الدرس الثامن

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

7908 11
الدرس الثامن

مقاصد الشريعة

الحمد لله رب العالمين، أحمده على نعمه، وأشكره على فضله، وأسأله المزيد من خيره وبره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين.
أما بعد: حديثنا في هذا اليوم بإذن الله -عزَّ وجلَّ- سيكون عن مقصدٍ آخرٍ من مقاصدِ الشَّريعةِ، حيث تكلمنا عن عددٍ من المقاصد فيما مضى، وكان منها مقصد تحقيق العبوديَّة لله -عزَّ وجلَّ- ومقصد جلب المصالح، ومقصد نُصرة الحقِّ.
وهناك عددٌ من المقاصد التي نتكلم عنها في أيامنا الآتية، وحديثنا في هذا اليوم عن مقصدٍ عظيمٍ من المقاصد الشَّرعيَّة، ألا وهو: مقصد التَّرابط الاجتماعي.
فقد جاءت الشَّريعة بالأمرِ بجعل النَّاس يترابطون ويتواصلون، ويكون بينهم تعارفٌ وتعاونٌ، كما قال -عزَّ وجلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، وكما قال -سبحانه وتعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُو﴾ [آل عمران: 103]. وكما جاء في عددٍ من النُّصوص التي تأمرُ باجتماع النَّاس وتآلفهم وترابطهم.
فالمقصودُ أنَّ التَّرابطَ الاجتماعي من الأمورِ المطلوبة التي جاءت بها شريعتنا المباركة.
وقد ورد في الأحاديث ما يُؤكِّد على هذا المعنى، منها قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» ، وكما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» .
والتَّرابط الاجتماعي له أوجهٌ متعددةٌ، سواءٌ كان منها ما يكون فيه تناولٌ للأمور الماليَّة، بحيث يتفقَّد النَّاس بعضهم بعضًا فيما يتعلَّق بأحوالهم الماليَّة، كأن يقوم الغني مع الفقير، كما في واجب الزَّكاة، فإن واجب الزَّكاة يحقق هذا المعنى، وإن كان في التَّحقيق معنًى اجتماعيًّا ومعنًى نفسيًّا، لكن الجانب المالي أظهر فيه، وقد جاءت النُّصوص بالتَّأكيد على هذا المظهر من مظاهر التَّرابط الاجتماعي، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاة وَآتُوا الزَّكاة﴾ [البقرة: 43]، وكما في قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [البقرة: 3].
وكما في النُّصوص التي وردت بالتَّحذير مِن الامتناع مِن دَفع الزَّكاة، كما في قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التوبة: 34، 35]. وهناك نصوصٌ كثيرةٌ كلها تدلُّ على هذا المعنى.
وهناك من أنواع التَّكافل الاجتماعي ما يتعلَّق بالأمور النَّفسيَّة، بحيث يلاحظ النَّاس بعضهم بعضًا في نفسيَّاتهم، كما في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: « لاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِث» ، لأنَّ ذلك ربَّما يُحزنه.
وهكذا من أنواع التَّكافل:التَّكافل الاجتماعي، بحيث يلاحظ النَّاس بعضهم بعضًا، فمثلًا في صلة الرَّحم، أو في برِّ الوالدين، أو التَّعامل مع الجيران، كل هذا فيه نواحٍ اجتماعيةٌ، تؤدِّي إلى التَّرابط الاجتماعي.
ووسائل التَّرابط الاجتماعي كثيرةٌ متعددةٌ، ولم يأتِ في الشَّرع تخصيصٌ لبعضها دون بعضٍ، بل فَتحت الباب في ذلك، فكل وسيلةٍ تُحقق هذا المعنى فإنَّها تدخل في النُّصوص الشَّرعيَّة الواردة في هذا الباب.
مثلًا في زمننا الحاضر وُجدتْ وسائل جديدةٌ للتَّواصل، سواءً كان بالهاتف، أو كان بوسائل التَّواصل الاجتماعي، أو بغيرها من أنواع التَّواصل الجديدة الحديثة، فمثل هذه تدخل في النُّصوص الواردة في تحقيق هذا المقصد العظيم من مقاصد الشَّريعة.
وقد جاءت الشَّريعة بوسائل كثيرةٍ تؤدِّي إلى هذا المقصد، وتجعل النَّاس يترابطون، ويتعاونون، ويكونون يدًا واحدةً.
ولعلي إن شاء الله في لقائنا هذا اليوم أذكر نماذجًا ممَّا جاءت الشَّريعة بالأمر به ليؤدِّي إلى تحقيق هذا المقصد العظيم.
ذكرت قبل قليلٍ: الزَّكاة، ولا شك أنَّها تؤدِّي إلى التَّكافلِ الاجتماعيِّ، والتَّرابطِ المجتمعيِّ، وهكذا صدقة التَّطوعٍ جاءت النُّصوص بالتَّرغيب فيها والحثِّ عليها، وبيانِ أنَّ العبد يؤجر الأجر العظيم في هذه الصِّدقات، قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ﴾ [البقرة: 261]، فهذا فيه حثٌّ على صدقاتِ التَّطوعِ.
هكذا في نفقات الأقارب التي جاءت الشَّريعةُ بالأمر بها، تجعل النَّاس يترابطون، ويلتفتون، ويتعاونون، كما في قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نُفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ [البقرة: 233]، فهذه الآية وردت في نفقات الأقارب.
ومثله ما ورد في حديث هندٍ لما سألت النَّبي صلى الله عليه وسلم عن زوجها الذي لا يعطيها النَّفقة، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» .
ومن الأمور التي جاءت بها الشَّريعة أيضًا: إغاثة الملهوف، فإذا كان هناك ملهوفٌ يحتاج إلى مَن يعينه ويساعده ويقوم معه، خصوصًا من وُجد عليهم ديونٌ عسيرةٌ، أو مَن وُجد عليهم ظروفٌ متراكمةٌ، فمثل هذا جاءت الشَّريعة بالوقوف معه، والحثِّ على أن نكون يدًا واحدةً في جعله يتغلَّبُ على ما يمرُّ به.
وأولى النَّاس بهذا قرابة الإنسان، ولهذا ورد في النُّصوص الترغيب في صلة الرحم، وترتيب الأجور العظيمة عليها كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ» ، تحذيرًا من قطيعة الرَّحم،وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأُ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» .
ومن الوسائل التي جاءت بها شريعتنا في هذا الباب: ما أمرت به من إكرام الضَّيف، فإنَّ إكرام الضَّيف سبيلٌ لجعل النَّاس يترابطون ويتواصلون، ولذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» .
هكذا أيضًا حفظ اللسان من أن يتكلم في معايب الآخرين، وأن يذكر ما لديهم من النَّواقص، هذا أيضًا من أنواع ما جاءت به الشَّريعة ممَّا يؤدِّي إلى التَّرابط الاجتماعي.
وكذلك من الوسائل التي جاءت بها الشَّريعة: كفالة اليتيم، فإنَّ اليتيم يحتاج إلى مَن يكفله، فإذا وُجد في المجتمع مَن يكفل هؤلاء الأيتام، فكل واحدٍ من أفراد المجتمع يكفل يتيمًا، حينئذٍ يتحقَّق التَّرابط الاجتماعيّ في المجتمع المسلم، ولذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: « أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا، وقالَ بِإِصْبِعَيهِ صلى الله عليه وسلم» .
وكذلك من الوسائل التي تُحقِّق التَّرابط الاجتماعي: ما جاءت به الشَّريعة من مشروعيَّة الاجتماع على فعل الطَّاعات، فهذه صلاة الجماعة يُشرع الاجتماع لها، وصلاة الجماعة فيها أجرٌ عظيمٌ، وقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «صلاةُ الرَّجلِ في جماعةٍ تفضلُ علَى صلاةِ الرَّجلِ وحدَهُ بسبعٍ وعشرينَ درجةً» .
عندما يدخل النَّاس في المسجد ويدخل أهل الحي الواحد في المسجد ويشاهد بعضهم بعضًا، يكون هذا من أسباب تفقُّد بعضهم لأحوال بعضهم الآخر، كسلام بعضهم على بعض، فيكون هذا رافعًا لمعنويَّات المصلِّين الذين يجتمعون لأداء هذه الفريضة من فرائض الإسلام، فيكون فيها معانٍ عظيمةٌ تُحقِّق ما ذكرته قبل قليلٍ من مقصد التَّرابطِ الاجتماعيِّ.
وممَّا جاءت به الشَّريعة: إجابة دعوات مَن يدعو إلى وليمةٍ أو حفلٍ أو نحوه، وقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» .
ولما ذكر النَّبي صلى الله عليه وسلم حقوق المسلم على المسلم، قال فيها: «وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ» .
ومثل هذا أيضًا ما ورد من مشروعيَّة السَّلام، فإنَّ تسليم النَّاس بعضهم على بعضٍ يؤدِّي إلى ترابطهم وتلاحمهم واجتماعهم وتآلف بعضهم مع بعضهم الآخر.
وهكذا أيضًا فيما يتعلَّق بردِّ السَّلام، فإنَّه يحقق هذا المعنى، ولذا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَ﴾ [النساء: 86]، ممَّا يدلُّك على أنَّ هذا مقصدٌ من مقاصد الشَّريعة.
وهكذا في الابتداء بالسَّلام، فلا شك أنَّ الابتداء بالسَّلام يحقق ترابط النَّاس واجتماعهم وتآلفهم، فيحقق هذا المقصد الشَّرعي.
كذلك ممَّا يحقق التَّرابط الاجتماعي: السَّمع والطَّاعة لأصحاب الولاية، فإنَّ النَّاس متى سمعوا لهم صلُحت أحوالهم وترابطوا، أما إذا وُجد مَن يناكف الولاة ويعصيهم، ويؤلِّب الخلقَ عليهم، فإنَّ هذا يؤدِّي إلى تنافرِ النَّاس وعدم اجتماع كلمتهم، وبالتَّالي يؤدِّي إلى تسلُّط الأعداء على الأمَّة.
ومِن الوسائل الشَّرعيَّة التي تحقق معنى التَّرابط الاجتماعي: معالجة المشكلات التي تحصل بين أفراد المجتمع، سواءً كانت على مستوى القرابة، أو كانت على مستوى الزَّوجين، أو كانت على مستوى الجيران، أو الزملاء أو غير ذلك.
ومنها: إصلاحُ ذاتِ البينِ، وقد قال الله تعالى: ﴿وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال: 1]، وقال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء: 128]، وقال -عزَّ وجلَّ: ﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاس وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيم﴾ [النساء: 114].
ومما جاءت به الشَّريعة لتحقيق التَّرابط الاجتماعي: أنَّها أمرت المؤمنين بالرِّفق في التَّعامل، كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ» .
ومما جاءت به الشَّريعة لتحقيق هذا المعنى: سماحة النَّاس فيما بينهم، فإنَّ هذا يؤدِّي إلى ترابطهم، وهكذا أيضًا في العفوِ عن خطأ المخطئ والتَّجاوز عنه، فإذا عفوتَ عن خطأ المخطئ كان هذا من أسباب تآلف القلوب، وبالتَّالي يؤدِّي إلى ترابطِ أفراد المجتمع.
ولذا أمرتْ النُّصوص بالعفو والتَّجاوز كما قال تعالى في ذكر الجنة: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 133، 134].
فهذه المعاني كلُّها تُحقِّق هذا المقصود، فالإنفاق بالليل والنَّهار هذا يُحقق التَّرابط الاجتماعي، والعفو عن النَّاس، وكظم الغيط أيضًا مِن أسباب اجتماع النَّاس وترابطهم، وهكذا الإحسان إلى الآخرين.
ومن الأمور التي تؤدِّي إلى تحقيق هذا المقصد: ما جعلته الشَّريعة مِن الترغيب في وجود قضاءٍ عادلٍ في الأمَّة الإسلاميَّة، فإنَّ القضاء يَفصل بين المتخاصمين، ويُزيل ما بينهم مِن نِزاعٍ متى كانوا يسعون في تحقيق حقٍّ، وفي تحكيم كتاب الله -عزَّ وجلَّ- وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
بل أحيانًا بعض العقوبات شُرعت من أجل التَّرابط الاجتماعي، مثلًا عقوبة القصاص، فإذا لم يُقتل القاتل فستحدث عداواتٌ، وتحدث أمورٌ كبيرةٌ بين القبيلتين أو الأسرتين، فلهذا شُرع القصاص، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 179].
وهكذا أيضًا في ما يتعلَّق بمشروعيَّة الحبِّ في الله -عزَّ وجلَّ- فإن النَّاس متى تحابُّوا لله وفي الله، فحينئذٍ يترابطون ويجتمعون، ولذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ»، وذكر منهم: «رَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ» .
وهكذا أيضًا فيما يتعلَّق بمشروعيَّة الاجتماع على الخير، ومن ذلك مثلًا الاجتماع في طلب العلم، فإن هذا يؤدِّي إلى تلاحم النَّاس وترابطهم، وهكذا أيضًا في الزِّيارات الإيمانيَّة الأخويَّة التي تكون بين المسلمين، فإنَّ هذا يُؤدِّي إلى ترابطهم واجتماع كلمتهم.
ولذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله -عزَّ وجلَّ: وجَبَتْ مَحَبَّتِي للمُتَحابِّينَ فِيَّ، ووجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرَيْنِ فيَّ» .
وقد أخبر النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّ مَن زار أخًا له في الله أعدَّ له في مدرجته ملكًا يسأله لِمَ زرته؟ فإذا قال زرته لله، قال: «أنا رسولٌ من عند الله يخبرك بأنَّه يحبك» ، كما ورد في الخبر.
وكذلك هناك نصوصٌ كثيرةٌ تدلُّ على بعضِ الأخلاقِ الفاضلة التي مَتى وُجدت في النَّاس ترابطوا واجتمعوا وتآلفوا، فإذا وُجد الخُلق الفاضل فيما بين النَّاس حينئذٍ يُحب النَّاس بعضهم بعضا ويتآلفون، مثلًا في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ» ، هذا التَّبسم يؤدِّي إلى الاجتماع ويؤدِّي إلى محبة النَّاس بعضهم إلى بعضٍ، ويؤدِّي إلى التَّرابط الاجتماعي الذي هو مقصدٌ مِن مقاصدِ الشَّريعة.
هكذا في حُسن التَّعامل، وفي كيفيَّة اختيار الألفاظ المناسبة التي تتناسب مع مَن يُتكلم معه، وتتناسب مع مقامه، فإنَّ هذا يؤدِّي إلى ترابط النَّاس؛ فإذا وُجدت كلماتٍ سيئةً فإنَّ الشيطان يوغر الصدور بسببها، كما قال تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُواًّ مُّبيِن﴾ [الإسراء: 53].
ومن الأمور التي أمر بها الشَّرعُ: الإحسان إلى الجميع، حتى الإحسان إلى الخادم، الذي يكون عند الإنسان، كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» .
هكذا من المعاني العظيمة التي تؤدِّي إلى التَّرابط: احترام العَلاقات الأسريَّة، مثلًا: برُّ الوالدين؛ فهذا يؤدِّي إلى تلاحم النَّاس واجتماعهم، وقد جاءت النُّصوص بالأمر بالإحسان إلى الوالدين، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِير﴾ [الإسراء: 23، 24].
وهكذا أيضًا في صلة الرحم فإنَّها تؤدِّي إلى ترابط النَّاس، خصوصًا القرابة، ومن ذلك تعلم الأنساب، وتعلم أوجه القرابة.
كذلك ممَّا جاءت به الشَّريعة لتحصيل مقصد التَّرابط الاجتماعي: ما أمرت به الشَّريعة من إكرام الجار والقيام معه، والتَّقرب لله -عزَّ وجلَّ- بالإحسان إليه، كما في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» .
هكذا زملاؤك في العمل لهم حقٌّ عليك، وبالتَّالي جاءت الشَّريعة بالأمر بإحسان التَّعامل معهم من أجل تحقيق مقصد التَّرابط الاجتماعي، ولذلك قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ» .
وأيضًا ما ورد في النُّصوص مِن مشروعيَّة التَّعاون على البرِّ والتَّقوى، فإنَّه يؤدِّي إلى التَّرابط الاجتماعي.
أضرب أيضًا أمثلةً أخرى: مثلًا في المناسبات الاجتماعية سواءً في حضور حفل زواجٍ إذا لم يكن فيها منكرٌ، أو في تشييع الجنازة، أو في تعزية المُصابِ بما يُصابُ به، فإنَّ حضور النَّاس في مثل هذه المناسبات يؤدِّي إلى ترابطهم واجتماعهم وعدم تفكُّكهم.
وقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «من تبع جنازةً حتى يُصلى عليها فله قيراطٌ، ومن تبعها حتى تُدفن فله قيراطان»، قال: «وكل قيراطٍ كالجبل العظيم» .
فهذا يدلُّك على أنَّ الشَّريعة راعت هذا المعنى من أجل أنَّ قرابة الميت يأنسون بمَن يُشاركهم في هذه الأمور، وبالتَّالي يكون مِن أسباب تَرابط النَّاس بعضهم مع بعضهم الآخر.
وهكذا فيما يتعلَّق بالتَّعاون -أيًّا كان هذا التعاون- متى كان مثمرًا نافعًا، فإنَّه يؤدِّي إلى تحقيق مقصد الشَّريعة من وجود التَّرابط الاجتماعي.
هكذا أيضًا في حسن العشرة بين الزَّوجين، تقوم الزوجة بحقوق الزَّوج ولا تكتفي بذلك حتى تُحسن في التَّعامل معه، وهكذا بالنِّسبة للزَّوج، وقد قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 228]، وقال: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِير﴾ [النساء: 19].
أيضًا من الأسباب المؤدِّية إلى تحقيق هذا المقصد الشَّرعي من التَّرابط الاجتماعي: ما جاءت به الشَّريعة من مشروعيَّة الهدايا، والتَّرغيب في قَبول الهديَّة، وقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «تَهَادَوْا تَحَابُّو» .
ومما جاءت به الشَّريعة أيضًا: الحرص على ألا يكون الإنسان وحده، سواءً كان في سفرٍ، أو في جلوسٍ، فإنَّ الوحدة تجعل الإنسان ينعزل عن مجتمعه، وبالتَّالي لا يتمكن من تحقيق مقصد الشَّريعة في التَّرابط الاجتماعي.
ولذلك قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ» ، وما ذاك إلا للتَّرغيب في جعل النَّاس يجتمعون ويكونون عند قيامهم بأي عملٍ جماعةً يتفقَّد بعضُهم بعضًا.
وهكذا ممَّا يؤدِّي إلى تحقيق هذا المقصد الشَّرعي –مقصد التَّرابط الاجتماعي: ما جاءت به الشَّريعة من الصِّدق في التَّعامل في المقال وفي الفِعال، فإنَّك إذا وجدتَ رجلًا صادقَ القولِ والفعلِ؛ فحينئذٍ ترتاحُ معه، وتحرصُ على التَّرابط معه، بخلاف ما إذا وجدت مَن يُقابله.
وهكذا ممَّا جاءت به الشَّريعة: أن رغَّبت في حُسنِ الهِندامِ، وفي جمال بدنِ الإنسان، وفي طهارتِه، فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لما حذَّر مِن الكبرِ، وقال: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»، قالوا: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا، فقال النَّبي -صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ جميلٌ يُحبُّ الجمالَ، الكِبرُ بطَرُ الحقِّ، و غمْطُ الناسِ» ، ما معنى «بطَرُ الحقِّ»؟ أي جحده وعدم الاعتراف به، «وغمط النَّاس» أي استنقاص مكانتهم، وعدم تنزيلهم المكانة اللائقة بهم.
وحينئذٍ هذا الحُسْن الذي يكون عند الإنسان هو أمرٌ مطلوبٌ شرعًا؛ لأنَّ الله جميلٌ يحب الجمال.
كذلك في النَّهي عن الممارسات المحرَّمة التي جاءت الشَّريعة بالنَّهي عنها ما يؤدِّي إلى تحقيق المقصد الشَّرعي من وجود التَّرابط الاجتماعي، فمثلًا: منعُ الشَّريعة الرِّشوة يؤدِّي إلى وجود قضاءٍ عادلٍ، وبالتَّالي يأمَن النَّاس ويستقرِّون، ويكون هذا من أسباب عدم حمل بعض أفراد المجتمع على بعضهم الآخر.
وهكذا ممَّا جاءت به الشَّريعة: أن يحرص الإنسان على شكر المحسن، فمَن أحسن إليك فاشكره مهما بلغ، فمتى وُجد شكرٌ للمحسن فإنَّه سيواصل في إحسانه، وسيتفقَّد النَّاس بعضهم بعضًا، وسيترابطون فيما بينهم، ولذلك فلابدَّ مِن ملاحظة هذا الأمر، فمَن أحسن إلى غيره فإنَّه يُشكر ويُثنى عليه، ولذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَن لَمْ يشكُرِ النَّاسَ لَمْ يشكُرِ اللهَ» ، كما رواه أبو داود في سننه.
من الأمور التي تؤدِّي إلى التَّرابط الاجتماعي، أن يكون هناك صبرٌ يَتخلَّق به كلُّ واحدٍ من النَّاس، لا يوجد أحدٌ من الخلق كاملٌ ومعصومٌ من الخطأ إلا مَن عَصمهُ الله -عزَّ وجلَّ- وبالتَّالي إذا قدَّرتَ هذا الأمر وعلمتَ أنَّ مَن يقابلك لابد أن يخطئ؛ فحينئذٍ تتجاوز عن خطئه، بل قد يؤدِّي ذلك بك إلى الإحسان إليه؛ لأنَّك صبرتَ على ما كان منه، والصَّبر سلاحٌ عظيمٌ، وثوابٌ جزيلٌ.
هكذا من أسباب التَّرابط الاجتماعي: أن يكون هناك إحسانٌ للظَّن، فلا تسيء الظَّن بي، ولا أسيء الظَّن بك إلا بسببٍ، بعض النَّاس بمجرد أن يعرف غيره، يغلب جانب سوء الظَّن، وهذا مخالفٌ لما ورد في النُّصوص، قال الله --عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّن إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12]، ونهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن اتِّباع الظَّن في مواطن، وبالتَّالي قال: «إيَّاكم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكذَبُ الحَديثِ» ، بالتَّالي على الإنسان أن يُحسن ظنه بإخوانه.
وأذكر في هذا قصة صفية مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، لمَّا كان معتكفًا في المسجد، فجاء أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم إليه في معتكفه، فتحدَّث معهنَّ، وكانت بيوت النِّساء على المسجد إلا صفيَّة، فإنَّ بيتها لم يكن على المسجد، فلمَّا أرادت أن ترجع إلى بيتها قام صلى الله عليه وسلم ليذهب معها من أجل أن تأمن في الطريق ونحوه، فرأى رجلان من الأنصار النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ومعه هذه المرأة فجريا، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «عِلَى رِسْلِكُمَا، إنَّما هِيَ صَفيَّةُ» ، من أجل أن لا يكون عندهم ظنونٌ سيئةٌ، فبالتَّالي يكون هذا من أسباب سوء العَلاقة بين أفراد المجتمع، فمتى أحسن النَّاس ظنونهم بعضهم في بعضٍ، فإنَّ هذا يؤدِّي إلى صلاح الأحوال، إلا إذا وجدتْ قرائن تدلُّ على خلاف هذا.
كذلك ممَّا وردت به الشَّريعة لتحقيق معنى التَّرابط الاجتماعي: زيارة المرضى، فإنَّ زائر المريض لا يزال في خُرفة الجنَّة حتى يرجع، كما أخبر النَّبي صلى الله عليه وسلم ، وزيارة المريض لها أثرٌ عظيمٌ، سواءٌ في نفسيَّة المريض، أو في نفسيَّة مَن حوله من قرابةٍ أو ذريَّةٍ أو نحو ذلك.
قلتُ قبل قليلٍ: إنَّ من أسباب التَّرابط الاجتماعي: وجود أخلاقٍ فاضلةٍ، فإنَّ الأخلاق الفاضلة تدعو النَّاس إلى أن يتعامل بعضهم مع بعضهم الآخر، ولذا رغَّبت النُّصوص في الأخلاق الفاضلة. يقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيمٌ ببيتٍ في أعلى الجنة، لمن حسن خلقه» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» ، فقوله: «خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»، هذا يؤدِّي إلى ترابط النَّاس واجتماعهم وتآلفهم.
هكذا في ما يتعلَّق بصديق الوالد، فقد جاءت الشَّريعة بالتَّأكيد على صلته، كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِن أَبَرِّ البِرِّ صلةُ الرجلِ أهلَ وُدِّ أبيه» ، فزيارة هؤلاء الأصدقاء للأب أو للوالدة قربةٌ من القربات التي يزداد أجرها في ما لو زار الإنسانُ غير مَن لم يكن كذلك.
ومما جاءت به الشَّريعة أيضًا: الترغيب في رحمةِ الصَّغير، فإنَّ رحمة الصَّغير مؤدِّيةٌ إلى ترابط النَّاس، كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ» ، فهنا أمرَ بالرَّحمة في الصَّغير «وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَ»، بينما الكبير أمرَ فيه بالتَّوقير «ويوقر كبيرن»، ومن ثَمَّ فملاحظة مَن له مكانةٌ أو منزلةٌ أو أثرٌ، وبذلُ سبلٍ للدَّعوة معه، يفضلها كثيرٌ من أصحاب الفضل، وإن كان عند المقارنة لابد أن يكون هناك عناصر تؤيِّد أحدَ الأمرين على الآخر.
يقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» ، متى تراحم النَّاس ترابطوا وتآلفوا واجتمعوا، وكان هذا من أسباب قوتهم، ومن أسباب استجلاب الخير لهم.
وهكذا ممَّا وردت به الشَّريعة ليحقق هذا المقصد: أن يسترَ المؤمنون بعضهم، فما من إنسانٍ إلا وعنده ذنوبٌ وخطايا، فإذا تاب منها، تاب الله -عزَّ وجلَّ- عليه، وبالتَّالي فإنَّا لا نحتاج إلى أن نُظهر مَظاهر الفسق أو الإجرام أو السوء، بل علينا أن نُظهر المظاهر الخيِّرة الحسنة، التي تجعل النَّاس يقتدون، أما إذا أُظهرت الجرائم، فهذا يؤدِّي إلى عدم تخوُّف النفس من مثل هذه الكبائر، ولذلك قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ، تَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ» ، وفي بعض الألفاظ: «يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .
ومن هذا الباب أيضًا ما يتعلَّق بالذَّبِّ عن عِرض المسلم، فمن جاء وبدأ يتحدث معك، وكان في حديثه تجريحٌ بفلانٍ وفلانٍ؛ فيجب عليك أن تنتهي عن هذا الفعل، ولا يجوز لك أن تُقرَّ مَن يتكلم بمثل هذا الكلام، سواءً كان عيبًا فيه حقيقةً، أو كان أمرًا ماضيًا، أو أمرًا متوهَّمًا، فكلُّ هذه الأمور ما يجوز أن تتكلم فيها، ولذا جاءت النُّصوص بالتَّحذير من الغِيبة، قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿ولَا يَغْتَب بَّعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾ [الحجرات: 12]، وبالتَّالي نستشعر أنَّ الغِيبة مِن المحرَّماتِ، وما ذاك إلا للمحافظة على هذا المقصد العظيم، ألا وهو: التَّرابط الاجتماعي.
{فضيلة الشيخ، جزاكم الله خيرًا، ذكرتم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأُ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»، فما معنى يُنسأ في أجله؟}.
المراد بقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «وَيُنْسَأُ لَهُ فِي أَثَرِهِ»، أي يؤخَّر له في الأجل، ويقدَّرُ أنَّه يزداد عمره، وزيادة العمر هذه لها أسبابٌ، مثلًا ذلك الذي يعتني ببدنه من جهة الصِّحة، ويتفقَّد حال البدن، في الغالب يطول عمره ويكون من المعمِّرين، وهكذا صاحب الرياضة، وهكذا من يلاحظ بدنه بأنواع الملاحظة، فهذه أسبابٌ تؤدِّي إلى أن يكون عمر الإنسان أطول، وهكذا في صلة الرحم، فإنها تؤدِّي إلى زيادة عمر الإنسان.
{ماذا نفهم من قوله -سبحانه وتعالى: ﴿وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ﴾ [المنافقون: 11]}.
هذا أجَلُه في هذا الوقت، يقدر الله -عزَّ وجلَّ- أنَّ فلانًا يكتسب فيأتيه المال، ويقدر الله أنَّ فلانًا لا يكتسب فلا يأتيه المال، هل فيها إشكالٌ؟ هكذا أيضًا هنا، يقدر الله -عزَّ وجلَّ- عند التَّقدير أنَّ فلانًا يصل رحمه فيزداد عمره، وأنَّ فلانًا لا يصل رحمه فلا يُزاد في عمره، فالله -عزَّ وجلَّ- هو الذي خلق السَّببَ، وهو الذي خلق الأثرَ والمسبِّبَ، أليس كذلك؟ وبالتَّالي لا إشكال في مثل هذا.
الآن لو جاءنا إنسانٌ، وقال: أنا لن أتزوج، وإذا أراد الله -عزَّ وجلَّ- لي الولد سيكون لي ولدٌ، ماذا نقول؟
ما يجوز هذا، هذا نقص عقلٍ، قال: كيف نعرف أو نقول إن الله يعلم أنَّ فلانًا لا يتزوج فلا يأتيه الولد؟ وأنَّ فلانًا يتزوج ويأتيه الولد؟ قلنا: لا يوجد إشكالٌ عقليٌّ في مثل هذا، فإن الله -عزَّ وجلَّ- قدَّر السَّبب، وقدَّرَ الأثرَ المرتبطَ بِه.
نعود إلى ما كنا نتحدَّث عنه في الأسباب المؤدِّية إلى تآلف النَّاس وإلى التَّرابط الاجتماعي ليكون النَّاس وحدةً واحدةً. فممَّا جاءت به الشَّريعة لتحقيق التَّرابط الاجتماعي: أن يتفقَّدَ النَّاسُ بعضَهم بعضًا في أمور حياتِهم، فهذا يؤدِّي إلى جعل النَّاس يترابطون، وما مشروعيَّة الأمر بالمعروف ومشروعيَّة عبادة النصيحة إلا ممَّا يحقق هذا المعنى.
{ذكرتم أنَّ من هذه الأسباب: شُكر الإنسان إذا أحسن إليك، فإذا كان واحدًا يُحسن، ولا يريد أن يُشكر، فكيف نتعامل معه في هذا الموضوع؟}.
هذا المحسن لا يريد أن يُشكر، وبالتَّالي هو يريد أن تكون نيته خالصةً لله -عزَّ وجلَّ- فإذا أثنى عليه الخلقُ، وشكره مَن يُحسن إليه، فهذه نعمةٌ وزيادةٌ جاءته من دون أن يكون قاصدًا لها، وبالتَّالي لا تُؤثِّر على نيَّته، وذلك المحسَن إليه عندما شكر يكون له أجرٌ وثوابٌ بسبب شكره، فهو مستفيدٌ من هذا الشكر، فليس المستفيد من الشكر حقيقةً المحسِنُ، بل المستفيد الأول هو المُحسَن إليه، والمجتمع بحاجة إلى مثل هذا من جهة أنَّه متى وُجدت عيِّناتٌ تُحسِن إلى النَّاس فيُثنى عليها، يكون هؤلاء المحسِنون أمام الأعين ويَقتدي بهم الآخرون ويسيرون على طريقتهم؛ فهذا ممَّا يُحقِّق مقاصد شرعيةً طيبةً، ويُحقق معانٍ توصِّل إلى المقصد الشَّرعي من وجود التَّرابط الاجتماعي.
من الأمور التي تؤدِّي إلى هذا المعنى: خُلق الحياء، فهناك حياءٌ من الخلق، فعندما يستحي الإنسان من غيره فلا يفعل الأفعال المعيبة أمامهم، فيكون حينئذٍ قد تخلَّق بخلقِ الحياء، فيؤدِّي ذلك إلى أن لا يكون هناك تنافرٌ اجتماعيٌّ، بسبب إظهار هذا العبد فعلًا غير مألوفٍ عند الآخرين، ومن ثمَّ هذا الخلق العظيم -خلق الحياء- يؤدِّي إلى وجود التَّرابط الاجتماعي.
كذلك صنائع المعروف التي تقي ميتات السُّوء، هذه لها أثرٌ عظيمٌ في وجود التَّرابط الاجتماعي، ولا تظن أنَّ صنيعة المعروف فقط بدفع المال، قد تكون صنيعة المعروف بالكلمة الطيبة، وبالتَّشجيع، ترى شخصًا يحتاج إلى تشجيع ليتفوق فتشجعه، فيكون هذا من أسباب رفع درجته ومكانته.
هكذا أيضًا ما يتعلَّق بالتَّواضع، فعندما يتواضع النَّاس يتآلفون ويترابطون، أما المتكبِّر فإنَّه يرى النَّاس صغارًا ويرونه صغيرًا، كمن كان في أعلى الجبل، وبالتَّالي هذا الكبر له أثر سيءٌ على النَّاس لأنَّه يؤدِّي إلى تفرُّق كلمتهم، وقد فسر النَّبي صلى الله عليه وسلم الكبرَ بأنَّه: «غمط النَّاس» ، يعني احتقار الآخرين، والتَّرفعِ عنهم، وعدم التَّواضع معهم، قد قال الله -عزَّ وجلَّ: «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا؛ حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» ، فمثل هذا ممَّا يؤدِّي إلى جعل النَّاس يترابطون ويجتمعون لأنَّهم متواضعون.
وفي مقابل هذا: خلق الغضب، فإنَّ الإنسان متى تخلَّق بخلقِ الغضبِ، يتكلم في مراتٍ بما لا يعرف عاقبته وما يؤول إليه، وإن كان يعرف معناه، ولذلك كم من غضبٍ أدَّى إلى فُرقةٍ بين الزَّوجين، وقطيعةٍ بين الأقارب، وأمورٍ أخرى عظيمةٍ، وبالتَّالي فوجود معانٍ تَدفع الإنسان إلى أن يترك الغضب؛ يكون هذا محققًا للمقصد الشَّرعي، ولمَّا قال الرجل: يا رسول الله، أوصني، قال: «لَا تَغضَبْ» ، قال: أوصني، قال: «لَا تَغضَبْ»، قال في الثَّالثة: أوصني، قال: «لَا تَغضَبْ»، والمعنى في هذا: أي لا تُعرِّض نفسَك إلى المواطن التي تغضب فيها، وإذا غضبت فأمسك نفسك، ووطِّن نفسك على تحمُّلِ الأمور، هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَغضَبْ»، فهذا المعنى لابد من ملاحظته، ومعرفة أنَّ ترك الغضبِ ممَّا يؤدِّي إلى تحقيق المقصد الشَّرعي في التَّرابط الاجتماعي، فكم من حوادث قتلٍ بسبب الغضب، وكم من حوادث مخاصماتٍ ومضارباتٍ بسبب الغضب، إلى غير ذلك من المعاني.
هكذا من الأسباب التي تؤدِّي إلى ترابط النَّاس واجتماعهم: أن يترك الإنسان السِّبابَ، فتجتنب الكلمة السَّيئة التي يُقدح بها على الآخرين، وتتقَّرب بذلك لله -عزَّ وجلَّ- فإذا كان هناك شخصٌ معروفٌ باسمٍ على جهة المعايرة أو على جهة القدح فيه؛ فاجتنب ذلك الاسم ولو كان مشهورًا، وما ذاك إلا لتحقيق المقصد الشَّرعي من وجود التَّرابط الاجتماعي.
ونلاحظ في سيرة النَّبي صلى الله عليه وسلم، في مكَّة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم جعل العبادة في دار الأرقم، لماذا؟ ليجتمع النَّاس، ويتآلفون، ويتعاونون، ويتحابون، فيكون هذا من أسباب وجود الأخوَّة الإيمانيَّة، ووجود التَّرابط الاجتماعي عندهم، فلما ذهب إلى المدينة، آخى بين المهاجرين والأنصار، ممَّا يدل على أنَّه أراد تحقيق معنى التَّرابط الاجتماعي.
عندما نلاحظ في سيرة النَّبي صلى الله عليه وسلم ما فعله من تواضعٍ مع الخَلْقِ، وتحبُّبِه لديهم، وترتيبه أمور الدَّولة بما يجعل النَّاس يتحابُّون ويتقاربون؛ فكل هذه المعاني تسير في تحقيق المقصد الشَّرعي، ألا وهو التَّرابط الاجتماعي.
إذا نظرتَ إلى جميع العبادات، وجدت أنَّ فيها جانبًا يلاحظ هذا المعنى، وهكذا في غيره من الأبواب، لابد أن تكون هناك لمساتٌ محققةٌ لمثل هذا المعنى.
إذن هناك وسائل كثيرةٌ تؤدِّي إلى وجود التَّرابط الاجتماعي، وما ذكرته اليوم هو بمثابة الإلماح أو التَّعريف القليل بمثل هذه المُلمِّحات التي تحقق هذا الهدف وهذه الحكمة والغاية العظيمة.
التَّرابط الاجتماعي يترتب عليه آثارٌ حميدةٌ، منها: إزالة ما في النُّفوس من أمراضٍ، كالاكتئاب، والهموم، والغموم، وسوء الظَّن. فهذه أمراضٌ ترِد على الإنسان وتجعله لا يفكر في أموره، وتجعله مشغول البال، وما ذاك إلا أنَّه لم يُبعد عن هذه الأمور.
هكذا من آثار التَّرابط الاجتماعي: السَّعي في سدِّ حاجة المحتاج، سواءً كان فقيرًا أو مديونًا، أو غير ذلك من أنواع الحاجة.
هكذا من وسائل التَّرابط الاجتماعي: الحرص على وسائل التَّواصل الاجتماعي وغيرها من أنواع أدوات التَّواصل، فعندما تسمع عن شخصٍ بأنَّ عمَّه أو خالَه لم يلاحظه، ولم يأتِه من سنواتٍ؛ حينئذٍ تعرف أنَّ هذا مناقضٌ للمقصد الشَّرعي.
ذكرني هذا بحُكمٍ عظيمٍ جاءت به الشَّريعة يؤدِّي إلى قطع ما يكون مثل هذه الأمور، وهو: تحريم التَّهاجر، كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ لرجُلٍ أن يَهجُرَ أخاهُ فوقَ ثلاثِ ليالٍ، يلتقِيانِ : فيُعرِضُ هذا، ويعرِضُ هذ»، ثم قال: «وخيرُهُما الَّذي يبدأُ بالسَّلامِ» .
السَّلام أيضًا معنًى عظيمٌ، يؤدِّي إلى التَّرابط الاجتماعي، كما ذكرنا قبل قليلٍ، ابتداءً وردًّا.
كذلك من الآثار الحميدة للتَّرابط الاجتماعي: استقرار النُّفوس، وعدم اضطرابها، فإنَّه متى كان النَّاس مترابطين؛ تفقَّد بعضهم بعضًا في هذا المعنى.
أيضًا من الآثار الحميدة التي يؤدِّي إليها التَّرابط الاجتماعي: إمكانية القيام بالتَّعاون على أداء أعمالٍ صالحةٍ تعود على النَّاس بالنَّفع والخير.
فهذه نماذج من الوسائل المؤدِّية إلى تحقيق هذا المقصد العظيم -مقصد التَّرابط الاجتماعي- بارك الله فيكم، ووفقكم الله إلى الخير وأسال الله -عزَّ وجلَّ- لمجتمعاتنا أن يتَّحدوا وأن يتآلفوا وأن يستشعروا معنى الأخوة الإيمانيَّة، كما أسأله سبحانه لهم حقنًا لدمائهم، ووفرةً في أموالهم، وسعادةً لقلوبهم، وتهيئةً لكل أمورهم، كما أسأله سبحانه أن يكون في عوننا وعون إخواننا المسلمين في كل مكانٍ، اللهم يا حي يا قيوم أصلح شأننا كله، اللهم يا حي يا قيوم وفِّق ولاة أمور المسلمين لكل خيرٍ، واجعلهم هداةً مهتدين، هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك