ أن تكونَ خطبةُ الجُمُعَة والخطيبُ واقفًا، لا يجلسُ في أثناءِ الخطبة، وقوله: (كَانَ) تدلُّ على الاستمرارِ والدَّوامِ، وفي لفظة: (أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ) في أوَّلِ حديثٍ، من حديث أبي هريرة وابن عمر دليلٌ على أنَّه كان يخطب على المنبرِ، فهذا دليلٌ على استحبابِ أن تكونَ الخطبةُ على المنبرِ.
وفيه دلالةٌ على أنَّ بعضَ جُملِ خُطبِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قد نُقلت إلينا.
قوله: (فَجَاءَتْ عِيْرٌ منَ الشَّامِ) العيرُ: القافلةُ التِّجاريَّة، وكانوا في وقتِ مسغبةٍ، أو في وقتِ احتياجٍ لِما يكونُ في القافلةِ مِن أنواعِ الأرزاقِ.
قال: (فَانْفَتَلَ النَّاس إِلَيْهَ) أي: انصرفوا مِن صلاتِهم إلى هذه القافلة، (حَتَّى لمْ يَبْقَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلً) والبقيَّة ذهبوا إلى القافلة، فصلُّوا الجُمُعَةَ، فهذا دليلٌ على أنَّ صلاة الجُمُعَة تنعقدُ باثني عشر رجلًا.
وقد اختلفَ العلماءُ في مسألةِ العددِ المشتَرطِ لصلاةِ الجُمُعَةِ، منهم مَن يشترطُ خمسين، ومنهم مَن يشترطُ أربعينَ، ومنهم مَن يشترطُ اثني عشر، ومنهم مَن قال يَكفي ثلاثة مع الإمامِ، ومنهم مَن قال: رجلانِ مع الإمامِ.
لماذا؟ قالوا لأنَّه لم تُعقد الجُمُعَة إلا بعدَ أن أصبحوا أربعين رجلًا.
وهناك طائفةٌ قالوا: هذا الخلافُ في العددِ إنَّما هو في شَرطِ الوجوبِ، متى تجبُ صلاة الجُمُعَة على أهلِ بلدٍ؟
إذا كان عندهم أربعون رجلًا.
وأمَّا اشتراط الصِّحة، فهذا له أدلَّة أخرى.
قوله: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمً﴾[الجُمُعَة: 11]، فيه دلالة على أن الخطيب في يوم الجُمُعَة يكون قائمًا.
{(وَعَنْ بَقِيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بنُ يزِيدَ الأَيْلِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ، عَنِ ابْنِ عُمرَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الجُمُعَة وَغَيرِهَا فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى وَقدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاة» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ ماجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَإِسْنَادُهُ جيِّدٌ.
لَكِنْ تكلَّمَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ وَقَالَ: هَذَا خَطَأُ الْمَتْنِ والإسْنَادِ. وَقَالَ ابْنُ أبي دَاوُد: لمْ يَرْوِهِ عَنْ يُونُسَ إِلَّا بَقِيَّةُ. وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا منْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بنِ بِلَالٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالمٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا إِلَّا أَنَّهُ يقْضِي مَا فَاتَهُ» وَهُوَ مُرْسَلٌ)
}.
أشار المؤلِّف إلى البحثِ في إسنادِ هذا الخبرِ، وأنهَّ قد رواه بقيَّة، وصرَّح بالتَّحديثِ، وهو مدلِّسٌ، فلا يُقبَل مِن حديثِه إلا مَا صرَّح فيه بالسَّماعِ، فرواه عن، قال: (حَدَّثَنِي يُونُسُ بنُ يزِيدَ الأَيْلِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) إمام الحديث المعروف (عَنْ سَالمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ، عَنِ ابْنِ عُمرَ -رضي الله عنه-) بينما رواه غيرُ بقيَّة عن يونس بإسنادٍ آخرٍ، فقالوا: عن الزُّهري عن أبي سلمة، وليس عن سالم، عن أبي هريرة، فقالوا: هذا مخالفةٌ في الإسنادِ، وهناك مخالفةٌ في المتنِ، ففي هذا الخبر: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلاة»، ولم يقيِّدها بصلاةِ الجُمُعَةِ، «فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى»، وفي لفظِ قال: «فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاة».
ومِن الأحكامِ المتعلِّقَة بهذا: أنَّ صلاة الجُمُعَة لا تُدرَك إلا بإدراكِ ركعةٍ كاملة، فمَن لم يُدرِك إلا أقلَّ مِن الرَّكعة، فإنَّه لا يُعدُّ مُدركًا للجُمُعَة، فيقلِبَ صلاتَه لتكونَ صلاةَ ظهرٍ، وهناكَ مِن أهلِ العلمِ مَن قالَ: إنَّ صلاةَ الجُمُعَة تُدرك بأقلِّ جزءٍ منها، لكنَّه لم يَسِرْ عليه جماهيرُ أهلِ العلمِ.
وبهذا الخبر أخذَ طائفةٌ في بقيَّة الصَّلواتِ، فقالوا: إنَّ الجماعة لا تُدرَك إلا بإدراكِ ركعةٍ، لحديث أبي هريرة: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلاة»، والحنابلة يقولون: في صلاة الجُمُعَة لا تُدرَك إلا بإدراكِ ركعةٍ، وغيرها من الصَّلواتِ قالوا: تُدرَك بإدراكِ أقلِّ جزءٍ من أجزائِها، على مقدارِ الرُّكوعِ، أو مقدارِ السُّجودِ، ولو مِن آخرِ الصَّلاةِ في التَّشهُّدِ.
واستدلَّ بعضُهم بهذا الخبرِ أيضًا على أنَّ مَن أدركَ ركعةً مِن الوقتِ في صلاته، فإنَّه يُعدُّ قد صلَّى الصَّلاةَ في الوقتِ، ومَن لم يُدرك إلا أقلَّ مِن الرَّكعة، فحينئذٍ لم يُدرِك الوقتَ، فيكون فعلُه لها على جهةِ القضاءِ، وليسَ على جهةِ الأداءِ.
وأيضًا أُخذَ من هذا: أنَّ صلاةَ الجماعة لا تُدرَكُ إلا بإدراكِ الرَّكعة، وبذلك قالَ طائفةٌ، ورتَّبَ بعضُهم على ذلك أنَّ مَن جاءَ إلى الإمامِ، وهو في آخرِ صلاتِه، لم يبقَ إلا جزءٌ يسيرٌ، قالوا: لا يدخل مع الإمامِ، وينتظر مَن يأتي ليُصلي معه جماعةً، هذا يقوله بعضُ الحنابلة.
والصَّواب في هذا: أنَّ مَن جاء إلى الإمام على أي هيئةٍ، فإنَّه يدخلُ مع الإمام، لقولِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم: «فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَلَا تُسْرِعُوا ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا ، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّو»[37]، وهذا يشمل الجزءَ القليلَ مِن أجزاءِ الصَّلاة، ولو لم يُدرِك الإمامَ إلا في التَّشهُّدِ الأخيرِ.
{(وَعَنْ جَابرِ بنِ سَمُرَةَ -رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، فَمَنْ نَبَّأَكَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ. فَقَدْ -وَاللهِ- صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَـرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ. رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
قوله في هذا الخبر: (وَعَنْ جَابرِ بنِ سَمُرَةَ -رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَخْطُبُ قَائِمً) فيه أنَّ السُّنَّة المشروعة: القيامُ في خطبةِ الجُمُعَةِ، وقد قالَ بعضُ أهلِ العلمِ: إنَّ هذا على الواجبات، لأنَّ الأصلَ في الأفعالِ النَّبويَّة أن تكونَ على الوجوبِ؛ لأنَّ فعلَه هنا وقع بيانًا لكيفيَّةِ أداءِ صلاةِ الجُمُعَةِ، والفعل ُالذي يقعُ بيانًا يأخذُ حكمَ ما هو بيانٌ له، وبالتَّالي نقولُ: إنَّ هذه الهيئة مِن القيام في الخطبةِ من الواجباتِ.
وأُخذ مِن هذا أنَّ الجلسة بين الخطبتينِ مِن الواجباتِ، وهكذا القيام في الخطبة الثَّانية.
قال: (فَمَنْ نَبَّأَكَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًِا فَقَدْ كَذَبَ) هذا أخذًا من متابعته، واستقرائه لأحوال النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم.
قوله: (فَقَدْ -وَاللهِ- صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَـرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ)، لفظة (صلاة) تحتمل احتمالين:
الاحتمالُ الأوَّل: أن يكونَ المراد بها صلاة الجُمُعَةِ.
الاحتمالُ الثَّاني: أن يكون المراد بها بقيَّة الصَّلوات.
فأمَّا مِن جهةِ بقيَّة الصَّلواتِ، فهذا ممكنٌ، أمَّا بالنَّسبةِ لصلاةِ الجُمُعَةِ، فإنَّه غيرُ ممكنِ. لماذا؟
كم يُصلِّي من الصَّلواتِ في السَّنةِ غيرَ الجُمُعَة؟
قرابة ألف وثـمانمائة، فيمكن أن يكون في سنة ونصف، لكن في صلاة الجُمُعَة، لا يصلي في السَّنةِ إلا أكثرَ من الخمسين بقليل، وبالتَّالي يحتاجُ إلى عشرينَ سنة ليصلِّي ألفَ صلاةٍ، ومِن ثُمَّ لا يبلغُ هذا العدد، فيكون هذا اللَّفظ على جهةِ المبالغة، والتَّأكيدِ على متابعتِه لصلاةِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم.
{(وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ» وَيَقُولُ: «بُعِثْتُ أَنَا والسَّاعَةُ كهَاتَيْنِ» وَيَقْرُنُ بَينَ إصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَيَقُولُ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». ثُمَّ يَقُولُ: «أَنا أوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ, مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ» رَوَاهُ مُسلمٌ .
وَفِي لفظٍ لَهُ: كَانَتْ خُطْبَةُ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الجُمُعَة: يَحْمَدُ اللهَ ويُثْنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ وَقَدْ عَلَا صَوتُهُ، وَفِي لفظٍ: يَحْمَدُ اللهَ ويُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: «مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ, وَخَيْرُ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهُ»، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَزَادَ فِيهِ: -بَعْدَ «ضَلَالَة»- «وكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ»)
}.
قوله هنا: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ) فيه التَّأثُّرُ في صلاةِ الجُمُعَة، وأنَّ الإمامَ ينبغي أن يكونَ أوَّلَ مَن يتأثَّر بخطبته، وفيه فعلُ الأسبابِ التي تجعل النَّاسَ يتأثرون بالخطبةِ، ومِن ذلك عُلوِّ الصَّوتِ، واشتدادِ الغَضَبَ.
وقوله: (حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ) فيه جوازُ تشبيهِ الشَّيءِ بغيرِه، مِن أجلِ أن تُفهم صورته.
والمراد بذلك: أنَّ بعضَ النَّاسِ قد يأتي إلى قومِه أو قبيلتِه أو قريتِه، فيصيح فيهم: جاءكم عدو، جاءكم جيش يريد أن يَقتلكم، أو أن يَأخذ أَموالكم؛ وبالتَّالي تكون صيحة نذير تؤثِّر في النَّاس.
(يَقُولُ: «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ») يعني: هذا النَّذير مُنذرُ الجيش، يقول: جاءكم العدو صباحًا، أو جاءكم العدو مساءً، وبالتَّالي يحذرون منه.
قال: (وَيَقُولُ: «بُعِثْتُ أَنَا والسَّاعَةُ كهَاتَيْنِ») يعني أنَّ بعثته -صلى الله عليه وسلم- زمانها من قريب البعثِ يوم القيامة -أو السَّاعة.
وفي هذا دلالةٌ على أنَّ مَا كان مِن الأزمانِ قبله -صلى الله عليه وسلم- قد مرَّ عليه سنون وقرون كثيرة، فإنَّ بيننا وبينه خمسة عشر قرنًا، وهذه الخمسة عشر قرنًا قليلة؛ لأنَّه قال: «بُعِثْتُ أَنَا والسَّاعَةُ كهَاتَيْنِ» فهذا دلَّ على أنَّ الزَّمانَ الذي كان سابقًا لزمانِه كان طويلًا.
وإذا رأيتَ ما ذكرَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- مِن أوائلهم، مِن كونِ أحدِهم قد يُصلِّي في عمرِه إلى الألفِ سنةِ؛ عرفتَ حينئذٍ طولَ ما مرَّ بهم مِن السُّنون.
قال: (وَيَقْرُنُ بَينَ إصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى) قيلَ: لأنَّهما متقاربتان، وبالتَّالي أرادَ أن يقرِّب ما بين بعثتِه والسَّاعة، وقال آخرون: لأنَّ السَّبَّابَة أقل مِن الوسطى، فيكونُ مقدار ما بينَ زمانِه وما بينَ زمانِ السَّاعةِ بالنَّسبَةِ لسِنينِ الدَّهرِ كما بينَ السَّبَّابَة والإبهام بالنَّسبة لبقيَّة الأصبعين.
وقوله: (وَيَقُولُ) أي مِن شأنِه في خطبته أن يقول: «أَمَّا بَعْدُ»، المراد بهذه اللفظة: أي مهما يكن مِن أمرٍ أو شأنٍ بعدٌ فإنَّ كذا، وفي هذا التَّفريع والانتقالُ بالحديثِ مِن شيءٍ إلى آخرٍ، وفيه مشروعيَّة قول هذه اللفظة «أَمَّا بَعْدُ»، في خطبة الجُمُعَة.
قال: «فَإِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ» الأصلُ في الحديثِ أن يُرادَ به ما يستَجدُّ من الأشياء، وسُمِّي الكتابُ حديثًا؛ لأنَّه يستجدُّ، ويحدُث بعدَ أن لم يكن.
وفي هذا دلالةٌ على أنَّ مِن صفاتِ الله -عزَّ وجلَّ- ما هو حادثٌ، فإنَّ الله -جلَّ وعلا- يفعلُ ما يشاءُ، وسبحانه يتكلَّمُ متى شاءَ، ومِن هنا نقول: صِفةُ الكلامِ قديمةُ النَّوعِ، ولكن مِن آحادِها ما هو حادثٌ بعدَ أن لم يكن.
وقوله: «خَيْرَ الحَدِيثِ» يعني أفضله، وأحسنه «كِتَابُ اللهِ» أي: القرآن العظيم، وفي هذا التَّرغيب في قراءة القرآن، وفي الرُّجوعِ إليه، والإكثارِ من تلاوتِه.
قال: «وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم»، المراد بالهدي: الطَّريقة، والسَّمتِ، خَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- وفي هذا الحثُّ على اتِّباع السُّنَّةِ، وبيانِ أنَّها مُنجِيَة، وأنَّ صاحبها يكونُ مِن أهلِ الهداية.
قال: «وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَ» المُحدثة: المرادُ به الأمر الجديد الذي لم يكن، والمراد به هنا ما كان في الدِّينِ، أي: الطَّريقة المختَرعة في دينِ الله -عزَّ وجلَّ- غيرِ المأثورة عن النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم.
قال: «وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» فيه دلالةٌ على أنَّ البدع كلها حرام، وأنَّها من الضَّلالِ، وأنَّه لا يجوزُ لإنسانٍ أن يستبيحها، أو أن يفعلها.
وفي هذا ردٌّ على مَن قسَّم البدعَ إلى ما هو حَسَنٌ، وما هو قبيحٌ، فإنَّ قوله: «وكُلَّ» هذا مِن ألفاظِ العمومِ.
ثُمَّ يقول: (ثُمَّ يَقُولُ: «أَنا أوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ») أي: أنَّه يتولَّى شؤونَه حتى يكونَ قائمًا بها، ويكونَ أقربَ إلى نفسِه من نفسِه.
«مَنْ تَرَكَ مَالً» أي: في الميراث «فَلِأَهْلِهِ»، والمالُ: كلُّ ما يُتَمَوَّل، سواءً كان قيمةً مثل النُّقودِ، أو كانَ طعامًا، أو شَرابًا، أو مرَكُوبًا، أو لِباسًا.
«مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ»، أي: ينتقل لورثتِه.
«وَمَنْ تَرَكَ دَيْنً» أي: حقوقًا للآخرين «أَوْ ضَيَاعً» أي: تَشَتُّتًا وحاجةً «فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ»، أي: أنَّني أتولَّاهُ وأقومُ بسدادِهِ.
(وَفِي لفظٍ لَهُ: كَانَتْ خُطْبَةُ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الجُمُعَة: يَحْمَدُ اللهَ ويُثْنِي عَلَيْهِ)، وفيه استحبابُ البداءَة في خطبةِ الجُمُعَةِ بحمدِ الله تعالى، ويُثنِي عليه، أي: يُكرِّرُ المدحَ له سبحانه.
(ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ وَقَدْ عَلَا صَوتُهُ) فيه استحبابُ رفعِ الصَّوتِ في الخُطَبِ.
(وَفِي لفظٍ: يَحْمَدُ اللهَ ويُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: «مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ») أي: كلُّ شخصٍ يُقدِّر اللهُ له الهداية، فلن يستطيعَ أحدٌ أن يُبعدَه عن تلك الهداية، وأن يُدخلَه في بابِ الضَّلالِ.
«وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ»، أي: مَن يبعد عن الطَّريق المستقيمِ، فلن تجدَ أحدًا مِن النَّاسِ يتولَّى هدايتَه.
قال: («وَخَيْرُ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهُ»، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَزَادَ فِيهِ: بَعْدَ قوله: «وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» قال: «وكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ»)، ففي هذا التَّأكيدُ على تحريمِ البدَع، وعدمِ جوازِها.
{(وَعَنْ أَبي وَائِلٍ قَالَ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ، فَأَوْجَزَ وأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا يَا أَبَا اليَقْظَانِ, لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فَلَو كُنْتَ تَنَفَّسْتَ؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ طُوْلَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلاة وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرً» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
قوله في هذا الخبر: (خَطَبَنَا عَمَّارٌ) عَمَّارُ بن ياسر، وكانَ مِن فضلاءِ الصَّحَابَةِ، وقد أثنى عليه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وظاهرُ هذا أنَّها خطبة جمعة.
(فَأَوْجَزَ) أي: قلَّلَ الكلامَ، (وأَبْلَغَ) أي: أوصلَ المعاني التي يريدها بأسلوبٍ تقبلُه النُّفوس وترتاح إليه.
(فَلَمَّا نَزَلَ) يعني: مِن المنبر بعدَ الخطبة، (قُلْنَا يَا أَبَا اليَقْظَانِ) وهذه كُنية عمار، (لَقَدْ أَبْلَغْتَ) أي: أوصَلتَ المعاني إلى القلوب، (وَأَوْجَزْتَ) أي: لم تُكثِر اللَّفظ، بل قلَّلته، (فَلَو كُنْتَ تَنَفَّسْتَ؟) أي: أكثرتَ مِن الكلامِ، ووسَّعتَ مجاريه؛ ليكون ذلك أدعى لقبولِ النَّاس له، ولنستفيدَ منه زيادةَ فائدة.
(فَقَالَ -رضي الله عنه: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ طُوْلَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ») أي: علامة.
وفي هذا استحبابُ طولِ الصَّلاة، ومنها صلاة الجُمُعَةِ، وفيه استحبابُ تقليلِ خطبةِ الجُمُعَةِ، وأنَّ الفقه المراد به اتَّباع الهدي النَّبويِّ، وأنَّ له علامات.
قال: «فَأَطِيلُوا الصَّلاة وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرً» فالكلام القليل، قد يتمكَّن صاحبه من أن يوصلَه إلى معانٍ كثيرةٍ يريها.
{(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ أَبي أَوْفَى -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ الذِّكْرَ، وَيُقِلُّ اللَّغْوَ، ويُطِيْلُ الصَّلاة، وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ، وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ بَينَ الأَرْمَلَةِ والمِسْكِيْنِ فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّان)}.
قوله في هذا الخبر: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-) أي: طريقته التي كان يستمر عليها.
(يُكْثِرُ الذِّكْرَ) يعني: التَّذكير بالله -عزَّ وجلَّ- وبأحكامِه، وبيوم المعاد، ويأمرهم بالاستعدادِ له.
(وَيُقِلُّ اللَّغْوَ)، المراد باللَّغوِ: الحديثُ الذي لا منفعةَ فيه، أو تقلُّ منفعته.
(ويُطِيْلُ الصَّلاة، وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ) أي: لا يُطيل فيها (وَلَا يَأْنَفُ) أي: لا يستحي ولا يتكبَّر (أَنْ يَمْشِيَ بَينَ الأَرْمَلَةِ والمِسْكِيْنِ) مِن أجلِ أن يقضي لهم حوائجهم.
{(وَعَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ تَنُّورُنَا وتَنُّورُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاحِدًا سَنَتَيْنِ أَو سَنَةً وَبَعْضَ سَنَةٍ، وَمَا أَخَذْتُ ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ [ق: 1] إِلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَؤهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذا خَطَبَ النَّاس. رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
هذا الحديث قد أخرجه الإمام مسلم، مِن حديث أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ، قالت: (لَقَدْ كَانَ تَنُّورُنَ) أي: المكان الذي يوضعُ فيه نارٌ مِن أجلِ إنضاجِ الخبزِ ومَا مَاثله. (وتَنُّورُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاحِدً) أي: يشتركون فيه، (سَنَتَيْنِ أَو سَنَةً وَبَعْضَ سَنَةٍ) وفيه: جوازُ المشاركةِ في الآلاتِ التي يُصنع منها الحوائج، كالتَّنُّورِ هنا.
قالت: (وَمَا أَخَذْتُ ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ [ق: 1]) أي: سورة "ق" (إِلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَؤهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ) فيه استحبابُ قراءة سورة "ق" في خطبة الجُمُعَة.
وظاهرُ هذا أنَّه يَقرؤها بِلَفظِها، بدونِ أن يُفسِّرَها، وهذا يدلُّكَ على شيءٍ مِن خُطَبِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- على منبرِه.
وفيه: فضل هذه السورة، سورة "ق".
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ، يَوْمَ الجُمُعَة، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قوله: «إِذا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ» أي: مَن بينَك وبينَه صحبةٌ، سواءً طالَت أو قصُرَت، ومِن ذلك مَن تلقاهُ في المسجد، إذا قلتَ له: أنصِت «يَوْمَ الجُمُعَة» يعني: وقتَ خطبة الجُمُعَةِ، والإمامُ يخطبُ للجمعةِ فقد لَغَوْتَ، واللَّغو المراد به: التَّصرفُ الذي لا فائدةَ فيه، ولا ثَمرة له في الدُّنيا والآخرة.
قال: «إِذا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ» أي: اسكت ولا تتكلم «يَوْمَ الجُمُعَة، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ» أي خطبة الجُمُعَة، «فَقَدْ لَغَوْتَ».
بعضُ النَّاسِ يرى أنَّه إذا لَغَا في الجُمُعَة بطُلَت جمعتُه.
وبعضهم يقول: يَبرأ مِن الإثمِ بصلاتِه التي لَغَا فيها، ولكنَّه لا يحصلُ على الأجرِ.
ولعلَّ الأظهر أنَّ المراد به أنَّ كلامَه الذي تكلَّم به يُعدُّ لغوًا، لا يُؤجرُ عليه، ولا يُثابُ عليه، ويكون قد فوَّت واجبًا شرعيًّا مِن الاستماع لخطبةِ الجُمُعَةِ.
{(وَعَنْهُ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الجُمُعَة، فاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ؛ غُفِرَ لَهُ مَا بَينَهُ وَبَينَ الجُمُعَة، وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَمَنْ مَسَّ الْحَصَا فَقَدْ لَغَ»، رَوَاهُ مُسلمٌ، وَفِي لَفظٍ لَهُ: «مَنِ اغْتَسَلَ ثُمَّ أَتَى الجُمُعَة فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا بَينَهُ ومَا بَينَ الجُمُعَة الْأُخْرَى وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ»)}.
قوله: (وَعَنْهُ) أي: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- «مَنْ تَوَضَّ».
أخذَ الجمهورُ مِن هذه اللَّفظة أنَّ غُسلَ الجُمُعَة ليسَ بواجبٍ، لكونِه قد أثنى على مَن توضَّأ، يعني ظَاهر هذا أنَّه لم يغتسِل، قال: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الجُمُعَة» أي مكان أو موطن صلاة الجُمُعَة، «فاسْتَمَعَ» لخطبة الجُمُعَة، «وَأَنْصَتَ؛ غُفِرَ لَهُ مَا بَينَهُ وَبَينَ الجُمُعَة» يعني القادمة، «وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ».
وفي هذا: استحبابُ الإنصاتِ لخطبةِ الجُمُعَةِ، وهو مِن الواجباتِ.
وفي هذا: مشروعيَّة أن يتدبَّرَ الإنسانُ ما يُقالُ في خطبة الجُمُعَةِ.
وفي هذا: فضلُ يومِ الجُمُعَة.
قوله: «وَمَنْ مَسَّ الْحَصَا فَقَدْ لَغَ»، المساجد في الزَّمانِ الأوَّلِ كانت مِن الحصى، أو مِن الحصبى، فقد يحرِّكُها مِن أجلِ مُساواتها، أو يحرِّكُها عبثًا، فنهى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن تحريكِ الحصَى في وقتِ صلاةِ الجُمُعَةِ، وعدَّ هذا لَغْوًا، أي: فعلًا لا ثمرة له، ولا فائدة فيه، وَيُعَدُّ مُنْقِصًا لأجرِ الجُمُعَة.
وجاء في لفظٍ للإمام مُسلم: «مَنِ اغْتَسَلَ» وبالتَّالي لا يكونُ في الخبرِ دليلٌ لمذهبِ الجمهورِ على جوازِ الاقتصارِ على الوضوءِ.
وقوله: «ثُمَّ أَتَى الجُمُعَة فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ» أي: ما قدَّره الله -عزَّ وجلَّ- وقضاه عليه.
«ثُمَّ أَنْصَتَ» أي: استمعَ بإنصاتٍ وعدمِ حديثٍ، «حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا بَينَهُ ومَا بَينَ الجُمُعَة الْأُخْرَى وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ».
وفي هذا: فضلُ صلاةِ الجُمُعَةِ، وأيضًا مِن الأجرِ المُترتِّب عليها، ومشروعيَّة الإنصاتِ والاستماعِ لخطبةِ الجُمُعَة، وتهيؤ الإنسانِ مِن أجلِ أن يعيَ مَا يُقال في صلاةِ الجُمُعَةِ، بكونِه يَقْدُمُ مُرتاحًا قدَ أخذ قسطَه مِن راحةِ بدنِه بالنَّومِ ونحوهِ.
باركَ الله فيكم، ووفَّقكم اللهُ لكلِّ خيرٍ، وجعلَكُم اللهُ مِن الهداةِ المهتدينَ، كما أسألُه -جلَّ وعلا- أن يوفِّقَ خطباءَ الجُمُعَةِ للحديثِ عمَّا ينتفعُ النَّاسُ به، ويعيدهم إلى دينهم، ويُحبِّبهم إلى اللهِ، ويُحبِّب الله إليهم.
بارك َالله فيكم جميعًا، ووفَّقكُم اللهُ لخيري الدَّنيا والآخرةِ، هذا واللهُ أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا مُحمدٍ، وعلى آله وصحبِه أجمعينَ.
---------------------
[35] صحيح البخاري (3667).
[36] مسند أحمد (255).
[37] صحيح البخاري (603).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك