الدرس الحادي عشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

7886 11
الدرس الحادي عشر

مقاصد الشريعة

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلين، أما بعد:
فأرحبُ بكم في لقاءٍ جديدٍ مِن لقاءاتنا في مَقاصدِ الشَّريعة، وقد أخذنا في ما مضى لقاءً تعريفيًّا لقواعدِ المقاصدِ، ثم أخذنا عشرة أمثلةٍ لمقاصد الشَّريعة، وبيَّنا شيئًا مِن أدلَّتها وأحكامها وأثرها في أفعال العباد، وفي هذا اليوم -بإذن الله عزَّ وجلَّ- نعودُ للحديثِ عن وسائل المقاصد، فإنَّ المقاصد الشَّرعيَّة -وهي المعاني الكليَّة التي جاءت الشَّريعة لتحقيقها- لا يمكن أن تتحقَّق إلا إذا كان لها وسائل، ومِن ثَمَّ نحتاج إلى الحديث عن وسائل المقاصد لبيان أحكامها، وأنواعها، وتفاصيلها، والفرق بينها وبين مقاصد الشَّريعة.
تقدَّم معنا أنَّ مقاصد الشَّريعة ندرسها ونتعلمها ونعرفها لعددٍ من الفوائد والثَّمرات، منها:
- إذا فهمنا مقاصد الشَّريعة استطعنا أن نفهم المعاني الحقيقيَّة للنُّصوص الشَّرعيَّة، فكم مِن إنسانٍ نزَّل كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- على خلاف مراد الله -عزَّ وجلَّ- ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم بسبب عدم معرفته بمقاصد الشَّريعة، ولذلك جاءت أفعالٌ وسلوكياتٌ بل قد يأتي انتهاكٌ للحرمات، وسفكٌ للدماء، وتجاوزٌ للحدود؛ كل هذا بسبب تحميل النُّصوص ما لا تدلُّ عليه من المعاني، فعندما يكون عند الإنسان معرفةٌ بمقاصد الشَّريعة يتمكن من فَهم كلام الله -عزَّ وجلَّ- وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وتنزيله على وِفقِ مرادِ كلٍّ منهما.
- نتدارس مقاصد الشَّريعة من أجل أن يكون هذا سببًا من أسباب معرفتنا للرَّاجح مِن الأقوال ومِن الأدلَّة، فإنَّ الاختلاف بين العلماء لازال موجودًا من عصر النُّبوة إلى عصر الصَّحابة وإلى عصرنا الحاضر، ومن الواجب على أهل الاجتهاد والفتوى أن يُرجِّحوا بين هذه الأقوال ليعرفوا الرَّاجح من المرجوح. ومن طرائق ذلك: أن نعرف مقاصد الشَّريعة، وبالتَّالي يظهر لنا المعنى الأقوى الذي يتوافق مع مقاصد الشَّرع، ثم إذا لم يعرف الإنسان مقاصد الشَّريعة فحينئذٍ قد يفوته تنزيل الأحكام الشَّرعيَّة في المسائل المستجدة؛ لأنَّ مقاصد الشَّريعة تُعينك على معرفة وفهم حكم الله -عزَّ وجلَّ- في المسائل المستجدَّة والنَّوازل والوقائع.
- وعندما نعرف مقاصد الشَّريعة نتمكَّن مِن اعتبار الظُّروف المصاحِبة للأحكام، سواءً كانت زمانيَّةً أو مكانيَّةً، أو كانت تتعلَّق بأحوالِ الأشخاصِ وصفاتهم، فعندما نجد شخصًا قويًّا في بدنه فإنَّ الشَّرع يُعطي له أحكامًا لا نجدها في مَنْ كان مريضًا أو ضعيفًا، وعندما نتدارس مقاصد الشَّريعة نستطيع أن نعرف أثر هذه الظُّروف على الأحكام الشَّريعة، بينما الوسائل نتدارسها ونُعملها من أجل أن تُوصلنا إلى مقاصد الشَّريعة ومعانيها الكليَّة.
إذن هناك فرقٌ بينهما في الغايةِ والأثرِ، وفي الفائدة مِن كلٍّ منهما، هكذا أيضًا من الفوارق:
• أنَّ المقاصد لها خصائص تخالف صفات الوسائل، فإنَّ المقاصدَ الشَّرعيَّة لها عدد من الصِّفات والخصائص لا نجدها في الوسائل، من ذلك مثلًا: أنَّ المقاصد لابد أن تكون مستندةً إلى دليلٍ، فهي ربانيَّةٌ من عند ربِّ العزَّةِ والجَلالِ، وهذا خلاف الوسيلة، ولذلك استعملنا في الدَّعوة إلى الله -عزَّ وجلَّ- وسائل متعددةً جديدةً اختلفت عن الوسائل الأولى، وما ذاك إلا لأنَّ المقاصد إلهيَّةٌ ربانيَّةٌ، من عند ربِّ العزَّةِ والجَلالِ بخلاف الوسائل.
• أيضًا المقاصد ملبِّيةٌ للحوائج التي يحتاج إليها النَّاس، بخلاف الوسائل، وكذلك المقصد الواحد قد يكون له وسائل متعددةٌ توصل إليه، فعندما نسلك مسلكًا لإحدى هذه الوسائل؛ اكتفينا به عن بقيَّة الوسائل متى كانت تلك الوسيلة موصِّلةً إلى المقصود، بخلاف المقاصد فلابد من تحقيقها جميعًا.
• المقاصد عامَّةٌ تتناول جميع الأفراد، وتتناول جميع الأشخاص، بخلاف الوسائل فإنَّها تختلف ما بين واحدٍ وآخر.
• المقاصد مضطردةٌ تسير على سننٍ واحدٍ، ولابدَّ من حضورها ووجودها، بخلاف الوسائل، فقد توجد في مسألةٍ دون مسألةٍ أخرى.
• مقاصد الشَّريعة لا يمكن أن يكون بينها تناقضٌ ولا تضادٌّ مهما اختلف الأشخاص، ومهما اختلفت الأحوال، ومهما اختلفت البلدان، بخلاف الوسائل، فقد يكون هناك وسائل تُحقق المقصد في محلٍّ، لكنَّها لا تحقِّقه في محلٍّ آخر، ولذا يُتصوَّر وجود التَّعارض والتَّناقض بين هذه الوسائل، بخلاف المقاصد.
• من خصائص المقاصد: أنَّها لا تمييز فيها، فتشمل الجميع، فلا يميز أحدٌ عن أحدٍ، بخلاف الوسائل، فلكلٍّ ظروفه، ولكلٍّ أحواله وصفاته، ولذلك كانت مقاصد الشَّريعة محترمةً مقدسةً، لا محلَّ للاجتهادِ في ذاتِها، إلا أنَّه قد يكون هناك اجتهادٌ في تحقيق مناطها، بخلاف الوسائل فإنَّها تَرِد عليها الاجتهادات، وتختلف ما بين مجتهدٍ وآخر.
- كذلك من خصائص المقاصد: أنَّها منضبطةٌ لا تتخلَّف، ولها أوصافٌ محددةٌ، وكذلك هي أمورٌ كليةٌ، ليست أمورًا تفصيلةً أو جزئيةً.
- ومِن خصائص المقاصد أنَّها وسطيَّةٌ لا غُلوَّ فيها ولا انحراف، على ما تقدم من ذكر خصائص المقاصد.
من خلال دراسة هذه الخصائص، نعرف عددًا من الفروقات بين الوسائل وبين المقاصد.
في هذا الباب أشير إلى أمرٍ عقديٍّ، ربما أشرتُ إليه في ما مضى، ألا وهو: هل الوسائل لها تأثيرٌ في تحقيق المقاصد؟ أو ليس لها تأثيرٌ؟
فهناك طائفةٌ تقول: لا أثر للوسائل البتَّة في تحقيقِ المقاصدِ، وهؤلاء الذين ينفون تأثير الأسباب هم جبريةٌ، وهم غلاةٌ في القدر.
ويقابلهم طائفةٌ أخرى، يقولون: إنَّ الأسباب تستقل، ومنها الوسائل تستقل بنفسها في إثبات الآثار والنَّتائج والمقاصد والغايات، وهؤلاء قدريةٌ ينفون القدر.
وهناك منهجٌ وسطيٌّ بينهما: يُثبت أنَّ للأسباب والوسائل آثارًا، لكنه يجعل هذا التَّأثير ليس مستقلًا بنفسه، وإنَّما بخلق الله -عزَّ وجلَّ- وقدره -جلَّ وعلَا.
من خلال ما سبق عرفنا شيئًا من الفروقات بين المقاصد والوسائل، وتقدَّم معنا شيءٌ من إثبات الأدَّلة لأنَّه لابد من الأمرين: السبب، والقدرة الإلهية.
ولذلك قال -جلَّ وعلَا- في عددٍ من النُّصوص يثبت الأمرين معًا: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: 30]، ولهذا نحن نفعل، والله -عزَّ وجلَّ- يخلقنا ويخلق فعلنا، كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 96]، فأثبت عملًا للعبد وفعلًا يُنسب إليه، ويكون له التَّأثير، وأثبت أنَّ هذا التَّأثير هو بخلق الله -عزَّ وجلَّ- وقدره -سبحانه وتعالى.
في هذا أيضًا أُنبه إلى أنَّه في مراتٍ عديدةٍ قد يُظن أنَّ بعض الوسائل من مقاصد الشَّريعة، ويقع اللَّبس في هذا كثيرًا، وأنا أشير إلى شيءٍ من هذا، مثلًا: التَّعاون هذا وسيلةٌ وليس مقصدًا من مقاصد الشَّارع، ولذا كلُّ النُّصوص التي جاءت بالتَّعاون، إنَّما جاءت به حال كونه محققًا لنُصرة الحقِّ، وسائرًا على منهاجه، قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُو﴾ [آل عمران: 103] وفي الآية الأخرى قال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
إذن التَّعاون على الإثم والعدوان تعاونٌ، ومع ذلك هو مذمومٌ، فحينئذٍ نعرف أنَّ هذه وسيلةٌ، وهذه أيضًا من الفروقات بين الوسائل والمقاصد، فالمقاصد مطلوبةٌ مطلقًا، ولكن الوسائل في مراتٍ لا تُطلب شرعًا بسبب كونها لا تؤدِّي إلى المقصودِ الشَّرعي، وإنَّما تنافيه وتضاده.
ومن أمثلة ذلك مثلًا: المال، فالمال ليس هدفًا ولا مقصودًا لذاته، وإنَّما هو وسيلةٌ، ولذلك جاءت النُّصوص ببيان أنَّ هذا المال لابد أن يُستعمل في طاعة الله -عزَّ وجلَّ- وأن يُجعل وسيلةً إلى تحقيق المقصود الشَّرعي، ولا يصحُّ أن يُجعل غايةً بنفسه.
ومن هنا جاءت النُّصوص بهذا الأمر، يقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «يقول ابن آدم: مَالِي مَالِي، لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟» ، ولذلك جاءت النُّصوص بذمِّ المال في بعض المواطن ﴿وَيلٌ لّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾ [الهمزة: 1- 4]، وفي الآية الأخرى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: 6، 7]، وبالتَّالي نعلم أنَّ هذا وسيلةٌ، وليس مقصدًا.
وقد يقول قائلٌ منكم: أليس المال مِن الضَّروريات الخمس التي جاءت الشَّريعة بالمحافظة عليها؟ فنقول: باب الضَّروريات فيه إشكالٌ من ثلاثة أوجهٍ:
الإشكال الأول: أنَّ بعض النَّاس يحصر مقاصد الشَّريعة في الضَّروريات الخمس، وهذا خطأٌ، ولذلك هذه الضَّروريات إنَّما تلتفِتُ إلى مقصدٍ واحدٍ، ألا وهو: تحقيق الشَّرع للمصالح، وهو جزءٌ من هذا التَّحقيق، لأنَّ منها ما هو تحسينيٌّ، ومنها ما هو حاجيٌّ -على ما تقدم- وبالتَّالي هذه الضَّروريات لا يلزم أن تكون هي المقصود، فالمقصود هو المحافظة على الأموال، بحيث لا تكون محلًّا للنَّهب والسَّلب والأخذ، والأكل بالباطل، ونحو ذلك.
فمن ثمَّ نعرف أنَّ مَن قَصَرَ مقاصد الشَّريعة في الضَّروريات، نقول له: أخطأتَ، ومَن ظنَّ أنَّ هذا الضَّروري هو المقصود، نقول: لا، المقصودُ حفظه لا ذاته، حفظه مِن الانتهاك والسَّرقة والاعتداء ونحو ذلك، لأنَّه يحصل به مقصدٌ مِن مقاصد الشَّريعة، وهو أمنُ النَّاسِ واستقراراهم -على ما تقدَّم.
وأنبِّه إلى شيءٍ في هذا، ألا وهو: هناك معانٍ كليةٌ تختصُّ بها بعض الأبواب، مثلًا أبواب العبادات لها معانٍ، وأبواب المعاملات لها معانٍ، وأبواب الأنكحة لها معانٍ، وأبواب الجنايات والحدود كذلك، فهذه المعاني قد يُظن أنَّها خاصةٌ بذلك الباب، ولكن إذا نظرتَ إليها وجدتَ أنَّها عامةٌ، مثلًا: يذكر بعضهم في أبواب الحدود والجنايات أنَّ من مقاصد الشَّريعة في هذا الباب: تحقيق العدل. وتحقيق العدل ليس خاصًّا بهذا الباب فحسب، بل هناك أبوابٌ من أبواب المعاملات والعبادات مبنيةٌ على هذا المقصد، وبالتَّالي لا تَظنَّ أنَّ هذا المقصد مختصٌّ بهذا الباب، وإن كانت أحكامه في ذلك الباب أكثر، لكن لا يعني أنَّ بقيَّة الأبواب لا يوجد فيها فروعٌ ومسائل تحقق ذلك المقصود.
ومن الأمور المتعلِّقة أيضًا بهذا: أنَّ بعضَ ما يُجعل مقصدًا للباب قد يكون وسيلةً، وقد يكون قِيمةً في ذلك الباب، وقد يكون معنًى لاحظه الشَّارع، لكنَّ لا يصح جعله مِن مقاصد الشَّريعة، التي هي المعاني الكلية التي التفت إليها الشَّرع في بناء الأحكام -على ما تقدم في تقرير معنى مقاصد الشَّريعة.
إذا تقرَّر هذا، فمن الألفاظ التي قد يُتردد فيها: ما وجد من المصطلحات، كمصطلح "القيم" ومن يبحث في الأخلاق وفي القيم يجدُ نوعَ اختلافٍ في تحديدِ معنى القيم، وبالتَّالي يقع التَّنازع في جعلها من المقاصد، وعدم جعلها.
و الذي يظهر أنَّ "القيم" معانٍ نفسيةٌ يترتب عليها سلوكياتٌ، وهذه المعاني النَّفسيَّة منها معانٍ كليَّة تشمل عددًا من المعاني، ومنها ما قد يتفرع إلى معانٍ جزئيةٍ، مثلًا: تعظيم الله، هذا معنًى كليٌّ ومعنًى نفسيٌّ، فهو قيمةٌ يترتب عليه مثلًا مخافة الله، رجاء الله، حسن الظن بالله -سبحانه وتعالى-، ونحو ذلك، وتعظيم الله معنًى يندرج تحت معنًى إيمانيٍّ أكبر، يشتمل أيضًا على عددٍ من المعاني الإيمانيَّة الأخرى، كما في الإيمان بالرُّسل، أو الإيمان بالكتب، أو نحو ذلك.
فالمقصود أنَّ القيمَ معانٍ نفسيةٌ يترتَّب عليها أمورٌ سلوكيَّةٌ، وهذه القيم تقوم بها حياة النَّاس، ويسعدون بها، لكن بينها وبين المقاصد تفاوتٌ، فإنَّ غالب القيم تؤدِّي إلى تحقيق مقصودٍ شرعيٍّ، مثلًا: مخافة الله وتعظيمه قيمةٌ تؤدِّي مثلًا إلى مقصد العدل، وتؤدِّي إلى مقصد أداء الحقوق لأصحابها، وتؤدِّي إلى مقصد تحقيق العبوديَّة لله -سبحانه وتعالى- وبالتَّالي نعرف الفرقَ بين هذين الأمرين.
الوسائل المؤدِّية إلى تحقيق المقاصد متعددةٌ وكثيرةٌ، ولها تقسيماتٌ متعددةٌ، فمثلًا هناك وسائل ثابتةٌ تكون في جميع الأزمنة وجميع الأمكنة، مثل: الكلام، فهو وسيلةٌ لنصرة الحق التي هي مقصدٌ من مقاصد الشَّرع، هذا الكلام لا يتغيَّر لا يختلف ما بين زمانٍ وآخر، بينما هناك وسائل متغيرةٌ، يختلف أمرها ما بين وقتٍ وآخر، فتكون وسيلةً في زمانٍ، لكنها ليست بوسيلةٍ في زمانٍ آخر، مثل: في الزمان الماضي كانت عندنا مسجلاتٌ، وعندنا أشرطةٌ تسجل أصوات الحق والخير والدَّعوة إلى الله -جلَّ وعلَا- اليوم غير موجودة، وأصبحوا يستخدمون آلاتٍ جديدةً أخرى، ووسائل تغاير الوسيلة الأولى، فهذه وسيلةٌ متغيرةٌ وليست كالوسيلة الأولى الثَّابتة.
هكذا أيضًا يمكن تقسيم الوسائل إلى قسمين:
- وسائل لها حكمٌ حال كونها وسيلةً.
- وسائل ليس لها حكمٌ حال كونها وسيلةً.
فالأولى تأخذ الحكم الشَّرعي، والثَّانية يُحكم عليها بقاعدة "الوسائل لها أحكام المقاصد"، وبالتَّالي هناك وسائل واجبةٌ، وهناك وسائل مندوبةٌ، وهناك وسائل مباحةٌ، وهناك وسائل محرمةٌ، وهناك وسائل مكروهةٌ، فكل الأحكام التكليفيَّة الخمسة يمكن أن يُحكم على عددٍ من الوسائل بأي واحدٍ منها بحسب ما يدلُّ عليه الدَّليل، وبحسب ما هي موصلةٌ إليه من الحكم الشَّرعي.
كذلك الوسائل لها جانبان:
- جانبٌ وجوديٌّ.
- وجانبٌ عدميٌّ.
فهناك وسائل تحقِّق المقصود من جهة الوجود، وهناك وسائل تحققه من جهة العدم، يعني مثلًا في حفظ الأموال، هناك وسائل جاءت بها الشَّريعة لحفظ المال، كمشروعيَّة الإشهاد، ومشروعيَّة توثقة الأموال، ومشروعيَّة الرهن؛ هذه وسائل لحفظ المال من جهة الوجود.
وهناك وسائل لحفظ المال من جهة العدم، مثلًا: إقامة الحد على السَّارق، تحريم السَّرقة، هذه وسائل تحقيق المقصود من جهة العدميَّة.
كذلك من أحكام الوسائل: أنَّها متفاوتةٌ، وليست على مرتبةٍ واحدةٍ، وبالتَّالي لابد أنَّ يُعطى لكل وسائل حكمها بحسب منزلتها.
ومن أبرز جهات تفاوت الوسائل ثلاثة أمورٍ:
الأمر الأول: مكانة المقصد الذي تؤدِّي إليه، فهناك وسائل مؤدِّية إلى مقصدٍ أعلى مثل تحقيق العبوديَّة لله -جلَّ وعلَا- وهناك وسائل مؤدِّية إلى مقصدٍ أقل، وبالتَّالي يُعطَى لكلِّ واحدٍ من هذه الوسائل حكمه بحسب المقصد الذي يوصل إليه.
فرقٌ بين وسائلَ تؤدِّي إلى تحقيق العبوديَّة، ووسيلةٍ تؤدِّي إلى الإحسان، الإحسان مقصودٌ شرعيٌّ، فالأولى أقوى، لماذا فضلت؟ بحسب الغاية والمقصد الذي تؤدِّي إليه.
الأمر الثَّاني: بحسب الثَّبات، هناك وسائل ثابتةٌ مؤدِّية للمقصود في كلِّ زمانٍ في كلِّ مكانٍ، وهناك وسائل تؤدِّي المقصودَ في بعض الأوقات دون بعضها الآخر، ومن ثَمَّ تتفاوت هذه الوسائل بحسب ثباتها وقدرتها.
الأمر الثَّالث: بحسب إفضائها للمقصود، فهناك وسيلةٌ تفضي بشكلٍ مباشرٍ وبشكلٍ قويٍّ إلى المقصود، وهناك وسائل أقل، بالتَّالي يكون لكل وسيلةٍ حكمها الشَّرعي بحسب درجتها في إفضائها للمقصود.
وهكذا أيضًا يعني هناك عددٌ من الاعتبارات التي تجعلنا نُفاوِتُ بين الوسائل، ما الفائدة من معرفة هذا التَّفاوت؟
هناك فوائد، منها:
- التَّرجيح بين هذه الوسائل.
- معرفة حكم هذه الوسيلة، هل هو الوجوب أو الندب.
- تندفع نفوسنا لطلبِ الوسيلة الأقوى؛ لأنَّنا نعلم أنَّ هذه الوسيلة أكثر أجرًا وثوابًا عند الله -عزَّ وجلَّ.
من الأمور التي أنبِّه عليها في هذا الباب: النَّظر في وضع بعض المسائل حيلةً لمخالفة مقصود الشَّارع، يعني مثلًا: في أبواب الرِّبا، هناك تعاملاتٌ ربويَّةٌ ظاهرها الصِّحة والسَّلامة، ولكن حقيقتها مخالفةٌ لمقصود الشَّارع، مثال ذلك: مثلًا في عددٍ من البيْعات التي تكون بين النَّاس، ظاهرها الصِّحة والسَّلامة، لكن مؤدَّاها أن تكون عَقدًا ربويًّا، مثلًا: أعطيك القلم بمليون، تسدده لي بعد سنةٍ، ثم تعيد لي القلم مقابل تسعمائة ألفٍ أسددها في الحال. هذه المعاملة ظاهرها الحل والجواز، لكن عندما ننظر إلى حقيقتها، نجد أنَّها مناقضةٌ لمقصود الشَّرع؛ لأنَّ حقيقة هذه المعاملة أن أعطيك تسعمائة ألفٍ في الوقت الحاضر، وأقوم بأخذ مليون بعد سنةٍ، وهذا في الورق النَّقدي الذي هو نوعٌ من الأموال الربويَّة، ومن ثمَّ نقول: هذا حيلةٌ على الربا، والله -جلَّ وعلَا- لا يُخدع -سبحانه وتعالى.
وهذه وسيلةٌ جُعلت من أجل الوصول إلى هدفٍ مناقضٍ لمقصود الشَّارع، وهذا يكون في جميع الأبواب، مثلًا: نكاح التَّحليل، امرأةٌ طلقها زوجها ثلاثًا، فجاءوا برجلٍ وقالوا: تزوجها يومًا أو يومين من أجل أن تتمكَّن من الرُّجوع إلى زوجها الأول، فهذا مناقضٌ لمقصود الشَّارع، لأنَّ مقصود الشَّارع في هذا الباب: أن يكون هناك استقرارٌ وأمنٌ ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21]. ومن ثمَّ هذا الزواج يخالف مقصود الشَّارع، ومن ثمَّ عامله الشَّارع بنقيض مقصوده، وقال: هذا النِّكاح لا يُحل المرأة لزوجها الأول، وهذا الرجل تيسٌ مستعارٌ، وهذا نكاحٌ باطلٌ، لا تترتَّب عليه آثار النِّكاح الصَّحيح.
وهكذا في بقيَّة الأبواب، ومن ثمَّ جاءت النُّصوص بالتَّحذير من الْتَّحيُّلِ على الأحكام، قال تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: 142]، وذكر قصة أصحاب السَّبت، فهم تحيَّلوا لاصطياد السَّمك في يوم السَّبت، وقد مُنعوا من ذلك، فجعلوا الشِّباك في يوم الجمعة، وأخذوها يوم الأحد، فعاقبهم الله -عزَّ وجلَّ- بأن جعلهم قردةً وخنازير.
ومن ثمَّ نعلم أنَّ هذه الحِيَل مخالفةٌ لمقصود الشَّارع، ولا يمكن اعتبارها وسيلةً تؤدِّي إلى حكمٍ شرعيٍّ، بل هذه الحيل باطلةٌ، ولا قيمة لها ولا منزلة، ولا يصحُّ أن يُتوسَّل بها للوصول إلى مخالفة مقصود الشَّارع.
هناك عددٌ من الوسائل جعلها بعض العلماء مقاصد، ورتَّبوا عليها أحكامًا كثيرةً، مثلًا: وضع الشَّريعة للإفهام، هذا ظنه بعض العلماء مقصدًا، وهو في الحقيقة وسيلةٌ؛ لأنَّه إذا فُهِمَ المقصود تمكَّن النَّاس من العمل به، فالمقصود هو تحقيق العبوديَّة، وتحقيق العبوديَّة يكون بفَهم الخطاب، وفهم الخطاب هذا وسيلةٌ للعمل بالشرع وتحقيق عبودية ربِّ العزَّةِ والجَلالِ، وليس هو المقصود في حدِّ ذاته، فهو وسيلةٌ.
ومن الأمور التي تُذكر في هذا الباب: أنَّ بعض النَّاس يأتي فيستغل مقاصد الشَّريعة من أجل تحقيق رغباتٍ له، أو من أجل مناقضة ومضادة النُّصوص الشَّرعيَّة، ويأتي يقول: الشَّريعة تقصد هذا الباب، وهذا الحديث يخالف مقصد الشَّريعة، وبالتَّالي يطعن في ذلك الحديث، وهذا نوعٌ من أنواع النِّفاق -سلمنا الله وإياكم منه.
لماذا يكون نفاقًا؟ لأنَّ هذا ردٌّ للنصِّ الشَّرعيِّ، والله -جلَّ وعلَا- قد أمرنا وأوجب علينا أن نأخذ بالنَّص الشَّرعيِّ، لا مواربة في ذلك ولا مجادلة في مثل هذا الأمر، وبالتَّالي علينا أن نأخذ بالنَّصِّ الشَّرعيِّ، وكم من مرةٍ قيل إنَّ هذا التَّوجُّه وهذا الحديث يخالف المقصود الشَّرعيِّ، وعند التَّحقق يتبيَّن خلافُ ذلك، ولذلك جعل الله -عزَّ وجلَّ- قوامَ الحياة باتِّباع الكتاب والسُّنَّة، وجعل الحياة الهنيئة السَّعيدة في تحكيم هذين الأصلين، من كتاب الله -عزَّ وجلَّ- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أشير هنا إلى ثلاث مسائل مهمةٍ -قبل أن أفتح لكم مجالًا للحديث والتَّعليق خصوصًا أنَّ هذا اللقاء هو آخر لقاءٍ- تجعلونها بين أعينكم:
الأول: أنَّ مراعاة مآلات الأمور وما تعود عليه هذا أمرٌ مقصودٌ للشَّارع، لا يكتفي بالأمر الظَّاهري، بل يُطالب بالنَّظر في ما يمكن أن تؤول إليه الأحوال والأفعال، ولذلك جاءت العديد من النُّصوص بالأمر بالتَّعقل والنَّظر في عواقب الأمور ومآلاتها ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ [يس: 68]، وهكذا أيضًا جاءت الشَّريعة بعددٍ من الأدلَّة التي تُحقق هذا الباب، ومثل ثَمَّ فإنَّ مِن الأمور المتعيِّنة على مَن يُريد أن يَهتم بمقاصد الشَّريعة: أن يلتفت إلى مآلات الأمور، ماذا ستكون عليه، وما هو مستقبل النَّاس في ما يأتي.
الثَّاني: الحذر من تلاعب المُستَفتِين بصاحب الفتوى والعلم، ممَّن له مدخلٌ في مقاصد الشَّريعة، فإنه قد يُسوَّغ لبعض النَّاس أنَّ هذا النَّص يخالف نصوص الشَّريعة، فيكون الفهم السَّقيم هو سبب ذلك، فهم لم يفهموا كلام الله على وفق مراد الله -جلَّ وعلَا.
الثَّالث: الأحكام الشَّرعيَّة لا ترتبط بالذَّوات، وإنَّما ترتبط بالأوصاف، ومن هنا نُقرر أنَّ الأحكام الشَّرعيَّة مرتبطةٌ بهذه الأوصاف والمعاني، فلا تقول: زيدٌ حكمه كذا، وإنَّما تقول: مَن اتَّصف بالصِّفة الفلانيَّة فحكمه كذا. لماذا؟ لأنَّ الحكم يعود على الصِّفات لا على الذَّوات.
من الأمور التي ننبه عليها هنا: أنَّ الأحكام الشَّرعيَّة لا تُطبَّق على الذَّوات، وإنَّما تُطبَّق على الأفعال، لا تقول: ما حكم زيد؟ وإنَّما تقول: ما حكم جلوس زيدٍ، ما حكم قيام زيدٍ؟ ونحو ذلك.
هذه أمورٌ عامةٌ تتعلَّق بوسائل المقاصد، وهي بمثابة التَّقعيد في هذا الباب، ولعلِّي أفتح لكم شيئًا مِن المجال لتتحدَّثوا في هذا الموضوع، أو في أي موضوعٍ مِن مواضيع المقاصد السَّابقة؛ لأنَّ هذا اليوم أظنه آخر اللقاءات في التَّحدث والمباحثة في مسائل المقاصد.
{سبق أن بيَّنَّا في مقصد التَّخفيف أنَّه قد لا يظهر في بادئ الأمر مَقصد الشَّارع في التَّخفيف بناءً على الحكم، وضربنا أمثلةً، منها: الحج، فيمن لا يُوجب على المرأة الحج إلا بمحرمٍ، وأيضًا فيمن كفَّر تارك الصَّلاة، وأنَّ الشَّارع خفَّف عليه، فالتَّخفيف من جهة القضاء لاحقًا، وما اتَّضح لي مثال تارك الصَّلاة، كيف يكون الحكم بكفره من التَّخفيف؟}.
أيهما أشدُّ على الإنسان التَّائب الذي ترك الصَّلاة عشر سنواتٍ؟ أن يُقال له: استأنف الصَّلاة، ولا يجب عليك قضاء صومٍ ولا صلاةٍ، وأكثِر من النوافل لتُعوض ما فاتك من هذه الأعمال؟ أو أن يُقال: أعِد صلاة عشر سنواتٍ، واقضِ صيام هذه السَّنوات العشر؟ أيهما أخف؟ الأوَّلُ أخفُّ. متى يكون ذلك الحكم؟ إذا قلنا بكفر تارك الصَّلاة. أما إذا قلنا بأنَّه لا يكفر، أوجبنا عليه أن يقضي، فبالتَّالي كان من هذا النَّحوِ أخف.
{من النَّاحية الأخروية؟}.
أمر الآخرة إلى الله -جلَّ وعلَا- أنت لا تحكم على أحدٍ بجنةٍ أو نارٍ، سواءً تارك صلاةٍ، أو مشركٌ، أو مرتدٌّ، كلهم لا تحكم عليهم بجنَّةٍ أو بنارٍ، فأمرهم إلى الله -جلَّ وعلَا- وأمر العقوبة هذا غير التَّخفيف في التَّكليف، ومثله مسألة: سفر المرأة للحجِّ بدون محرمٍ، قد يُظن من أول وهلةٍ أنَّ القائل بأنَّ المرأة تسافر بدون محرمٍ قوله أسهل ممَّن يمنع، ولكن إذا التفتَّ وجدتَّ الذي يمنع يقول: يُكتب لها أجرُ الحج كاملًا وهي في بيتها، ولا يجب عليها الحج. لماذا؟ لأنَّها لا تجد المحرم، فإذا نظرتَ في بواطن الأمور وجدتَّ أنَّ أحدَ القولين هو المتوافق مع المقصد الشَّرعي في هذا الباب.
{أحسن الله إليكم، قلنا في مقصد النَّصيحة أنَّها تكون لله ولكتابه ولرسوله ولعامَّة المسلمين، فنريد زيادة توضيحٍ كيف تكون النَّصيحة لعامَّة المسلمين؟}.
النَّصيحة لعامَّة المسلمين لها صورٌ متعددةٌ، منها مثلًا: أن يُعامِل النَّاس بما يحب أن يعاملوه به، هذه من النَّصيحة لهم، وأن يبحث عن ما فيه مصلحتهم ومنفعتهم دنيا وآخرةً، أن يعظ الخلق ويرشدهم إلى ما ينفعهم في آخرتهم، فهذه صورٌ من صور النَّصيحة لعامَّة المسلمين.
{جزاكم الله خيرًا يا شيخ، ذكرتم نوعي وسائل: ثابتةً ومتغيرةً، فالمتغيِّر واضحٌ عندي، لكن الثابتة أريد مثالًا للثابتة}.
يعني مثلًا: الكلام، هذا وسيلةٌ في الدَّعوة إلى الله، هل تغيرت بتغير الأزمان؟ لم تتغير. الذِّهاب إلى المسجد على الأقدام وسيلةٌ لأداء صلاة الجماعة، يتغير؟ لم يتغيَّر، لكن الذِّهاب على المركوبات يختلف ويتغير ما بين زمانٍ وآخر، فهذه أمثلةٌ تطبيقيةٌ لهذا الباب.
{إذن قد تتضمَّن الوسائل الثَّابتة شيئًا من الوسائل المتغيِّرة؟}.
يكون بينهما ارتباطٌ، أما أن يكفي أحدهما عن الآخر، أو يجزئ أحدهما عن الآخر، نقول: لا.
من الأمور التي نتحدَّث عنها: مسألة استغلال المقاصد مِن قِبَل بعض مَن يريد هدم هذا الدِّين، مِن حيث لا يشعر أو مِن حيث يشعر، خصوصًا في أوقاتٍ متباينةٍ وُجد مَن يطالب بمراعاة مقاصد الشَّريعة ثم قام باطِّراح دلالة النُّصوص، وقال: فهم المقصد الشَّرعي والعمل بالمقصد به أولى من العمل بالدَّليل الجزئي الواحد، بالتَّالي طعن في مدلول النَّصِّ وأمر بتركه.
وإذا نظرنا، وجدنا أنَّ الحال لا يخلو من ثلاثة أحوالٍ:
أحدها: أن يكون النُّصُّ لا يصح أن يعوَّل عليه لعدم صحته.
الثانية: أن يكون الفهم للنَّصِّ فَهمًا سقيمًا.
الثالثة: أن يُدخل في المقاصد ما ليس منها، فبالتَّالي يقع الالتباس الذي ذكرته قبل قليلٍ.
من الأمور التي أيضًا لابد أن تُلاحظ في باب المقاصد: أنَّ إغفال بعض المجتهدين لمسائل المقاصد يُفوِّت عليهم معرفة حكم الله -عزَّ وجلَّ- في ما يطرأ على النَّاس من الأحكام. لماذا؟ لأنَّه لم يعرف المقصدَ الشَّرعيَّ، أو لأنَّه قدَّم هذا المقصود وألغى به مدلول النَّصِّ.
أيضًا من الأمور التي يُتحدث فيها: ما يتعلَّق بمقاصد المكلَّفين. ومقصد المكلَّف يكون في الامتثال، بينما مقصد الشَّارع يكون في وضع الأحكام، والعبد ينبغي به أن يقصد بالتزامه بالحكم الشَّرعيِّ نفعَ نفسِه في آخرته، فإنَّ النُّصوص قد جاءت بإيجاب إرادة الآخرة، والمنع من إرادة الدنيا، قال تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلً﴾ [الإسراء: 21].
بالتَّالي لابد أن يقصد الإنسان بعمله الآخرة، ومن هنا لازال العلماء يؤكِّدُّون على معنى الإخلاص ويأمرون به، ويؤكِّدون على حديث: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» .
ومن ثَمَّ لابد من ملاحظة هذا المعنى والمقصد، ألا وهو: إخلاص العبوديَّة، لله -عزَّ وجلَّ-ويلاحظ أن بعض النَّاس بدأ يستعمل كلمة "الإخلاص" وينزِّلها في غير منازلها، فيجعل معنى كلمة "الإخلاص" هو الإتقان، وهذا خطأٌ، فالإخلاص أمرٌ قلبيٌّ، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين﴾ [البينة: 5].
هذا شيءٌ ممَّا يتعلَّق بمقاصد الشَّريعة، ونحن نريد أن نختم بعد قليلٍ في ما يتعلَّق بهذا الباب، بعد أن عرفنا أحكام هذه المقاصد، وعرفنا قواعدها، وعرفنا تفصيلاتها، وعرفنا أجزاءها، وعرفنا التَّقعيد الفقهيَّ لمسائل المقاصد، وفائدة تعلُّم علم المقاصد، وشيئًا من البحوث التَّاريخيَّة في هذا العلم، وكما تقدم معكم أنَّ مِن أوائل مَن ركَّز البحثَ في هذا الباب هو الإمام الشَّاطبي، المتوفى سنة سبعمائة وتسعين، وإن كان ليس هو المبتدع لهذا العلم أو الكاشف له، بل إذا نظرنا إلى كتابات الأصوليين المتقدِّمين نجد أنَّ لهم مشاركاتٍ وإسهاماتٍ في ما يتعلَّق بعلم مقاصد الشَّريعة، فالنَّاظر مثلًا في النُّصوص القرآنيَّة والنَّبويَّة والنَّاظر في كلام بعض التَّابعين؛ يجد أنَّ لهم عنايةً بهذه المقاصد وتأكيدًا عليها.
ثم لما جاء الشَّاطبي أفرد بابًا في المقاصد، وهو يقع في المجلد الثاني، وتكلم عن أحكامٍ كثيرةٍ متعددةٍ في هذا الباب تتعلَّق بالمقاصد وتقسيماتها، ثم أيضًا أدخَل المقاصد في بقيَّة الأحكام الأصوليَّة والقواعد، ثم بعد ذلك في العصر الحاضر وُجدت كتاباتٌ تُعنى بالمقاصد، وهذه الكتابات على أنواعٍ، منها مَا يأتي لتأصيل المقاصد، أو بعض جزئياتها عند إمامٍ من الأئمة، كشيخ الإسلام ابن تيمية، أو ابن القيم، أو الشَّاطبي، أو غيرهم من أهل العلم.
بعد ذلك وُجدت كتاباتٌ أخرى من أشهرها: كتابة الشَّيخ الطَّاهر ابن عاشور، حينما كتب عن مقاصد الشَّريعة، وله نظراتٌ مقاصديةٌ بديعةٌ، وفي عصرنا الحاضر وُجدت أيضًا كتاباتٌ ومؤلفاتٌ تُعنى بالمقاصد، منها ما يُعنى بها كعلمٍ، مثل كتاب الشَّيخ عبد العزيز الربيعة "علم مقاصد الشَّريعة"، ومنها ما يُعنى بكتابة أو دراسة تأصيل المقاصد عند عالمٍ من العلماء، كما وجد كتاباتٌ عن المقاصد عند الشاطبي، والمقاصد عند ابن تيمية، والمقاصد عند الإمام الشافعي، والمقاصد عند الإمام مالك، والمقاصد في المدرسة المالكية، ووجد أيضًا من يُعنى بتفاصيل بعض هذه الأحكام المتعلِّقة بالمقاصد، فمنهم من عُني بطرق كشف المقاصد والأدلَّة الدَّالَّة عليها، ومنهم مَن عُني بالمقاصد المتعلِّقة بالمصالح ومنهم مَن عُني بأبوابٍ معينةٍ، مثل عَلاقة المقاصد بالأدلَّة الشَّرعيَّة، كما عند الشيخ اليوبي، ومنهم من عُني بالمقارنة والموازنة بين مقاصد الشَّريعة، وهذه كلها كتابات نافعة، طيبة، جزاهم الله خيرًا، ونفع بكتاباتهم.
أسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يوفقنا وإياكم لكل خيرٍ، وأن يجعلنا وإياكم الهداة المهتدين، كما أسأله -سبحانه وتعالى- أن يصلح أحوال الأمَّة، وأن يردهم إلى دينه ردًّا حميدًا، اللهم يا حي يا قيوم، اجعل النَّاس يعتنون بمقاصد شريعتهم، ويقومون بها، طاعةً لك، ورغبةً في أجرك وثوابك، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك