الدرس الثالث

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

13463 12
الدرس الثالث

الأصول من علم الأصول

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعد..
فهذا هو لقاؤنا الثالث من لقاءاتنا في شرح كتاب "الأصول من علم الأصول"، وكنا فيما مضى قد تكلمنا عن أقسام الكلام، وعن بقية الأحكام الوضعية، وكان منها الصحيح والفاسد.
ما هو الصحيح؟
{الصحيح هو ما ترتبت آثاره عليه بسببه وشروطه وركنه وخلو الموانع منه}
بارك الله فيك.
ما المراد بالخبر؟
{ما احتمل التصديق والتكذيب}
لذاته، ما المراد بالإنشاء؟
{الإنشاء هو ما لا يحتمل الصدق والكذب لذاته}
ما هي أقسام الكلمة؟
{اسم وفعل وحرف}
ما هي أقسام الأسماء؟
{العام الذي يشمل جميع أفراده، والمطلق الشائع في جنسه، والخاص كالأعلام}
بإذن الله عزَّ وجلَّ نواصل الحديث في أقسام الكلام، فينقسم الكلام إلى حقيقةٍ ومجازٍ.
النوع الأول: الحقيقة هو اللفظ المستعمل فيما وُضع له، ومن أمثلته: استعمال لفظة الأسد في الحيوان المفترس، فهذه حقيقةٌ.
والنوع الثاني: المجاز، وهو اللفظ المستعمل في غير ما وُضع له، كما لو قلت: رأيت أسدًا يخطب، تريد الرجل الشجاع، استعملت لفظ الأسد في غير ما وُضع له، حيث وُضع للحيوان المفترس، واستعملته في الرجل الشجاع.
والتجوز لابد أن يكون فيه قرينةٌ وعلامةٌ، ولابد فيه من دليلٍ يدل على التجوز، لما قلت رأيت أسدًا يخطب، هنا كلمة يخطب دليلٌ على أنه لا يراد به الحقيقة، وإنما يراد به المعنى المجازي.
ولابد أن يكون هناك علاقةٌ، بحيث يوجد هناك مشابهةٌ بين الرجل الشجاع والأسد في الشجاعة، ولذلك لابد من وجود الأمرين معًا، دليلٌ يصرف الكلام عن الحقيقة إلى المجاز، وعلاقةٌ بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.
إذا كانت العلاقة هي المشابهة سُمي استعارةً، وإذا كانت العلاقة غير ذلك قيل له المجاز المرسل.
مثال ذلك: تقول: رعت الغنمُ المطر، هي لم ترع المطر، وإنما رعت العشب النابت من المطر، لماذا سمينا العشب مطرًا، لأن المطر سببه، لا لمشابهته، وبالتالي هذا مجازٌ لكن لا يسمى استعارةً.

الحقيقة ثلاثة أنواعٍ:
الحقيقة اللغوية - الحقيقة العرفية - الحقيقة الشرعية
من المجاز المرسل، التجوز بالزيادة، كأن تأتي بلفظٍ زائدٍ، أو التجوز بالحذف، بأن تحذف كلمةً، ويمثلون له بما لو قال قائلٌ: اسأل القرية، ليس المراد سؤال ذات القرية، وإنما سؤال من يسكن القرية، فكأنه قال: اسأل سكان أو أهل القرية، هذا استعارةٌ، أو ليس باستعارةٍ؟ ليس استعارةً؛ لأنه لا يوجد فيه، ليست العلاقة هي المشابهة، فهذا مجازٌ مرسلٌ.
الأصل في الكلام أن يحمل على المعنى الحقيقي، ولا يجوز أن تصرفه للمعنى المجازي إلا لدليلٍ، وغاية بحث الأصولي هنا، أن نقرر أن الأصل في الكلام الحقيقة، ولا يجوز أن نصرفه عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي، إلا إذا وجد دليلٌ صحيحٌ، أما إذا لم يكن هناك دليلٌ فهذا نسميه تأويلًا فاسدًا.
الحقيقة تنقسم إلى ثلاثة أقسامٍ:
القسم الأول: الحقيقة اللغوية: مثل: لفظة الأسد وهو قد وُضع لغةً للحيوانِ المفترس.
القسم الثاني: الحقيقة الشرعية: هو ما تَصَرَّف فيه الشَّرع واستعمله باستعمالٍ خاصٍ، مثل: لفظة الزكاة، الزكاة في اللغة الطَّهارة والنَّماء، كما في قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَ﴾ [الشمس: 9]، أي: طهرها ونماها بالخيرات، لكن في الاصطلاح ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]، يراد به دفع جُزءٍ مِنَ المالِ الزَّكَوي لأصنافٍ مخصوصةٍ، هذا يُسمى زكاةً، هذه هي الحقيقة الشَّرعية في اسم الزكاة.
القسم الثالث: الحقيقة العرفية: وهو أن يتعارف أهل فنٍ، أو أهل مجتمع على استعمال أحد الألفاظ في معنى، فحينئذٍ يُحمل على ذلك المعنى، مثلا: كلمة سيارة في اللغة تطلق على القافلة، لكن الآن نستعملها في المركب المعروف، فبالتالي هذا استعمال لفظة السيارة في هذا المركب، يُسمى حقيقةً عرفيةً.
مثالٌ آخر: الحيوان في لغة العرب يُراد به الكائن الحي، بما فيه الإنسان، لكن تعارف الناس على أنَّ مُسَمَّى الحيوان يُطلق على ما لا يعقل من الكائنات الحية، وبالتالي لو جاءنا إنسانٌ وقال لآخر: يا حيوان، نقول: ما يجوز لك، قال: هذا معناه في اللغة، نقول: لكن الحقيقة العُرفية جعلت هذا اللفظ يدل على معنى آخر، وبالتالي لا يَصِحُّ لك أن تستعمل هذا اللفظ الحيوان وتُطلقه على إنسانٍ.
ما فائدة تقسيم الحقيقة إلى ثلاثة أقسامٍ؟
نقول: إذا جاءنا كلامٌ من أهل اللغة، فحينئذٍ نحمل اللفظ على المعنى اللغوي، وإذا جاءنا كلامٌ من أهل الشرع، فحينئذ نحمله على الحقيقة الشرعية، وإذا جاءنا كلامٌ من أهل العرف فحينئذٍ نحمله على الحقيقة العرفية، هناك أعرافٌ في المذاهب، وهناك أعرافٌ فقهيةٌ، وهناك أعرافٌ طبيةٌ في اللفظ، حقيقةٌ عرفيةٌ طبيةٌ، وبالتالي هناك أعرافٌ وحقائق عرفيةٌ تختلف باختلاف المهن والعلوم والفنون والبلدان والأزمان، فيلاحظ أنَّ كل لفظٍ من أهل العرف بمعناه عند أهل ذلك العرف، وقد يستعمل اللفظ في معانٍ مختلفةٍ، مثل: لفظة مفرد عند النُّحاة، مرةً يراد به ما يقابل المثنى والجمع، ومرةً يُستعمل فيما يقابل الجملة وشبه الجملة.
فمن الأمور المتعلقة بهذا أن بعض العلماء أنكر تقسيم الكلام إلى حقيقةٍ ومجازٍ، وقال: إنَّ تقسيم الكلام إلى حقيقةٍ ومجازٍ لا يوجد في كلام العرب، وإنما هذا تقسيمٌ حادثٌ ناشئٌ، وهناك علماء كثر من أهل اللغة، ومن علماء الشريعة، أخذوا بهذا القول، بينما الجماهير يثبتون تقسيم الكلام إلى حقيقةٍ ومجازٍ.
وبعض العلماء قال: المجاز يوجد في كلام العرب، لكن لا يوجد في القرآن؛ لأن القرآن لا يجوز نفيه، والمجاز يجوز نفيه.
ومن أثبت الحقيقة والمجاز نظر إلى اللفظ المجرد، مثل: لفظة الأسد، ومن نفى المجاز قال: أنا أنظر إلى الجملة كاملةً، فالعرب تستعمل الأسد يخطب، أسدٌ يخطب في الرجل الشجاع، ولا تستعمله في الحيوان المفترس، فحينئذٍ من أثبت المجاز نظر إلى الكلمة المجردة أسد، ومن نفى المجاز نظر إلى سياق الكلام والجملة كاملةً، والعرب لا تتكلم بالكلمة المجردة، وإنما تتكلم بالجملة كاملةً.

ننتقل بعد هذا إلى أقسام الإنشاء.
ومنها: الأمر
يراد بالأمر: طلب الفعل بالقول على وجه الاستعلاء.
طلب الفعل؛ لأن طلب الترك يُسمى نهيًا، بالقول، إذن لابد أن يوجد لفظٌ، إذن الأمر لفظ يطلب الفعل على وجه الاستعلاء، إذا لم يكن هناك لفظٌ فإنه لا يكون هناك أمرٌ.
وقوله: على وجه الاستعلاء؛ لأنه إذا كان الطلب للفعل من المساوي سمي التماسًا، وإذا كان من الأقل لا يسمى أمرًا.
لو قال الولد لأبيه: أعطني، ما يسمى أمرًا، ولذلك لما نقول: رب اغفر لي، واعف عني وتجاوز، هذا ليس أمرًا، لماذا؟
لأنه ليس على جهة الاستعلاء، فهذا خارج مسمى الأمر.
إذن نعلم من هذا: أن الأمر هو ذات اللفظ، وليس هو المعاني النفسية التي توجد عند المتكلم، ولا يُشترط في الأمر أن يكون الآمر يريد أن يمتثل المأمور الأمر، مراتٍ تأمر شخصًا من أجل أن تقيم الحجة عليه، من أجل أن تبين، ذاكر للاختبار، يأتيك طالبٌ بليدٌ فيطلب منه إعادة اختباره، تقول: يا أيها الطالب ذاكر للاختبار، وأنت تجزم بأنه لن يتمكن من تجاوز الاختبار، ثم تجري له الاختبار، تقول: أجب عن هذه الأسئلة مع أنك تعلم أنه لن يتمكن من الجواب.
إذن الأمر لابد فيه من لفظٍ ولا يشترط فيه إرادة الامتثال، فالآمر لا يلزم أن يكون مريدًا من المأمور أن يمتثل.
ولذلك أمر الله -عزَّ وجلَّ- المكلفين وبعضهم امتثل وبعضهم لم يمتثل.
إذن الأمر لابد أن يكون فيه لفظٌ فيه صوتٌ فيه حرفٌ، ولا يُجزئ أن يكون معنى نفسيًّا؛ لأن الكلام في لغة العرب لا يطلق إلا على المسموع، كما قال تعالى: ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [البقرة:75]، ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [التوبة: 6]، ما قال: يسمع ما هو كنايةٌ أو عبارةٌ أو حكايةٌ، لا، يسمع كلام الله بعينه.
وأما المعاني النفسية فهي لا تسمى كلامًا بالإطلاق، ولذلك لما أمر الله -عزَّ وجلَّ- مريم قال: قُولي ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّ﴾ [مريم: 26]، ثم بعد ذلك خرجتْ على قومها: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ [مريم: 29]، فلم يعتبر الإشارة مع- أنها معاني نفسيةٌ- من الكلام.
إذن عرفنا أن الأمر طلبٌ، الأمر هو قولٌ بطلب الفعل على وجه الاستعلاء.
من يمثل له؟
اسكتْ، مثالٌ صحيحٌ اسكت، نعم تفضل..
{قول الله عز وجل: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: 43]}.
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أقيموا فعل أمر.. سمير عندك مثالٌ للأمر..
{﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]}
﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ جيد.
الأمر له صيغٌ محددةٌ، ذكر المؤلف منها أربع صيغ:
الأول: ما كان على وزن افعل، يُسمى فعل الأمر، مثل: أقيموا وآتوا ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ﴾ [الكهف: 27].
الثاني: اسم فعل الأمر، مثل: حي على الصلاة.
الثالث: المصدر النائب عن فعل الأمر، المصدر الذي هو المفعول المطلق، في قوله: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ [محمد: 4]، ضرْب مصدرٌ.
الرابع: الفعل المضارع المقرون بلام الأمر، كما في قوله تعالى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29]، ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الفتح: 9].
أيضًا هناك صيغة الأمر الصريحة كما في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَ﴾ [النساء: 58]، يأمركم، فهذه صيغ الأمر.
وهناك قد يستفاد الأمر من ترتيب العقوبة على الترك، من ترك الفعل الفلاني فعليه العقوبة الفلانية، هذا يدل على أنَّ الفعل مأمورٌ به.
ماذا نستفيد من الأمر؟
إذا جاءتنا صيغة أمرٍ فإننا نستفيد منها أربعة أشياء، أي أنَّ دلالات الأمر في أربعة أشياءٍ:
الأول: الوجوب، فإذا جاءت صيغة أمرٍ فإنها مفيدةٌ للوجوب. (أقيموا الصلاة) فعل أمرٍ فيفيد وجوب إقامة الصلاة، آتوا الزكاة فعل أمر فيفيد وجوب إيتاء الزكاة.
ما الدليل على أن الأمر يُفيد الوجوب؟
هناك أدلةٌ عديدةٌ، قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]، فَدَلَّ هذا على أنَّ الأمر يفيد الوجوب، وإلا لما خشي على تاركه من الفتنة، والعذاب الأليم.
ومثله قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب:36]، قضى أمرًا، فدل هذا على أنَّ الأوامر لا اختيار فيها للمكلف ويجب عليه امتثالها.
ومنه أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»، والسواك مندوبٌ، فدل هذا على أن الأمر في الأصل لا يفيد الندب، وإنما يفيد الوجوب، بدلالة أن الذي فيه مشقةٌ هو الواجب ليس المندوب.
ومثلها أيضًا ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى بريرة، يشفع في أن تعود إلى زوجها، فقالت: أتأمرني يا رسول الله، قال: «لا، إنما أنا شافعٌ»، فقالت: لا حاجة لي فيه إذن.
الاستجابة لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم مندوبةٌ، ومع ذلك لم يسمها مأمورًا بها، قالت: أتأمرني، قال: «ل»، وفيه دلالةٌ على أن عدم الاستجابة للشفاعة لا حرج على الإنسان فيها.
بعض الناس يقول: الأوامر في الأحكام تفيد الوجوب، لكن في الآداب لا تفيد الوجوب، وهذا قولٌ خاطئٌ، لماذا؟
لأن الأدلة السابقة التي دلت على إفادة الأمر للوجوب عامةً، لم تفرق بين أحكامٍ وآدابٍ.
ويدل على هذا أن كل حكمٍ في الشريعة فهو أدبٌ، وكل أدبٍ فهو حكمٌ، تقدم معنى أن الأحكام خمسةٌ، الأحكام السابقة، ثم لا يوجد ضابطٌ دقيقٌ يفرق بين ما هو أدبٌ وما هو حكمٌ.
يأتيك واحدٌ غدًا ويقول: أقيموا الصلاة هذا أدبٌ، وبالتالي لا يفيد الوجوب، لا ينضبط الأمر وبالتالي يؤدي إلى إلغاء الأوامر جميعًا.
إذن الأمر الأول: أن الأوامر تفيد الوجوب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم».
الأمر الثاني: الأوامر تفيد الفورية، بحيث يجب المبادرة إلى امتثال الأمر في أول أوقاته، ما لم يدل دليلٌ على خلاف ذلك.
ما الدليل على أن الأمر يفيد الفورية؟
الدليل: قول الله عز وجل: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة: 148].
وقوله: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ [آل عمران: 133].
ولذلك في صلح الحديبية لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يحلقوا ويتحللوا، لم يبادروا، فدخل على زوجته أم سلمة مُغضبًا، لماذا؟
لأنه قد أنكر على الناس عدم المبادرة إلى امتثال أمره، فدل هذا على أنَّ الأوامر تفيد الفورية؛ ولأنه إذا امتثل الأمر في أول أوقاته تيقنًا أنه ممتثلٌ مطيعٌ، بخلاف ما لو أخره عن أول وقته، ثم قد تتراكم عليه ويعجز عن هذه الواجبات.
الأمر الثالث: أنها تفيد المرة، الأمر لا يدل إلا على وجوب المرة الواحدة، إلا إذا ربط بشرطٍ، فيجب كلما تكرر هذا الشرط مرةً واحدةً، ولا يفيد الأمر التكرار.
الأمر الرابع: أن الأوامر تفيد الإجزاء، فإذا أُمر المكلف بشيءٍ فامتثله فحينئذٍ هذا يدل على إجزاء هذا الفعل وهذا الامتثال وصحته، فيدل على إجزائه وصحته.
إذن هذه مدلولات الأمر:
- يدل على الوجوب.
- يدل على الفورية.
- يدل على المرة.
- يدل على الإجزاء والصحة، ما لم يأت دليلٌ بخلاف هذا.
قد يخرج الأمر عن الدلالة على الوجوب إلى الندب لوجود قرائن معه، فمرةً يدل على الندب، مثال هذا في قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ [البقرة: 282]، أشهدوا فعل أمرٍ، لكنه لا يُفيد الوجوب، لماذا؟
قال: لأنَّه عندنا دليلٌ وقرينةٌ صرفته عن الوجوب إلى الندب، وهو أنه قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى فلم يُشهد، فدل هذا على أن الشهادة في البيع ليست بواجبةٍ، إذ لو كانت واجبةً، فلم تركها النبي صلى الله عليه وسلم؟
وقد يأتي الفعل، فعل الأمر ويراد به الإباحة مع وجود قرينةٍ، ومن أمثلة ذلك قول الله -جلَّ وعلَا: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُو﴾ [المائدة: 2]، اصطادوا فعل أمرٍ، لكنه ليس للوجوب ولا للندب، وإنما للإباحة، لماذا صرفنا هذا الأمر من الوجوب إلى الإباحة، لأن هذا الأمر ورد بعد نهيٍ في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: 1].
فهذا دل على أن هناك نهيًا عن الصيد حال الإحرام، ثم قال: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُو﴾ قلنا هذا أمرٌ بعد النهي فحينئذ نجعله للإباحة، لأن الحكم قبل النهي كان على الإباحة.
ومن أمثلته: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُو﴾ [الجمعة: 10]، ننتشر في الأرض، هل معناه أنه يجب الانصراف من صلاة الجمعة مباشرةً والانتشار في الأرض، ولا يجوز البقاء في المسجد، نقول: لا، هذا أمرٌ ورد بعد نهيٍ، ومنع، في قوله: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 9]، فحينئذٍ يدل على الإباحة.
ومن أمثلته أيضًا: في حديث أسماء بنت عميس، لما جاءت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج، وجاءت في الميقات وهي نفساء، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال، هذا الأمر ليس للوجوب وإنما للندب، لماذا؟ لأن هذا الأمر جاء لرفع توهم عدم مشروعية الاغتسال للنفساء، النفساء تقول: أنا نفساء ما فائدة اغتسالي، فجاء الأمر هنا لرفع هذا التوهم، ليس للإيجاب، ومثله في قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما جاءت للحج متمتعةً فلم تتمكن من الطواف قبل يوم عرفة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «اغتسلي وانقضي شعرك»، نقض الشعر هذا ليس على الوجوب، وإنما على الإباحة، لماذا صرفناه؟
لأنها تعتقد عدم جواز هذا الفعل، فجاء الأمر هذا لرفع هذا التوهم.
وأيضًا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «افعل ولا حرج»، كل أمثلتنا اليوم في الحج، «افعل ولا حرج»، افعل صيغة أمرٍ، لكن هذا الأمر ليس لطلب الفعل، وإنما لرفع توهم عدم جواز هذا الفعل، فحينئذ نحمله على الإباحة وليس على الإيجاب، لماذا؟ لوجود القرينة.
في مراتٍ قد يحمل الفعل على التهديد، فعل الأمر يحمل على التهديد لوجود قرينةٍ، كما في قوله تعالى: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [فصلت: 40]، هذا ليس أمرًا بأن يفعلوا ما يفعلونه من جرائم، وإنما المراد به التهديد لهم، ﴿إنه بما تعملون بصير﴾ يطلع على أفعالكم وسيحاسبكم عليها، ومثله: ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29]، لا يقول واحدٌ هذا أمرٌ، لأنه فعلٌ مضارعٌ مسبوقٌ بلام الأمر، لأن هذا جاء للتهديد، بدلالة قوله بعد ذلك: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارً﴾، كما في سورة الكهف، فدل هذا على أن الأمر هنا للتهديد.
ومثله في مراتٍ قد يأتينا قرينةٌ لا تدل على أن الأمر للفور، وأنه يجوز تأخيره، كما في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 184]، يعني فيجب أن يصوم عدة أيامٍ أخر تماثل ما أفطره، فهنا الأمر فليصم عدةً من أيامٍ أخر، هذا الأمر الأصل أن يقتضي الفورية، لكن جاءنا الدليل يدل على أنه يجوز تأخيره إلى ما قبل رمضان الآتي كما في فعل عائشة رضوان الله عليها.
من القواعد المتعلقة بالأمر: أنَّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ، أو فهو مأمورٌ به، وأفضل أن نقول: "فهو مأمورٌ به".
يجب أن تؤدي صلاة الجماعة في المسجد، ولا تتمكن من ذلك إلا بالذهاب إلى المسجد، فيكون الذهاب إلى المسجد واجبًا، وزيارة المريض مندوبٌ إليها، ولن تتمكن من زيارة المريض إلا بالذهاب، ركوب المركوب الذي تركبه، فحينئذٍ يكون الذهاب مأمورًا به على سبيل الندب.
ومن أمثلة ذلك: يؤمر المكلف في الصلاة بستر العورة، فإذا كان لا يتمكن من ستر عورته إلا بشراء الثوب، فيكون شراء الثوب مأمورًا به على سبيل الوجوب، والطيب لصلاة الجمعة مستحبٌ، أليس كذلك؟ وهذا المستحب لا يمكن فعله إلا بشراء الطيب، فيكون شراء الطيب مستحبًا، وحينئذٍ نعرف هذه القاعدة العظيمة أن الوسائل لها أحكام المقاصد، إلا إذا كانت الوسيلة لها حكمٌ خاصٌ حال كونها وسيلةً.
مثال ذلك: صلاة الجماعة واجبةٌ، والذهاب إلى صلاة الجماعة وسيلةٌ، الوسائل لها أحكام المقاصد، إلا إذا كانت الوسيلة لها حكمٌ خاصٌ في الشرع، كما له وكان الذهاب إلى المسجد بسرقة سيارةٍ مملوكةٍ للغير، فحينئذٍ نقول هذه وسيلةٌ لها حكمٌ في الشرع فبالتالي تأخذ حكمها الشرعي، ولا نعتبر كونها وسيلةً إلى هذا الأمر، بالتالي ليس من مبادئنا أن الغاية تبرر الوسيلة، وإنما نقول: الوسائل لها أحكام المقاصد، ما لم يكن للوسيلة حكمٌ خاصٌ بها.
كذلك أيضًا في المنهيات، في الوسائل المؤدية إلى محرماتٍ، وليس لها حكمٌ في الشرع، فإنه يكون منهيًّا عنها.
مثال ذلك: بيع العنب على مصانع الخمور، وسيلةٌ تؤدي إلى صنع الخمور، فيكون بيع العنب على مصنع الخمر حرامًا؛ لأنه يؤدي إلى أمرٍ مخالفٍ للشرع، للوسائل المنهيات تكون منهياتٍ إذا لم يكن للوسيلة حكمٌ خاصٌ لنفسها.
مثال ذلك: وطء الأجنبية، ما حكمه؟ حرامٌ، الذهاب إلى مكان وطء الأجنبية يكون وسيلةً إلى الحرام، فيكون حرامًا.
لكن العقد على الأجنبية يؤدي إلى وطئها، ما حكم العقد عليها؟ لماذا لا تقولون هذا وسيلةٌ إلى منهيٍّ عنه فيكون منهيًّا عنه، لأن هذه الوسيلة لها حكمٌ في الشارع بذاتها.
ننتقل إلى مقابل الأمر وهو النهي.
والمراد بالنهي: قولٌ يطلب ترك الفعل على جهة الاستعلاء، فالنهي هو ذات اللفظ الذي فيه طلبٌ للترك، طلب الفعل هناك أوامر، وطلب الترك نواهٍ.
ولابد أن يكون على وجه الاستعلاء، لأنه إذا كان من المساوي فهو التماسٌ، وإذا كان من الأقل فإنه طلبٌ أو دعاءٌ، ولا يعد نهيًا.

ما هي صيغ النهي؟
له ثلاث صيغٍ:
الصيغة الأولى: صيغة لا تفعل.
مثل: لا تتكلم، لا تقربوا الزنا، من يمثل؟
﴿لَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ﴾ [الأنعام: 151].
{لا تشربوا الخمر}
{«لا تجعلوا بيوتكم قبورً»}.
مثال جيد.
{﴿لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: 95]}
الصيغة الثانية: صيغة النَّهي الصريح، إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، نهى عن بيع الغرر.
الصيغة الثالثة: صيغ ترتيب العقوبة على الفعل، ﴿مَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمً﴾ [النساء: 93]، هذه صيغة نهيٍ.
وكذلك أيضًا: من صيغ النهي: ذم الفاعل.
إذن هذه صيغٌ للنهي.
ماذا يُستفاد من النهي؟
نستفيد من النهي عددًا من الأمور:
أولها: التحريم، فإذا جاءنا نهيٌ فهو مفيدٌ لتحريم الفعل، وعدم جوازه، وتأثيم فاعله، ما الدليل؟ قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُو﴾ [الحشر: 7].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا نهيتكم عن شيءٍ فاجتنبوه».
الأمر الثاني مما يفيده النهي: الفورية، فمجرد ورود النهي، يجب الانتهاء، والكف عن ذلك الفعل، ولذلك لما نُهي عن الخمر، مباشرةً الصحابة ألقوا الخمور التي لديهم.
الأمر الثالث: الفساد، كذلك يستفاد من النهي الفساد، ما معنى الفساد يا أحمد؟
{فساد الفعل}
ما معنى الفساد؟
ما أتيت بشيءٍ تقول: معنى الفساد الفساد.
{عدم ترتب ....}
عدم ترتب آثار الفعل الصحيح عليه، فإذا نهي عن عقد نكاحٍ، معناه أن ذلك العقد فاسدٌ لا تترتب عليه آثار العقد الصحيح، نهى عن نكاح الشغار، يعني نكاح البدل، زوجني أختك وأزوجك أختي، ما حكمه؟ لا يصح، فاسدٌ، ما معنى فساده وبطلانه، لا يثبت فيه مهرٌ، لا يثبت به نسبٌ، لا تجب به نفقةٌ، إلا غير ذلك من الأحكام ..، لا يجوز به وطءٌ، إلى غير ذلك من أحكام عقد النكاح الصحيح.
ما الدليل على أن النهي يفيد الفساد؟
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌ».
الأمر الأخير من مفاد النهي: أنه يفيد التكرار لجميع الأزمان، إذا نهي عن فعلٍ فيجب تركه في جميع الأزمان.
تقدم معنا أن النهي على أربعة أنواعٍ:
النهي عن ذات الفعل، فهذا يدل على فساده وبطلانه بالاتفاق، كقوله: لا تقربوا الزنا، فحينئذ لا تترتب عليه آثار العقد الصحيح بالإجماع.
النوع الثاني: ما نُهي عنه حال وجود وصفٍ فيه، مثال ذلك: نهى عن صوم يوم العيد، لم ينه عن الصوم مطلقًا فيكون من القسم الأول، وإنما نهى عن الفعل حال وجود وصفٍ، كونه في يوم العيد.
فالجمهور يقولون: هذا فاسدٌ وباطلٌ، بالتالي لا يمكن تصحيحه، وعند الحنفية يقولون: هذا فاسدٌ وليس بباطلٍ وبالتالي يمكن تصحيحه.
ومن ثم من نذر أن يصوم يوم العيد، قال الجمهور: هذا نذرٌ باطلٌ، ما ليه قيمةٌ، عند الحنفية يقولون: يمكن تصحيحه بأن يصوم يومًا آخر.
مثالٌ آخر: نهى عن نكاح الشغار، الجمهور يقولون: إن هذا نكاحٌ باطلٌ فاسدٌ لا يمكن تصحيحه، عند الحنفية يقولون: هذا فاسدٌ وبالتالي يمكن تصحيحه بتسمية المهر لكل واحدةٍ على حدةٍ، وبوجود الرضا بينهما.
النوع الثالث: إذا نهي عن الوصف، مجردًا عن أصل الفعل، مثال ذلك: أمر بالصلاة، ونهى في حديثٍ آخر عن لبس الحرير، فإذا صلى في ثوب حريرٍ، فهنا النهي عن الوصف وليس النهي عن الصلاة حال الاتصاف بوصف الحرير.
فالجمهور يقولون: هذا صحيحٌ مع الإثم، والحنابلة يقولون: هذا فاسدٌ غير مقبولٍ يجب قضاءه، وهذه يسمونها الصلاة في الدار المغصوبة.
النوع الرابع: إذا كان النهي عن فعلٍ أو وصفٍ خارج المنهي عنه، فحينئذٍ هذا لا يؤثر على صحة الفعل، مثال ذلك: في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تلقي الركبان، ونهى أن يبيع حاضر لبادٍ، لما نهى عن تلقي الركبان، هذا الوصف تلقي الركبان، أمرٌ خارج عن البيع، وليس صفةً للبيع، فبالتالي لا يؤدي إلى بطلان البيع، وإنما يؤدي إلى ثبوت الخيار فيه.
مثال آخر: نهى عن التناجش، والتناجش أن يزيد في السلعة من لا يريدها، هذا الزائد لم يشتر السلعة، اشتراها شخصٌ آخر، فالتناجش لا يؤدي إلى إبطال العقد، لأنه فعلٌ خارج، ومن ثم نقول بأنه لا يؤدي إلى بطلان العقد، وإنما يثبت به خيار الغبن.
وقد يكون النهي مرةً عائدًا إلى شرط العبادة فيكون من الصنف الثاني، وقد يكون عائدًا إلى أمرٍ خارج عن المعاملة أو العبادة، فلا يؤدي إلى بطلانها، مثال ذلك: من توضأ بمغصوبٍ، نقول: ما هو هذا المغصوب؟ هل الماء هو المغصوب أم الإناء؟ إن كان الماء هو المغصوب فيكون من القسم الثالث، وإن كان المغصوب الإناء فيكون من القسم الرابع، لأنه حال وضوئه لا يتوضأ بالماء المغصوب، وإنما هو استعمال المغصوب بأمرٍ خارجٍ عن الوضوء.
إذن الأصل في النواهي أن تدل على التحريم، إذا لم يوجد معها قرينةٌ، إذا وجد معها قرينةٌ فيحمل على ما دلت عليه القرينة.
مثال ذلك: نهى عن الشرب واقفًا، ثم شرب واقفًا، فقالت طائفةٌ بأن النهي يصرف هنا عن التحريم إلى الكراهة، لماذا؟ لوجود القرينة وهي فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد يكون هناك دليلٌ يدل على أن النهي ليس على التحريم، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «إني أحبك في الله، فلا تدعن دبر كل صلاةٍ أن تقول: اللهم أعني على شكرك وذكرك وحسن عبادتك»، لما ربطه بالمحبة دل هذا على أن النبي في قوله «لا تدعن» ليس لتحريمٍ، وإنما للإرشاد والترغيب في هذا الفعل.
من الأمور المتعلقة بهذا الأمر: أن الأوامر والنواهي والخطاب الشرعي يتعلق بالمكلفين، البهائم ليست مكلفةً، الصغار لا يدخلون معنا، ولا يتوجه لهم الخطاب بالأمر والنهي، إذن من هو الذي يخاطب بالأوامر والنواهي؟ المكلف، من هو المكلف؟ من وجد فيه ثلاث صفاتٍ: إنسانٌ بالغٌ عاقلٌ، مسلمٌ لا، حتى غير المسلم يتوجه له الخطاب، ولذلك يعاقب في الآخرة لكونه ترك الصلاة، قالوا: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾ [المدثر: 42- 45]، فدل هذا على أن الكافر يخاطب بأحكام الشريعة.
إذن من هو الذي يخاطب بأحكام الشريعة؟ المكلف، من هو المكلف؟ من وجدت فيه ثلاث صفاتٍ: إنسانٌ، بالغٌ، عاقلٌ، هؤلاء الذين يتوجه إليهم الإلزام، الخطاب بالوجوب وبالتحريم.
لكن من كان مميزًا غير بالغٍ فهذا يتوجه له الخطاب بالندب والكراهة، ولا يتوجه له الخطاب بالوجوب والتحريم.
جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثٍ: النائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يكبر أو حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل»، طيب لو قال قائلٌ: الصغير لو أتلف مالًا لغيره، ألا يجب ضمانه؟ نقول: نعم يجب الضمان، لكن هذا الخطاب، الخطاب الوضعي، الأحكام الوضعية، وجوب الضمان هنا خطابٌ وضعيٌّ، لكن من الذي يضمن؟ وليه، الخطاب للولي الذي هو عاقلٌ بالغٌ، فهو الذي يأخذ من مال الصبي ويسلمه لمن أُتلف ماله، أليس كذلك؟ فالخطاب يتوجه إليه، إذا لم يقم الولي بذلك، لا يتوجه الخطاب للصغير حال صغره، حتى يكبر ويبلغ، فإذا بلغ وسلم له ماله، وجب عليه ضمان ما أتلفه في صغره مما لم يقم الولي بضمانه.
ومثله أيضًا في الزكاة: توفي رجلٌ عنده ابنٌ صغيرٌ، هذا الابن الصغير، تجب الزكاة في هذا المال، لكن هذا الوجوب ليس على الصغير، وإنما الوجوب على وليه.
كذلك سؤال الأخ أحمد: الكافر يخاطب بالأوامر الشرعية، لكن لو أسلم في الدنيا فإنه لا يؤاخذ بما سلف، لقوله عزَّ وجلَّ: ﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال:38].
هناك أيضًا موانع تمنع من التكليف، منها مثلًا الجاهل، فالجاهل لا يكلف بما يجهله، ومثله أيضًا: من نسي شيئًا فإنه لا يخاطب بما نسيه، وهكذا من يُكره، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، الجهل هنا يراد به الجهل البسيط، الذي تقدم معنا، أو جهلٌ مركبٌ لكن لم يفرِّط الإنسان فيه، ولذلك من ترك واجبًا لا يعلمه فحينئذٍ لا يلزمه قضاؤه، ولعلنا إن شاء الله أن نتكلم عن موانع التكليف في لقائنا الآتي، أسأل الله جلَّ وعلَا أن يوفقكم لخيري الدنيا والآخرة، وأن يجعلكم من الهداة المهتدين، كما أسأله سبحانه لإخواننا المشاهدين أن يُوفقوا للفهم الصحيح، والعمل الصالح، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك