الدرس السابع

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

7886 11
الدرس السابع

مقاصد الشريعة

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فمرحبًا بكم في لقاءٍ جديدٍ من لقاءاتنا في تدارس مقاصد الشَّريعة المباركة -شريعة الإسلام.
وكنا في ما مضى تباحثنا في عددٍ مِن المقاصد التي جعلها الشَّارع غايةً لعددٍ مِن أحكامه، واليوم -بإذن الله عزَّ وجلَّ- نتدارس مقصدًا جديدًا مِن مقاصد الشَّريعة المباركة، ألا وهو: مقصد نُصرة الحقِّ.
فقد قصد الشَّارعُ مِن المكلفين أن يكونوا ناصرين للحقِّ، كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومً»، قالوا: يا رسول الله، هذه نصرته وهو مظلومٌ، فكيف ننصره وهو ظالمٌ؟ قال: «تَحْجُزُهُ مِنْ الظُّلْمِ» .
وقد قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33].
ومن هذا المنطلق نُؤكِّد على أنَّ هذا المعنى -وهو نُصرة الحقِّ- مِن المعاني العظيمة التي جاء بها ديننا الحنيف، ولتحقيقِ هذا المقصد جاءت الشَّريعة بعددٍ مِن الوسائل، فمن ذلك: ما جاءت به الشَّريعة من الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، كما قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ﴾ [التوبة: 71]، وكما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ» ، وهناك نصوصٌ كثيرةٌ تدلُّ على أهميَّة هذه الشَّعيرة المباركة.
ومما جاءت به الشَّريعة مِن باب نُصرة الحقِّ: الأمر الدَّعوة إلى الله والدَّعوة إلى الخير والهدى، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 2، 3]، والتَّواصي بالحقِّ هو الدَّعوة إلى الله.
وكما قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104].
وهكذا ممَّا جاءت به الشَّريعة لتحقيق غاية نُصرة الحقِّ: أن جاءت بمشروعيَّة التَّعاون بين النَّاس في ما يكون من الحق، كما قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
ومما جاءت به الشَّريعة لتقرير هذا المبدأ: القضاء بين المتخاصمين، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ [النساء: 105].
أيضًا ممَّا جاءت به الشَّريعة لتحقيق هذا المبدأ: مشروعيَّة الجهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40].
ومما جاءت به الشَّريعة لتقرير هذا المقصد العظيم -مقصد نُصرة الدِّين والحق: مشروعيَّة الاجتماع، والتَّآلف، واجتماع الكلمة، فإنَّ هذا المعنى معنًى عظيمٌ، وقد تواترت النُّصوص بتحقيقه، ومن الأدلَّة على هذا قول الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانً﴾ [آل عمران: 103].
ومثل هذا في قول الله -سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].
ومثله في قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 105].
ومثله قوله تعالى: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّين ولَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13].
ومثله قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [الأنعام: 159].
وهناك نصوصٌ كثيرةٌ كلها تدلُّ على هذا المعنى، قال تعالى: ﴿ولَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [الروم: 31، 32].
وهناك نصوصٌ كثيرةٌ تنهى عن التَّفرق والاختلاف، وتأمر بالاجتماع والتَّآلف، وكون النَّاس يدًا واحدةً.
ومن هذا قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ» ، وقوله: «فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنْ الغَنـَمِ الْقَاصِيَةَ» ، وهكذا في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تعالى يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا, وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ, وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُو» ، فهذه ميزةٌ كبيرةٌ، وهي أن نعتصم بحبل الله جميعًا وأن لا نتفرق.
ومن هذا المنطلق جاءت الشَّريعة بتقرير هذا المبدأ -مبدأ الاجتماع- لتحقيق غايةٍ، ألا وهي: نُصرة الحقِّ، ونُصرة دين الله.
والنَّاس يكون بينهم أسبابٌ تفرقهم، ويختلفون من أجلها، ولذا جاءت الشَّريعة بنزع هذه الأشياء المُفرِّقة من أجل أن يجتمع النَّاس.
ومن أمثلة ذلك: إذا كان هناك نزاعاتٌ قضائيةٌ، فكأن يكون هناك اختلافاتٌ ماليةٌ، فهذا سيؤدي إلى تفرِّقهم وعدم اجتماعهم، ومن هنا جاءت الشَّريعة بالقضاء في الاختلافات والنِّزاعات، بكتاب الله -عزَّ وجلَّ- بما يدرأ الخصومة بعد ذلك، ولذا قال -كما في الآية السابقة: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاس بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ [النساء: 105].
هكذا ممَّا يحدُّ من الاجتماع: ما يتعلَّق بالعصبيَّات، فهذا متعصبٌ لبلدٍ، وذاك متعصبٌ لقبيلةٍ، وهذا متعصبٌ لمهنةٍ، وهذا متعصبٌ لفنٍّ من الفنون، كلُّ هذه العصبيَّات مذمومةٌ، غيرُ مرغوبٍ فيها، كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ﴾ [الأنعام: 153]، وكما قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [الأنعام: 159].
وإذا كانت هذه العصبيَّة لقبيلةٍ فإنَّهم ينافرون غيرهم، ويرون أنَّ غيرهم من النَّاس والقبائل أقل، أو يتعصَّبون إلى بلدٍ ينتمون إليها، أو يتعصَّبون لشيءٍ من المجالات العلميَّة، أو حتى مجالات اللَّهو والتَّرفيه، مثل أولئك الذين يُشجِّعون نواديهم، فنقول لهم: يجب أن نلاحظَ المعنى الشَّرعيَّ في الاجتماع، وأنَّ التَّعصُّب لمثل هذه الأسماء بحيث لا يرى من الحقِّ إلا ما كان موافقًا لذلك الطريق، ولا يرى باطلًا إلا كان معارضًا ومخالفًا لذلك الطريق، فإنَّ هذا لا يُقبل منه، بل لابد من أن تكون نظرتنا إلى النَّاس نظرةً واحدةً من جهة هذه الأسباب التي توجد العصبيَّة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]. وهكذا أيضًا لو كانت العصبيَّة بسبب انتماءٍ إلى مدينةٍ، أو انتماءٍ إلى قبيلةٍ، أو أي نوعٍ من أنواع الانتماء.
ومن موانع وجود الاجتماع: ما قد يحصل بين النَّاس من قدح بعضهم في بعضهم الآخر، وغِيبة بعضهم في بعضهم الآخر، فهذه أسبابٌ تورث عداوة وبغضاء، وتُبعِد الاجتماع والتَّآلف، ولذلك نهت الشَّريعة عن ذلك، قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «سِبابُ المسلِمِ فُسوقٌ، وقتالُهُ كُفرٌ» ، فواجب على المؤمنين أن ينتهوا عن السِّباب، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينً﴾ [الأحزاب: 58]، وقال سبحانه: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينً﴾ [الإسراء: 53].
وأيضًا قد يكون هناك نميمة تجعل النَّاس يتفرَّقون ويعتدون. ما هي النميمة؟ هي: نقل الحديث على جهة الإفساد، مثل قول القائل لك: فلان يقول فيك كذا، وفلانٌ ذكرك بسوءٍ، فهذه الأنواع من أنواع الحديث هي من أنواع النَّميمة، التي يأتي الشَّرع بذمها. فهي خلاف الغِيبة، فإنَّ الغِيبة هي: ذكر معايب الآخرين.
وممَّا شُرع الاجتماع من أجله: ألا يكون هناك فُرقةٌ دينيةٌ، فإنَّه متى كان هناك اختلافٌ وتنازعٌ وتضادٌ بين أصحاب هذه الأمور؛ فإنَّ هذا سيؤدي إلى أنَّ كل واحدٍ منهم سيسير على طريقةٍ ومذهبٍ مخالفٍ لطريقة الآخر، وبالتَّالي مع المدَّة ومع الزَّمن يحصل تفرقٌ كثيرٌ، واختلافٌ كثيرٌ جدًّا، وبالتَّالي لا تستقيم حاله.
ومن الأمور التي تكون مسببةً للفُرقة: ما يتعلَّق بوجود الفُرقة الدِّينيَّة التي تكون بين النَّاس، فإن كأن يكون هناك اختلافٌ شرعيٌّ بيني وبينك، ورأيته في مسألةٍ قاطعةٍ، فحينئذٍ يحصل تفرقٌ واختلافٌ، إذا عذرتُك وقلتُ: هذا غايةٌ مقصودةٌ، فلن يحصل اختلاف.
المقصود أنَّ هذا الاجتماع يُحقق مقصدَ نُصرة دين الله -عزَّ وجلَّ- وهذا الاجتماع جاءت الشَّريعة بمشروعيته وبربطه بعددٍ من الأحكام، واشترطت له شروطًا.
المقصود أنَّ هناك أشياءً تمنع من الاجتماع، وبالتَّالي لابد أن نسعى لإزالتها، من ذلك مثلًا: البغي، والتَّطاول، فإنَّ النَّاس قد يأتيهم مَن يبني المسجد الصَّغير، فيتطاولون ويقولون: هذا مسجدٌ صغيرٌ. ماذا ينفع؟! ومِن ثَمَّ لا يحصل هناك تعاونٌ ولا توادٌّ، بخلاف ما إذا ساهم ولو بالقليل.
المقصود أنَّ البغي من أسباب التَّفرق والاختلاف، فإذا وُجد اجتماعٌ وتآلفٌ، ثم وُجد معه البغي، فحينئذٍ هذا الاجتماع سيؤول إلى فُرقةٍ، قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 14].
هكذا من الأمور التي تمنع النَّاس من ملاحظة استجلاب الحقوق: ما يتعلَّق بعدم معرفة بعض النَّاسِ بحقوق الآخرين، قد يعرفُ ما يجب عليه مِن واجباتٍ وحقوقٍ، لكنَّه لا يفعل مثل ذلك بالنَّسبةِ لجارِه، ففي هذه الحال نقول: إنَّ العبدَ مأمورٌ ببذلِ الأسبابِ المؤدِّية إلى استصلاحِ حالِ جارِه، وبالتَّالي يكون هذا المعنى من المعاني التي تشتمل عليها كلمة التَّوحيد لا إله إلا الله.
وهناك عددٌ من الوسائل التي توصِّل إلى تحقيق هذا المبدأ وهذه الغاية، ألا وهي: نشر المحبَّة الإيمانيَّة، فإن النَّاس متى أحبَّ بعضُهم بعضًا تعاونوا واجتمعوا، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]، إذا حصلت محبةٌ؛ اجتمع النَّاس وتآلفوا، والمحبَّة الإيمانيَّة مِن أفضلِ الأعمالِ التي جاءت بها الشَّريعة المباركة، مَن يذكر لنا حديثًا في المحبَّة الإيمانيَّة؟
{قوله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ ؛ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» }.
بارك الله فيك.
في الحديث أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ»، وذكر منهم: «وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ» ، كذلك قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «المُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ» ، وفي الحديث الآخر: يقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ مَحبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فيَّ، والمُتَجالِسِينَ فيَّ، وَالمُتَزَاوِرِينَ فيَّ، وَالمُتَباذِلِينَ فيَّ» ، ممَّا يدلُّك على فضيلة المحبَّة في الله -عزَّ وجلَّ.
وهكذا ما تُورِث هذه المحبَّة مِن معانٍ قلبيةٍ، مثلًا في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» ، والنُّصوصُ في هذا كثيرةٌ، لكن القاعدة العامَّة هي: استشعار الأخوَّة الإيمانيَّة التي تُوصِّلُ إلى الانتصار لدين الله -عزَّ وجلَّ.
وهناك آياتٌ كثيرةٌ كما في قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، فجعلهم يستشعرون معنى الأخوة الإيمانيَّة.
المقصود أنَّ هناك معانٍ قلبيةً جاءت بها الشَّريعة تُوصِّل إلى اجتماع الكلمة والتَّآلف بين النَّاسِ.
كذلك مِن الوسائل التي شُرِعَت لتحقيق هذا الأمر: هو الاجتماع على الشَّعائر، أي أن نُصليَ في جامعِ أهل الحيِّ، وفي صلاة العيدِ، وفي صلاةِ الجمعةِ، فهذا يدلُّك على أنَّ الاجتماع على الشَّعائر الإسلاميَّة يُورثنا أن نكون مجتمعين، متآلفين، متعاونين، يعني مثلًا في اجتماع الحجِّ الذي يَفِد إليه النَّاس مِن مشارق الأرض ومغاربها، هذا يؤدِّي إلى أن يكون هناك محبةٌ، واجتماعٌ، وتآلفٌ، وهذا -بإذن الله عزَّ وجلَّ- سينعكس أثرُه من خلال فِعل الشَّعائر المتعلِّقة بتلك الشَّعيرة، ومن خلال النَّظر في أحوالِ مَن يريدون أن يتعلَّموا أو أن يستفيدوا مِن مِثل هذه الشَّعائر.
وقد أكدت الشَّريعة على هذا المعنى، فأوجبت صلاة الجماعة، كما قال تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43].
من الوسائل المؤدِّية إلى تحقيق المعنى الذي ذكرته قبل قليلٍ: احترام الرَّوابط التي تكون بين النَّاس، هناك روابط بين هؤلاء وهؤلاء، هذه الرَّوابط لابدَّ من مراعاتها واحتوائها؛ لأنَّها هي التي توصِّلُنا إلى تحقيق الواجب الشَّرعي في باب الإحسان إلى القرابة، ونُمثل لهذا الجانب بمثالٍ: الجيران بعضهم له حقٌّ على بعضهم الآخر، أليس كذلك؟ فهذا الحق يورث معنى الاجتماع والتَّعاون.
هكذا أيضًا مِن الأسباب المؤدِّية إلى تحقيق هذا المقصد: الحرص على الإصلاح بين المتخاصمين، متى بادر النَّاسُ للإصلاحِ بين المتخاصمين بمجرد ورود الخصام، حينئذٍ تصلح أحوال النَّاس وتستقيم، ويكونون محققين لمقصد الشَّارع، بخلاف ما إذا كان الأمر بنظرةٍ غير مباليةٍ إلى مثل هذه النِّزاعات، فإنَّ النَّزاعات الكبيرة مبدؤها نزاعاتٌ صغيرةٌ.
هكذا من الأمور التي تؤدِّي إلى التَّآلف والاجتماع والتَّعاون: ما يكون في القلوب مِن رحمة النَّاس بعضهم لبعضهم الآخر، كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا، أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» .
قبل هذا في قول الله -عزَّ وجلَّ- عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159]، فالمقصود أنَّ هذه الأخلاق الإسلاميَّة تجعل النَّاس يجتمعون، ويتآلفون، ويتعاونون، وتستقيم أحوالهم.
هكذا أيضًا طيب المنطق، واختيار الألفاظ الحسنة، والأقوال الجميلة التي تذعن لها النفوس، كل هذا من أسباب قبول الحق.
وممَّا يُعين على تحقيق هذا المعنى من الاجتماع والتَّآلف: ما يتعلَّق بالصَّدقة والزَّكاة، فإنَّ النَّاس متى كانوا يؤدُّون هذه الشَّعيرة؛ ترابطوا فيما بينهم، ولم يعد الفقير يحسد الغني على ما آتاه الله -عزَّ وجلَّ- من ماله، وحينئذٍ يستشعر الإنسان هذا المعنى، وأنَّ الصَّدقة والزَّكاة والأوقاف من أسباب تحقيق هذا المقصد الشَّرعي النَّبيل، الذي ينفي العنصرية، والذي يندرج تحت قواعد الاجتماع والتَّآلف.
هكذا من الأسباب التي تؤدِّي إلى الاجتماع: أن تكون هناك حلقاتٌ علميةٌ في المجتمعات، يعني الاجتماع في طلب العلم، فهذا يجعل النَّاس يتحرَّزون من عداوة عدوهم الشيطان الرجيم، ويكون هذا من أسباب استقامة أحوالهم، وانظر لقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» .
فهذه أسبابٌ عظيمةٌ، ينبغي للمؤمن أن يحرص على تحصيلها، وهي محصلةٌ للمعنى الذي ذكرته، ولذلك نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يتناجى اثنان دون الثَّالث . لماذا؟ لأنَّ ذلك يحزنه، فيؤدِّي ذلك إلى الفُرقة في ما بينهم.
ومن الأسباب: احترام حقِّ أصحاب الولاية من الإمام الأعظم ونوَّابه، فإنَّ هذا يجعل الإنسان ممَّن اتَّصف بصفة التَّعاون على البرِّ والتَّقوى، ولذا قال هنا: إثبات حق الولاية، واستدلَّ بقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ» ، وحينئذٍ نحترم حق الولاية الذي يقوم بهذا التَّنظيم والتَّرتيب والتَّهيئة والأذونات.
وهكذا أيضًا يلاحظ من له أمرٌ، مثل القاضي، ومثل الوالد؛ لئلا تتداخل الحقوق، وبالتَّالي تضيع جميعًا.
ومن الأمور التي تورِث المحبَّة بين الإخوان: أن يكون هناك تعاونٌ بين المؤمنين، كما في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضً» .
كذلك من الأسباب التي تؤدِّي إلى اجتماع النَّاس وتآلفهم واتحاد كلمتهم: أن يكون هناك تحكيمٌ للكتاب والسُّنَّة في كل ما يعرض للإنسان، حتى فيما يتعلَّق بأموره، قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 10].
كذلك من الأسباب التي تدعو إلى التَّفرق والاختلاف: ما يكون عند بعض النَّاس من خلق الشُّح، فإن الشَّح يجعل النَّاس يتنافرون ولا يحب بعضهم بعضًا، ولذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» الحديث.
هكذا من الأسباب التي تؤدِّي إلى اجتماع النَّاس: نفي البدع، والسَّعي إلى إلغائها، فإنَّ البدعة طريقةٌ مذمومةٌ في الدِّين، وليست على طريق النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ لعدم فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم لها.
فإذا وُجِدَت بدعٌ؛ تفرَّق النَّاسُ واختلفوا، وإذا اتحدت كلمتهم فالغالب أن ينفوا مثل هذه البدع، أما الأحاديث في نفي البدعة ففي مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» ، ولذلك ردَّ الأمانات إلى أهلها بني شيبة.
يقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» ، أو كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم.
فالمقصود أنَّنا ينبغي بنا أن نلاحظ أنَّ هذه المعاني هي التي يتركب منها هذا المرض.
{ذكرتم أنَّ الغِيبة هي: ذكر معايب الآخرين. فإذا كان هذا العيب في الشَّخص، كإنسان شحيح أو إنسان حسود، فذكره بما فيه. فما حكم هذا؟}
الأصل في ذكر معايب الآخرين التَّحريم وأنَّه لا يجوز، لقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ [الحجرات: 12]، ولقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما الغيبةُ؟» ، فأخبرهم أنَّ الغِيبة هي «ذكرُكَ أخاكَ بما يكرهُ»
فدلَّ هذا على أنَّ ذكر معايب الإنسان للآخرين من الأمور المحرَّمة في دين الله -سبحانه وتعالى.
والمقصود ممَّا سبق أنَّ عندنا مقصدًا شرعيًّا وهو: نُصرة الدِّين، هذا مقصدٌ شرعيٌّ عظيمٌ، وقد جاءت النَّصوص بالتَّأكيد عليه، وأنَّه يثبت للمؤمنين، لكن له شرطٌ، قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51]، فدلَّ هذا على أنَّ تفريق الدِّين أمرٌ مذمومٌ وغير مطلوبٍ، وأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قد تكفَّل بحفظ هذا الدِّين، ومِن حفظ نُصرة أهله، وعدمِ تفرُّق كلمتهم، لأنَّهم متى تفرقوا ذهبت ريحهم، كما قال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 105]، وقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 45، 46]، فهذا التَّفرق والاختلاف والنِّزاع يؤدِّي إلى هذه النَّتائج المذكورة في الآية.
إذن هذا الاجتماع وسيلةٌ لتحقيق المقصود الشَّرعي وهو: نُصرة الدِّين، ونُصرة الدِّين هي مقصدٌ للشَّارع، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ﴾ [الأنفال: 60]، هذا مقصد الشَّارع أن يكون هناك نُصرة لدين الله -عزَّ وجلَّ- والله -عزَّ وجلَّ- تكفل بأن يَنصر مَن نصر دينه، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد: 25].
فمن ثمّ وجود مثل هذا السِّلاح يُفيد النَّاس وبشرط أن يكون استعماله على الضَّوابط الشَّرعيَّة المقرَّرة، وإلا قد يؤدِّي إلى خلاِف مقصودِ الشَّارع.
إذن عندنا مقصودٌ وهو نُصرة الدِّين، وهذا المقصود له وسائل متعددةٌ ذكرنا منها مثلًا: الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، والدَّعوة، وتلاحظون أنَّ الأمر بالمعروف فيه أمرٌ وإلزامٌ، والنَّهي فيه إلزامٌ بالنَّهيِ، وهذا يكون لصاحب الولاية ولمن يأمرهم، فيأمر النَّاس بطاعة الله وينهاهم عن معصيته.
فالمقصود هنا أنَّ هذا الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يُحقق المقصود والغاية الشَّرعيَّة وهي: نُصرة دين الله -سبحانه وتعالى- ومثله في الدَّعوة التي جاءت النُّصوصُ بالتَّنويه عليها، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33].
فالدَّعوة إلى الله -عزَّ وجلَّ- نوعٌ من أنواعِ نُصرة دينه -سبحانه وتعالى- ومثله في مسائل القضاء، فالقاضي يقضي بين النَّاس لإرساء الحقوق لأصحابها، وبالتَّالي يتآلفون وتجتمع كلمتهم ويتعاونون، مثله في أبواب القضاء وفي غيره من الأبواب.
{احترامُ الرَّوابطِ التي تكون بين النَّاس، لم أفهمه جيدًا}
أنت وأخوك بينكما علاقةٌ أليس كذلك؟! رابط أخوةٍ، هذه الأخوة جاء الشَّرع بالأمر باحترامها وإعطائها حقها من العناية والاعتناء، فإذا وجد هذا الحق وحصل اعتناءٌ من النَّاس به، فإنَّهم حينئذٍ سيتآلفون وسيكون هذا من أسباب تعاونهم على البرِّ والتَّقوى.
ونُصرة الله -عزَّ وجلَّ- تكون للمؤمنين متى نصروا دين الله، كما قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7]، وكما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾ أي كافيك الله، ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ [الأنفال: 62، 63]، فتأليف القلوب نعمةٌ كبيرةٌ، لذا قال في الآية الأخرى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانً﴾ [آل عمران: 103]. وهناك نصوصٌ كثيرةٌ كلها تدلُّ على هذا المعنى.
فالمقصود أنَّ مَن قام بهذه الوسائل فإنَّه سيتحقق عنده ذلك المقصود، وكذلك أمر الدَّعوة إلى الله -عزَّ وجلَّ- فالدَّعوة إلى الله هذه وسيلةٌ تصل بنا إلى نُصرة دين الله -عزَّ وجلَّ- وهكذا عندما ننصر دينَ اللهِ ينصرنا اللهُ، قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَ﴾ [غافر: 51]، وقال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 171- 173]. وهناك نصوصٌ كثيرةٌ كلها تدلُّ على هذا المعنى.
المهم أن نفهم أنَّ المقصود الأساسي هو نُصرة الدِّين، وأنَّ هناك عددًا من الوسائل التي تُحقق هذا المقصد.
وهذه الوسائل كلها مقصودةٌ للشَّارع، ومن تلك الوسائل الاجتماع والتَّآلف بين المؤمنين، فهذا أيضًا معنًى كليٌّ لكنَّه ليس مقصدًا، لأنَّه ليس غايةً كُبرى، ولكنه أمرٌ مطلوبٌ من قِبل الشَّرع.
{ من الوسائل: ما يتعلَّق بالتَّحكيم بالكتاب، فكيف يتم تطبيقها؟ مثلًا في البلاد غير المسلمة، وبها مسلمون وبها غير المسلمين.}
أنت نظرت إلى أنَّ المقصود بالقضاء هو مجرد الفصل بين النَّاس، والصحيح أنَّ معناه أعظم من هذا، ألا وهو إيصال الحقوق لأصحابها، فالمقصود أنَّ هذا التَّحكيم للكتاب والسُّنَّة يجعل النَّاس تجتمع كلمتهم ويتآلفون، أليس كذلك؟! بخلاف ما لو لم يكن هناك تحكيمٌ للكتاب والسُّنَّة، فإنَّ كلَّ واحدٍ منهم سيذهب لمصدرٍ آخرٍ مغايرٍ للمصدرِ الأوَّلِ، وبالتَّالي يحصل اختلافٌ واضطرابٌ لأنَّه جهدٌ بشريٌّ والله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَ﴾ [محمد: 24]، ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرً﴾ [النساء: 82].
{ما يتعلَّق بالتَّحكيم إلى الكتاب، أنا أرى أنَّ بعض البلاد التي لا يوجد بها القضاء الإسلامي}
هذه بلدانٌ ليس فيها قضاءٌ إسلاميٌّ، لو تنازع عالمان واختلفا ماذا يفعلان؟ يُردَّانِ إلى الكتاب والسُّنَّة، ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 10]، هل يحتاجون إلى وجود قاضٍ؟ لا يحتاجون، إذن التَّحكيمُ إلى الكتاب وردُّ النَّاسِ إلى الكتاب والسُّنَّة مكفولٌ للجميع، الصغير والكبير، كلهم مكفولٌ لهم ذلك حتى ولو كانوا في بلدانٍ غير إسلاميةٍ.
هناك أشياءٌ تحتاج إلى صاحب ولايةٍ، مثل تطبيق الحدود، فلا يفعله أفراد النَّاس ولا جماعتهم إنَّما يوكَل إلى صاحب الولاية والحكومة، وإذا كانت الحكومة لا تقرُّ بهذا؛ فحينئذٍ هذا أمر الله بالنَّسبة لهم، وحكم الله بالنَّسبة لهم، ومِن ثَمّ لا يُطالبون هم بتنفيذ هذه الحدود.
قرَّرنا أنَّ الاجتماع والتَّآلف هو من وسائل نُصرة الدِّين، وهذا الاجتماع والتَّآلف له آثارٌ عديدةٌ منها:
جعل النَّاس يستشعرون مواجهة العدو، عندما يكون هناك اجتماعٌ فبالتَّالي يستشعرون أنَّ لديهم أعداءً، والأمَّة في جميع عصورها لن تخلوَ من أعداء يحاولون أن يتغلَّبوا عليها، وبالتَّالي إذا كان هناك أخوةٌ إيمانيَّة فسيكون هناك اجتماعٌ وتآلفٌ وسيؤدي ذلك بهم إلى أن يكونوا يدًا واحدةً على من ناوأهم، ولن يتمكن العدو من الدخول بينهم.
كذلك أيضًا من آثار هذا الاجتماع أن يتفقَّد النَّاسُ بعضهم بعضًا، أنا أتفقَّد ما عندك، وأنت تتفقَّد ما عندي، ونحاول أن نصحِّح الأمر، إمَّا بنصيحةٍ، أو بأمرٍ ونهيٍ مِن قِبل الولاية أو نحو ذلك.
فلو لم يكن هناك تعاونٌ، لكان كل واحدٍ من النَّاس يقول مالي ولفلانٍ، وبالتَّالي لا يحصل تفقدٌ من النَّاس لبعضهم الآخر.
كذلك أيضًا من الآثار التي تحصل من الاجتماع: زيادة هَيبة المسلمين في القلوب، فإنَّ لرؤية المسلمين على حالٍ واحدةٍ غير متفرقين؛ فهذا يورث الإنسان عزةً ويجعلهم يتمكَّنون من المطالبة بحقوقهم.
قد يقول قائلٌ: هناك منافساتٌ تكون بين الطلاب، أو بين غيرهم. نقول: هذه المنافسات هي أمرٌ مطلوبٌ، لأنَّها تُحرك النَّاس ليكون كل واحدٍ منهم متفوقًا أكثر من تفوق صاحبه.
فالمقصود أنَّ هذه آثارٌ حميدةٌ للتَّآلف والاجتماع ينبغي بكم أن تجعلوها بين أعينكم.
موضوع الاجتماع والتَّآلف هذا موضوعٌ مهمٌّ جدًّا، فبه يتآلف النَّاس وتحصل الثقة بينهم، ومتى وثق النَّاس بعضهم في بعضهم فحينئذٍ سيبيعون وسيشترون، وسيتعاملون بأنواع التَّعاملات.
ومن الأمور التي ينبغي أن تُلاحظ: أنَّه متى وُجد تعاونٌ سيكون هناك منافسةٌ، وبالتَّالي تصل الأعمال إلى أقصى درجاتِ حسنها وكمالها، لكن لو كان كل واحدٍ لوحده، فحينئذٍ يملُّ بعضهم من سلوك هذا الطريق الذي يظن أنَّه وحده، وبالتَّالي يحصل من النَّقص ما الله به عليمٌ.
ومن الأمور التي ينبغي أن تُلاحظ: أنَّ أعداء الدِّين يحاولون أن يفرِّقوا بين المؤمنين على جميع الأصعدة، لكن الشَّريعة تحاول الجمع والاجتماع، ولذلك جعلت هناك تصحيحًا لما في النُّفوس لتتقبَّل الآخرين، ولتتعاون معهم، ولتكون محسنةً إليهم، وتصحيحُ ما في الأسرة هو تصحيحٌ لِما في المجتمعات الصَّغيرة، كلها سعت إليها الشَّريعة ليوجد بينهم رباطٌ شرعيٌّ وثيقٌ يربط بعضهم ببعضهم الآخر.
ومن ثَمَّ يكون هناك منافسةٌ بين أبناء المسلمين فيصِلون إلى أحسن الدَّرجات وأكملها وأوعاها.
إذن بهذا نكون قد تكلمنا عن مقصدٍ عظيمٍ مِن مقاصد الشَّريعة ألا وهو: نُصرة دين الله، وذكرنا نماذجًا من الوسائل التي تحصل بها هذه النُّصرة، ومنها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدَّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، وما جاءت به الشَّريعة من ترغيب في التَّعاون، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [وَالعصر: 3].
وكذلك ما يتعلَّق بالقضاء بين المتخاصمين فإنَّه يؤدِّي إلى تحقيق نُصرة هذا الدِّين، وهكذا مشروعيَّة الجهاد، وهكذا أيضًا مشروعيَّة رفعِ النِّزاعات التي تكون بين المؤمنين.
فهذه كلُّها نماذجٌ من نماذجِ الوسائلٍ الشَّرعيَّة التي جاء بها ديننا الحنيف من أجل تحقيق هذا المبدأ العظيم، وهذه القاعدة المهمة ألا وهي نُصرة دين الله -سبحانه وتعالى.
أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفقنا وإيَّاكم لكل خيرٍ، وأن يجعلنا وإيَّاكم من الهداة المهتدين، كما أسأله -سبحانه وتعالى- أن يُصلح أحوال الأمَّة، وأن يردَّهم إلى دينه ردًّا حميدًا، اللهم يا ذا الجلال والإكرام اجمع كلمة المسلمين على الحقِّ، واجعلهم مِن دعاتها، واجعلهم ممَّن يقومون بدين الله سبحانه وتعالى وينشرونه، كما أسأله -عزَّ وجلَّ- أن يُصلح أحوال المسلمين جميعًا، وأن يُصلح أحوال كِبارهم، وأن يُصلح أحوال صغارهم، وأن يجمعهم على منهجٍ سويٍّ، وأن يُصلح نفوسهم وأسرهم ومجتمعاتهم وبلدانهم، وأن تكون كلها مبنيَّةً على أسسٍ صحيحةٍ تتآلف بها القلوب، وتصلح بها الأحوال.
كما أسأله -عزَّ وجلَّ- أن يوفقكم لكل خيرٍ، وأن يجعلكم من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك