الدرس الثامن

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

4426 24
الدرس الثامن

المحرر في الحديث (2)

الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلينَ، أمَّا بعدُ:
فأرحبُ بكم في لقاءٍ نُكمِلُ به ما ابتدأناه من الحديث عن أحاديثِ صلاة الجُمُعَة في كتاب المحرر للحافظ ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى.
وأوَّلُ ذلكَ حديث ابن عباس، فلعلَّنا أن نستمِعَ إليه.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى الله وسلَم على نبيِّنا مُحمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه وسلَّم.
اللهمَّ اغفر لنا ولشيخِنا، وللمُستمعينَ ولجميعِ المسلمينَ.
قال المصنِّف -رحمه الله تعالى: (وَعَنِ ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الجُمُعَة وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَاً، وَالَّذِي يَقُولُ لَهُ: أَنْصِتْ، لَيْسَ لَهُ جُمُعَةٌ» رَوَاهُ أَحْمدُ مِنْ رِوَايَةِ مجَالدٍ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ)}.
(مجَالِد): هو مجالد بن سعيد، وهو ضعيفُ الرِّوايةِ، وبالتَّالي هذا الخبر لا يثبت، ولا يُبنَى عليه حكم؛ لأنَّ الأحاديث الضَّعيفة لا يصحُّ أن يُعوَّل عليها في بناء الأحكام.
ومَن رأى تقويَةَ هذا الخبر بشواهده أوَّلَهُ بأنَّ قوله: «لَيْسَ لَهُ جُمُعَةٌ» أي: ليس له جمعة كاملة، ومثله: «وَمَنْ لَغَا فَلا جُمُعَةَ لَهُ»[38]، في بعض ألفاظ هذا الخبر فإنَّه لا يصحُّ مِن جهةٍ، ومَن حسَّنَه لشواهده قال: المراد به لا جمُعَة كاملة له؛ جمعًا بين الأخبار في هذا، وليُعلَم أنَّ الكلام الذي يُمنَع منه يُستثنى منه كلام المأمومِ مع الإمامِ، فقد أجازَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لبعضِ المأمومين أن يتحدَّثوا معهُ في خُطبةِ الجُمُعَة، فسألهم مرة، وخاطبوه ابتداءً مرةً أخرى، وقد وردَ في الصَّحيحين حديثِ أنس أنَّ رجلًا أعرابيًّا دَخَلَ المسجد فقال: "يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ..."[39]، إلى آخر مَا ذَكَر، فطلب من النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو بنزولِ المطرِ، فدعا فنزلَ، فدلَّ هذا على أنَّه لا يُمنَع من مخاطبَةِ الخطيب أثناءَ خطبةِ الجُمُعَة بما لا يُشوِّشُ عليه في خطبتهِ، وبما لا يكونُ سببًا في عدمِ انتظامِ الأمور أمامه في الخطبة.
{(وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَة وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ، فَقَالَ: «أَصَلَّيْتَ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قوله في هذا الخبر: (دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَة وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ) يعني: خطبة الجُمُعَة.
فَقَالَ: «أَصَلَّيْتَ؟» هذا فيه جواز مُخاطبة الإمام لبعض مَن يحضرَ الجُمُعَة معه، وجوابُ الحاضرِ للخطيبِ.
( قَالَ: لَ)، أي: لم أصلِّ الركعتين. قَالَ: «قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ»، ففي هذا دلالَةٌ على مشروعيَّةِ تحيَّة المسجدِ قبلَ خطبةِ الجُمُعَة.
وفيه دلالةٌ على أنَّ مَن دخَلَ والإمام يخطب شُرِعَ له أن يُصلِّيَ ركعتي تحيَّة المسجدِ قبلَ أن يجلسَ كما قال بذلك الشَّافعيُّ وأحمد، خلافًا لِمَا ورَدَ عن الإمامين الجليلين أبي حنيفة ومالك -رحمة الله على الجميع- وقد وَرَد في ذلك أحاديث مُتعدِّدَة عن عددٍ من الصَّحابَة -رضوان الله على الجميع.
وقد استدلَّ بعضهم بهذا على جَوازِ تأخُّرِ الإنسان عن بدءِ الخطبة، ولعلَّ هذا الرُّجل كان مَشغولًا، فإنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قد أمرَ المؤمنين بالتَّوجهِ إلى المسجدِ واستماعِ الخطبةِ في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 9]، والأمرُ يُفيد الوجوب.
وقوله: «قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ»، فيه دليلٌ على أنَّ القيامَ مَشروعٌ في النَّوافل وإن لم يكن واجبًا، وصُرِفَ الأمر مِن الوجوبِ إلى الاستحبابِ هنا لقيامِ الدَّليلِ على أنَّ النَّوافل لا يجبُ القيام فيها.
وقوله: «فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» أُخِذَ منه أنَّ أقل تحيَّة المسجد هو عدد ركعتين في الصَّلاة، ولهذا قال بعض أهلِ العلمِ إنَّ مَن صلَّى ركعةَ الوترِ فإنَّه لا يُعدُّ قد أدَّى صلاةَ تحيَّة المسجدِ، ولعلَّ مَن ذهب إلى خلافِ هذا القولِ قال: إنَّما حدَّد الرَّكعتين هنا؛ لأنَّ هذا الوقت ليس وقتًا مِن أوقاتِ صلاةِ الوترِ، واستُدلَّ بهذا الخبر على أنَّ يومَ الجُمُعَة ليس فيه وقتُ نهيٍ في وقتِ الزَّوالِ -في وقتِ خطبة الجُمُعَةِ- وبذلك قالَ الشَّافعي، واستدلَّ يعضُهم بهذا الخبر على أنَّ ذوات الأسباب لا تدخل في النَّهي عن الصلاة في الأوقات الموسَّعة.
{(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَة: ﴿ألم تَنْزِيْلُ﴾ السَّجْدَة، و﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ وَأَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الجُمُعَة: سُورَةَ الجُمُعَة وَالْمُنَافِقِينَ رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
في هذا الخبر استحبابُ قِراءة سُورتي السَّجدةِ والإنسانِ في فجرِ يومِ الجُمُعَة، وظاهرُ هذا الخبر أنَّ الاستحبابَ يكونُ على الدَّوامِ وليسَ خاصًّا بيومٍ دونَ آخرٍ.
وفيه فضل هاتين السُّورتين، وفي هذا استحبابُ قراءة سورة الجُمُعَة في الرَّكعة الأولى من صلاة الجُمُعَة، واستحبابُ قراءة سورة المنافقين في الرَّكعة الثَّانية من صلاةِ الجُمُعَةِ، وقد وردَ أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الجُمُعَة في الرَّكعة الأولى بسورة الأعلى، وفي الثَّانية بسورة الغاشية، ولذا شُرِعَ له أنَّه يُنوِّعُ بينهما، وسيأتي هذا في الخبر الذي يليه.
{(وَلهُ عَنِ النُّعْمَانِ بنِ بَشيرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ، وَفِي الجُمُعَة: بـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ و﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَة﴾ قَالَ: وَإِذا اجْتَمَعَ العِيدُ وَالجُمُعَة فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، يَقْرَأُ بِهِما أَيْضاً فِي الصَّلَاتَيْنِ)}.
هذا الخبر رواه النعمان بن بشير، وقد أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وقال: (كَانَ رَسُولُ اللهِ)، ظاهره أنَّه كان يستمرُّ على ذلك. (يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ)، يعني: في صلاتي العيدين -عيدِ الفطرِ وعيدِ الأضحى.
(وَفِي الجُمُعَة)، أي: صلاة الجُمُعَة. (بـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾) سورة الأعلى، وظاهره أنَّه يقرأ السُّورة كاملة. ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَة﴾) يعني في الرَّكعة الثانية.
(قَالَ: وَإِذا اجْتَمَعَ العِيدُ وَالجُمُعَة فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، يَقْرَأُ بِهِما أَيْضاً فِي الصَّلَاتَيْنِ)، استُدِلَّ بهذا على أنَّ الإمامَ يُشرَعُ له عندَ اجتماعِ الجُمُعَةِ والعيدِ في يومٍ واحدٍ أن يُصلِّيَ الصَّلاتين.
وفيه دلالةٌ على أنَّ القراءةَ في صلاةِ العيدِ وفي صلاةِ الجُمُعَة قراءة جهريَّة -أي: يجهر بما يقرأ- وفيه استحباب قراءة هاتين السُّورتين في هاتين الصلاتين.
وقد أخذَ بعضُ العلماءِ مِن هذا الخبرِ أنَّه إذا اجتمَعَ عيدٌ وجمعةٌ لم تسقط إحداهما بالأخرى، وأنَّه يجبُ على النَّاسِ أن يُصلُّوا الصَّلاتين، وذهب الإمامُ أحمد إلى أنَّ المأموم الذي صلَّى صلاة العيد يجوزُ له أن يتركَ صلاةَ الجُمُعَة على أن يُصلِّيَها ظهرًا، ولكن لا تُصلَّى الظَّهر جماعة في مساجدِ الأوقاتِ، وكان ممَّا استَدلَّ به الخبرُ الذي يليه، ولعلَّنا نقرأ الخبر الآخر، فتفضَّل مشكورًا.
{(وَعَنْ إِيَاسِ بنِ أَبي رَمْلَةَ الشَّاميِّ قَالَ: شَهِدْتُ مُعَاوِيَةَ بنَ أَبي سُفْيَانَ وَهُوَ يَسْأَلُ زَيدَ بنَ أَرقَمَ: هَلْ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عِيدَينِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ صَنَعَ؟ قَالَ: صَلَّى العِيدَ ثُمَّ رَخَّصَ فِي الجُمُعَة، فَقَالَ: «مَنْ شَاءَ أَن يُصَلِّي فَلْيُصَلِّ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْن ماجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ)}.
هذا مِن أدلَّةِ الإمام أحمد ومَن رأى رأيَه أنَّ مَن صلَّى صلاةَ العيدِ في اليومِ الذي اجتمع فيه عيدٌ وجُمعةٌ أنَّ صلاةَ الجُمُعَةِ يسقطُ وجوبها عنه.
قال: (شَهِدْتُ مُعَاوِيَةَ بنَ أَبي سُفْيَانَ) الخليفة (وَهُوَ يَسْأَلُ زَيدَ بنَ أَرقَمَ)، وكان مِن علماء الصَّحابَة. (هَلْ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عِيدَينِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ؟) أي: الجُمُعَة وعيدِ الفطرِ أو الأضحى، وسُمِّيَ باسم "العيد" لأنَّهما يتكرَّرانِ، من العودِ والتَّكرارِ. (قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ صَنَعَ؟ قَالَ: صَلَّى العِيدَ ثُمَّ رَخَّصَ فِي الجُمُعَة)، يعني لمَن صلَّى العيدَ. فَقَالَ: «مَنْ شَاءَ أَن يُصَلِّي فَلْيُصَلِّ»، وفي هذا دلالةٌ على أنَّ صلاةَ الجُمُعَة تسقطُ عن مَن صلَّى العيدَ في يومِ العيدِ.
وفيه دلالةٌ على أنَّ الإمامَ يُصلِّي الصَّلاتين، يصلِّي الجُمُعَة ولو كان قد صلَّى صلاة العيد.
وبعض أهل العلم طعَنَ في هذا الخبر؛ لأنَّه مِن رواية إِيَاسِ بنِ أَبي رَمْلَةَ، وبعضهم قد حَكَمَ بجهالته، وأكثرُ أهلِ الحديثِ قالوا: إنَّ هذا الخبر قد وَرَدَ له شواهدٌ تؤيِّده.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «إِذا صَلَّى أَحَدُكُم الجُمُعَة فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعَ». رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
هذا الحديث يتكلَّم عن السُّنَّة الرَّاتبة في يوم الجُمُعَة، ولا يوجد هناك سنَّة راتبة قبلَ الجُمُعَة، وإنَّما فيها نوافل مُطلقَة وفيها تحيَّة مَسجد، الحديث الذي ذكرناه قبل قليل «قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَين» هذا في تحيَّة المسجد وليس في السنة الرَّاتية، وأمَّا بعد الجُمُعَة فقد ورد أنَّه يُصلِّي أربعًا كما وردَ في هذا الخبرِ «فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعَ»، وقد صُرِفَ قوله: «فَلْيُصَلِّ» عن الوجوبِ للحديثِ الذي وردَ في تخصيص الواجب من الصَّلواتِ بالخمس صلواتِ، فدلَّ هذا على أنَّ غيرها ليسَ من الواجباتِ.
وقد وَرَدَ في حديثِ ابن عمر أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يُصلِّي بعد الجُمُعَة ركعتين في بيته، ولهذا قال بعض أهل العلم: إنَّها على سبيلِ البدلِ، إمَّا أن يُصلِّي أربعًا في المسجد، وإمَّا أن يُصلِّي ركعتين في البيت، بينما قال آخرون: يستحبُّ له أن يجمعها، فيُصلِّي أربعًا في المسجد، ويُصلِّي ركعتين في البيت.
{(وَعَنْ عُمَرَ بنِ عَطَاءِ بنِ الخُوَارِ: أَنَّ نَافِعَ بنَ جُبَيرٍ أَرْسَلَهُ إِلَى السَّائِبِ ابْنِ أُخْتِ نَمِرٍ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، صَلَّيْتُ مَعَهُ الجُمُعَة فِي الْمَقْصُورَةِ، فَلَمَّا سَلَّمَ الإِمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي فَصَلَّيتُ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرسَلَ إِلَيَّ فَقَالَ: لَا تَعُدْ لِما فَعَلْتَ، إِذا صَلَّيتَ الجُمُعَة فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ حَتَّى تَكَلَّمَ أَو تَخْرُجَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَنَا بِذَلِكَ أَنْ لَا تُوصَلَ صَلَاةٌ حَتَّى نَتَكلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ. رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
هذا الخبر أخرجه الإمامُ مسلم في صحيحِه في آخرِ كتابِ الجُمُعَة، قال: (أَنَّ نَافِعَ بنَ جُبَيرٍ أَرْسَلَهُ إِلَى السَّائِبِ ابْنِ أُخْتِ نَمِرٍ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ)، يعني أخبره بالجواب.
(صَلَّيْتُ مَعَهُ الجُمُعَة فِي الْمَقْصُورَةِ)، يعني: أنَّ السَّائبَ صلَّى مع معاوية في المقصورة، والمقصورة: مكان خاصٌّ في المسجدِ يُمنع النَّاسُ من الوفود إليه، السَّائب ابن أخت نَمِر من أسرةٍ علميَّة، كان أخوه يزيد قد ولَّاه عمر القضاء، ووردَ بعدهم أيضًا عددٌ من أهلِ العلمِ.
قوله: (صَلَّيْتُ مَعَهُ الجُمُعَة)، أي: صليتُ مع معاوية (فِي الْمَقْصُورَةِ)، أي: المكان الذي حُصِرَ بحيث لا يستطع أحد الدُّخول عليه، وذلك أنَّ الخوارجَ تآمروا فيما بينهم على قتلِ الثَّلاثةِ الذين لهم الولاية في ذلك الزَّمان، وهم: علي، ومعاوية، وعمرو بن العاص، فأمَّا عليٌّ فقد قُتِلَ، وأمَّا معاوية فضَرَبَه صاحبُه -وكان بدينًا- فلم يصِلْ إليه، ولم يتمكَّنْ من قتلِه، وأمَّا عمرو فتغيَّبَ في ذلك اليوم لمرضٍ أصابه، فحينئذٍ قالوا المثل المشهور: "أردنا عمروًا وأراد الله خارجة".
المقصود: قال: (فَلَمَّا سَلَّمَ الإِمَامُ)، أي: من صلاة الجُمُعَة. (قُمْتُ فِي مَقَامِي)، يعني بعد الفراغِ من الصَّلاة أردتُّ أن أُصليَ السُّنَّة البَعديَّة، فصليتها في نفسِ المكان الذي صلَّيتُ فيه صلاة الجُمُعَة، قال: (قُمْتُ فِي مَقَامِي فَصَلَّيتُ)، يعني النَّافلة.(فَلَمَّا دَخَلَ)، يعني لمَّا دخَلَ معاوية إلى بيته، (أَرسَلَ إِلَيَّ)، يعني إلى السَّائب، (فَقَالَ: لَا تَعُدْ لِما فَعَلْتَ)، أي: لا تُكرِّر ما فعلتَه مِن كونكَ قد صلَّيتَ السُّنَّة في نفسِ المكانِ الذي صلَّيتَ فيه الفريضَة، (إِذا صَلَّيتَ الجُمُعَة فَلَا تَصِلْهَ)، أي: لا تصلِّ بعدها نافلَة مباشرة، (بِصَلَاةٍ حَتَّى تَكَلَّمَ أَو تَخْرُجَ)، وفي لفظ (أو تنتقلَ)، يعني مِن مكانكَ الذي تُصلِّي فيه، (فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَنَا بِذَلِكَ أَنْ لَا تُوصَلَ صَلَاةٌ حَتَّى نَتَكلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ)، وفي لفظ (أو ننتقل).
وفي هذا استحبابُ اختيارِ مكانٍ آخرٍ لصلاةِ النَّافلةِ غير ما صُلِّيَت فيه الفريضة، ويُستثنى من هذا صلوات النَّوافل، فإنَّه لو صلَّى نافلةً بعد نافلةٍ في مكانٍ واحدٍ فإنَّه لا يدخلُ في هذا الخبرِ، إنَّما يُرادُ بهِ وصلُ صلاةِ نافلة بصلاة فريضَة.
{(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمرَ بنَ الخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الـمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَها يَوْمَ الجُمُعَة وللوَفْدِ إِذا قَدِمُوا عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ»، ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْهَا حُلَلٌ فَأَعْطَى عُمرَ بنَ الخَطَّابِ مِنْهَا حُلَّةً، فَقَالَ عُمرُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَوْتَنِيْهَا، وَقدْ قُلْتَ فِي حُلَّةٍ عُطَارِد مَا قُلْتَ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَ» فَكَسَاهَا عُمرُ بنُ الخَطَّابِ أَخَاً لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكاً. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
قوله في هذا الخبر: (وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمرَ بنَ الخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ).
الحلَّة: نوعٌ مِن أنواعِ الثِّيابِ يُقال لها: البروج، وتكون قد لُبِسَ بعضها على بعض.
والسِّيراء: المراد بها: نوع من أنواع الحرير.
قوله: (عِنْدَ بَابِ الـمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ)، فقد رآها جميلة وحسَنَة.
 قال: (لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَها يَوْمَ الجُمُعَة)، في هذا دلالة على أنَّ يومَ الجُمُعَة ينبغي أن يكونَ له مِن الثِّياب ما هو خيرٌ مِن ثيابِ بقيَّة الأيَّامِ.
قال: (وللوَفْدِ إِذا قَدِمُوا عَلَيْكَ)، فيه استحباب اختيار الثِّياب الحَسَنةِ لمقابلة النَّاس، وأنَّ ذلك لا يُعدُّ من الرِّياء.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: «إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ»، يعني: ثياب الحرير «مَنْ لَا خَلاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ»، أي: لا نصيب له ولا حظَّ له في الآخرة.
(ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْهَا حُلَلٌ فَأَعْطَى عُمرَ بنَ الخَطَّابِ مِنْهَا حُلَّةً)، وكانت مشتملة على الحرير، (فَقَالَ عُمرُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَوْتَنِيْهَ)، أي: أعطيتني هذه الكسوة، (وَقدْ قُلْتَ فِي حُلَّةٍ عُطَارِد مَا قُلْتَ؟)، نسبها إمَّا إلى بائعها، أو إلى مكانها، أو لموطن صناعتها.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَ»، أي: لم أُعطِكَ هذه الكسوة مِن أجلِ أن تلبسها أنت، وإنَّما أراد أن يلبسها مَن يجوز له أن يلبسها.
قال: (فَكَسَاهَا عُمرُ بنُ الخَطَّابِ أَخَاً لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِك)، وفي هذا دليلٌ على أنَّ مِن المحرَّمات ما يَحرُم على الجميعِ، ومِن أمثلة ذلك: آنية الذَّهبِ، فما كان كذلك لا يجوز أن يُهدَى ولا أن يُباعَ، ولا أن يُؤخَذ ثمنه.
ومِن المحرَّمات ما يحرم على بعضِ النَّاس دون جميعهم، مثل: حُليِّ الذّهبِ، وثيابِ الحرير، فإنَّه يُباح للنِّساء، مع كونِه يُمنَع منه الرِّجال، فما كان كذلك يجوزُ أن يُهدَى، ويجوزُ أن يُباع، وأن يُؤخّذ ثمنه.
وقد استدلَّ بعضُهم بهذا الخبر على أنَّ الكفَّار لا يُخاطبون بفروعِ الإسلامِ، وهذا ليسَ فيه دلالةٌ، لأنَّ عمر إنَّما أهداها له، ولم يأذن له في لبسها، وقد ورد أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُهديَ له ثياب حرير فشقَّقه في نسائه[40].
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «إِذا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَة كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ المَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالْأوَّلَ، فَإِذا جَلَسَ الإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ، وَمَثَلُ المُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي الْبَدَنَةَ، ثُمَّ كَالَّذي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَالَّذي يُهْدِي الْكَبْشَ، ثُمَّ كَالَّذي يُهْدِي الدَّجَاجَةَ، ثُمَّ كَالَّذي يُهْدِي الْبَيْضَةَ» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
قوله هنا: «إِذا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَة كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ المَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالْأوَّلَ»، وهذا فيه أنَّ الملائكة قد وُكِّلوا بكتابة أعمال بني آدام وأسمائهم في الصَّحائف، وأنَّها تُرفَعُ إلى اللهِ تعالى، وفي هذا استحبابُ التَّبكيرِ إلى صلاةِ الجُمُعَةِ، وأنَّه كلَّما كانَ الإنسانُ أبكرَ حصلَ على أجرٍ أكثرٍ.
قال: «فَإِذا جَلَسَ الإِمَامُ»، يعني في خطبةِ الجُمُعَةِ «طَوَوُا الصُّحُفَ»، ولم يعودوا يكتبونَ مَن يحضُر إلى الجُمُعَة. لماذا؟ لأنَّهم يأتونَ ليستمعوا الذِّكرَ، وفي هذا إطلاقُ لفظ "الذِّكْرِ" على خطبةِ الجُمُعَةِ، ويؤخذُ منه أنَّ مجالسَ العلمِ ومدارسةَ أحاديثِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأحكامِ الفقهِ والمعتقَدِ تُعدُّ مِن مجالسِ الذِّكرِ.
ثم قال: «وَمَثَلُ المُهَجِّرِ»، المراد بالمُهَجِّر: المُبكِّرِ لصلاةِ الجُمُعَةِ، وفيه تمثيلُ الأمورِ الغائبة بالأمورِ المحسوسَةِ لتُفهَم، فإنَّ مقدارَ الأجرِ غيرُ مفهومٍ، فمثَّلَه بشيءٍ بفهمونه، ألا هو: التَّفاوتِ بين أنواعِ بهيمةِ الأنعامِ.
وقوله: «كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي الْبَدَنَةَ»، فيه فضلُ البَدَنة، وأنَّ أجرها أعظم من أجرِ البقرة -بالنَّسبة لمَن أهداها وذبحها. وهي المرتبة الأولى.
المرتبة الثَّانية: مَن يُهدِي البقرة، وهي أقلّ مِن البدنة، كما قال الجمهور خلافًا لبعضِ المالكيَّة.
ثم المرتبة الثَّالثة: مَن يُهدي الكبشَ، وهو ذَكَرُ الضَّأنِ.
والمرتبة الرَّابعة: كمَن يُهدِي الدَّجَاجةَ.
والمرتبة الخامسة: كمَن يُهدِي البيضَةَ.
وفي هذا دلالة على تفاوتِ أجورِ مَن يحضر إلى صلاةِ الجُمُعَة.
وقد اختلفَ العلماءُ في هذه السَّاعات متى هي؟
فبعضُهم قال: هي بعدَ طلوعِ الشَّمسِ وارتفاعِها، وهذا هو قولُ الجمهورِ.
وبعضهم قال: لا تكونُ إلا بعدَ الزَّوالِ، وقد نُقِلَ عن مالك -رضي الله عنه.
ولكنَّ قول الجمهور أظهر، خصوصًا عند مقارنة هذا الخبرِ بما وردَ أنَّهم كانوا يصلُّونَ فيخرجونَ من الصَّلاةِ وليس للجدرانِ ظلٌّ يستظلُّ به.
وقد استَدلَّ بعضهم بهذا الخبرِ على جوازِ إهداءِ الدَّجاجةِ، وأنَّه يجوز الأضحية بها، وهذا الاستدلال خاطئ، لأنَّه لا يُمكن أن يُقال بجواز التَّضحية والهدي بالبيضةِ، إذ لا ذبح فيها، وقد قال هنا: «ثُمَّ كَالَّذي يُهْدِي الْبَيْضَةَ»، وجاء في النُّصوصِ الأخرى أنَّ الذَّبح إنَما يكون للإبلِ والبقرِ والغنمِ، وما مَاثلها.
{أحسن الله إليك..
بالنَّسبة للسَّاعات، هل هي السَّاعات المعروفة في زماننا؟}.
هي خمسُ ساعاتٍ ليست مماثلة للسَّاعات في زمانِنا، وإنَّما هي الوقتُ ما بين ارتفاعِ الشَّمسِ وصلاة الجُمُعَةِ، فهي تنقصُ في الشِّتاء وتزيدُ في الصَّيفِ، لأنَّ أيَّام الصَّيفَ يطول نهارها، فلذلك تكون السَّاعات في ذلك الموسم أطول.
{(وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ يَوْمَ الجُمُعَة، فَقَالَ: «فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ»، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَزَاد مُسلمٌ: يُزَهِّدُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «وَهِي سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ»)}.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ يَوْمَ الجُمُعَة)، ليُرغِّبَ أصحابَه في ذلك اليوم، ويذكرهم بما فيه من الفضائل، وفيه ذكر فضائل الأيام والأوقات والسَّاعات والأزمنة بما يصحُّ من الأخبار.
قال -صلى الله عليه وسلم: «فِيهِ»، أي: في يومِ الجُمُعَةِ، «سَاعَةٌ»، وليس المراد بها السَّاعة الزَّمنيَّة، وإنَّما هي وقتٌ من الأوقات، وقد وردَ أنَّه أشارَ إلى تقليلِها -كما في هذا الخبر.
قال: «لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ»، أي: لا يحضرها عبد مسلم، «وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي»، قيل إنَّ هذه اللَّفظة على ظاهرها، فتكون السَّاعة حينئذٍ في أوقاتٍ غيرِ أوقاتِ النَّهي عن الصَّلاةِ، كما قال بعضهم إنَّها قبل الجُمُعَة. وبعضهم قالَ: قبلَ العصرِ. وبعضهم قالَ: إنَّ مَن انتظر الصلاة فإنَّه في صلاة، ولذلك لا يبعد أن تكونَ في وقتِ نهيٍ ويكون منتظر الصَّلاة. هكذا قالوا.
قال: «يَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئ»، "شيء" نكرة في هذا السِّيَاق فتشمل كلَّ ما يطلبه الإنسان، «إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ»، أي: أعطاه سُؤْلَه، وحقَّقَ له مرادَه.
(وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَ)، أي: يُقلِّلُ هذه السَّاعة. وقد أُعمِيَت هذه السَّاعة ليشتغلَ الإنسانُ بالأدعيةِ في طولِ هذا الوقت، وفي هذا دلالة على أنَّ بعضَ الأوقاتِ تكون إجابة الدُّعاء فيها أرجى.
ما المعنى في هذا مع كونه قد جاء في النُّصوص أنَّ مَن سألَ الله أعطاه، ومَن دعاهَ أجابَه، كما في قوله: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]؟
فيُقال: هذا الخبر الذي معنا يُراد به: أنَّه ولو انتفت بعض شروط الإجابة، أو صفات الدَّاعي الذي يُجابُ لدعوته، أو وُجدت بعض الموانع، فعندنا موانع مثل: أكل المال الحرام؛ هذا يمنع من إجابة الدعاء.
وبعض النَّاس يقول: أنا أدعو ولا يُستجاب لي!
عندك مانع، أو فُقِدَ شرطٌ مِن شروطِ إجابة الدُّعاء لديكَ، وبالتَّالي تَفقَّد نفسكَ.
فهؤلاء الذين كذلك إذا اختاروا الأوقات الفاضلة مثلَ ساعة الجُمُعَة رُجيَ أن يُجاب لهم ما دعوا به ولو كان عندهم موانع إجابة.
{(وَعَنْ أَبي بُرْدَةَ بنِ أَبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ لي عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَسَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي شَأْنِ سَاعَةِ الجُمُعَة؟، قَالَ: قلتُ: نَعَمْ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ» رَوَاهُ مُسلمٌ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لم يُسْنِدْهُ غيرُ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبي بُرْدَةَ، وَرَوَاهُ جمَاعَةٌ عَنْ أَبي بُردةَ مِنْ قَوْلِهِ، وَمِنْهُم مَنْ بَلَغَ بِهِ أَبَا مُوسَى وَلمْ يَرْفَعْهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مِنْ قَولِ أَبي بُرْدَةَ)}.
قوله: (وَعَنْ أَبي بُرْدَةَ بنِ أَبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ)، يتحدَّث عن ساعةِ الجُمُعَةِ متى هي، وظاهرُ هذا الخبر أنَّها في وقتِ جلوسِ الإمامِ لخطبةِ الجُمُعَةِ، أوَّلُ ما يدخل الإمامُ يُسلِّم على المأمومين ثم يجلس، ثم يؤذَّن، كأنَّه يقول: مِن الأذان إلى نهاية الصَّلاةِ؛ لكنَّ هذا الخبر قد وُجِدَ فيه اختلاف، وبعضهم رواه موقوفًا على أبي بردة، وبعضهم رواه عن أبي موسى، وبعضهم رواه عن ابن عمر، واضطربت الرِّواية، ولذلك كثيرٌ مِن أهلِ العلمِ يقول: إنَّ هذا مِن كلامِ أبي بردة، وهو مِن التَّابعين، وليسَ مِن الصَّحابَة.
وقد وردَ في بعضِ الأخبارِ أنَّ هذه السَّاعة إنَّما هي في آخرِ النَّهارِ، ووردَ فيها أقوالٌ كثيرة متعدِّدَة، ومَن دعا في كلِّ يومِ الجُمُعَة أصابَ هذه السَّاعةَ يقينًا.
 
{(بَابُ صَلَاةِ العِيْدَيْنِ
عَنْ يَزِيدَ بنِ خُمَيرٍ الرَّحْبِيِّ قَالَ: خَرَجَ عَبدُ اللهِ بنُ بُسْرٍ، صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَعَ النَّاس فِي يَوْمِ عِيْدِ فِطْرٍ، أَو أَضْحَى، فَأَنْكَرَ إِبْطَاءَ الإِمَامِ، وَقَالَ: إِنَّا كُنَّا قَدْ فَرَغْنَا سَاعَتَنَا هَذِهِ، وَذَلِكَ حِينَ التَّسْبِيحِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ ماجَهْ، وَعندَ الْبَيْهَقِيِّ: إِنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ويزِيدُ رَوَى لَهُ مُسلمٌ، وَوَثَّقَهُ شُعْبَةُ وَابْنُ مَعِينٍ، وَغَيرُهُـما، وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُهُ حَسَنٌ)
}.
 ذكرَ المؤلِّفُ الاختلافَ في يزيد، وكأنَّه ظهرَ له أنَّ يزيدَ هذا صدوق، وأنَّ خبرَه مِن قبيلِ الحسن.
قال: (خَرَجَ عَبدُ اللهِ بنُ بُسْرٍ، صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَعَ النَّاس فِي يَوْمِ عِيْدِ فِطْرٍ)، فيه مشروعيَّةُ صلاة الفطر، وفيه استحبابُ أن يكونَ أداء هذه الصَّلاة خارج المدينة.
قال: (فَأَنْكَرَ)، يعني عبد الله بن بسر، (إِبْطَاءَ الإِمَامِ)، فيه دلالة على أنَّ السُّنَّة في صلاةِ العيد التَّبكيرِ فيها.
وبعضُ أهلِ العلم قال: إنَّ صلاة عيدِ الأضحى يُبكَّرُ فيها مِن أجلِ أن يتمكَّنَ النَّاس مِن ذبحِ الأضاحي، بخلاف صلاة عيدِ الفطرِ فإنَّه يؤخَّرُ فيها.
قال: (إِنَّا كُنَّ)، يعني في هذا الوقتِ الذي لم يحضر الإمام فيه بعد، كنَّا نصلِّي قبله، وكنَّا في هذا الوقت قد صلَّينا واستمعنا الخطبة وتفرَّقنا، قال: (إِنَّا كُنَّا قَدْ فَرَغْنَا سَاعَتَنَا هَذِهِ، وَذَلِكَ حِينَ التَّسْبِيحِ)، المراد بالتَّسبيح: صلاة النَّافلةِ، أي في الوقتِ الذي تجوزُ فيه صلاة النَّافلَة، وفي هذا دلالة على استحبابِ التَّبكيرِ لصلاةِ العيدِ، وأن تكونَ في أوَّلِ زوالِ وقتِ النَّهيِ.
{(عَنْ أَبي عُمَيْرِ بنِ أَنسٍ، عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ منْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم: أَنَّ رَكْبَاً جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَشْهَدُونَ أَنَّهُم رَأَوُا الِهلَالَ بالأَمْسِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا، وَإِذا أَصْبَحُوا أَنْ يَغْدُوا إِلَى مُصَلاَّهُمْ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد، -وَهَذَا لَفظُهُ- وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الخَطَّابِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الـمُنْذِرِ: «هُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ»، وَصحَّحَ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ إِسْنَادَهُ، وَلَا وَجْهَ لِتَوقُّفِ ابْنِ الْقَطَّانِ فِيهِ)}.
قال: (عَنْ أَبي عُمَيْرِ بنِ أَنسٍ)، بعضُهم تكلَّم فيه، وحكَمَ بعضُهم عليه بالجهالَةِ، وطائفة قد حسَّنوا خبرَه، أمَّا عمومته فإنَّهم لا يُعرَفون، لكنَّهم من الصَّحابَة.
قال: (أَنَّ رَكْبَاً جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَشْهَدُونَ أَنَّهُم رَأَوُا الِهلَالَ بالأَمْسِ)، هلال نهاية شهر رمضان -هلال شوال- وفيه الاعتماد على شهادةِ الشُّهودِ برؤيةِ الهلالِ ولو لم يشهَدوا إلا بالنَّهارِ مِن الغدِ.
قال: (فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُفْطِرُو)، أي: أمرَ النَّاس بالفطرِ، لأنَّه أصبحَ يومُ العيدِ، ولا يجوزُ صومه. قال: (وَإِذا أَصْبَحُو)، لأنَّ هذا بعدَ الزَّوال، وبالتَّالي لم يصلُّوا صلاةَ العيدِ، لأنَّ صلاةَ العيدِ لا تُصلَّى بعدَ الزَّوالِ.
(وَإِذا أَصْبَحُوا مِنَ الغد أَنْ يَغْدُوا إِلَى مُصَلاَّهُمْ)، فيصلُّوا صلاةَ العيدِ.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «الفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاس، والأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاس» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ)}.
قوله: «الفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاس»، هذا معناه: أنَّ الحكمَ لِمَا غلبَ وظهرَ في النَّاس بالنِّسبَة لأيَّامِ الصِّيامِ وأيَّامِ الفطرِ، وفي هذا دلالة على أنَّ مَن رأى الهلال وحدَه فرُدَّت شهادتُه فإنَّه لا يعتمدُ على شهادةِ نفسِه ويعمل بما كان غالبًا في النَّاس منتشرًا فيهم، ليكونَ النَّاس على حالٍ واحد.
قال: «الفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاس، والأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاس»، ومعناه: أنَّ العبرةَ بما انتشرَ في النَّاسِ، والأضحى: هو اليوم العاشر من ذي الحجة، يوم عيد الأضحى، وفي هذا دلالةٌ على أنَّ النَّاسَ لو أخطؤوا في رؤية الهلالِ فإنَّه لا تثريبَ عليهم، ولا يلحقهم إثمٌ بكونِهم أفطروا يومًا من رمضان، أو صاموا يومًا مِن شعبان، أو مِن شوال، وهكذا بالنَّسبةِ للأضحى لو انخدعوا برؤيةِ الهلالِ أو بشهادةِ شهودٍ أو لم يُشهَد عندهم وكان الهلالُ قد خرجَ إمَّا لغيمٍ أو لغيره؛ فالعبرة بما انتشر بين النَّاس.
{(وَعَنْ عُبيدِ اللهِ بنِ أَبي بَكْرِ بنِ أَنسٍ، عَنْ أَنسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لَا يَغْدُو يَوْمَ الفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمْرَاتٍ. وَقَالَ مُرَجَّأُ بنُ رَجَاءٍ: حَدَّثَنِي عُبيدُ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنسٌ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم: وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرَاً رَوَاهُ البُخَارِيُّ.وقَدْ أَسْنَدَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الـمُعَلَّقَةِ)}.
قوله: (عَنْ أَنسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لَا يَغْدُو)، أي: لا يذهب في أوَّل النَّهار، (يَوْمَ الفِطْرِ)، يعني: إلى صلاةِ العيدِ، (حَتَّى يَأْكُلَ تَمْرَاتٍ )، ليُفرِّقَ بينَ يومِ صومِه وبينَ يومِ فطرِه، وفي هذا مشروعيَّةُ وضعِ فواصل بينَ العملِ المشروعِ وغير المشروعِ لئلا يختلطَ بعضُها ببعضِها الآخر.
وقال: (حَدَّثَنِي أَنسٌ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم: وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرَ)، فيه استحبابُ أكلِ التَّمرِ قبلَ صلاةِ عيدِ الفطرِ (وترً)، واحدة، أو ثلاثة، أو خمسة، أو سبع.
{(وَ عَنْ ثَوَابِ بنِ عُتْبَةَ,عَنْ عبدِ اللهِ بنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَا يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَطْعَمَ، وَلَا يَطْعَمُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ, وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أَعْرِفُ لثَوَابٍ غَيرَ هَذَا الحَدِيثِ، وَقدْ وَثَّقَ ثَوَابَ بنَ عُتْبَةَ ابْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةِ عَبَّاسٍ وَغَيرِهِ، وَأَنْكَرَ أَبُو حَاتِم وَأَبُو زُرْعَةَ ذَلِك، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: "وثَوَّابٌ يُعرَفُ بِهَذَا الحَدِيث وَحَدِيثٍ آخرَ، وَهَذَا الحَدِيثُ قدْ رَوَاهُ غَيرُه عَنْ ابنِ بُرَيْدَةَ، مِنْهُم عُقْبَةُ بنُ عبدِ اللهِ الْأَصَمِّ، وَلَا يلْحَقُهُ بِهَذَيْنِ ضَعْفٌ")}.
قوله: (عَنْ ثَوَابِ بنِ عُتْبَةَ)، ذكرَ المؤلِّف الاختلافَ في حالِ ثوَّاب هذا، وقال: (عَنْ عبدِ اللهِ بنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ)، قال: وقد وثَّقَ ثوَّابَ جماعةٌ (وَأَنْكَرَ أَبُو حَاتِم وَأَبُو زُرْعَةَ ذَلِك)، وكأنَّهم قد حكموا عليه بالجهالةِ.
 قَالَ:( كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَا يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَطْعَمَ)، قد تقدَّم معنا في حديثِ أنس أنَّه كان يأكل تمرًا قبلَ أن يذهبَ لصلاةِ عيدِ الفطرِ، (وَلَا يَطْعَمُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ)، فيأكل بعدَ صلاةِ العيدِ مِن أضحيته.
{(وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الفِطْرِ والأَضْحَى: الْعَوَاتِقَ، وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ, فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ وَيَشْهَدْنَ الخَيْرَ ودَعْوَةَ الـمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ؟ قَالَ: «لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابَهَ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ لمسلمٍ)}.
قوله: (وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُخْرِجَهُنَّ)، أي: نُخرج النَّاسَ إلى صلاةِ العيدِ في الفطرِ والأضحى، وفيه دلالةٌ على مشروعيَّةِ الجماعةِ في صلاةِ العيدِ، وأنَّ النِّساءَ يستحبُّ حضورهنَّ.
وقوله هنا (الْعَوَاتِقَ)، يعني: النِّساء اللاتي يكنَّ كبيرات (وَالْحُيَّضَ) يعني: المرأة الحائض التي عليها الحيض. (وَذَوَاتِ الْخُدُورِ)، يعني: مَن يُغطَّى ويُستَرنَ خصوصًا مِن الأبكارِ اللاتي لم يتزوجنَ بعدُ، (فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ)؛ لأنَّه لا يجوز للحائضِ أن تصلِّي، وفي هذا دلالةٌ على أنَّ الحائض لا تمكث في مواطنِ الصَّلاةِ، قال: (وَيَشْهَدْنَ الخَيْرَ)، يعني: الدَّعوة التي تكونُ في خطبةِ العيدِ، (ودَعْوَةَ الـمُسْلِمِينَ)، يعني: الدُّعاء، إذا دعا الخطيب بدعواتٍ يشملهن الدُّعاءُ.
(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ؟)، المراد بالجلبابِ: العباءة، وقد تُسمَّى الملحفَة، والجلباب يُؤمَر النَّساءَ به عند خروجهن، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ﴾ [الأحزاب: 59] قَالَ: «لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابَهَ»، فدلَّ هذا على أنَّها لا تخرج مِن بيتها إلا إذا كانَ عليها جلباب، وفي هذا التَّعاون على الخيرِ، وعلى العملِ الصَّالحِ مِن أجلِ أداءِ صلاةِ العيدِ، فتلبسها أختُها مِن جلبابها، فتشترك امرأتان في جلبابٍ واحدٍ، وما ذاك إلا أنَّه مِن الواجبات، وإلا لقال لها: لِتخرج ولو لم يكن معها جلباب، ما دامت مستترة أو مغطية وجهها؛ وإنَّما أمرها كذلك بالجلبابِ.
وبهذا نكونُ قد انتهينا مِن عددٍ مِن أحاديثِ بابِ صلاةِ العيدين، ولعلَّنا إن شاءَ اللهُ تعالى نُكملُ ذلكَ في درسٍ قادمٍ.
باركَ الله فيكم جميعًا، ووفَّقكم اللهُ لكلِّ خيرٍ، وجعلنا الله وإيَّاكم مِن الهداةِ المهتدينَ.
--------------------
[38] مصنف عبد الرزاق  (5272)، نيل الأوطار للشوكاني (3/334)، قال الشيخ الألباني: له شواهد كثيرة يتقوى بها.
[39] أخرجه البخاري (1014)، ومسلم (897)، " أنَّ رجلًا دخَلَ المسجِدَ يومَ الجمعَةِ، من بابٍ كانَ نحوَ دارِ القضاءِ، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ قائِمٌ يخطُبُ، فاستقبَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ قائمًا، ثم قالَ : يا رسولَ اللهِ، هلكَتْ الأموالُ وانقطَعَتْ السبلُ، فادْعُ اللهَ يغِيثُنا. فرفَعَ رسولُ اللهِ صلَى اللهُ عليهِ وسلمَ يدَيهِ، ثمَّ قالَ : اللهمَّ أغَثْنَا، اللهمَّ أغِثْنَا، اللهمَّ أغِثْنَا. قالَ أنسٌ : ولا واللهِ، ما نَرَى في السماءِ من سحابٍ، ولا قَزَعَةٍ، وما بينَنَا وبينَ سَلْعٍ من بيتٍ ولا دَارٍ. قالَ : فطَلَعَت من ورائِهِ سحَابَةٌ مثلُ التُّرْسِ، فلمَّا تَوَسَّطَتْ السماءَ انتَشَرَت ثم أمْطَرَتْ.
[40] صحيح مسلم (3870)، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَ حَرِيرٍ، فَأَعْطَاهُ عَلِيًّا، فَقَالَ: "شَقِّقْهُ خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ"، وقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ بَيْنَ النِّسْوَةِ.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك