الدرس الحادي عشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

13444 12
الدرس الحادي عشر

الأصول من علم الأصول

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد..
فأرحب بكم في لقاءٍ جديدٍ من لقاءاتنا في دراسة كتاب الأصول من علم الأصول للعلامة الشيخ محمد بن عثيمين -غفر الله عزَّ وجلَّ له.
كنا تحدثنا في لقائنا السابق عن التعارض والترجيح، وذكرنا أنه لا يوجد تعارضٌ حقيقيٌّ بين الأدلة الشرعية، وإنما قد يوجد توهم وجود التعارض في ذهن المجتهد، وأن المجتهد عندما يعرض له مثل ذلك، فإنه يحاول أولًا أن يجمع بين الدليلين بحمل أحدهما على محلٍ والآخر على محلٍ آخر، أو بأن يجعل أحدهما مخصصًا للآخر، أو مقيدًا له، أو بتأويل أحد الدليلين، فإن لم يتمكن من الجمع بين الدليلين فإنه حينئذٍ ينتقل إلى معرفة التاريخ، فيجعل المتأخر ناسخًا للمتقدم، فإن لم يتمكن من معرفة التاريخ فإنه يرجح بينها فيعمل بالأقوى بحسب ما يراه.
هذا المعنى الذي ذكرته قبل أشار إليه الشيخ فقال: (أقسام التعارض أربعةٌ، الأول أن يكون بين دليلين عامين، وله أربع حالاتٍ:
الأول: أن يمكن الجمع بينهما بحيث يحمل كل منهما على حالٍ لا يناقض الآخر فيها فيجب الجمع.
مثال ذلك: قول الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]، أثبت له الهداية، وفي آيةٍ آخرى قال: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: 56]، فنفى الهداية)
، ماذا نفعل؟ نحاول أن نجمع بينهما.
قال: والجمع بينهما أن نقول: إن الآية الأولى يراد بها هداية الدلالة إلى الحق والإرشاد فالنبي صلى الله عليه وسلم يبلغ ويرشد الناس ويوضح لهم السبيل، وهذه ثابتةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم.
والآية الثانية ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ يراد بها هداية التوفيق، وهداية الإلهام، فهذه لله عزَّ وجلَّ لا يملكها أحدٌ سواه، لا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا غيره.
الثاني: فإن لم يمكن الجمع، فإننا نعمل بالمتأخر ونجعله ناسخًا للمتقدم متى علمنا التاريخ فيعمل بالمتأخر دون الأول.
مثال ذلك: قوله تعالى في الصيام: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 184]، ظاهر هذه الآية أنه يجوز للإنسان أن يصوم ويجوز له أن يفطر، وإذا صام فهو خيرٌ له، فيها تخييرٌ بين الإطعام والصيام مع ترجيح الصيام.
ثم في الآية التي بعدها: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر﴾ [البقرة: 185]، فهذه الآية تفيد وجوب الصيام عينًا، وأنه لا حق لأحد أن يكتفي بالإطعام، وتفيد تعيين الصيام أداءً في حق غير المريض والمسافر، ويجب على المريض والمسافر قضاءً في حقهما، وهذه ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ متأخرةٌ في النزول عن الآية الأولى، فتكون الثانية ناسخةً، كما يدل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع الثابت في الصحيحين.
ماذا في حديث سلمة: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184]، كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها، فدل هذا على أن المتأخر يعمل به ويترك المتقدم ويعتبر منسوخًا.
الثالث: فإن لم يعلم التاريخ عمل بالراجح إن كان هناك مرجحٌ.
ومثَّل لذلك: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: « من مس ذكره فليتوضأ »، وسئل عن الرجل يمس ذكره أعليه الوضوء؟ قال: «لا إنما هو بضعةٌ منك»، قال: فيرجح الأول؛ لأنه أحوط؛ ولأنه أكثر طرقًا، ومصححوه أكثر، ولأنه ناقلٌ عن الأصل، ففيه زيادة علمٍ.
الرابع: إذا لم يوجد مرجحٌ فحينئذٍ يجب أن نتوقف، قال المؤلف: ولا يوجد له مثالٌ صحيحٌ، يعني لا يوجد له مثالٌ عند جميع العلماء، وإنما قد يوجد في بعض الصور عند عالمٍ بعينه لا يتمكن من الترجيح فيتوقف.
حينئذٍ نعرف ما يتعلق بهذه المسائل، قال:
القسم الثاني: أن يكون التعارض بين خاصيْن، خاصٍّ وخاصٍّ، فهذا له أربع حـالاتٍ أيـضـــًا.
الحال الأول: أن يمكن الجمع بين الدليلين فحينئذٍ نجمع لأن إعمال الدليلين أولى من ترك أحدهما.
ومثَّل ذلك بحديث أن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- صلى صلاة الظهر يوم النحر بمكة، يوم النحر يوم عيد الأضحى ورد في الحديث أنه رمى وحلق وذبح ثم ذهب إلى مكة فطاف بالبيت، في حديث جابر قال: فصلى الظهر بمكة في يوم النحر، بينما ورد في حديث ابن عمر أن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- صلى صلاة الظهر بمنى يوم الأضحى
فحينئذٍ يمكن أن نجمع فنقول: صلاها بمكة، فلما جاء إلى أصحابه بمنى وجدهم لم يصلوا فصلى معهم مرةً ثانيةً، فأعاد صلاة الظهر، وبذلك نجمع بين هذين الحديثين، وإعمال الدليلين أولى من إطراح أحدهما.
الثاني: فإذا لم يمكن الجمع، فحينئذٍ، ننظر للتاريخ ونعمل بالمتأخر ونجعله ناسخًا والآخر منسوخًا.
ومثَّل لذلك: بما ورد في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ﴾ [الأحزاب: 50]، مع قوله في الآية الأخرى: ﴿لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُن﴾ [الأحزاب: 52]، فإن الآية الأخيرة نزلت متأخرةً فتكون ناسخةً للآية المتقدمة، لأننا لا نتمكن من الجمع.
وإذا لم نعرف التاريخ فإننا حينئذٍ نعمل بالراجح.
ننتقل للحالة الثالثة: وهي الترجيح بينهما والعمل بالراجح.
ومثَّل لها بمسألة عقد النكاح بالنسبة للمحرم، فقد ورد في حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوج ميمونة وهما محرمان، بينما ورد في حديث ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهما حلالان، فحينئذٍ نقول: حديث ميمونة أرجح من حديث ابن عباس، لماذا؟ لأن ميمونة صاحبة القصة، وهي أعرف بحالها، لم نتمكن من الجمع، ولم نتمكن من معرفة المتأخر، وهو في قضيةٍ واحدةٍ، وبالتالي لابد من الترجيح، ثم ورد في حديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلالٌ، قال أبو رافع: وكنت السفير بينهما.
ابن عباس في تلك السنة كان عمره اثني عشر سنة وأبو رافع السفير بينهما، فحينئذٍ أبو رافع أعرف من ابن عباس بهذه الواقعة، فيقدم ويرجح حديثه على حديث ابن عباس.
إذا لم نتمكن من الترجيح في هذه الحالة يجب أن نتوقف، وبالنسبة لعمل الإنسان فلا يفتي ولا يقضي، ولكن ينبغي إما أن يحتاط، وإما أن يعمل بقول غيره.
القسم الثالث: قال: أن يكون التعارض بين عامٍّ وخاصٍّ.
فحينئذٍ نعمل بالخاص في محل الخصوص، ونعمل بالعام فيما عدا ذلك، وَمَثَّل له بقول النبي صلى الله عليه وسلم: « فيما سقت السماء العشر »، ما من أدوات العموم، فتحمل على القليل والكثير، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ليس فيما دون خمسة أوسقٍ صدقةٌ »، فحينئذٍ قلنا ما كان أقل من خمسة أوسقٍ فإنه لا صدقة فيه.
ومثلُ ذلك في قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَ﴾ [المائدة: 38]، فهذا فيه إثبات الحد لكل سارقٍ، ثم في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا قطْعَ فيما دون ربع دينارٍ »، لا قطع إلا في ربع دينارٍ فصاعدًا، فهذا دل على أن إذا كان المسروق أقل من ربع دينارٍ فلا يثبت الحد، ومع عداه نعمل بالعام.
القسم الرابع: أن يكون التعارض بين نصين، قال: (أحدهما أعم من الآخر من وجهٍ وأخص من وجهٍ)، إذن هذا النوع الأخير بمثابة دائرتين متداخلتين، فحينئذٍ الحديث الأول فيه أشياء ينفرد بها، نعمل به، والحديث الثاني انفرد بأشياءٍ فنعمل به فيها، فيبقى بعد ذلك منطقة التعارض بينهما.
مثال ذلك: جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا صلاة بعد العصر »، ثم جاء في الحديث الآخر: « من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها »، في الصلاة المقضية.
فبالتالي نقول: هناك محلٌ انفرد به الحديث الأول وهو صلاة النافلة المطلقة بعد العصر، نقول: يعمل فيها بالحديث الأول، وهناك أشياء انفرد بها الحديث الثاني وهي: صلاة القضاء في غير هذا الوقت، فنقول؛ إنها تفعل.
يبقى عندنا منطقة التعارض بينهما صلاة القضاء بعد العصر، في هذا الموطن نحتاج إلى الترجيح بين الدليلين، أيهما أقوى، فنرجحه على الثاني.
حديث « لا صلاة بعد العصر » وردت له مخصصاتٌ كثيرةٌ، بينما حديث «من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها » لم ترد عليه مخصصاتٌ، فعمومه أقوى وبالتالي منطقة التعارض هذه نرجح فيها الحديث الثاني، فنقول بأنه بعد العصر تُقضى الصلاة الفائتة.
قال المؤلف: القسم الرابع: أن يكون التعارض بين نصين أحدهما أعم من الآخر من وجهٍ وأخص من وجهٍ فله ثلاث حالاتٍ:
الأول: أن يقوم دليلٌ على تخصيص عموم أحدهما بالآخر، فيخصص به، فتكون هذه منطقة التعارض ورد دليلٌ آخر يقوي أحد الدليلين فنعمل به، مثال ذلك: ﴿وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 4]، يشمل المتوفى عنها ويشمل المطلقة، أجلها ماذا؟
وضع الحمل، عندنا الدائرة الثانية: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْر﴾ [البقرة: 234]، فعندنا المتوفى عنها غير الحامل، تعتد أربعة أشهرٍ لا تعارض بينهما، وعندنا الحامل غير المتوفى عنها تعتد بوضع الحمل.
يبقى بينهما منطقة تعارضٍ وهي الحامل المتوفى عنها نعمل فيها بأي الدليلين؟
وجدنا دليلًا خارجيًّا رجح أحد الدليلين، وهو أن سُبيعة الأسلمية لما توفي زوجها ووضعت بعد وفاته بقليلٍ، أفتى النبي صلى الله عليه وسلم بأن عدتها قد انتهت، فرجح دليل ﴿وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ﴾.
مثاله: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْر﴾ [البقرة: 234]، وقوله: ﴿وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 4].
فالأولى: خاصةٌ في المتوفى عنها، أي: عامةٌ في الحامل وغيرها.
والثانية: خاصةٌ في الحامل، أي: عامةٌ في المتوفى عنها، وغيرها، لكن دل الدليل على تخصيص عموم الأولى بالثانية، وذلك أن سبيعة الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها بليالٍ فأذن لها النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أن تتزوج، وعلى هذا فتكون عدة الحامل إلى وضع الحمل سواءً كانت متوفى عنها أم غيرها.
الحالة الثانية: وإن لم يقم دليلٌ على تخصيص عموم أحدهما بالآخر؛ فحينئذٍ نعمل بالراجح. ننظر أقواهما.
من طرائق معرفة الأقوى، أيهم الذي لم يرد عليه مخصصاتٌ؟ مثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين»، مع قوله: «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس».
الأول: في تحية المسجد في جميع الأوقات أي: عامٌ في الوقت، والثاني: خاصٌ في الوقت عامٌ في الصلاة، فيشمل تحية المسجد وغيرها.
إذن عندنا مناطق اختص بها حديث من دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، وهي: صلاة تحية المسجد في غير أوقات النهي، وعندنا شيءٌ انفرد به الحديث الثاني: وهو صلاة التطوع في أوقات النهي، نعمل فيها بحديث: «لا صلاة بعد الصبح»، وعندنا منطقةٌ مشتركةٌ وهي تحية المسجد في أوقات النهي، فحينئذٍ نبحث عن مرجحٍ.
قال المؤلف: (الراجح تخصيص عموم الثاني بالأول، وبالتالي نقول: تجوز تحية المسجد في أوقات النهي)، لماذا رجحنا؟ قال: (وإنما رجحنا ذلك؛ لأن تخصيص عموم الثاني قد ثبت بغير تحية المسجد)؛ يعني: ورد له مخصصاتٌ أخرى، فصلاة الجنازة يجوز أن تفعل بعد الفجر، وإذا فاتت سنة الفجر، يجوز فعلها بعد صلاة الفجر، فدل هذا على ورود مخصصاتٍ كثيرةٍ للحديث الثاني: «لا صلاة بعد الصبح»، بخلاف حديث: «إذا دخل المسجد» فلم يرد له مخصصاتٌ كثيرةٌ.
الحالة الثالثة: إذا لم يقم دليلٌ على ترجيح أحد الدليلين، ولم نجد مرجحًا لتخصيص عموم أحدهما بالثاني، فبالتالي يجب العمل بكلٍّ منهما فيما لا يتعارضان فيه، أما صورة التعارض فإنه يجب التوقف فيها.
قال: (الحالة الثالثة: إذا ورد دليلان كلاهما عامٌّ من وجهٍ وخاصٌّ من وجهٍ، ويتنافيان في الحكم، فحينئذٍ ما دل عليه أحد الدليلين بالإثبات والدليل الآخر لا ينفيه فنعمل فيه بدليل الإثبات، وما دل عليه دليل النفي ولم يدخل في دليل الإثبات فنعمل فيه بدليل النفي).
الثالث: ما يتقاطع فيه الدليلان، فهذا من مواطن التعارض، إذا لم نتمكن من الترجيح فإننا نتوقف في هذه الجزئية، ونبحث عن دليلٍ مرجحٍ.
تكلمنا سابقًا أن التعارض بين النصوص ليس في نفس الأمر، ولكنه بحسب ذهن المجتهد.
قال المؤلف: (لا يمكن التعارض بين النصوص في نفس الأمر على وجهٍ لا يمكن فيه الجمع، ولا النسخ، ولا الترجيح؛ لأن النصوص لا تتناقض، والرسول صلى الله عليه وسلم قد بيّن وبلّغ، ولكن يقع ذلك بحسب نظر المجتهد لقصوره).
واضحٌ هذا، فيه إشكالٌ في مبحث التعارض والترجيح؟

ننتقل إلى مبحث آخر، وهو مبحث الترتيب بين الأدلة.
الترتيب بين الأدلة هذا مبحثٌ مهمٌ، يكفينا بإذن الله من الوقوع في الخطأ، بل في الضلال، حتى في مسائل العقائد، لما يأتي بعض الناس ولا ينتبه للترتيب بين الأدلة، ولا طرائق الجمع بينها يقع في زللٍ، وأكثر ما يقع فيه الزلل بين الناس بسبب عدم معرفة كيفية الجمع بين الأدلة عند التعارض، أو بين وضع تعارضٍ بين الأدلة بدون أن يكون هناك تعارضٌ حقيقيٌّ.
أو بعدم معرفة تراتيب الأدلة، يعني بعض الناس يأتيه الدليل العام فيجريه على عمومه ولا ينظر إلى مخصصه، ولا إلى مؤوله، وبالتالي قد تسفك دماءٌ، ينظرون إلى فاقتلوا، ولا ينظر إلى أن هذا له شروطٌ وله موانع وله أحكامٌ، وبالتالي يقع ضلالٌ كبيرٌ في هذا الباب.
استُحلت أموالٌ وأُخذت حقوقٌ، بل وُطئت فروج بالحرام بسبب عدم معرفة طرائق الجمع بين الأدلة، وعدم معرفة الترتيب بين هذه الأدلة، وهناك أضيعت حقوقٌ عامةٌ وحقوقٌ خاصةٌ بسبب ذلك.
إذا نظر المجتهد في مسألةٍ فإنه حينئذٍ يجب عليه أن ينظر في جميع أدلة المسألة، ينظر هل بينها تعارضٌ، هل فيه عامٌ وخاصٌ، ولا يقتصر في النظر في تلك المسألة على دليلٍ واحدٍ، ولذلك أوجبنا أن يكون النظر في المسائل لأهل الاجتهاد، عندما يأتي عاميٌّ ويناظر الأدلة، قد ينزل الأدلة في غير محالها، وقد لا ينتبه إلى ما يقابلها، ولذلك ترى الجماعات المتناحرة أو الجماعات الضالة في أبواب العقائد كلها إنما نشأت من أخذ دليلٍ، وإيقاعه في غير محله، أو عدم الالتفات إلى شروطه وضوابطه.
مثلًا: لما يأتينا واحدٌ وينظر إلى قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة: 43]، يقول أنا صليت، قلنا: لا، صلاتك هذه، قال: أنا امتثلت قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ قلنا: فيه دليلٌ معارضٌ له وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ »، وبالتالي لابد من النظر إلى جميع الأدلة في المسألة.
ولا يجوز للمجتهد أن يفتي حتى ينظر إلى جميع الأدلة، وإذا وُجد تعارضٌ فحينئذٍ لابد أن ينظر إلى أوجه الجمع بين هذه الأدلة على حسب الطرائق السابقة.
إذا اتفقت الأدلة السابقة على حكمٍ فحينئذٍ يحكم بهذا الحكم، أو وجد أحد هذه الأدلة ولا معارض له من الأدلة الأخرى فحينئذٍ يحكم بهذا الدليل، أما إذا تعارضت فيحاول أن يجمع، فإن لم يتمكن من الجمع، نظر إلى التاريخ، وعمل بالمتأخر وجعله ناسخًا، وإذا لم يتمكن من الجمع ولا من معرفة التاريخ، فإنه يلزمه أن يرجح بين الأدلة بحسب المرجحات.
وهناك أشياءٌ يرجح بها دليلٌ على آخر منها ما يكون بحسب المتن، مثلًا: النص يرجح على الظاهر، النص هو الذي لا يحتمل، بينما الظاهر الذي فيه احتمالٌ، الظاهر يرجح على المؤول، المنطوق وهو دلالة اللفظ في محل النطق يُرجَّح على ما دلالته بواسطة المفهوم، وهو الذي دلالته في خارج محل النطق.
هكذا الدليل المثبِت يقدم على الدليل النافي، مثلًا: جاءنا في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى في الكعبة، في الحديث الآخر: لم يصل في الكعبة، كَبَّرَ في نواحيها وخرج، فنقول: الدليل المثبت مُقدمٌ على الدليل النَّافي.
كذلك الدليل النَّاقل عن الأصل يُقَدَّم على الدليل المبقي على الأصل.
مثال ذلك: في الحديث: كشف عن فخذه، والحديث الثاني: قال « غط فخذك فإن الفخذ عورةٌ »، حديث: كشف عن فخذه، هذا موافقٌ للأصل، وهو الإباحة الأصلية، بينما « غط فخذك » هذا ناقلٌ، فحينئذٍ نرجح الناقل لأن ذاك يبدو أنه في أول الإسلام مثلًا، وهكذا قال: لأن مع الناقل زيادة علمٍ، كذلك العام المحفوظ، يعني الذي لم يرد عليه مخصصاتٌ، يقدم على العام الذي ورد عليه مخصصاتٌ، ومثلنا بحديث تحية المسجد، مع حديث النهي عن الصلاة.
كذلك ما كانت صفات القبول فيه أكثر، يقدم على ما دونه، مثل حديث رفع اليدين، رواه خمسة عشر صحابيًا، يقدم على حديث ابن مسعود، كذلك حديث صاحب القصة يقدم على غيره، مثل حديث زواجه بميمونة، هل هو حلالٌ، أو وهو محرمٌ، كذلك يقدم الإجماع القطعي، على الإجماع الظني، ويقدم القياس الجلي على القياس الخفي، ما هو القياس الجلي؟ المنصوص على علته، أو المجموع فيه بنفي الفارق. فهذه كلها تدل على هذا المعنى.
آتى بمثالٍ، جاء في الحديث، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، وجاءنا في قوله -جلَّ وعلَا: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُو﴾ [الأعراف: 204]، مع حديث: «وإذا قرأ فأنصتو»، فعندنا تعارضٌ بينهما، فنبحث عن مرجحٍ، وجدنا في الحديث الآخر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟»، قالوا: نعم، قال: «لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب»، فحينئذٍ نقول: أحاديث النهي في غير فاتحة الكتاب، وبالتالي إذا قرأ فأنصتوا هذا في غير فاتحة الكتاب.
من أمثلته مثلًا: في قوله -جلَّ وعلَا: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ [هود:107] قد يفهم يقول: خلودٌ مؤقتٌ، إلى انتهاء السماوات والأرض، لكن عندنا في الدليل الآخر ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدً﴾ [النساء: 57]، فمنطوق خالدين فيها أبدًا يقدم على مفهوم ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾، هذه أمورٌ من المرجحات التي يمكن أن يستدل فيها بتقديم دليلٍ على دليلٍ آخر.
مثلًا في قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابً﴾ [النبأ: 23]، مُددًا، قد يُفهم منه أنه بعد الأحقاب يخرجون من النار، بينما في الآيات الأخرى ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدً﴾، في أواخر سورة الجن، وفي أواخر سورة النساء، حينئذٍ نقول: يقدم المنطوق على المفهوم.
{في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: «إنك لست ممن يفعلون الخيلاء» في الإسبال، مع الأحاديث الأخرى، كيف نجمع بينها؟}.
عندنا في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما أسفل من الكعبين فهو في النار»، وعندنا في الحديث الآخر: «ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم»، وذكر منهم «من جر ثوبه خيلاء»، حينئذٍ مفهوم قوله: «ما أسفل من الكعبين فهو في النار»، مفهومه أنه يشمل من فعله خيلاء، ومن فعله لغير الخيلاء، الحديث الآخر قيده بحال الخيلاء. هل الحكم فيهما واحدٌ؟ هنا قال: «في النار»، وهنا قال: «لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم»، وبالتالي الحكم مختلفٌ، وبالتالي لا يوجد تعارضٌ.
حديث أبي بكر، قال فيه: إزاري ينفلت إلا أني أتعاهده، دل هذا على أنه لم يفعله تعمدًا، ومثله حديث: أقبل لصلاة الخسوف يجر إزاره، فحينئذٍ نقول: هذا لم يفعله تعمدًا، وبالتالي نقول: هذا خارج منطوق الدليلين، وبالتالي لم يتوارد الدليلان على محلٍ واحدٍ، حتى نقول بوجود التعارض بينهما.
﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ [البقرة: 240]، قال: إلى الحول، في الآية الثانية: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرً﴾ [البقرة: 234].
العلماء لهم منهجان: منهم من يقول: آية الأربعة أشهر متأخرةٌ، فتكون ناسخةً للآية الأخرى، المنهج الثاني يقول: ﴿وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾، فيقولون هذا المراد به في السكن، وأما الآية الأخرى: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرً﴾، هذا في العدة، في التربص، وعدم الزواج، وفي ترك الزينة، وأحكام الإحداد، فلم يرد الدليلان على محلٍ واحدٍ.

ننتقل إلى مبحثٍ جديدٍ، وهو مبحث المفتي والمستفتي.
الأصل في الإفتاء يراد به البيان والتوضيح، المراد هنا بيان الأحكام الشرعية، فالمفتي هو المخبر عن حكمٍ شرعيٍّ، هو يخبر عن حكم الله -عزَّ وجلَّ- في المسائل لكنه ليس على وجه الإلزام، القاضي هو الذي يلزم، وأما المستفتي فالمراد به من يسأل عن الحكم الشرعي، تلاحظون هنا أن المفتي لا يلزم أو الفتوى لا يلزم أن يكون هناك سؤالٌ سابقٌ، لكنها متعلقةٌ بعملٍ، بإظهار حكمٍ شرعيٍّ يتعلق بالعمل، الفتوى مبحثٌ مهمٌ، لأن أكثر الناس ليسوا مؤهلين لاستخراج الأحكام، ليسوا مجتهدين، فبالتالي يحتاجون إلى معرفة أحكام الاستفتاء، كيف يستفتون؟ ومن الذي يستفتون؟ ولذلك أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن غالب الضلال ناشئٌ من هذا الباب، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمٌ، اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علمٍ، فضلوا وأضلو»، وهذا يدلك على أهمية هذا الباب، ويدلك على هذا أن الوصول إلى رتبة الاجتهاد ليست في قدرة كل أحدٍ، الناس عقولهم متفاوتةٌ، وتفرغهم للعلم متفاوتٌ، والناس يحتاجون إلى أعمالٍ، وإلى أداء مهامٍ أخرى تحتاج إليها الأمة، بالتالي لابد من تفرغ طائفةٍ من أهل العلم للتعلم، حتى يصلوا إلى مرتبة الاجتهاد، فيكونون ممن يفتي الناس في هذا الباب، وبذلك تظهر أهمية هذا الباب.
إذا تقرر هذا، فإن من أهم ما في هذا الباب معرفة كل إنسانٍ قدر نفسه، وقدر غيره، بحيث يعرف، هل هو من أهل الاجتهاد، فيعمل بالأدلة، أو يجب عليه أن يسأل، وإذا وجب عليه أن يسأل، لابد أن يعرف من هو الذي يجوز له أن يسأله، ومن هو الذي لا يجوز له أن يسأله.
إذا تقرر هذا، فإن الفتوى لا يجوز أن يدخلها كل أحدٍ، بل من يدخل الفتوى، لابد له من شروطٍ معينةٍ، الدخول في الفتوى لمن ليس بأهل من الكبائر، ومن عظائم الذنوب، قد قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَيلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾ [طه: 61]، قال -جلَّ وعلَا: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبً﴾ [العنكبوت: 68]، ويقول: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ [النحل: 116].
هناك نصوصٌ كثيرةٌ متعددةٌ تدل على هذا الأمر ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولً﴾ [الإسراء: 36]، بالتالي يجب على الإنسان ألا يدخل باب الفتوى إلا إذا كان مؤهلًا لها.
ما هي شروط المفتي؟
قال المؤلف: (شروط الفتوى، هذه الشروط لابد أن توجد في من يريد الفتوى، إذا انتفى عنه أحدها، فلا يجوز له أن يفتي).
الشرط الأول من شروط المفتي: معرفة الحكم الشرعي في المسألة التي يراد الفتوى فيه، يقينًا أو ظنًا غالبًا، ما يأتي واحدٌ ويتكلم بناءً على رأيٍ مجردٍ، ما يتكلم إلا بناءً على دليلٍ، بحيث يعرف الحكم من الأدلة، أما الظنون، وما يستحسنه الإنسان بعقله، وما يرى أنه أحسن وأصلح، هذا كله لا يجوز بناء الأحكام عليه، لابد من كتابٍ، سنةٍ، إجماعٍ، قياسٍ من الأدلة الشرعية، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن أفتى بغير علمٍ: «قتلوه قتلهم الله» دعا عليهم أن يقتلهم الله «ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال».
الشرط الثاني من شروط المفتي: تصور المسألة التي سيجتهد فيها، إذا جاءنا معاملةٌ ماليةٌ جديدةٌ، وإذا جاءنا جهازٌ جديدٌ، لابد أن يتصور الإنسان، وأن يعرف حقيقته، تصورًا كاملًا ليعرف حكمه؛ لأن الأحكام الشرعية مبنيةٌ على أوصافٍ، هذه الأوصاف يأتي الفقيه ويتأكد، هل هذا الوصف موجودٌ، إذن عندنا مثلًا المعاملات، الأصل فيها الحل، إلا أن هناك قيودًا معينةً، مثل:
هل هو غررٌ؟
هل هو ربا؟
هل هو غشٌّ؟
هل قمارٌ؟
هل هو من بيع العينة؟
وبالتالي يمنع منه، فينظر إلى هذه الشروط، هل هو من بيع سلعةٍ من غير مالكها؟
هل عُدم الرضا أو وُجد؟ هل أجاز الشرع هذه العين المباعة؟ أجاز الانتفاع بها أو لم يُجز؟ وبالتالي يعرف الفقيه هذه الأحكام.
إذن لابد من وجود هذين الشرطين.
إذا قُدِّرَ أن المستفتي جاءني وسألني عن مسألةٍ، وكان بعض كلامه غير واضحٍ، مراتٍ يتكلم بالجوال، وكلام يكون متقطعًا، لابد أن أسأل، هذه الكلمة ماذا تريد بها؟ أعد سؤالك، حتى نعرف حقيقته، هذه اللفظة، هذا الجهاز، ما المراد به؟
بالتالي لابد أن نستفصله بهذه المسألة، إذا كان المسألة فيها تفصيلٌ، جزءٌ يجوز، وجزءٌ لا يجوز، لابد من ذكر التفصيل، حتى في نأتي في مسائل الفرائض مثلا، لابد أن نسأل نعرف عن مدى وجود الموانع التي تمنع، أسباب الحجب، الحجب أسباب الميراث، هل هي موجودةٌ أم لا؟ بحيث نتحقق من المسألة.
مثلًا جاءه سأئل، وقال: شخصٌ توفي عن أخٍ وعمٍّ. لابد أن يسأل أخ هذا ما معناه؟ هل هو أخ لأمٍ؟ فيكون له السدس، والعم الباقي، أو أخٌ شقيقٌ؟ وبالتالي يحوز جميع المال، والعم ليس له شيءٌ.
لما يأتي ويقول: توفي عن بنتٍ وأختٍ. يسأل هذه الأخت، هل هي أخت لأمٍ؟ وبالتالي ما ترث، أو أختٌ شقيقةٌ، وبالتالي لها الباقي، ويسأل هل هناك إخوةٌ؟ بحيث ترث هذه الأخت مع إخوتها أو لا، بحيث يتحقق المفتي من المسألة ويسأل عن بقية الورثة، هل هم موجودون، أو ليسوا بموجودين، لأن بعض مراتٍ المستفتي يسأل ويترك بعض الورثة يظن أنهم لا يرثون، وهم في الحقيقة يرثون، يترك مثلًا الجدة، يظنها لا ترث.
الشرط الثالث من شروط المفتي: أن يكون هادئ البال، بحيث ما يستعجل، ويتأمل سؤال المستفتي، مراتٍ العجلة تمنعه من تصور المسألة، تمنعه من معرفة العلة التي يبنى عليها الحكم، مراتٍ يكون منشغلًا، إما بكونه مثلًا في همٍّ، أو يريد قضاء حاجته، أو في مللٍ، فحينئذٍ يمتنع من الجواب، ولا يجوز للإنسان أن يفتي وهو بهذه الحالة، ولذلك هناك مصطلحٌ عند العلماء يسمونه التساهل في الفتوى، ما معنى التساهل في الفتوى؟ هو الجواب في المسألة قبل استكمال النظر فيها، هذا يقال له متساهلٌ، ما هو بالمتساهل الذي يفتي بالجواز، لا، إذا كان استكمل النظر وأفتى بالجواز بناءً على تأملٍ كاملٍ، هذا ليس متساهلًا، المتساهل في الفتوى هو الذي يجيب في المسألة قبل تمام النظر فيها، من عُرف بالتساهل في الفتوى، فهذا لا يجوز أن يُسأل، حتى ولو كان يفتي في كل مسألةٍ حرام، حرام، حرام، هذا يُقال له متساهلٌ في الفتوى، لماذا؟ لأنه أفتى قبل تمام النظر.
الشرطُ الرابع: وهو أن يكون المفتي من أهل الاجتهاد، أما من ليس من أهل الاجتهاد، فلا يجوز له أن يفتي.
متى يكون الإنسان من أهل الاجتهاد؟
إذا وجدت فيه أربعة أمورٍ:
الشرط الأول: معرفة الأدلة الشرعية، الذي لا يعرف الأدلة ليس من أهل الاجتهاد، كيف يجتهد فيه، وهو لا يعرف الأدلة؟ سواءً عرفها بحفظها، أو عرفها بكونها بين يديه يقرأها، بحيث يعرف مواطن الأدلة.
الشرط الثاني: أن يعرف مواطن الاتفاق والإجماع، ومواطن الخلاف، لأن الذي لا يفرق بين موطن الاتفاق والاختلاف، لا يجوز له الفتوى.
الشرط الثالث: أن يقدر على تطبيق قواعد الأصول على الأدلة التي أخذناها، يعرف العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمؤول، والمفسر، إذا لم يعرف تطبيق قواعد الاستنباط، فهذا لا يجوز له أن يفتي، وليس من مؤهلًا للفتوى.
الشرط الرابع: أن يعرف من لغة العرب ما يمكنه من فهم الأدلة، إذا كان لا يعرف لغة العرب، ما يجوز له أن يفتي، لابد أن يعرف من اللغة العربية ما يمكنه من فهم هذه الأدلة.
متى يجب على المفتي أن يفتي؟
إذا جاءك سائلٌ، هل كل سائلٍ يجب عليك أن تفتيه؟ أو بعض الناس يمكن أن ترده، تقول له: لن أجاوب سؤالك.
يقول: يشترط لوجوب الفتوى على المفتي شروطٌ، منها:
وقوع الحادثة المسئول عنها، لو سألني في مسألةٍ لا وقوع لها، فحينئذٍ لا يجب علي أن أجيب؛ لأن المسألة غير الواقعة ما فيه حاجةٌ للجواب عنها.
مثلًا لو سألكم واحدٌ عن أكل لحم البطريق، هو يعيش في هذه البلاد، ما تجد البطريق، ما لك علاقةٌ بهذه المسألة، وبالتالي لا يجب المفتي أن يجيب في هذه المسألة، الأسئلة الافتراضية لا يجب على المفتي أن يجيب، إن أجاب هذا شيءٌ، لكن نقول بحيث ما هي المسائل التي يحرم على المفتي أن يترك الجواب فيها؟
إذا كانت المسألة المسئول عنها غير واقعةٍ، فحينئذٍ يجوز له أن يرد المسألة، وكان السلف يردون هذا، ولا يرون الجواب إلا عن مسائل واقعةٍ.
المسألة الثانية: أن تكون المسألة مما يتعلق بعمل السائل.
{معرفة اللغة العربية لكي يكون المفتي من أهل الاجتهاد، الآن فيه توافر اللغات الإنجليزي أو الفرنسي، هذه الكتب العربية ترجمت إلى هذه اللغات، فإذا كان ملمًا بهذه اللغات، ولم يكن يعرف العربية، فما حكمه؟}.
من لا يعرف العربية، لن يتمكن من فهم الدليل، لما تأتيه آيةٌ قرآنيةٌ، هو لن يفهمها، هذا الفقيه، أو هذا الفروعي عرف الأحكام الفقهية من خلال كلام الفقهاء، لكن نحن الآن نريد أن نأتي بشخصٍ يعرف الأحكام الشرعية من خلال النظر في الأدلة، وهذا ليس مؤهلًا للنظر في الأدلة، وبالتالي لا حق له أن يكون من أهل الاجتهاد، هو سينقل، فرقٌ بين ناقل الحكم من الكتب، وبين مستخرج الحكم من الأدلة، الأدلة عربيةٌ، القرآن والسنة جاءا بلغة العرب، وبالتالي لن يكون مجتهدًا إلا إذا كان عارفًا باللغة العربية، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2]، قال: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ [الشعراء: 195]، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: 4]، هذه السنة عربيةٌ، فالقرآن عربيٌّ، فلا يمكن أن يكون مجتهدًا في القرآن وفي السنة إلا من كان عربيًا.
إذن هذا من شروط الاجتهاد، وهذا يدلنا على أهمية تعليم هذه اللغة، واحتياج الخلق إلى معرفة الحكم الشرعي بحسب لغة العرب.
إذن يشترط لوجوب الفتوى عددٌ من الشروط:
الشرط الأول: أن تكون المسألة واقعةً.
الشرط الثاني: أن تكون المسألة مما يتعلق بعمل السائل، إذا جاءنا مستفتٍ، وقال: هل يجب على فلانٍ أن يعمل العمل الفلاني؟ ماذا نقول له؟
اشتغل بعملك، واترك كل إنسانٍ وما يعمل، إذا جاءنا وقال: هل يجب على الوالي أن يفعل هذا الأمر؟ نقول له: هذا ليس من عملك، اسأل عن عملك أنت، ماذا أفعل في مثل هذه الواقعة؟ وأما ما ليس من عملك، فاتركه يسأل عنه صاحب ذلك العمل، ولا علاقة لك بهذه المسألة، مثل أن يسأل أفراد الناس عن القضاة، والواجب عليهم، فحينئذٍ نقول: هذا ليس من عملك.
الشرط الثالث: ألا يعلم من قصد السائل التعنت، أو أن يكون قصده قصدًا سيئًا، يأتي مثلًا يبحث عن الرخصة ليعمل بها، أو يريد أن يضرب أقوال العلماء بعضهم ببعضٍ، ويثبت للناس وجود اضطرابٍ واختلافٍ، فمثل هذا يُنهر، ولا يُمكَّن من تحقيق مقصوده السيئ، ولا يجب على المفتي أن يجيب في مثل هذه المسائل، ومن أمثلته بعض الإعلاميين من صحفيين، يأتي يسأل من أجل أن يضرب أقوال العلماء بعضهم ببعضٍ، أو من أجل أن يطعن في الشريعة من خلال تركيب بعض الكلام على بعضه، وبالتالي لا يلزم الفقيه أن يجيب عنهم، وإنما يجوز له ترك الجواب.
كذلك من الشروط: ألا يترتب على الفتوى مفسدةٌ أكبر، ولعلنا نترك الحديث في ذلك إلى يومٍ آخر، أسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يوفقنا وإياكم للخير، وأن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك