الدرس الثاني

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3216 11
الدرس الثاني

فقه النوازل

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم البناء العلمي، نحن وإياكم في سلسلة علمية بعنوان: "فقه النوازل" يُقدمها معالي شيخنا، الشيخ/ سعد بن ناصر الشثري، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بمعالي الشيخ}.
حياك الله أهلًا وسهلًا، أرحب بك وأرحب بأحبتي ممن يشاهدنا من طلبة العلم بارك الله فيهم وجعلهم الله أئمة يقتدى بهم في الخير، ورفع الله درجاتهم في الدنيا والآخرة.
{كنا يا شيخنا الكريم قد وقفنا عند الحديث عن تعريف فقه النوازل، والمقدمات المتعلقة بهذا العلم، تفضل يا شيخنا بالإفادة}.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعد:
فهناك منهجان فيما يتعلق بحقيقة النوازل الفقهية، فهناك من يرى أن النوازل الفقهية هي جميع الوقائع الجديدة التي تقع في أي زمان، أو في المسائل التي يحتاج إلى الفتوى فيها في كل زمان، وكثير من المؤلفات التي كتبها علماء المالكية تنحو هذا المنحى في التعريف؛ ولذلك تجد كلمة النوازل الفقهية عندهم المسائل الجديدة في أي زمان، هناك منهج آخر يسير عليه كثير من طلبة العلم خصوصًا في عصرنا الحاضر، يقولون: إن النوازل الفقهية هي المسائل الجديدة في العصر الحاضر، وبالتالي لا يدخلون المسائل الجديدة الواقعة في الأزمنة الماضية في اسم النوازل الفقهية.
وكلمة النوازل الفقهية على الاصطلاح الأول ترتب عليها عدد من المؤلفات التي ألفت في هذا الباب وخصوصًا من علماء المالكية، وترتب عليها أيضًا عدد من الدراسات التي تُعنى بالمسائل الجديدة الواقعة في المجتمعات الإسلامية، مثلًا الدراسات التاريخية أو الدراسات النفسية أو الدراسات الاجتماعية أو الدراسات التربوية التي تُعنى بالعصور الماضية، يدرسون فيها ما حصل من نوازل جديدة في تلك العصور، بخلاف المصطلح الثاني وهو الذي يسير عليه كثير من المؤلفين في عصرنا الحاضر، فإنهم يعنون بالنوازل الفقهية ما يُستجد في زمننا الحاضر، وبالتالي يمكن معرفة أركان النازلة الفقهية، فعندنا في النازلة الفقهية عدد من الأركان:
أولها: ما يتعلق بذات الواقعة من جهة تصورها وحقيقتها في الخارج، فهذا هو الركن الأول.
ما هي هذه النازلة؟ ما صورتها حتى ينبني عليها ما يتعلق بالأحكام؟ يعني مثلًا: لَمَّا تأتينا كلمة التأمين، فإن كلمة التأمين نحتاج إلى تصور المراد بها قبل أن نحكم عليها، فنعرف أنواع هذا التأمين، أقسام هذا التأمين، الصورة المشتركة التي تكون لهذا التأمين.
الأمر الثاني: العلة الشرعية المتعلقة بالنازلة، فإنَّ الأحكام الشرعية مَبنية على أوصاف تُسمى عِللًا، وهذه الأوصاف هي التي يُرتب عليها الحكم الشرعي.
الأمر الثالث: الفقيه الذي ينظر في هذه النازلة ومدى انطباق الوصف عليها، وبالتالي يستخرج الحكم المرتب عليها.
والأمر الرابع: الحكم الشرعي المتعلق بتلك الواقعة.
إذا تقرر هذا فإننا نحتاج إلى معرفة كل واحد مِن هذه الأركان على سبيل الاستقلال.
ففي باب التصور لهذه الوقائع الجديدة نحن نحتاج إلى التصور التام لهذه الوقائع، ومن ثَمَّ نحتاج إلى مُراجعة أهل الاختصاص في كل واقعة تقع على الناس قبل تَعَرُّف الحكم الشرعي المتعلق بها.
ونحن نجد أن هناك نوازل مُتعلقة بالأمور الطبية، ونوازل مُتعلقة بالأمور المالية والاقتصادية، وهناك نوازل مُتعلقة بالأمور السياسية، وبالتالي لا بدَّ قبل الحكم على تلك النازلة من مراجعة أهل الاختصاص فيها، ومن هذا ما ورد في الحديث أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في مسألة تأبير النخل: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» كما أخرجه الإمام مسلم، وهكذا نجد في وقائع مُتعددة تقع في واقع الأمة يجتهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها أو يجتهد فيها الصحابة -رضوان الله عليهم-، فمن بعدهم من علماء الأمة نجد أنهم يُراجعون أهل الاختصاص في تلك الأبواب.
بعض الناس سمى مراجعة هؤلاء المختصين باسم الاجتهاد المركب، وهذه التسمية فيها نظر؛ لأن الاجتهاد المركب إنما يقع على اسم الاجتهاد، بحيث يكون اجتهادًا مبنيًّا على رأيين كما لو كان هناك مسألة مبنية على تكييف فقهي ومبنية على حديث، فنحتاج إلى معرفة صحة الحديث، ثم نحتاج إلى معرفة التكييف الفقهي، فهذا فيه اجتهاد مركب؛ لأن اسم الاجتهاد مُصطلح شرعي يتعلق باستخراج الحكم الشرعي، بينما تَعَرُّف الصورة التي تتعلق بالنازلة هذا لا يُسمى اجتهادًا، وبيان هذه الصورة لا يُسمى اجتهادًا، ومن ثَمَّ تسمية مثل ذلك بالاجتهاد المركب فيه نظر.
ولا بدَّ أن نشير إلى مسألة وهي: أن مُراجعة أهل الاختصاص هل يُكتفى فيه بالواحد من أهل الاختصاص أو لا بدَّ فيه من اثنين، هذه المسألة لها نظائر في الفقه، ومن أمثلتها مثلًا: مسألة مراجعة الطبيب، هل يكفي قول الطبيب الواحد أو لا بدَّ من اثنين.
مثلًا في مسألة القافة، هل يُكتفى بقول الواحد منهم أو لا بدَّ من اثنين؟ شهادة أهل الخبر هل يكتفى فيها بواحد أو بالاثنين، هذه من مواطن الخلاف بين العلماء، ومنشأ الخلاف هو هل قول أهل الخبرة هنا يُعتبر من باب الرواية أو يعتبر من باب الشهادة؟
يعني مثلًا في باب الترجمة: هل يُكتفى بقول الواحد أو لا بدَّ من الاثنين؟ مبني على هل هذه الترجمة رواية فيقبل الواحد؟ أم شهادة فلا بدَّ من الاثنين.
والناظر في كثير من فتاوى العلماء والقرارات التي تُصدرها المجامع نجد أنهم يشيرون إلى اعتماد قول اثنين من أهل الاختصاص، يعني: مثلًا المسائل الطبية في مسألة رفع الأجهزة أو الحكم على الأجنة بالوفاة نجد أن الفتاوى التي صدرت سواءً من هيئة كبار العلماء المملكة أو من اللجنة الدائمة للفتوى في المملكة أو من المجامع الفقهية، المجمع الفقهي ومجمع الفقه الإسلامي، نجد أنهم ينصون على أنه لا بدَّ أن يكون القرار في ذلك مُتخذًا بناءً على قول طبيبين من أهل الاختصاص.
إذًا منشأ الخلاف هنا، هل هنا شهادة أو رواية؟ في باب الرواية يقبل خبر الواحد، ولذلك تجد أن النصوص دلت على قبول رواية الواحد، ومسألة قبول خبر الواحد مسألة ممهدة في علم الأصول ومشار إليها في علم المصطلح، وقد أقاموا الأدلة الكثيرة على قبول خبر الواحد، وبينما في باب الشهادات يقولون: لا بدَّ من اثنين؛ لأن الله -عز وجل- أمر بإشهاد الاثنين كما في قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [الطلاق: 2]، وكما في قول الله -جل وعلا- لما ذكر الله -جل وعلا- الديون وأمر بالإشهاد عليها، أمر بإشهاد الرجلين ﴿فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ [البقرة: 282].
والذي يظهر أن مراجعة أهل الخبرة هي مراجعة من باب الرواية، فهم لا يجرون مصلحة خاصة، يعني إذا أردت أن تفرق بين الرواية والشهادة، وجدت عددًا من الفروق، أولها: أن الرواية يتعلق بها حكم للعموم، بينما الشهادة يتعلق بها حكم لأشخاص أو لشخص، واستطلاع رأي أهل الخبرة يتعلق به حكم العموم وبالتالي هي أقرب للرواية.
كذلك باب الرواية يعتمد فيها على خبر وبالتالي تكون مطالعة كلام أهل الخبرة أقرب لباب الرواية، ولذا فإن الأظهر أن استطلاع رأي أهل الخبرة هو من باب الرواية فيقبل فيه الواحد، ولكن من باب الاطمئنان ولزيادة التوثق في الحكم على النوازل ينبغي أن يكون الأمر مبنيًّا على قول اثنين فأكثر، وهذا يُسمى عند العلماء قياس غلبة الأشباه، هو: (أَنْ يَتَرَدَّدَ فَرْعٌ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ، وَفِيهِ شَبَهٌ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، فَيُلْحَقُ بِأَكثَرِهِمَا شَبَهًا بِهِ).

يعني مثلًا: عندما تجد في مسألة نفقة الحمل، هناك تردد في مسائل متعلقة بنفقة الحمل بناءً على أن نفقة الحامل، هل هي نفقة قريب للجنين؟ أو أنها نفقة زوجة وترتب عليها مسائل، مثلًا: نفقة القريب لا تجب إلا إذا كان القريب فقيرًا، وكنت يا أيها المنفق غنيًّا، بخلاف نفقة الزوجة فإنها تجب ولو كان المنفق فقيرًا ولو كان المنفق عليها غنية.
من المسائل المترتبة عليها: أن نفقة القريب تسقط بالتقادم بخلاف نفقة الزوجة فإنها لا تسقط بالتقادم، وهناك أحكام كثيرة، من أين نشأ الخلاف هنا؟ نشأ الخلاف من مسألة هل الحامل المطلقة طلاقًا بائنًا ينفق عليها من باب نفقة الزوجات أو من باب نفقة الأقارب، لأنها نفقة على الجنين؟ فترتب عليها هذه المسائل بناءً، فيأتي الفقيه فينظر في هذه المسألة فيلحقها بأكثرهما شبهًا ولها نظائر كثيرة، يعني مثلًا تجد أن هناك اختلاف في الخيل، هل نلحقها بالجمال أو نلحقها بالحمير؟ في كثير من الأحكام الفقهية، فيأتي الفقيه فيجتهد في الإلحاق، إلحاقها بالفرع لأقرب هذين الأصلين إليه.
كذلك في مرات يكون حكم أهل الاختصاص غير مركز على الضوابط والعلل الشرعية، فحينئذٍ نحتاج من الفقيه أن يُبين لصاحب الخبرة تلك العلل من أجل أن يقوم ببيان الوصف الحقيقي المتعلق بتلك النازلة، فإذًا نحن نحتاج إلى شهادة هؤلاء أهل الخبرة لكن باسترشاد من الفقهاء، بحيث يبينون لهم الأوصاف المؤثرة في الحكم ليقوم وصف ذلك الخبير على أسس صحيحة في وصف تلك الواقعة.
هناك وقائع لها صفة العموم، فيأتي بعض الفقهاء فيحاول أن يستخرج فيها حُكمًا بناءً على رأيه المجرد، فيقع في إشكالات، وسبب الإشكالات من عدد من المسائل.
المسألة الأولى: من أن التصور قد يكون غير مطابق للواقع، فيصور بناءً على وسائل الإعلام أو على وسائل التواصل الاجتماعي تصوير غير مطابق للواقع، ومن ثَمَّ يكون الحكم غير صحيح، لأنه لم يوافق الواقع.
في مرات أيضًا قد يكون التصوير تصويرًا قاصرًا بحيث يصورون جزء من هذه النازلة دون جميع أجزائها، وبالتالي يقع الغلط في الحكم الشرعي في تلك النازلة.
وأنا أضرب لك مثلًا بمسألة الاستنساخ وهي مسألة طبية، فإن هذه المسألة مبنية على معرفة معنى هذا الاستنساخ وتعرف حقيقته، وبالتالي قد يكون تصور بعض الباحثين أو تصوير بعض الباحثين لذلك الاستنساخ تصويرًا غير مطابق أو غير شامل لجميع الصور، فلا يكون الحكم صحيحًا.
يعني مثلًا: في مسألة الخلايا الجذعية، هناك خلايا تؤخذ من النخاع الشوكي، وهناك خلايا تؤخذ من الحبل السري، وهناك خلايا تؤخذ من الخلايا، ماذا يفعل بها؟ وما هو التصور؟ وكيف وقعت؟ وكيف تقع؟ وبالتالي لا بدَّ من تصوير شامل لجميع الصور التي تشملها تلك النازلة ليكون حكم الفقيه بعد ذلك حكمًا صحيحًا.
أيضًا من الإشكال في هذا الباب: أن التصوير قد يكون لوقائع تحدث في الزمان الأول، ثم يتم إلحاق وقائع أخرى بعدها بها، فيقع الخطأ في الاجتهاد بناءً على ذلك، يعني مثلًا في نازلة التأمين أول ما وردت إنما وردت في التأمين على البضائع التجارية، فبالتالي حكم بعض الفقهاء بناءً على قصور معنى التأمين على تعويض التلفيات في البضائع التجارية، حدث بعد ذلك أنواع كثيرة أُدخلت في مسمى التأمين، مثل:
التأمين الصحي، التأمين على الحياة، التأمين على الأفكار، والتأمين على الحقوق الفكرية، إلى غير ذلك مما دخله اسم التأمين، فبالتالي يكون التصوير السابق تصويرًا قاصرًا، لماذا؟ لأنه في زماننا الأول لم يكن الاسم مُنطبقًا إلا على ذلك التصوير، لكن حدث بعد ذلك ما تم إدخاله لوجود العلاقة بينه وبين المعنى الأول في الاسم الذي أُطلق على النازلة أول ما وردت على الناس، وهذا تجده مثلًا في أمور التقنية بأنواعها وأحكامها.
ولذلك أيضًا من الأمور التي نحتاج فيها إلى استطلاع أهل الخبرة الأمور التقنية، يعني مثلًا: هل الدخول إلى حسابات الآخرين يعتبر جريمة أو لا يعتبر؟ ومتى يعتبر جريمة؟ هذا نحتاج فيه إلى رأي التقني ومتى يكون هناك إذن عرفي في دخول مواقع وحسابات الآخرين، وما هي الحدود التي تكون لهذا الدخول؟ ومتى يعتبر ذلك التصرف غير مأذون فيه بحسب أعراف الناس؟
أيضًا من الإشكاليات التي تتعلق بالتكييف: أن صاحب الخبرة قد يُكيف سلعة من جهة اختصاصه، فيظن أنَّ التكييف منحصر على ذلك الاختصاص، يعني: عندنا نازلة متعلقة بأمر كيميائي وأمر فيزيائي، فيأتي الكيميائي فيشرح بناءً على تخصصه وينسى الجانب الفيزيائي المتعلق بهذا الأمر، فالتصور الذي أنبنى على كلام الكيميائي لا يعد تصورًا كاملًا، ومن ثَمَّ لا يصح بناء الحكم الشرعي عليه.
أيضًا من الشروط التي تتعلق باستطلاع رأي أهل الخبرة: أن يكون من يستطلع رأيه من أهل العدالة، بحيث يكون موثوقًا فيه، أما إذا كان غير ثقة فإننا لا نأمن أن يكون ما أدلى به من معلومات غير مطابقة للواقع، وكم وجدنا ممن تكون ديانته خفيفة من التزوير والتلبيس وإعطاء الأمور غير حقيقتها وغير صورتها الموافقة للواقع، ولكن هل من شرط هذه العدالة أن تكون متعلقة بشخص أو يجوز أن تكون بمؤسسة، يعني الأشخاص على نوعين: من له شخصية حقيقية فلان وفلان، ومن له شخصية معنوية في المؤسسة الفلانية، فاعتبار قول الشخص العيني هذا محل اتفاق متى وجدت فيه الشروط الأخرى، وهو الذي انطلقت عليه النصوص في اعتبارها أقوال الآخرين، ولكن اعتبار ما تُدلي به الشخصيات المعنوية، هل يكون له اعتباره أو لا؟
يعني مثلًا: نحن ذكرنا قبل قليل ما يتعلق بهيئة كبار العلماء وباللجنة أو بالمجامع الفقهية، كذلك مراكز البحث العلمي على اختلافها، الجامعات لو تصدر بيانًا ومعلومة الأقسام العلمية، هل يعتبر أقوالها في مسألة شهادة أهل الخبرة أو لا يعتبر أقوالها في ذلك؟
هذه أيضًا مواطن البحث العلمي بين علماء الشريعة، فهناك من قال: إنه لا اعتبار للشخصيات المعنوية، قال: لأن معول الشريعة هو على اعتبار أقوال الناس؛ لأن الشهادة والرواية إنما تكون من أشخاص عينين لا من أشخاص اعتباريين، ولأن كنا قد وجدنا في الشريعة اعتبار الشخص المعنوي في أمور التصرفات المالية مثل الملك والبيع والشراء، إلا أننا لا نجد مثل ذلك فيما يتعلق بالتصرفات العلمية، يعني مثلًا لما وجد بيت المال، هذا شخص معنوي له تصرفات مالية، لما تجد مثلًا الخلطة بين مالين في بهيمة الأنعام وتأثيرها على مسائل الزكاة، هذه شخصية معنوية يمكن أن نستشهد بها على وجود الشركات والمؤسسات المالية، لكن هل يعتبر مثل ذلك في المؤسسات في القضايا العلمية، قضايا النوازل، هذا أيضًا من مواطن البحث بين علماء العصر، من الأولى أن يعتبر الشخص العيني. لماذا؟ لأن هو الذي صار عليه علماء الشريعة من الأزمنة الأولى، وينبغي أن يكون اعتبار الشخص المعنوي في أبواب المسائل العلمية مبنيًّا على الأشخاص العينيين، ولذلك إذا كان الشخص العيني الشخصية العلمية في أي تخصص علمي موجودة في هذا المركز، فحينئذٍ اعتمادنا على قول ذلك الباحث، وهذا يدلك على أهمية اعتبار أو اختيار الشخصيات العلمية الموثوقة المأمونة في هذا الباب.
هنا مسألة: وهي هل يشترط في هؤلاء الخبراء أن يكونوا مسلمين؟ أو لا يشترط ذلك؟
وهذه أيضًا مسألة يمكن بناؤها على مسائل شهادات أهل الخبرة، مثل: أهل الترجمة، ومثل: ما يتعلق بباب القيافة أو غيره من المسائل التي تُبنى على أمور علمية، وظواهر كلام الفقهاء أنه لا يشترط ذلك متى كان مأمونًا في كلامه مجرب الصدق، فإن بعض الناس قد يمتنع عن الإدلاء بمعلومات مغلوطة أو مكذوبة لمكانته أو لديانته أو لترفعه عمَّا هو دنيء عند الناس، ومن ثَمَّ يمكن اعتبار قوله، وهناك من قال بأن اعتبار أقوال غير المسلمين في شهادة الخبرة، إنما تكون عند فقد أهل الإسلام ممن يُختارون لإدلاء شهادتهم في أبواب الخبرة.
ويستشهدون على هذا بالشهادة على وصية من يموت في البرية، كما في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ﴾ [المائدة: 106]، فهنا آخران من غيركم يعني من غير المسلمين عندما لا يوجد شاهد مسلم يشهد على هذه الوصية، فهذا أحد أقوال الفقهاء يقول بأنه لا يستند إلى شهادتهم إلا عند عدم وجود المسلم من أهل الخبرة.
ومن الصفات التي تلاحظ أيضًا في هذا الباب: شهادة أهل الاختصاص لمن يُراد أن يستشهد في أبواب وصف الوقائع الفقهية بحيث يُتأكد أن ذلك الشخص مُؤهل بأن يتكلم في هذا التخصص، وهذا التأهيل لا يكتفى فيه بالشهادة التي تصدر من الجهات التعليمية؛ لأنه في مرات قد ينسى الإنسان معلوماته التي أخذها وقد ينشغل بفنٍ آخر غير فنه، وقد لا يكون متميزًا في ذلك الفن، وأن تعرف أن الناس يتخرجون وهم متفاوتون، منهم من يكون حاصلًا على درجات عليا ومنهم من لا يكون كذلك، وأيضًا قد يكون عند الإنسان معلومات كثيرة لكنه ليس لديه المهارة التي يتمكن بها من تطبيق تلك المعلومات على وقائع حياته، وبالتالي قد يأخذ الدرجات العلى لكنه لا يكون متمكنًا من تخصصه، وبالتالي لا يقتصر على مجرد الشهادة الصادرة من الجهات التعليمية، وإنما لا بدَّ أن يُشهد له بصلاحيته لممارسة ذلك التخصص.
هناك من يشترط في شهادة أهل الخبرة أن يكون الشخص على درجة عالية في ذلك التخصص، يعني مثلًا: تجدهم يشترطون في الطبيب أن يكون استشاريًا، ويقولون لا نرتضي الطبيب المختص أو الطبيب في مراحله الأولى أو الطبيب العام ولابد أن يكون قد وصل إلى درجة الاستشاري، وهذا زيادة في التحقق في هذا الباب للتأكد من مدى مناسبة الخبير للإدلاء بمعلومات حول النازلة الفقهية.
هناك طريقة يستخدمها بعض الفقهاء، وهي القناعة بكلام أهل الخبرة في توثيق بعضهم، يعني أنا مثلًا عندي نازلة متعلقة بأمراض السرطان وهي متعلقة بالأورام، فأتي إلى الطبيب الذي يختص بأحد تخصصات الطب، فأسأله من هو الجدير في هذا الباب ومن هو المختص في هذا الباب الذي يمكن مراجعته والاستفسار منه وأخذ الوصف الدقيق المتعلق بهذه النازلة، فاعتمدت على قول طبيب تثق فيه لكنه ليس مختصًا في هذا الباب في توثيق طبيب آخر مختص في الباب الذي تريد أن تصدر الفتوى فيه، يعني هذا نظرة إجمالية لما يتعلق بمطالعة أهل كلام توصيف الواقعة.
هناك وقائع ينبغي للإنسان أن لا يبادر فيها بناءً على قول من يعتقده من أهل الخبرة، وأنا أضرب لك مثلًا بالوقائع السياسية، فإن الوقائع السياسية قد يكون فيها خفايا ويكون فيها تدبيرات لا يطلع عليها الإنسان، ومن ثَمَّ فاعتماد الشخص على الوسائل الإعلامية أو ما يبث في نشرات الأخبار أو في غيرها يكون غير مُطابق للواقع، فالتصوير لم يكن تصويرًا صحيحًا، وبالتالي ما يتكلم به الفقيه لا يكون مُطابقًا لشرع رب العزة والجلال.
ومن هنا فإنه لا بدَّ من إرجاع الأمر إلى أهله، ومن هذا المنطلق جاءت الشريعة برد الأمور السياسية إلى صاحب الولاية؛ لأنه يطلع على ما لا يطلع عليه غيره؛ ولأنه تجتمع به الكلمة، إذ لو كان كل شخص في المسائل السياسية يبدي وصفه لذلك الواقع، لأدى ذلك إلى اضطراب الناس لأن وصف هذا الواقع يختلف من شخص إلى شخص آخر.
إذًا هذا متعلق بالركن الأول الذي هو ذات الواقعة التي نحتاج إلى تنزيل الحكم الشرعي عليها.
هناك من الأركان ما يتعلق بالأوصاف والعلل التي توجد في تلك الواقعة، فإنَّ الأحكام الشرعية لم تُبنى اعتباطًا وإنما بُنيت على أوصاف، هذه الأوصاف ينتج عنها الحكم الشرعي.
هناك بحث في هذا الباب عند علماء الأصول، هل العلة مُؤثرة في الحُكم أو غير مُؤثرة؟ وهناك ثلاثة مناهج رئيسية:
منهج يقول: إن العلل والأسباب مُؤثرة في أثارها ونتائجها لذاتها، وهذا منهج اعتزالي وهو مبني على القول بأن العبد يخلق فعل نفسه، وهذا الكلام مبني على نفي القدر ونفي خلق الله -عز وجل- للأفعال والوقائع، والنصوص قد دَلَّت على نقد هذا القول، كما في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 96].
هناك منهج يقول: الأسباب والعلل ليس لها أي تأثير في الوقائع، فالأحكام تقع عندها لا بها، وهذا أيضًا مخالف لِمَا جاء في النصوص من ربط الآثار بالأسباب، ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ﴾ [الأعراف: 57]، فَرَبَطَ النتيجة بالسبب.
ومنهج أهل السنة والجماعة وسط في هذا الباب، فهم قالوا: إنَّ الأسباب والعلل لها تأثيرها لكن ليس لذاتها وإنما بخلق الله -عز وجل-، وهذا الخلاف كما يكون في الأسباب الكونية، كذلك يكون في الأسباب والعلل الشرعية، فعندما نجد أحكامًا مبنية على علل، ما مدى تأثير هذه العلل؟
الصواب أن الأحكام ناتجة عن العلل بجعل الله لها كذلك، لا نقول كما قالت المعتزلة: لذاتها، ولذلك قالوا: يجب على الله فعل الأصلح، ولا نقول كما قالت الأشاعرة، ولذلك قالوا: إنَّ الشريعة مبنية على الابتلاء والتحكم ولم تُبنى على جلب المصالح للعباد، وكلاهما خطأ، ولذا قال الله -جل وعلا-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، إذن فيها مصلحة، ﴿ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينً﴾ [المائدة: 3]، فالإتمام من الله -عز وجل-، فدل هذا على أن المصالح مُراعاة في الأحكام الشرعية.

والناظر في تعاليم الأحكام الشرعية، يجد أنها مبنية على تحقيق مصالح العباد، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 179]، فكون الحياة تحصل بهذا القصاص، هذا معنى مُناسب مما يدل على أنَّ الشريعة راعت المناسبات في الأوصاف والعلل.
أبواب المسائل مختلفة، فمنها ما يكون الأصل فيه المنع حتى يثبت خلافه، ومنها بالعكس ما الأصل فيه الإباحة حتى يثبت خلافه، ومنها ما يقع فيه تردد بين العلماء، ولعلي أضرب عددًا من الأمثلة، مثال لكل واحد من هذه الأشياء.
يعني مثلًا: ما هو الأصل في العبادات؟
الأصل في العبادات الحظر، وبالتالي إذا جاءنا عبادة جديدة نقول: الأصل أنها ممنوعة ولا يجوز لنا أن نعبد الله بها حتى يأتي دليل يدل على جواز عبودية الله -عز وجل- بها، لماذا قلنا بذلك؟ لأن الله -عز وجل- قال: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21]؛ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ» ونحو ذلك من النصوص التي وردت بتحريم البدع وبتحريم استحداث أشياء في دين الله -عز وجل- كما في قوله: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾. هكذا هناك أبواب مبنية على الحظر والمنع، وبالتالي لا بدَّ أن نراعي هذا المعنى.
هناك أبواب أخرى بُنيت على الإباحة، مثلًا: الأصل في العادات هو الإباحة، فإذا جاءتنا عادة جديدة يكون الأصل فيها الإباحة، الأصل في اللباس هو الإباحة، فلا نقول بتحريم شيء من الألبسة إلا لدليل، هناك مسائل يقع التردد فيما هو الأصل فيها، هل هو الحظر أو هو الإباحة والجواز؟ ولعلي أضرب عددًا من الأمثلة في هذا الباب.
مثلًا في باب اللحوم: هل الأصل فيها الجواز أو الأصل هو المنع؟ هناك طائفة من أهل العلم قالوا: إنَّ الأصل في اللحوم والحيوانات هو الحظر والمنع، ولذلك يقولون: لو ترددنا بين لحم هل هو مباح أو لا، فإننا نمنع منه، بينما آخرون قالوا: الأصل هو الإباحة، وهذا القول هو الصواب؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا قيل له: إن الأعراب يأتون لنا باللحمان ولا ندري هل ذكروا اسم الله عليه أو لا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «سمُّوا أنتُم وَكُلو»، فأجاز لهم الأكل ولو كان الأصل هو المنع لمنعهم.
مثلًا: هناك أشياء لها معاني مُتعددة، وبالتالي يكون الأصل في بعض المعاني الإباحة والأصل في غيرها المنع والحظر، يعني: مثلًا الأصل في الفروج ما هو؟
الفروج هنا ذات، فماذا تريد؟ هل تريد العقد أو تريد الوطء؟ فالأصل في العقد على الفروج هو الإباحة، والأصل في وطء الفروج هو الحظر حتى يأتي دليل يدل عليه، ولذا في تِعداد المحرمات، قال: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ [النساء: 23] إلى أن قال: ﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم﴾ [النساء: 24]، فدل هذا على أن الأصل في عقد النكاح هو الحل والجواز، بينما الأصل في الوطء هو المنع، ولذا قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ﴾.
هناك مسائل يقع التردد فيها، ما هو الأصل فيها؟ مثلًا العقود، هل الأصل في العقود الحل والجواز أو الأصل فيها المنع؟ كذلك العقود الأصل فيها الصحة أو الفساد؟
هناك خلاف فقهي كبير بهذه المسألة، بل حُكي عن الشافعية والحنفية أنهم يقولون: الأصل في العقود هو المنع وإن كانت دلالة النصوص تدل على خلاف هذا كما في قوله -عز وجل-: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ﴾ [البقرة: 275]، وكما في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، ونحو ذلك من النصوص.
هكذا في باب الشروط في العقود، هل الأصل في الشروط هو الصحة والإلزام أو أن الأصل البطلان حتى يأتي دليل يدل على اعتبار ذلك الشرط؟ فهما قولان أيضًا مشهوران، فمن رأى الأول قال إن الأصل هو الحِل، قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلً»، والآخرون استدلوا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ».
والأولون يجيبون على أن الاستدلال بهذا الحديث، بأن المراد به كل شرطٍ مخالف وكل شرطٍ باطل؛ لأنه ورد على سبب، وهو أن عائشة -رضي الله عنها- اشترت بريرة واشترط أهلها أنَّ الولاء لهم، وهذا شرط يخالف مُقتضى العقد، فلذلك أبطله النبي -صلى الله عليه وسلم-، أبطل الشرط وصحح العقد وقال هذا اللفظ: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ» يعني: كل شرط يُخالف ما في كتاب الله «فَهُوَ بَاطِلٌ...» إلى آخره.
ولذلك لا بدَّ أن نعرف أنَّ المسائل على أربعة أنواع:
مسائل فيها دليل إباحة فقط، هذه يؤخذ فيها بحكم الإباحة.
ومسائل فيها دليل تحريم فقط، فهذه نحكم عليها بالتحريم.
ومسائل يوجد فيه دليل إباحة ودليل تحريم، فنغلب جانب التحريم.
ومسائل لا يوجد فيها دليل إباحة ولا دليل حظر، فنحكم عليها بالأصل، يعني في الأصل في بعض المسائل هو الحظر كما في العبادات، ولو لم يجد دليل، يعني إذا جاءنا إنسان بعبادة نقول: الأصل في العبادات الحظر، وبالتالي نعرف أن الاختلاف الذي يقع بين الفقهاء ينبني على هذه المسائل، وأنا أريد أن أفصلها واحدة وأريد أمثلة لها.
يعني مثلًا: هل يجوز أكل الأرنب؟ نقول فيه دليل وهو أنه جاء في حديث أنس: "أَنْفَجْنا أَرْنَبًا عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَكَلْنَاهُ"، إذن فيه دليل إباحة.
هل يجوز أكل الحمار؟ عندنا دليل منع وهو أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ».
عندنا البغل هل يحوز أكله؟ نقول: وجد فيه دليلان:
دليل إباحة وهو أن أصله خيل.
ودليل تحريم وهو أن أصله الثاني حمار.
فغلبنا جانب الحظر والتحريم، وتغليب جانب الحظر هنا في مسائل كثيرة، ولذا ورد في الحديث إذا أرسلت كلبك المعلم فوجدت معه كلبًا آخر «فلا تأكل»، لماذا؟ وجد فيه سببان.
وإذا رميت بسهمك فوقع في الماء فلا تأكل؛ لأنه وجد فيه سببان، السبب السهم والسبب الآخر الغرق، فَغُلِّب جانب التحريم والحظر.
إذًا مسائل الأصل هذه فيما لا دليل فيه في المسألة، لا بالإباحة ولا بالحظر.
إذا تقرر هذا فإنَّ النَّاظر في توصيف الأحكام يجد أنَّ الفقهاء يقع اختلافهم لعدد من الأسباب، منها مرات الاختلاف في اندراج الفرع في أي قاعدة وفي أي أصل، يعني مثلًا: التهنئة هل هي عبادة فنقول الأصل في التهاني المنع؟ أو هي عادة وبالتالي نقول الأصل فيها الإباحة؟ فيقع الاختلاف هنا في تردد الفرع بين قاعدتين، في مرات قد يكون هناك اختلاف في القاعدة الواحدة، فيقع الاختلاف في فروعها مثل هل الأصل في العقود الصحة أو الأصل البطلان، فبالتالي نقع في اختلافات فقهية مبنية على هذا الخلاف.
مرات يقع اتفاق على القاعدة وفي نفس الوقت يقع الاتفاق على اندراج الفرع في القاعدة ولكن يقع الاختلاف نتيجة الاختلاف في كيفية تطبيق القاعدة على ذلك الفرع.
أورد لك مثالين، المثال الأول: لو طلق الإنسان زوجته، ثم تردد هل هي طلقة واحدة أو ثلاث طلقات، قال الجمهور: هي طلقة واحدة؛ لأنَّ الأصل بقاء النكاح، فلا يُزال إلا بطلاق متأكد من حصوله.
قال المالكية: لا، تقع ثلاثًا، لماذا يا مالكية؟ قالوا: لأن الأصل حرمة وطء الأجنبية فلا نستبيحه بنكاح مشكوك في بقائه.
فهم اتفقوا على القاعدة واتفقوا على اندراج الفرع في القاعدة، واختلفوا في كيفية التطبيق، وبالتالي اختلفوا في الحُكم.
أورد لك مسألة ثانية: وهي من كان مُتطهرًا في الصباح، ثم عند الظهر تردد هل أحدث أو لم يحدث؟ فالجمهور يقولون: إنه يجوز له أن يصلي ولو لم يحدث تجديدًا في الوضوء، لماذا؟ قالوا: لأن الأصل بقاء الطهارة، فهذا استصحاب للوصف الثابت في الزمان الأول، المالكية قالوا: لا، لا يجوز له أن يُصلي بهذا الوضوء، لماذا؟
قالوا: لأن الصلاة قد تعلقت بذمته بيقين فلا نزيلها بصلاة مشكوك في طهارتها، فكلاهما بنى الحكم على قاعدة اليقين لا يزول بالشك، قاعة استصحاب الوصف، ولكنهم فهم اتفقوا على القاعدة واتفقوا على اندراج الفرع في القاعدة واختلفوا في كيفية الإدراج، وبالتالي اختلفوا في الحكم، فهذا ما يتعلق بالركن الثاني، ولعلنا نرجئ البحث في بقية الأركان للقاءٍ آتٍ-بإذن الله عز وجل-.
بارك الله فيك وأشكرك على حسن تقديمك، وأشكر أخوتي الذين يرتبون معنا هذا اللقاء ويهيئونه، جزاكم الله خيرًا وأعظم الله أجركم، كما أسأل الله -جل وعلا- للمشاهدين التوفيق والعلم النافع والعمل الصالح.
وأسأله -جل وعلا- لجميع المسلمين اجتماعًا للكلمة وتآلف للقلوب ورغدًا في العيش ورفعة في الدرجة ومحبة ورضوان من الله -جل وعلا-، كما أسأله -جل وعلا- لولاة أمور المسلمين التوفيق وصلاح الحال، وأسأله -جل وعلا- لخادم الحرمين الشريفين وولي عهده التوفيق لكل خير، وأن يكونوا من أسباب الهدى والتقى والصلاح، وأن يجزيهم خير الجزاء، هذا -والله أعلم- وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك