الدرس الثالث

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

6011 11
الدرس الثالث

فقه النوازل

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في سلسلة علمية بعنوان "فقه النوازل" يقدمها معالي شيخنا، الشيخ/ سعد بن ناصر الشثري، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بمعالي الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، أرحب بك وأرحب بالإخوة الكرام المشاهدين، وأسأل الله -جل وعلا- أن يرزقهم الفهم الصحيح والعلم الجيد، وأسأله -جل وعلا- لهم مغفرة لذنوبهم ورفعاً لدرجاتهم.
{كنا يا شيخنا نتحدث عن أركان دراسة النازلة، وتحدثنا عن الركن الأول والركن الثاني، فهل تحدثوننا مشكورين عن بقية الأركان وتفصيلها؟}
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد،
فإن من الأركان التي نحتاج إليها في العملية الاجتهادية الفقهية التي نريد أن نتوصل بها إلى حُكم النوازل الفقهية ما يتعلق بالمجتهد،
فإنَّ النَّظر في النَّوازل ومحاولة استخراج حكم النَّوازل إنما يكون بواسطة المجتهدين، ولذا فإنَّ العملية الذهنية تحتاج إلى فقيه وصل إلى درجة الاجتهاد، ودرجة الاجتهاد يصل الإنسان إليها باتصافه بأربع صفات:
الأولى: أن يكون عالِمًا بقواعد الفهم والاستنباط وعِلم أصول الفقه، وليس المراد بذلك أن يعلم هذه القواعد علمًا نظريًا، وإنما يكون عنده القدرة على تطبيقها والعمل بها، وذلك أن استخراج الأحكام من الأدلة ليست عملية اعتباطية وإنما يُبنى على قواعد وأسس صحيحة، ولا يكون ذلك إلا من أهل الاجتهاد، وأهل الاجتهاد هم الذين يتصفون بهذه الصفات التي ذكرت قبل قليل.
الثانية: أن يكون عند الإنسان معرفة بالأدلة الشرعية سواءً من الكتاب أو من السُّنة أو من غيرها من أنواع الأدلة، ويكون قادراً على استحضار الدليل من جهة، وقادراً على استنباط الحكم من الدليل من جهة أخرى، ويكون قادراً على فهم ذلك الدليل، والناظر في الأدلة الشرعية يجد أنَّ هذه الأدلة قد يعرض للإنسان فيها عدم فهم في بعضها، فيظن أن بينها تعارض، ومن ثَمَّ يحتاج الفقيه إلى أن يكون عنده قدرة على الجمع بين النصوص عندما يظن أن بينها تعارض، وهكذا يكون عنده معرفة بشروط هذه الأدلة ويكون عنده معرفة بتفاصيل الأدلة وجزئياتها في المسألة المجتهد فيها.
الثالثة: أن يكون عَارفاً بمواطن الاتفاق ومواطن الخلاف بين العلماء، وبالتالي يكون عنده قدرة على تخريج النوازل الفقهية على أقوال الفقهاء المتقدمين.
الرابعة: أن يعرف من لغة العرب ما يمكنه من فهم الأدلة، فإن القرآن والسَّنة جاءا باللغة العربية، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2]، ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: 3]، ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ [الشعراء: 195]، وبالتالي من أراد أن يفهم القرآن والسَّنة فلا يمكنه أن يفهمها إلا بمعرفة لغة العرب.
ولغة العرب تشتمل على عدد من الفنون اللغوية، منها معرفة معاني الألفاظ سواءً عرفها الإنسان بسليقته أو عرفها بمراجعته للمعاجم التي تُعنى ببيان معاني الألفاظ اللغوية، وهكذا لا بدَّ أن يكون عنده قدرة على معرفة التراكيب اللغوية، وبالتالي يتمكن من فهم هذه التراكيب، وهكذا لا بدَّ أن يكون عارفاً بالنحو ليميز بين الفاعل والمفعول وأنواع الكلام العربي من خلال معرفة أثر حركة آخر الكلم على إعرابها، وبالتالي يكون الإنسان مميزاً قادراً على فهم الكلام العربي.
وأنت تعلم أن هناك مباحث لغوية دقيقة في علوم البلاغة يحتاج إليها الفقيه من جهة معرفة ما تتضمنه من معاني ومن بديع ومن بيان يكون له أثر في استخراج الأحكام وفي ترتيب الأحكام وفي ترتيب الأحكام بعضها على بعضها الآخر.
والناظر في المجتهدين يجد أنهم ينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: من كان مُتصفاً بهذه الشروط الأربعة، فهذا مجتهد ويترتب عليه أن يعمل باجتهاده ويجب عليه أن يجتهد فيما يتعلق به من النوازل، وأمَّا بالنسبة للنوازل المتعلقة بغيره، فهذا الفقيه على حالين: إمَّا أن يوجد فقهاء آخرون اجتهدوا في هذه المسائل، وبالتالي لا يلزمه على وجه التعيين أن يجتهد فيها، وإما أن لا يوجد فقهاء أو يوجد فقهاء لكنهم لم يجتهدوا في هذه النازلة فيتعين عليه الاجتهاد فيها، وذلك أن الاجتهاد في النوازل من فروض الكفايات التي تجب على علماء الأمة، فإذا قام بها بعض العلماء سقط الإثم عن بقيتهم، وأما إذا تركوها جميعًا فإنهم يأثمون جميعًا.
هناك صفة خامسة ينبغي أن تكون في الفقهاء حتى تقبل اجتهاداتهم: ألا وهي صفة العدالة، فإنَّ رب العزة والجلال إنما أمر بقبول أخبار أهل العدالة، أما من لم يكن من ذوي العدالة فإنه لا يقبل خبره وإن وجب عليه أن يعمل به في حق نفسه.
والقسم الثاني من الناس: من يكون غير مؤهل للاجتهاد، فهذا يجب عليه أن يسأل العلماء وأن يراجعهم، ويدل على وجوب العمل بالأدلة الشرعية بالنسبة للفقهاء، النصوص الكثيرة الآمرة بإتباع الكتاب والسنة، ممن مثل قوله -عز وجل-: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾[الأعراف: 3]، وقوله سبحانه: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ﴾[آل عمران: 32]، وقوله -جل وعلا-: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُو﴾[الحشر: 7]، ونحو ذلك من النصوص التي تأمر المؤمنين بالأخذ بالكتاب والسنة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِير﴾[الأحزاب: 21].
وأَّما بالنسبة للقسم الثاني وهم عامة الناس: هؤلاء يجب عليهم مراجعة الفقهاء خصوصاً في مسائل النوازل، وقد قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[الأنبياء: 7]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[التوبة: 122]، وهكذا في قوله سبحانه: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيل﴾[النساء: 83].
والعلماء يقسمون المجتهدين إلى خمسة أقسام يجعلونها مراتب للاجتهاد، وهذه الأقسام الخمسة بحسب حال الفقيه وبحسب قُدرته وبحسب ما لديه من إمكانية لمراجعة الأدلة الشرعية ولأقوال العلماء.
فالقسم الأول من هؤلاء الأقسام الخمسة: يقال لهم: المجتهدون المطلقون أو أهل الاجتهاد المطلق، وهؤلاء لا يتقيدون بمذهب إمام من الأئمة، وإنما يستقلون بقواعدهم الأصولية وبفروعهم الاجتهادية عن أقوال غيرهم، ولذا هم في أصول الفقه لا يتقيدون بمذهب وإنما يجتهدون في أصول الفقه كما يجتهدون في الفقه ويتوصلون إلى قواعد وأحكام وترجيحات لا يتقيدون فيها بمذهب إمام من الأئمة، فهؤلاء هم الرتبة العليا وهم أهل الاجتهاد، وهذه الرتبة هي التي كان عليها فُقهاء الصحابة -رضوان الله عليهم-.
والرتبة الثانية: من يتقيد بمذهب الإمام في القواعد الأصولية وإن كان في غير القواعد الأصولية لا يتقيد بمذهب الإمام، يعني في الفروع الفقهية قد يخرج عن مذهب الإمام، وهؤلاء يسمون أصحاب الوجوه، جمع وجه، المراد بالوجه قول لأحد الأصحاب يخرج به عن الروايات الواردة عن الإمام لكنها متوافقة مع أصول الإمام، فهذا نوع من أنواع المجتهدين المنتسبين لمذهب إمام من الأئمة، فهم يوافقون الإمام في قواعده الأصولية وقواعده الفقهية وإن كانوا يخالفونه في الاختيارات الفقهية.
والنوع الثالث: أصحاب الترجيح وهم الذين عندهم معرفة بقواعد الإمام وقُدرة على تطبيقها ولكنهم لا يخرجون عن المذهب وإنما يرجحون بين الروايات الواردة عن الإمام أو بين الأقوال الواردة عن الإمام، فأنت تعلم أنَّ الأئمة لهم أقوال واجتهادات متعددة، فمثلاً الإمام أحمد له روايات متعددة في المسائل الفقهية، هكذا الإمام الشافعي -رحمه الله- له أقوال مروية عنه متعددة، بعضها يقال القديم وبعضها الجديد وهكذا، فهذه الروايات وهذه الأقوال يتخير بينها أصحاب هذه المرتبة، وبالتالي يتمكنون من اختيار قول من الأقوال الواردة عن الإمام.
هذه المراتب الثلاثة في المجتهد المطلق وأصحاب الوجوه وأصحاب الترجيح، هؤلاء فقهاء ويجوز الرجوع إلى أقوالهم والعمل بفتاواهم باتفاق أهل العلم، ومن أخذ بفتوى أحد منهم فهي تجزئه وإن شاء الله إنه يبرئ بها عند رب العزة والجلال.
وأشير هنا إلى أنَّ نسبة الأقوال إلى الأئمة ليست أمراً اعتباطيًّا، بل لها قواعد وأصول يذكرها علماء الشريعة، فهناك سبعة طرق يمكن أن ينسب المذهب إلى الإمام بناءً عليها، فهناك القول الصريح إذا تكلم الإمام بحكم فإن ذلك يكون مذهباً لهم، وهنا يذكرون لو تعددت أقوال الإمام فإن القول الأخير والرواية الأخيرة تكون مذهباً للإمام، ووقع التردد بينهم في الروايات الأخيرة، هل تكون أيضًا قولاً للإمام ينسب إليه كما نسبنا للإمام الرواية الأخيرة، هل تنسب الرواية الأولى للإمام كما نسبت إليه الرواية الأخيرة؟
قولان للأصوليين مشهوران، هكذا مفهوم كلام الإمام فإنه يُنسب إليه وتثبت به الروايات سواءً كان مفهوم موافقة أو مخالفة أو كان دلالة اقتضاء أو نحو ذلك من أنواع الدلالات، هكذا مما ينسب إلى الإمام ما يقاس على قول الإمام بناءً على علة نص عليها الإمام، فإذا نص الإمام على حكم وذكر علته فوجدنا تلك العلة في موطن آخر، فإن ذلك يجيز لنا أن ننسب إلى الإمام ذلك القول، فنقول: يقاس على قوله أو هناك رواية مخرجة عن الإمام في هذه المسألة، وإذا كانت المسألة المخرجة لا قول للإمام فيها فلا إشكال ولكن قد يكون في بعض المسائل هناك رواية عن الإمام منصوصة ويكون هناك رواية مخرجة في نفس المسألة، ولذا يقولون فيها روايتان: إحداهما منصوصة والأخرى مخرجة.
والنوع الرابع من أنواع الاجتهاد في نسبة الأقوال إلى الإمام: ما كان على جهة التخريج والقياس، بحيث يكون عند الإمام قاعدة عامة، فيأتي الفقيه فيستنبط من تلك القاعدة العامة حكماً في جزئياتها وفروعها ينسبه إلى ذلك الإمام.
والأمر الخامس: القياس على ما لم يتم النص عليه.
والأمر السادس: الأفعال الواردة عن الإمام، فإنه إذا نُقل عن الإمام أنه فعل فعلاً، فإن هذا يؤخذ منه أن الإمام يرى جواز ذلك الفعل.
يعني من أمثلته: مسألة لو أعطى الإنسان رهناً في دين، فأجاز للدائن أن يستوفي حقه من العين أو أن يأخذ العين المرهونة مُقابل دينه، فقد ورد عن الإمام أحمد أنه فعل ذلك، ولذلك قال طائفة بإثبات هذا القول للإمام أحمد كرواية عنه، وبالتالي أجازوا أن يكون هناك أخذ واستيفاء للحقوق الدائنة من العين المرهونة إذا كان بإذن الراهن الذي عليه الدين، فهذه طرائق لإثبات مذهب الإمام، وبالتالي تثبت الروايات عن الإمام بإحدى هذه الطرق.
نعيد ما كنا ابتدأنا به من الحديث عن أنواع المجتهدين، حيث ذكر المجتهد المطلق وأصحاب الوجوه وأصحاب الترجيح.
النوع الرابع: أصحاب التخريج، وهؤلاء على قسمين: منهم من يكون عنده قواعد المذهب، فيخرج عليها المسائل النازلة، وهناك نوع آخر وهم الذين يقيسون على قول الإمام ما يرد على الناس من النوازل الجديدة، فيعطونها الحكم الذي قاله الإمام في المسألة المشابهة لها، وكثير من الباحثين اليوم ينسبون إلى الأئمة وإلى المذاهب بناءً على هذا النوع من أنواع الاجتهاد، فينبسون إلى الأئمة أقوالاً في النوازل بناءً على ذلك، لذلك أنا حرصت على بيان طرائق إثبات مذاهب الأئمة؛ لأن كثيرًا من الباحثين في عصرنا الحاضر يقومون بقياس هذه النوازل الجديدة على المسائل التي تكلم فيها الإمام أيًّا كان ذلك الإمام، وبالتالي يقومون بإثبات مذاهب للأئمة في هذه النوازل الجديدة.
النوع الخامس من أنواع المجتهدين: يقال لهم أصحاب الحفظ، وهم الذين يحفظون المذهب أو يعرفون مواطن بحث المسائل الفقهية في المذهب، وبالتالي يكون هذا من أسباب استخراجهم أو قدرتهم على معرفة موطن بحث المسألة، ومن ثَمَّ ينقلونها للناس.
هذان القسمان الأخيران وهم أصحاب التخريج وأصحاب الحفظ وقع الاختلاف بين العلماء في حكم الرجوع إليهم والأخذ بأقوالهم، وهل يحق لهم الفتوى أو لا يحق لهم ذلك؟ فذهب طائفة إلى أن هؤلاء لا يجوز الرجوع إليهم في أخذ الأحكام الشرعية، لأنهم ليس بمجتهدين، إذ المجتهد في الحقيقة هو من يأخذ الأحكام من الأدلة، وهم ليسوا كذلك، بينما رأى آخرون أن هؤلاء من الفقهاء باعتبار أنهم يعرفون معنى المسائل ويتمكنون من رد وقائع الناس إلى أقوال الأئمة الفقهاء المتقدمين، وهناك من يقول هذا القسم وهم أصحاب التخريج وأصحاب الحفظ هم من مواطن الضرورات، فإن وجدنا غيرهم لم يجز الرجوع إليهم، وإن لم يوجد إلا هم فحينئذٍ يجوز اضطراراً الرجوع إليهم والأخذ بأقوالهم، ولعل هذا القول أظهر فإن أقوال هذا الصنف مظنة لوجود الحكم الشرعي، فبالتالي فإنهم في مواطن الضرورات، ولكن العلماء قالوا بأن هذا الصنف في مسائل النوازل لا قيمة لهم ولا وزن خصوصاً أصحاب الحفظ وذلك، لأنهم لا يميزون الكلام الوارد عن الإمام ولا يتمكنون من معرفة حكم هذه النوازل.
يبقى هناك بيان أن هؤلاء الفقهاء يجب على عوام الأمة أن يرجعوا إليهم وأن يستنيروا بهم وأن يأخذوا بأقوالهم، لكن كيف يعرف العامي أنَّ ذلك الشخص من الفقهاء وبالتالي يقوم بمراجعته وسؤاله؟
فنقول: هناك طرائق لمعرفة من هو الفقيه الذي تجوز مراجعته، ومن الطرائق رجوع العلماء، فإننا إذا وجدنا علماء الشريعة يرجعون إلى شخص فيما يحصل بينهم من خلاف أو ما يقع عندهم من إشكال، فوجدناهم يصدرون عن رأيه ويأخذون برأيه، فهذا دليل على أنه من أهل الاجتهاد، إذا لم يكن من العلماء لم يقوموا بمراجعته وبسؤاله.
والطريقة الثانية: بطريقة الدلالة، فإنه إذا كان فقيه فأرشد إلى شخص آخر من أجل أن يُسأل ويستفتى، فإن ذلك يدل على أن الآخر من الفقهاء الذين يجوز الرجوع إليهم ويجوز الأخذ بأقوالهم.
والطريقة الثالثة في إقرار العلماء: فإننا متى وجدنا شخصًا يتصدر للفتوى ويأخذ الناس بفتواه بمحضر من العلماء وإقرار منهم وعدم نكير عليهم في ذلك، فإن هذا من الأدلة الدالة على أنه من الفقهاء الذين يجوز الرجوع إليهم.
وهناك طرائق أخرى يظن بعض الناس أنها طرائق صحيحة لمعرفة من هو فقيه، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، ولعلي أشير إلى شيء منها.
فأول ذلك: مظاهر الاستقامة الظاهرة، فإن وجود مظاهر للطاعة وللاستقامة على الإنسان لا تدل على أنه من الفقهاء العلماء الذين يجوز الرجوع إليهم وسؤالهم، فكون الإنسان على هيئة حسنة متوافقة مع أحكام الشريعة لا يعني أنه من الفقهاء أو من العلماء.
هكذا أيضًا من الصفات أو من الأمور: ظهور الإنسان في برامج الفتوى، فإن هذا ليس من الأدلة الدالة على تأهله للفتوى، إن الاختيار قد يكون على غير مؤهل ومن ليس مؤهلاً قد يختارونه في مثل هذه البرامج، وذلك أن الاختيار في كثير من هذه البرامج يكون من أصحاب القناة الإعلامية سواءً كانت متلفزة أو كانت إذاعية، فهذا ليس من الأدلة على صلاحية الشخص للفتوى.
هكذا ليس من الأدلة على صلاحية الإنسان للاجتهاد والنظر في النوازل، أنَّ يكون أستاذاً في جامعةٍ مهما كان تخصصه حتى فيما يتعلق بالتخصصات الشرعية في التفسير أو في السنة أو حتى في الفقه أو الأصول، فكم من إنسان يكون عنده قدرة على حفظ الأحكام ونقلها ويكون عنده قدرة على إفهام الطلاب المسائل الفقهية لكنه لا يكون مؤهلاً لاستنباط الأحكام الشرعية من الأدلة فيما يتعلق بالنوازل الفقهية.
أيضًا من الأمور التي لا يُستدل بها على كون الشخص من أهل الاجتهاد في النوازل الفقهية: تصديه للوعظ وللخطابة أو الإمام، فهذه مناصب دينية ينال الإنسان بها أجراً وثواباً لكنه لا تعني أن الشخص وصل إلى رتبة الاجتهاد خصوصاً في مسائل النوازل الفقهية، قد يكون الإنسان بليغاً في لفظه، مقنعاً في أسلوبه لكنه لا يكون فقيهاً ولا يكون عنده قدرة على الغوص في الأدلة الشرعية لاستخراج الأحكام الفقهية.
هكذا تولي الإنسان شيئًا من المناصب الدينية العامة لا يعني أهليته للاجتهاد، سواءً كان في التدريس أو كان في القضاء وحتى في الأمر بالمعروف والحسبة ونحو ذلك من الأعمال، بل أن الانضمام إلى الهيئات العلمية المعنية بالفتوى لا يعني تأهل الشخص للفتوى خصوصاً فيمن لا يشترطون في دخول هذه الهيئات أن يكون الشخص من أهل الفتوى، ومن ثَمَّ لا بدَّ أن لا نغتر بظواهر الأمور ولا بدَّ من معرفة المعاني الحقيقية التي تجعل الشخص مؤهلاً لأن تتم مراجعته وسؤاله.
والقاعدة الشرعية في هذا الباب: أن العامي متى سأل أحد الفقهاء فأجابه، فإنه يجوز له أن يكتفي بقوله متى غلب على ظنه أنه شرع الله ولو كان ذلك الفقيه المسئول أقل درجة في علمه من غيره من الفقهاء، وذلك أن الصحابة -رضوان الله عليهم- قد وجد في عصرهم من هو فاضل ومن هو مفضول من العلماء ومع ذلك لا ينكرون على أحد أن يسأل المفضول مع إمكانية سؤال الفاضل، فدل هذا على أن العامي يجوز له أن يختار أي واحدٍ من الفقهاء ليسأله عن نازلته، أما إذا علم العامي بأقوال الفقهاء وعرف ما بينهم من التضاد، فإنه حينئذٍ لا يجوز له أن يأخذ بما يختار من أقوالهم، بل يجب عليه أن يرجح بين أقوالهم، وذلك لأن المطلوب منهم أن يعمل بشرع رب العزة والجلال، والشرع في أحد الأقوال ليس دين الله في جميع هذه الأقوال، ومن ثَمَّ يجب عليه أن يراجع من يغلب على ظنه أن قوله هو الموافق للشرع، لكن كيف يعرف ذلك؟ وما الدليل على وجوبه؟
أما الدليل على وجوب أن يعمل بما يغلب على ظنه أنه هو الشرع، فقوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم﴾[الزمر: 55]، ونحو ذلك من النصوص الدالة على الترجيح بين الأقوال عند تعارضها، ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾[الزمر: 18]، ونحو ذلك من النصوص، ويدل عليه كما تقدم أن شرع الله واحد، وبالتالي يجب عليه أن يعمل بما يغلب على ظنه أنه شرع الله، فالحق في أحد الأقوال وليس في جميعها؛ ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد»، فدل هذا على أن المجتهد قد يصيب وقد يخطأ.
ويدل على ذلك أنَّ الشريعة قد نهت عن اتباع الهوى والتخيير بين أقوال المفتيين نوع من أنواع اتباع الهوى واختيار ما ترغبه النصوص، ولذا فإن الواجب على العبد أن يتبع شرع الله وأن يعمل بطاعة مولاه وألا يختار ما يرغبه هواه، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: 26]، وإذا تقرر هذا فإنه يتمكن من الترجيح بين أقوال الفقهاء عند اختلافهم بثلاث طرائق.
أيضًا من الأدلة أن هذا شأن العقلاء في جميع الفنون بلا استثناء، يعني مثلاً: لو نظرت في مسائل الطب، إذا اختلف عليك الطبيبان فحينئذٍ لا تقول سأختار أحد القولين وإنما تقول: سأعمل بقول من يغلب على ظني أن قوله هو الصواب، إما لكون الطبيب أميز وأمهر، أو لكونك قد أخذت رأيًّا طبياً آخر يتوافق مع أحد القولين.
المقصود أنه إذا اختلف الفقهاء عليك، فإنه لا بدَّ من الترجيح بينهم، والعامي ليس عنده قدرة على الترجيح بينهم بالنظر في الأدلة التي يستندون إليها، فإن الدليل القرآني قد يكون منسوخًا في حكمه، والدليل النبوي قد يكون ضعيفاً في سنده، وطريقة الاستدلال قد تكون غير متوافقة مع قواعد الفهم والاستنباط، ومن ثَمَّ فهو ليس من المؤهلين للنظر في الأدلة، وإنما الترجيح يكون بحسب حال المجتهدين، وذلك بالنظر في ثلاث صفات.
الصفة الأولى: صفة العلم، فإن من كان أعلم فهو أغلب على الظن أن يكون قوله أرجح، وذلك لأن التميز في باب الفتوى إنما هو بحسب العلم، وبالتالي فإذا جاءتنا نازلة فقهية فأفتى فيها فقيهان، فإن الغالب على الظن أن قول الفقيه الأعلم هو الموافق لشرع رب العزة والجلال.
الصفة الثانية: فإنه إذا لم يتمكن العامي من الترجيح بين المفتيين بحسب العلم سواءً ظن أنهم متساوون أو جهل التمايز فيما بينهم، فإنه ينتقل إلى الطريق الآخر، ألا وهو المقارنة بينهم بحسب الورع، فإن قول من هو أورع وأتقى أقرب لأن يكون هو الموافق لشرع رب العزة والجلال، وذلك لأن للتقوى من الخاصية في جعل الإنسان أكثر فهماً وتمييزاً وإدراك ما يجعلنا نشرح ونرجح قول الأتقى الأورع، وقد جاءت النصوص الكثيرة في أن الله -عز وجل- يمنَّ على أهل التقوى بالفهم والإدراك، كما في قوله -جل وعلا-:﴿ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]، فكلما زاد تقوى العبد كان أكثر فهما لكتاب الله -عز وجل.
وهكذا في قوله -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَان﴾ [الأنفال: 29]، ومعنى هذه الآية أن أهل التقوى يجعل الله -عز وجل- عندهم من القدرة ما يتمكنون بها من التفريق بين الحق والباطل، وهناك أدلة كثيرة من مثل قوله -عز وجل-: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2- 3]، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْر﴾ [الطلاق: 4].
فإن من مقتضى كون الشخص يُجعل له المخرج أن يكون عنده القدرة والأهلية لمعرفة الراجح من المرجوح، وبعضهم استدل بقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾، ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ في نصوص كثيرة تدل على ذات المعنى.
وهناك مرات يعجز الإنسان عن التمييز بين المفتين بحسب العلم وبحسب الورع، فيظن أنهم سواء أو ليس لديه القدرة على المقارنة بينهم، ففي هذه الحال ينتقل إلى الطريقة الثالثة، ألا وهي المقارنة بأقوال المفتين الآخرين، فإذا كان عندك مجتهدان اختلفا في مسألة نازلة جديدة، فحينئذٍ لم تتمكن من الترجيح بينهم بحسب العلم والورع، فإنك تسأل عالماً ثالثًا فتستفتيه في هذه المسألة، فقول الأكثر أغلب على الظن أن يكون هو الصواب الموافق لشرع رب العزة والجلال، وخصوصاً في هذه النوازل الفقهية، فإن تتابع أقوال الفقهاء وتوافق قول فقيه بعد فقيه على حكم في نازلة فقهية يجعلنا نغلب على الظن أن ذلك الاجتهاد الصادر من هؤلاء العلماء المجتهدين هو الموافق لشرع رب العزة والجلال ولحكم الله وللصواب في المسألة.
وهناك مسائل متعلقة بهذا الباب، ألا وهي مسائل اختلاف الاجتهاد في النوازل الفقهية، وهذا من الأمور المعقولة، فإن الإنسان قد يجتهد في مسألة فيخفى عليه جانب من جوانبها، فيفتي بشيء، ثم بعد ذلك يتبين له ذلك الجانب فيفتي بخلافه، وهكذا قد يخفى دليل على فقيه أو قياس ومن ثَمَّ يفتي بشيء ثم بعد ذلك يظهر له ذلك الدليل ويصل إلى ذلك القياس، ومن ثَمَّ يرجع عن ذلك الاجتهاد، فالرجوع عن الفتوى في مسائل النوازل معهود وممكن ونحن نجده.
فمثلاً في مسألة إعادة يد السارق إليه بعد قطعها في حد السرقة، هل يجوز أو لا؟
هناك خلاف فقهي بين العلماء المعاصرين، وجدنا من العلماء المعاصرين من قال بقول ثم بعد ذلك رجع إلى ما يُقابله، وهكذا في عددٍ من المسائل، لكن بالنسبة للمجتهد فإنه يعمل باجتهاده الجديد في المسائل الآتية ولا ينقض اجتهاداً له قاله فيما سبق أو أفتى به فيما سبق، وأمَّا بالنسبة للعامي إذا قال أو إذا عمل بفتوى الفقيه ثم غير الفقيه اجتهاده، فإن علم العامي بتغير الاجتهاد، لزمه أن يعمل بالاجتهاد الجديد ويترك الاجتهاد القديم، لأنه خصوصاً فيما يظهر فيه الصواب وتكون الدلالة فيه واضحة.
لكن بالنسبة للقضاء، فإن القاضي إذا حكم في نازلة بحكم يظن أنه شرع الله، ثم بعد مدة جاءه ما يماثلها من القضايا، فحكم فيها بحكم مغاير للحكم الأول، يظن أنه حكم الله بناءً على تغير اجتهاده في المسألة، فنقول في مثل هذه المسألة كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حينما قال: "تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي"، ولذلك قال العلماء: "الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد أو بمثله".
من الأمور المتعلقة بهذا أنه لو قدر أننا نقضنا الحكم السابق بناءً على تغير اجتهاد الفقيه لحصل اضطراب في الأحكام القضائية وعدم استقرار فيها.
ومن الأمور المتعلقة بهذا أن الاجتهاد في النوازل لا يختص بالاجتهاد في المسائل الفقهية، بل هناك مسائل عقدية كثيرة نازلة تحتاج من الفقهاء إلى أن يجتهدوا فيها وأن يستخرجوا الحكم الشرعي، وبالتالي يجب على العامي أن يأخذ بقول الفقيه في هذه النوازل العقدية كما يأخذه الفقهية.
وأنا أضرب لك أمثلة من التقنية التي نقلت لنا عدداً من الممارسات التي فيها نوع خرافة ونوع مماثلة لما ورد في النصوص من التحذير منه، هكذا المطالع لعدد من كتب العقائد يجد تطبيقات عقدية معاصرة كثيرة، وأضرب لذلك مثلاً بشرح لكتاب التوحيد، حيث جاء فيه من الأمثلة والنوازل العقدية ما يمكن تطبيق النصوص النبوية والآيات القرآنية عليها.
هكذا ينبغي أن يلاحظ في هذا الباب، أن الاجتهاد كما يكون في مسائل الفقه يكون في مسائل الاعتقاد، وهنا أشير إلى شيء، وهو أنه لا يلزم من كون الحكم في المسألة توصل إليه بالاجتهاد أن يكون ظنيًّا، ولقد تصل إلى الحكم بعد اجتهاد وتحري وتأمل في المسألة، ثم بعد ذلك يكون الوصول إلى الحكم وإثبات نسبة الحكم للشرع على جهة قطعية لا شك فيها ولا غيب.
من الأمور التي تتعلق بهذا الأمر: أن المسائل النوازل سواءً في الفقه أو في العقيدة يجب على الفقهاء أن يتصدوا لها، وفي عصرنا الحاضر قد أنشئت على نطاقات متعددة منظمات ومؤسسات من أجل استخراج الأحكام الشرعية منها، وقد ضربت لذلك أمثلة للمجامع الفقيهة وبالهيئات العلمية على اختلافها وتنوعها، وهي من المؤسسات التي تشتغل في هذه النوازل، ولذلك تجد في فتواها من النوازل الشيء الكثير، فلو راجعت مثلاً فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء وجدت فيها من النوازل الشيء الكثير مما يحتاج الناس إلى معرفة حكمه، ولكن لا بدَّ أن نلاحظ أن هذه المجامع لا تمثل الإجماع الذي يذكره علماء الشريعة، فإن الإجماع الذي يستدل به ذلكم القول المنسوب إلى جميع فقهاء العصر، فلو حصلت مخالفة من واحد فإنه لا يكون هناك إجماع.
وقد يقول قائل: ما دخل الإجماع في المسائل النوازل؟ خصوصاً أن في عصورنا هذه تباعدت مواطن العلماء واختلفت بلدانهم، ومن ثَمَّ كيف نجمعهم وكيف نعرف بأقوالهم؟ وهذا القول ليس له محل من النظر من جهتين:
الجهة الأولى: أن النصوص الشرعية أحالت على الإجماع وأمرت بإتباعه كما في قوله سبحانه: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾[التوبة: 100]، وكما في قوله: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِير﴾[النساء: 115]، وكما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، وكما في قوله: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة إلى قيام الساعة»، ونحو ذلك من النصوص، والنصوص لا يمكن أن تحيل إلى شيء لا يتحقق ولا يمكن وقوعه.
ومما يدل على ذلك أننا إذا نظرنا في أحوال علماء العصر -عصرنا الحاضر- وجدنا أن هناك مسائل كثيرة وقع الإجماع عليها فيما بينهم، ولا يلزم أن يكونوا جميعًا قد تكلموا، بل إذا تكلم البعض وسكت البقية، فحينئذٍ يكون هذا من الإجماع المعتبر، والذي يسميه بعض العلماء الإجماع السكوتي، والإجماع السكوتي حجة شرعية على الصحيح يجب العمل بها.
ومن أمثلة ذلك مثلاً فيما يتعلق بطباعة الكتب، فقد أجمع العلماء على أنه لا بأس من إدخال كتب العلم بل المصحف إلى المطابع، وهكذا أيضًا فيما يتعلق بترتيبات المساجد من الفرش، من إدخال مكبرات الصوت، من بناء المساجد البناء المسلح بالأسمنت والحديد، إلى غير ذلك من المسائل التي استجدت في المساجد، فهذه المسائل وقعت في عصرنا الحاضر وانتشرت في الأمة ولم يوجد أحد يخالف فيها، فكان هذا إجماعاً.
وهكذا أيضًا فيما يتعلق باستعمال النظارة في القراءة في الآيات القرآنية أو في العلم أنواع اللباس الحديثة على أنواعها، فهذا مما وقع الاتفاق عليه بين علماء العصر على جوازه وإباحته، وهكذا نقل الأحاديث العلمية والشرعية في الإذاعة فهذا محل اتفاق بين علماء الشريعة في عصرنا الحاضر، مما يدلك على أن الإجماع يمكن انعقاده في زماننا ويكون حينئذٍ حجة شرعية.
ومن الأمور التي تتعلق بهذا: أنه لا يلزم الفقيه أن يُبَيِّنُ للعامي دليل المسألة، لأن الفقيه إنما يعتمد قوله للثقة به ولظننا أنه يوصلنا لشرع الله، أما الدليل فقد يكون منسوخًا وقد يكون معارضاً وقد يكون عاماً ورد عليه التخصيص، وقد وقد، وبالتالي ليس العامي مؤهلاً للنظر فيها، لكني يحسن بالناس أو يحسن بالفقهاء أن يوردوا الأدلة عند ذكرهم للأحكام من جهة أن هذه الأدلة يبقى تعظيمها في النفوس ومن جهة طمأنينة الناس للفتوى المتضمنة للأدلة الشرعية، ومن جهة أخرى ألا وهي أن الأدلة فيها معاني وإشارات أخرى، فنحن نريد أن نوصل هذه المعاني والإشارات إلى الناس من خلال استماعهم لها في الفتوى، ولذا لا يصح أن يعترض العامي على الفقيه أو أن يطالبه بالحجة فقد تكون المسألة قياسية أو لا يتمكن العامي من فهمها، ومن ثَمَّ لا يصح له أن يطالبه بالدليل.
هذا الكلام كله فيما يتعلق بركن المجتهد، وهو أحد الأركان التي تتعلق بها عملية دراسة النوازل الفقهية.
{أحسن الله إليكم يا معالي الشيخ وشكر لكم ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين}.
بارك الله فيك ونشكرك على حسن تقديمك، وأسأل الله لك التوفيق كما أسأله لطلبة العلم الذين يشاهدوننا أن يكون علماء في الشريعة وأن يمكنهم الله من نشر هذا الدين، كما أسأله -جل وعلا- أن يوجد عندهم القدرة على دراسة النوازل الفقهية واستخراج أحكامها من الأدلة، وأسأله -جل وعلا- لولاة أمور المسلمين أن يكونوا سبب خير وهداية وصلاح واستقرار لأحوال الناس، هذا -والله أعلم- وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك