الدرس السادس

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

7892 11
الدرس السادس

مقاصد الشريعة

الحمد لله رَبِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعد.. فأرحب بكم في لقاءٍ جديدٍ من لقاءاتنا في مدارسة مقاصد الشريعة، حيث تتدارسنا عددًا من المقاصد الكلية، والمعاني العظيمة التي هدفت إليها هذه الشريعة المباركة.
وفي هذا اليوم -بإذن الله عزَّ وجلَّ- نتدارس موضوعًا جديدًا، ومقصدًا آخر من مقاصد الشريعة ألا وهو: اعتبار مقاصد المكلفين.
فالشريعة اعتبرت نيات النَّاس ومقاصدهم، ورتبت على ذلك الأحكام، وطَالبت النَّاس بتصحيح المقاصد، وجعل المقصد مقصدًا صحيحًا.
واضرب لذلك عددًا من الأمثلة في الآيات القرآنية، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة: 207].
الآية الأخرى في نفس السورة يقول عزَّ وجلَّ : ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ﴾ [البقرة: 265]، فقال: ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾.
في الآية الأخرى في الأولى ﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيم﴾ [النساء: 114].
والنصوص التي وردت في التأكيد على أمر مقاصد المكلفين متعددةٌ، منها على سبيل المثال: النصوص التي جاءت بترغيب العباد لتكون مقاصدهم أخرويةً، لا دنيويةً، كما في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى: 16، 17]، ﴿كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ﴾ [القيامة: 20، 21]، ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾ [البقرة: 86]، في الآية الأخرى يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُور﴾ [الإسراء: 18، 19].
في الآية الأخرى يقول رب العزة والجلال: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود: 15، 16].
وهناك نصوص كثيرة جاءت كلها في حَثِّ النَّاس على تصحيح معتقداتهم أو مراداتهم وأهدافهم ومقاصدهم، ولذلك مما جاءت به هذه الشريعة المباركة النظر فيما يتعلق بمقاصد المكلفين، وجعل هذه المقاصد سائرةً على المراد الشرعي، على مراد رب العزة والجلال.
وهذا يفسر لنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةٌ إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ» .
وكذلك يفسر لنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَتِهِ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
وهكذا في الحديث الآخر: «وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» .
ومِن هُنا يسعى الناس إلى تصحيح ما يتعلق بمعتقداتهم ونياتهم، بحيث تكون المقاصد أخرويةً، ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ [آل عمران: 152]، وبالتالي لابد من ملاحظة هذه المقاصد وتصحيحها، وجعلها متوافقةً مع المقاصد الشرعية التي جاءت في كتاب الله عزَّ وجلَّ وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
هناك عددٌ من التطبيقات الفقهية لهذا المقصد، بحيث يمكن أن نعرف منها أن الشارع قد اعتبر المقاصد، منها: مسائل النيات.
مسائل النية كثيرةٌ متعددةٌ، تتعلق باشتراط النية في العبادات مثلًا، فالنية مشترطةٌ في ما يُتقرب به لله سبحانه وتعالى، فالصلاة لابد فيها من نيةٍ، والصوم، والزكاة، والحج، والطواف، وجميع الأعمال الصالحة التي يؤديها الإنسان لابد أن ينوي بها التقرب لله عزَّ وجلَّ
ومن ثمَّ فالنية أمرٌ مشترطٌ، وقد يكون هناك تفاصيل محل اختلافٍ بين العلماء، مثلًا: في نية الصيام هل لابد أن تكون بليلٍ أو يجوز أن تكون بالنهار؟ هذا أمرٌ مكملٌ، لكن الجميع متفقون على أنه لابد من وجود نيةٍ في الصوم، وأنَّ الصوم لا ينعقد إلا بوجود النية.
وهكذا في بعض الفروع قد يقع فيها اختلافٌ، على سبيل المثال:
الوضوء هل يشترط له نيةٌ أو لا؟
والغسل كذلك، ماذا ينوي فيه؟ هل ينوي ارتفاع الحدث، أو ينوي استباحة الصلاة؟ أو نحو ذلك، فكل هذه أمورٌ مقصودةٌ ومرادةٌ في مباحث المقاصد والنيات.
كذلك من تطبيقات هذا المقصد الشرعي المتعلق باعتبار مقاصد المكلفين، ما يتعلق بأبواب حقيقة التعاملات، وهي ما يُعبر عنه بقاعدة: "العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني"، فإنَّ هذا تطبيقٌ على ما ذكرنا سابقًا أنَّ من مقاصد الشرع أن نعتبر مقاصد المكلفين ونياتهم.
ولذلك لو جاء لفظٌ على أنه أحد العقود ثم ورد دليلٌ على أنَّ المقصود به هو عقدٌ آخر أو أن المقصود به ألا يجرى عقدًا، فحينئذٍ نعتبر النية والمقصد ولا نلتفت إلى مسائل اللفظ الظاهر.
ولذلك –مثلًا- في العقود الصورية نلتفت إلى المعنى، ونقول: هذا العقد الصوري الذي أُجري لا اعتبار له، ولا يترتب عليه آثار العقود.
يأتي في بعض المحال يخشى الإنسان أن يؤخذ ماله لسببٍ من الأسباب فَيُجري عقدًا صوريًّا من أجل أن يحمي ماله، ففي هذه الحال نقول: إذا اتفق الطرفان على أنَّ هذا العقد كان صوريًا أو أقام أحدهما البينة على أنه عقد صوري، فنقول: إنَّ العبرة بالنية وما قصداه مِن هَذا العقد، وليست العبرة بلفظ هذا العقد، أو بما أجرياه.
ومن تطبيقات هذه القاعدة –أيضًا- ما يتعلق بمباحث الحيل الربوية، أو الحيل بشكلٍ عامٍ، فإنَّ هذه الحيل التي يُجريها بعض الناس من أجل التوصل بها إلى مقاصد يريدونها تُخالف مقصد الشارع بحيث يجرون تعاملًا ظاهره الصحة والجواز، ولكن في حقيقته ومؤداه هو عقدٌ ممنوعٌ منه ومخالفٌ للشرع.
مثال ذلك مثلًا: في مسائل بيع مُد عَجْوةٍ، وهو أن تبيع صاعيْن من البُر مقابل صاعٍ ودينارٍ، فهنا في يبدو في ظاهره أنه عقدٌ جائزٌ، فالمد مقابل المد، والمد الآخر مقابل الدينار، لكنَّ الشَّارع مَنَعَ مِن ذلك، وذلك لأنه لا يُتَصرف بمثل هذا التصرف إِلَّا مِن بَاب التحايل على الربا.
وكذلك في مسائل العينة، يُدخلون سلعةً لا يريدون حقيقة التعامل بها، يُدخل قلمًا بمائة ريال، ويبيعونه بعشرات الألوف من أجل أن يصبغوا صبغةً ظاهريةً لهذا العقد على أنه عقدٌ جائزٌ، وأنه من عقود البيع، وهو في حقيقته عقد ربا؛ لأنه يراد بيع مالٍ حاضرٍ قليلٍ مقابل مالٍ مؤجلٍ أكثر منه، وهذه السلعة التي أدخلت إنما هي من باب التحايل للوصول إلى النتيجة السابقة.
مثل ذلك مَا يُسَميه بعضهم بـ "بيوع الأمانة"، يقرضه مالًا على أن يسدده بعد مُدةٍ ويضعون سلعةً يستفيد منها المقرض، فيكون هذا من باب القرض الذي جَرَّ منفعةً للمقرِض، فيكون نوعًا من أنواع الربا.
فهذه صورٌ من صور حيل الربا التي تعتبر بمثابة التطبيق لهذه القاعدة التي بين أيدينا.
هكذا أيضًا في أبواب الأنكحة، هناك أنكحةٌ لا يُراد ظاهرها، وإنما يُؤتى بها على جهة التحايل، ومن أمثلة ذلك: "نكاح التحليل".
تكون هناك امرأةٌ قد طلقها زوجها الطلقات الثلاث بحيث لا يتمكن من إِرجاعها إِلَّا بعد أن تَنكِح زوجًا آخر، فيؤتى بتيسٍ مُستعارٍ فيُعقَد له على هذه المرأة ولا ينكحها نكاح رغبةٍ، وإنما ينكحها بمقصدٍ مخالفٍ لمقصد الشَّارع؛ لأنَّ قصد الشَّارع بعقد النكاح هو أن يكون بيت أُنسٍ، بيت سكنٍ، بيت أسرةٍ تربي تربيةً حسنةً، يكون فيها أولادٌ صالحون، هذا المعنى لا يوجد في نكاح التحليل. ولكنه تزوجها من أجل أن ترجع إلى زوجها الأول، ومن ثمَّ فإنَّ هذا النكاح هو صورةٌ من صور اعتبار الشارع للمقصد.
المقصد المكلف -في هذه الحال- مقصدٌ مخالفٌ للمقصد الشرعي، وبالتالي قلنا: إن هذا النكاح لا يصح، ولا يتحقق به ما أراده هذا المحلل.
كذلك أيضًا من تطبيقات هذه القاعدة في أبواب الجنايات، التفريق بين جنايات العَمْد وجنايات الخطأ، فالعَمْد هو أن يقصد الإنسان الجناية، (لا يُشترط أن يقصد القتل)، وإنما يكون قاصدًا للجناية، فينتج عنها موت إنسانٍ.
وهذا بخلاف الخطأ، فالخطأ لا يقصد فيه الجناية، وإنما تحدث الجنابة بدون قصدٍ لها، فينتج عنه موت إنسانٍ، أو بجملةٍ أخرى: أن يفعل الإنسان ما يجوز له فعله شرعًا فينتج عنه موت إنسانٍ.
فما الفارق بينه وبين الأول؟
الفرق هو في النية والمقصد.
النية والمقصد أمرٌ خفيٌّ، وليس من الأمور الظاهرة، ومن ثمَّ يمكن أن يميز هذا الأمر الخفي من طريقين:
الأول: تصريح صاحبه، كما لو كان هناك لفظٌ من ألفاظ كنايات الطلاق، فإننا حينئذٍ نرجع إلى المتلفظ به، ونقول: ما هي نيتك في هذا اللفظ؟ هل تريد الطلاق أو لا تريد الطلاق؟ فرجعنا في هذه الحال إلى النية.
الأمر الثاني: أن نرجع إلى القرائن المختلفة بتلك النية، فإنَّ النية أمرٌ خفيٌّ، فإذا كان هناك خفيَ لفظ كنايةٍ، وكان هناك سببٌ يدل على أنه يريد الطلاق حقيقةً، كما لو وقع لفظ كناية الطلاق بعد طلب الطلاق، ففي هذه الحال نقول: إنَّه وجد قرينةً تدل على أنَّه قصد الطلاق، وهو وجود هذا الطلب، فمن ثمَّ نقول هنا: المقصد معتبرٌ، ودليل المقصد ما اقترن به.
هكذا أيضًا لو كان هناك دلالةٌ تدل على أن المتكلم باللفظ لا يريد ظاهر اللفظ، سواءً كان في ألفاظ الطلاق أو في العقود، أوفي الوصايا، أو في الأوقاف، أو في غيرها من الألفاظ التي يتكلم بها الناس، فإننا نرجع فيها إلى القرائن التي تحتف بها، ونرجع فيها إلى تفسير صاحب اللفظ، ولذلك مثلًا لو أقر له وقال: له عليّ دنانير، أو أقر بأمرٍ مجهولٍ، فإننا نرجع إليه، ونقول له: فسّر لنا هذا اللفظ، الأصل أنه يُفسر بحسب مراده ونيته، لكن المراد والنية أمرٌ باطنٌ، فرجعنا حينئذٍ إلى تفسير صاحب النية، فطالبناه بأن يفسر لنا هذا اللفظ.
ومن ثمَّ نلحظ أننا نعرف هذا المقصد وهذه النية من خلال هذين الأمرين: تصريح صاحب النية، والقرائن.
هذا بالنسبة لنا يا أيها المكلفون الذين نريد أن نحكم على هذا المكلَّف، لكن بالنسبة لله عزَّ وجلَّ فهو مطلعٌ على ما في القلوب، كما قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ [البقرة: 235]، وكما قال عزَّ وجلَّ : ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]، وكما قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7]، سبحانه وتعالى.
من الأمور التي أيضًا تتعلق بملاحظة مقاصد المكلفين أنَّ العبد قد يقصد الغاية النهائية من التكاليف وهو إرضاء الله، وقد يقصد نتيجة ذلك وهو دخول جنته، وقد يقصد المقصد الشرعي من الفعل، مثلًا: يُبر والديه أو يسدد الديْن بنية سداد الديْن، فهنا الشارع قصد هذا المعنى، فإن كان هذا قصده وقد ربطه بالشرع، فحينئذٍ يكون مأجورًا مُثابًا، كما تقدم في بعض الدروس السابقة، وأظنه في الدرس الثاني، حينما تكلمنا عن مقصد تحقيق العبودية وقَسَّمنا المكلفين باعتبار هذا الفعل، وقسمنا الأفعال المتعلقة به.
من الأمور التي تتعلق بمقاصد المكلفين وجود اختلاف بين مقصد المكلف وبين مقصد الشارع، حيث إنَّ الناس في هذا الباب على أربعة أصنافٍ:
الأول: يوافق مقصده مقصد الشارع في الظاهر والباطن، فحينئذٍ يكون هذا محققًا للهدف الشرعي ويكون جاريًا على السنن الشرعية في هذا الباب.
الثاني: من يقصد مخالفة الشرع ويكون مخالفًا لمقصد الشرع، فهذا شخصٌ مخالفٌ عليه الوزر، ويعتبر مضادًّا في هذا الباب.
الثالث: من يوافق في الظاهر لكنه يخالف في الباطن.
الرابع: من يوافق في الباطن ولكنه يخالف في الظاهر.
وأضرب لكم أمثلةً في هذا الباب.
عندنا شخصٌ استخدم السواك، يتقرب بذلك لله عزَّ وجلَّ، ماذا نقول؟
نقول: وافق في الظاهر والباطن.
وهناك شخصٌ استخدم معصيةً، أي: فعل معصية كضرب غيره، هو يريد الضرب، فهذا خالف الشرع في مقصده ظاهرًا وباطنًا، فالشارع قصد عدم إيذاء الناس بعضهم لبعضٍ، وهذا المكلف قصد الإيذاء، وفعل الإيذاء، فبالتالي خالف الشرع في القصد والفعل.
وهناك مَن يُوافق في القصد لكنه يُخالف في الفعل، إمَّا لجهلٍ أو لنسيانٍ، وهناك من يعكس، وسآتي بمثالٍ أوضح مما ذكرت.
في باب البدع، هذا الشخص في مقصده ونيته موافقٌ للشرع، لكنه في فعله مخالفٌ، والمرائي في الفعل موافقٌ وفي القصد مخالفٌ.
هذه أربعة أقسامٍ، عندنا في الباب الوطء، وطئ زوجته يريد وطء الزوجة، وافق الشرع في الفعل والمقصد.
والثاني أكرمكم الله زنى، قاصدًا لذلك، فخالف الشرع في القصد والفعل.
والثالث وطئ أجنبيةً يظنها زوجته، فهذا وافق في القصد، لكنه خالف في الفعل، وبالتالي يكون معذورًا، إذا لم يكن منه تقصيرٌ.
والرابع عَكَسَ، ظنَّ أنها أجنبيةً فوطأها فبانت هي زوجته، ففي هذه الحال، نقول: هو في قصده مخالفٌ، ولكنه في الفعل موافقٌ، ماذا عليه؟
نقول عليه إثم النية والمقصد.
هل عليه إثم الفعل؟
الجمهور يقولون: نعم عليه إثم الفعل، فهو فعل فعلًا يعصي الله به بحسب نيته، فبالتالي عليه الإثم للنية وللفعل.
ما الفرق بينه وبين ذلك المخالف في الفعل والمقصد؟
نقول: في الفعل والمقصد، عليه أنواعٌ من أنواع الإثم: "في مقصده، وفي فعله، وفي آثاره" فهنا يَسلم من الآثام المتعلقة بالآثار، فإذن عرفنا في ما يتعلق بهذا الباب.
أيضًا مِن هذا الباب، أو من تصوراته، ما يتعلق بمسائل القضاء، فعندنا: "القاضي، والمحكوم له، والمحكوم عليه، والشهود".
كلهم يمكن ملاحظة اعتبار المقصد الشرعي في هذا الباب، ففي باب القضاء، نجد أنَّ القاضي قد يكون موافقًا في: "المقصد، والفعل"، فيكون مأجورًا مُثابًا له أجران، وقد يكون موافقًا في المقصد، لكنه مخالفٌ في الفعل، فيكون له أجرٌ واحدٌ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» .
وهناك مَن يوافق في الفعل ويخالف في القصد، يأتيك إنسانٌ غير مؤهلٍ للقضاء، فقضى قبل أن يجتهد، فهنا وافق الحق، وحكم بما هو موافقٌ للحق، وأوصل الحقوق لأصحابها، لكنه مخالفٌ في المقصد، فيكون آثمًا من هذا الوجه، لماذا؟
لأنه لم يقصد إيصال الحق؛ لأنه إمَّا غير مؤهلٍ، وإمَّا أنه مؤهلٌ، لكنه لم يجتهد، ولم ينظر في المسألة، أمَّا المخالف في المقصد وفي الفعل، فهذا بيِّنٌ حكمه.
عندك قاضٍ أخذ رشوةً، فحكم بخلاف الحق، ففي هذه الحال هو: آثمٌ، جان، ملعونٌ، بدلالة النصوص الواردة في هذا الباب.
وهكذا بالنسبة للمحكوم له، والمحكوم عليه، فإنَّه قد يكون موافقًا في القصد والفعل، وقد يكون مخالفًا في القصد والفعل، وهذان متضحٌ أمرهما.
لو جاءنا وادعى دعوةً، يظن من نفسه أنه صادقٌ، وهو محقٌّ حقيقة، هذا كان من القسم الأول.
والثاني يظن نفسه أنه مبطلٌ، ويريد أن يأكل أموال الآخرين بدعواه، فحينئذٍ هذا مخالفٌ للشرع في: قصده، وفعله، وطلبه.
وهناك من يظن أنه مصيبٌ، ولا يكون كذلك، فهذا يؤجر على قصده، لكنه يُعفى في ما يتعلق بمخالفته لظاهر الأمر.
وهناك من هو بالعكس، يظن أنه مبطلٌ، وهو في حقيقة الأمر محقٌّ، فيطالب بما يظن أنه ليس له، مع أنه له في الشرع، فنقول: يأثم باعتبار نيته؛ لأنه ينو المطالبة بما يظن أنه ليس له.
وهكذا في باب الشهود، ومثله في باب الوكلاء، أهل المحاماة، قد يأتي ويكون موافقًا للشرع في المقصد والفعل، يظن أن موكله مصيبٌ، فيتوكل عنه، ويكون كذلك، وقد يكون مخالفًا في المقصد والفعل، وقد يكون موافقًا في القصد، مخالفًا في الفعل، أو موافقًا في الفعل مخالفًا في المقصد على التقرير السابق.
من الأمور التي تعتبر بمثابة تطبيق في هذا الباب: مسائل الصيد، لو أرسلت كلبك المعلَّم ليصيد، فحينئذٍ يحل صيده، بعد استيفاء الشروط الأخرى.
أمَّا لو استرسل بنفسه، بدون أن ترسله، فلم يحل، أو أرسلته من أجل أن يشرب الماء، لا ليصيد فصاد، فحينئذٍ لا يحل صيده، اعتبارًا بالمقصد.
يأتينا أحدٌ ويقول: ما الفرق بين هذا وذاك؟ هذا صاده نفس الكلب، هذا الصيد الأول، وهذا الصيد الثاني، هذا صاده نفس الكلب، صيدان لنفس الكلب، فكيف تجيزون أحد الصيدين وتمنعون الآخر؟
نقول: هذا حكمٌ شرعيٌّ، الشارع اعتبر المقصد هنا مقصد صاحب الجارحة التي تصيد.
{ما يتعلق بالصيد، لو لم يرسله للصيد، إنما أرسله لشرب الماء أو لغرض آخر فصاد حيوانًا لم يمت، فأدرك أنه حيوانٌ يؤكل لحمه، وذبحه، لا يحل له؟}.
هناك باب الذكاة، وباب الصيد، نحن نتكلم عن باب الصيد، هل يحل الذبيحة أم لا؟
الذكاة فعلٌ آخر، لو جاء حيوانٌ من الحيوانات المفترسة، فعدى على صيدٍ، وجرحه، لكنه لم يمت، فأدركته، فذكيته، هذا لا يدخل معنا، هذا باب الذكاة، ولذلك لا نشترط في هذا الحيوان شروط حيوانات الصيد، أليس كذلك؟ وبالتالي تعرف أن المسألة هنا مغايرةٌ؛ لأن الكلام عن باب الصيد، جاء الشرع فيه باعتبار المقاصد.
من المسائل والتطبيقات في باب الشفعة، تجد أنَّ بعض الناس قد يتخذ إجراءاتٍ من أجل التحيل على منع الشفعة، مثال ذلك: يأتي هناك ملكٌ مشتركٌ بين اثنين، يريد أحدهما أن يبيع لشخصٍ آخر قريبٍ له، ولا يريد من شريكه أن يشفع، فيقوم بتصوير عقدٍ على أنه هبةٌ، الهبة ليس فيها شفعةٌ، فمثل هذا تحيلٌ لإسقاط الشفعة، ما حكمه؟
حرامٌ ولا يجوز؛ لأن باب التحيل كله منعتْ منه الشريعة، إلا في مسائل خاصةٍ، اعتبرها الشارع حالة كونها ذريعةً، إذن باب الحيل بابٌ ممنوعٌ منه في الشرع.
ما الدليل على أن باب الحيل ممنوعٌ منه في الشرع؟
نصوصٌ كثيرةٌ، منها قوله تعالى عن المنافقين على جهة الذم لهم: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: 142]، وهذه الحيل نوعٌ من أنواع الخديعة.
ويدل على ذلك مُنافاة باب الحيل للمقصود الشرعي، فإن مقصود الشارع أن يمتثل الناس أوامره، لا أن يخالفوها، ويرتكبوا ما أحل الله بأدنى الحيل، ولذلك قصَّ الله -عزَّ وجلَّ- علينا من قصص الأمم السابقة مَن كَان يتحيل ليصل إلى مقصودٍ مخالفٍ لمقصود الشارع، فأصحاب السبت -كما ذكرت- مُنِعُوا من صيد الأسماك يوم السبت، فكانوا يقومون بنصب الشباك فابتلاهم الله -عزَّ وجلَّ-، فأصبحت الأسماك لا تأتيهم إلا في يوم السبت، فقاموا بوضع الشباك في يوم الجمعة، ولا يأخذونها إلا في يوم الأحد، ويقولون: نحن لم نصطد.
هذه حيلةٌ، فجاءت العقوبة الإلهية بقوله: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ [الأعراف: 166]، فحولهم الله -عزَّ وجلَّ- بسبب هذا الذنب العظيم، وهو التحيل لإسقاط الحكم الشرعي.
من الأمور أيضًا التي تتعلق بهذا الجانب: ما يتعلق بكون بعض الناس يرتب عليه حكمٌ شرعيٌّ لتحقيق مقصدٍ معينٍ، ثم يقوم بقصد أمورٍ أخرى قد تكون مقصودةً في أبوابٍ أخرى، مثال ذلك: مثلًا في ولي اليتيم، أو في صاحب الولاية، أو في الأستاذ صاحب الولاية، أو ولي اليتيم، مطالبٌ منه مراعاة مصلحة من تحته، فإذا خالف هذا الباب، وأصبح يراعي مصلحة نفسه، ولم يراع مصلحة مَن تَحت يده ممن ولاه الله عليه، كاليتيم، ففي هذه الحال يكون قد عصا الله -عزَّ وجلَّ - ويكون ممن توعدهم الله بالعقوبات الشديدة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]، وبالتالي يجب عليه أن يكون قاصدًا للمقصد الشرعي.
ومن ذلك أن ينوي تحقيق المصلحة العامة في الولايات العامة، ولا ينوي مجرد المصلحة الخاصة، وهذا أمرٌ قلبيٌّ، ما يضطلع عليه إلا رب العزة والجلال، ومتى علم الله -عزَّ وجلَّ - صلاح القلوب، كان هذا من أسباب سعادة الدنيا والآخرة، ولذلك قال الله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ [النساء: 134].
وجاء في الحديث: «مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» .
ولذلك كان النظر في باب المقاصد، وجعل الناس يحققونه، ويسعون إلى أن تكون مقاصدهم متوافقةً مع المقصد الشرعي؛ يؤدي إلى ثمراتٍ عظيمةٍ في الدنيا وفي الآخرة، ومن ثم هناك توصيةٌ عظيمةٌ للعباد بأن يراعوا هذا الجانب، وأن يلاحظوا نياتهم من أجل تحقيق المقصد الشرعي، وأورد لذلك عددًا من الأمثلة فيما يتعلق بوظائف الناس، مثل:
ما ينبغي بك أيها الإنسان أن تنظر إلى المقصد الشخصي، بل انظر إلى المقصد الأعظم، من تحقيق أمر الله -عزَّ وجلَّ- في الوفاء بالعهد، وكون ما يدخل عليك من المال الحلال، لا من المال الحرام، وحينئذٍ تكون مأجورًا مُثابًا على كل لحظةٍ تمضيها في هذا العمل.
وهكذا إذا نويْت أن تقوم بالعقد الذي بينك وبينهم، وتفي به، أو نويت أن تتقرب لله -عزَّ وجلَّ- بهذه الخدمة التي ينتفع بها أهل الإسلام، سواءً كانت وظيفته في أي مجالٍ من المجالات.
وهكذا فيما يتعلق بالأستاذ الذي يدرِّس أبناءه، ينبغي به أن يكون مقصوده متوافقًا مع المقصد الشرعي، من تهذيب النفوس، ومن إكساب المعلومات الصحيحة، ومن جعل القلوب تتعبد لله -عزَّ وجلَّ، ونحو ذلك من المقاصد الشرعية، ولا يكن قصده وهمه مجرد أخذ ما رتب على هذا العمل من مكافأةٍ أو مالٍ، وإنما يقصد تلك المعاني، فيكون ما يأخذه من المال على جهة التبع، هو لن يمتنع منه، وسيأخذه، وسينتفع به، لكن إذا كانت نيته أداء العمل، تحقيقًا لمقصود الشارع، فحينئذٍ يُبارك له في ذلك المال، ويكون هذا من أسباب تحقيق رضا الرب -عزَّ وجلَّ.
أما إذا كانت المقاصد إنما هي مقاصد شخصيةٌ دنيويةٌ، ففي هذه الحال، يكون الإنسان ممن أراد الدنيا، ومن ثمَّ لا يُبارك له في ما لديه، ولهذا كان تصحيح هذه المقاصد، وجعلها على المقتضى الشرعي، يورث خيريْ الدنيا والآخرة، وبالتالي تصلح أحوال الناس، ولا يكون هناك مفارقةٌ بين ما في النيات، وما في المقصد الشرعي.
من المسائل التي تتعلق أيضًا بهذا: تأثير النيات في تغيير حقيقة الأعمال، فإن مَن فَعَلَ المُباح على جهة التقرب لله، ليكون وسيلةً لفعل طاعةٍ، حينئذٍ انقلب المباح في حقه من كونه مباحًا إلى كونه مُستحبًا مندوبًا.
وهكذا أيضًا في ما يتعلق بوسائل الواجبات، مَن فَعَلَها على أنها وسيلةٌ وطريقٌ للواجب، أُجر أجر الواجب في ذلك الفعل، بخلاف مَن فَعَلَها بغير نيةٍ ولا مقصدٍ، فإنَّه حينئذٍ لا يتحقق له الأجر المرتب على ذلك، وبالتالي تعرف أن الأعمال تتمايز فيما بينها، مرات يتمايز الناس في أجور ما يزاولونه من الأعمال بسبب تغير مقاصدهم ونياتهم، وقد يقف رجلان في صفٍّ واحدٍ، بينهما كما بين السماء والأرض فيما يتعلق بالأجر والثواب، لعل هذا الأمر واضحٌ وسهلٌ.
{فضيلة الشيخ، من باب الحيل، ذكرتم أن كلها ممنوعةٌ إلا في الحالات الخاصة، فمثال على الحالات الخاصة}.
الحالات الخاصة هي التي وَرَدَ الشَّارع بحكم لها حال كونها وسيلةً أو حيلةً، مثال ذلك:
وطءُ الأجنبية حرامٌ، يتحيل لذلك أو يتذرع له بالعقد، فهذا العقد -عقد النكاح- عقدٌ صحيحٌ وجائزٌ، وقد جاء الشارع بجعل هذا العقد وسيلةً موصلةً إلى ذلك الأمر، فحينئذٍ لا نقول هذه حيلةٌ ممنوعةٌ، أو وسيلةٌ ممنوعةٌ، أو ذريعةٌ تُسد، لماذا؟
لأنه قد جاء لها حكم في الشرع، حال كونها ذريعةً لهذا الفعل.
{في نفس الإجابة، الجارية المملوكة، أم أي جاريةٍ تعني؟ الجارية المملوكة ليس له حق أن يقربها من دون نكاح}.
ما فهمت سؤالك.
{ذكرتم أن الجارية يحتال بزواجه بالنكاح}.
المراد بالجارية المرأة، ليس المراد المملوكة.
{ذكرتم النية والقصد، هل هما مترادفان؟ أم هناك فرقٌ؟}.
القصد هو الأمر النهائي والغاية الكلية، ولكن النية تدخل المقاصد نيات ينويها الإنسان، إذن النية أمرٌ قلبيٌّ، والقصد والمقصد هذا أمرٌ خارجيٌّ، فالنية تتعلق بالمقصد، إذن النية ما ينعقد عليه القلب، والقلب ماذا ينعقد عليه؟
ينعقد على الأمر المقصود، الذي يسمى مقصدًا، فإذن عندنا نيةٌ، وعندنا أمرٌ مقصودٌ، يسمى المقصد، فالآن نية في القلب، والنية تسعى إلى تحصيل هذا المقصد.
{ذكرتم أقسام الناس في القصد، الذي قصده مخالفٌ للشرع، ووافق فعله للشرع، مثلًا ذكرتم مثالًا وطأ زوجته، يظنها أجنبيةً، لما فعل هذا العكس لهذا، ظن أنها أجنبيةً، ثم بانت أنها زوجته، فهل يثبت له النسب إذا وفق؟}.
نعم، يثبت له النسب؛ لأنها زوجته، والمرأة فراشٌ له، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» .
هناك نصوصٌ كثيرةٌ تؤكد على قضية المقاصد والنظر فيها، ويجدها الإنسان في النصوص التي فيها التعليق للحكم بالإرادة، مثل: "يريد، وأراد، ومن يريد"، ومراتٍ في: الابتغاء، مثل: "من يبتغي"، وبالتالي إذا لاحظنا هذين المصطلحين، تمكنا من استخراج عددٍ من النصوص في هذا الباب، وإن كان هناك أيضًا نصوصٌ أخرى، مثلًا: إذا نظرت في قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [آل عمران: 162]، ومثله في قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ﴾ [المائدة: 2]، هكذا في عددٍ من النصوص تؤكد على جانب ابتغاء رضوان الله -عزَّ وجلَّ .
ومن ثمَّ يحسن بنا الانتباه إلى مثل هذه الآيات عند قراءتنا لكتاب الله -عزَّ وجلَّ، وهكذا لما يماثلها من الأحاديث في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم.
ومما يحقق معنى موافقة مقصد الشارع: أن يكون الإنسان ممن نظر إلى الحكم الشرعي، قبل أن تُقدم على فعلٍ، انظر ما هو الحكم الشرعي في ذلك الفعل؛ لتكون حينئذٍ ممن وافق مقصدك مقصد الشارع، وهكذا أيضًا انظر إلى نتائج هذا الفعل، وما يوصل إليه، هذا الفعل وسيلةٌ إلى ماذا؟، لتتمكن حينئذٍ من أن تكون موافقًا للشارع في مقصده.
هذا الذي تناولناه في هذا اللقاء، هو متعلقٌ بمقصدٍ من مقاصد الشريعة، ألا وهو النظر في مقاصد المكلفين، واعتبار هذه المقاصد، وترتيب الأحكام عليها، وهذا من المقاصد المهمة، التي ينبغي بالناس أن يلتفتوا إليها، وأن يعتنوا بها؛ ليحصلوا بذلك على الأجور المضاعفة، وليكونوا ممن وافقت مقاصدهم مقاصد الشرع.
بارك الله فيكم، ووفقكم الله لخيري الدنيا والآخرة، وأنزل الله عليكم رحماته، وجعلكم ممن وافق مقصده مقصد الشارع، كما أسأل الله -عزَّ وجلَّ - أن يرد المسلمين إلى دينه ردًا حميدًا، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يؤلف ذات بينهم، وأسأله -عزَّ وجلَّ - أن يصلح ولاة أمورنا، وأن يوفقهم، وأن يبارك فيهم، وأن يجزيهم عنا خير الجزاء، اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين في كل مكانٍ، واجعلهم من أسباب الهدى والتقى، والصلاح، والسعادة دنيًا وآخرة، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك