الدرس الخامس

فضيلة الشيخ أ.د. سليمان بن عبدالعزيز العيوني

إحصائية السلسلة

5513 22
الدرس الخامس

قطر الندى

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات برنامجكم "البناء العلمي".

في هذه الحلقة نستكمل وإياكم شرح "قطر النَّدى وبل الصَّدى" لابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ-، وسيكون ضيفنا فضيلة الشيخ/ أ. د سليمان بن عبد العزيز العيوني، أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.

حيَّاكم الله وبيَّاكم أنتم والإخوة المشاهدين والأخوات المشاهدات.

{في الحلقة الماضية توقفنا عند كلام المؤلف عن فصل: تقدير الحركات الإعرابية.

قال المؤلف -غفر الله لنا وله وللإخوة المشاهدين: (فصل: تُقَدَّرُ جميعُ الحركاتِ في نحوِ "غلامِي والفَتَى" ويُسَمَّى مقصوراً.

- والضمةُ والكسرةُ في نحو "القاضي" ويسمى منقوصاً.

- والضمةُ والفتحةُ في نحو "يخشى".

- والضمةُ في نحو "يدعو ويقضي".

- وتظهر الفتحةُ في نحوِ "إنَّ القاضيَ لن يقضيَ ولن يدعوَ")}.

بسم الله الرحمن الرحيم.

اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد:

فأرحبُ بالجميع في هذا الدرس الخامس من دروس شرح "قطر الندى وبل الصدى" عليه رحمةُ الله، ونحن في سنة ثنتين وأربعين وأربعمائة وألف، وهذا الدرس في الأكاديمية الإسلامية المفتوحة.

انتهينا في الدرس الماضي من الكلام على تقسيم علامات الإعراب إلى أصليَّة وفرعيَّة، والآن نبدأ -بإذن الله تعالى- بالكلام على تقسيم علامات الإعراب إلى ظاهرةٍ ومقدَّرةٍ.

قال شيخنا ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ: (فصل: تُقَدَّرُ جميعُ الحركاتِ....).

المراد بالعلامة الظاهرة: أي ظاهرة في النطق، فعندما يتكلَّم العربي فإنَّ الحركة تظهر في نطقه، ومن ثمَّ تظهر في سمع المخاطَب، فإذا قلتَ: "محمدٌ" تظهر الضَّمة في نطقي وفي سمعك، فسُمِّيت: ظاهرة.

أمَّا المراد بالعلامة المقدرة: وهي ليست المحذوفة أو المعدومة، وإنما هي الموجودة المغطَّاة، والذي غطَّاها مانع الظهور -الذي سيأتي ذكره.

مثال ذلك: أقول: "هذا القلمُ موجودٌ أو غير موجودٍ؟" هو الآن موجود، أمَّا لو أخفيته، فهو من حيث الوجود هو موجود في هذا المكان، فالفرق أنه في الحالة الأولى ظاهر للعيان، أمَّا في الحالة الثانية فغطَّاه ثوبي، وكون ثوبي غطَّاه لا يعني أنه معدوم أو غير موجود، وإنَّما هناك شيء ستره ومنعه من الظهور.

وهكذا علامة الإعراب المقدَّرة، فهي: علامة يجلبها العامل، كأن تقول: "جاءَ محمدٌ"، فالضمَّة على "محمدٌ" جلبها الفعل "جاءَ"؛ لأنه هو الذي رفع الفاعل، أي: وضع عليه ضمَّة، فعندما يأتي موضع من مواضع تقدير الحركة كالمقصور، كقولك "جاء الفتى"، فالعامل "جاءَ" فعل فعله، أي رفع "الفتى"، ووضع على آخره ضمَّة، إلَّا أنَّ الضمة في "الفتى" وقعت على الألف، والألف ملازمة للسكون، وهذا السكون الملازم للألف غطَّى الضمَّة ومنعها من الظهور، فالضَّمة موجودة، ولكن السكون الملازم للألف غطَّاها ومنعها من الظهور، فنقول: إنها مقدَّرة، يعني: موجودةٌ مغطَّاةٌ مستورةٌ.

المراد بالمانع -الذي يمنع الحركة من الظهور: هو الشيء الذي يستر هذه العلامة الإعرابية ويمنعها من الظهور.

مثلًا: المانع في المقصور مثل: "فتى": كون الألف العربية ملازمةً للسكون.

إذا قلنا: "جاء الفتى"، فـ "جاءَ" فعل رفع الفاعل "الفتى"، أي: وضع في آخره ضمَّة، وقد فعل العامل ذلك، فوضع الضمَّة على الألف، ولكن الألف في العربية -سواء رُسمَت واقفة أو نائمة فإنَّ هذا أمر إملائي كتابي- فإنها ملازمة للسكون، ولا يُمكن أن تُحرَّك لا بفتحة ولا بضمَّة ولا بكسرة، والذي حدث أن آخر هذا الاسم اجتمع فيه شيئان: الضمة علامة الإعراب. والسكون الملازم؛ ولا يُمكن أن يظهر الأمران، والذي حدث أنَّ السكون غطَّى الضمَّة ومنعها من الظهور.

إذًا؛ المانع هنا: السكون الملازم للألف، ويعبرون عنه بــ "التَّعذُّر"، وسنعرف -إن شاء الله- معنى ذلك.

عدد أبواب علامات الإعراب المقدَّرة التي ذكرها ابن هشام قبل قليل يُمكن أن نقول خمسة أو أربعة، فإنَّ أجملنا كانت أربعة، وإن فصَّلنا كانت خمسة، والأمر في ذلك سهلٌ.

قال -رَحِمَهُ اللهُ: (تُقَدَّرُ جميعُ الحركاتِ في نحوِ "غلامِي")، ذكر ابن هشام أنَّ هذه العلامات في عدة أبواب، وبدأ بالباب الأول ومثَّل له بـ "غلامي"، يعني: الاسم المضاف إلى ياء المتكلم، كــ "غلامي، وصديقي، وربي، وديني، أخي"، فتُقدَّر فيه جميع الحركات، يعني: حركة الرفع: الضمة. وحركة النصب: الفتحة. وحركة الجر: الكسرة.

مثل: "صديقي"، تقول في الرفع: "جاء صديقٌ"، وفي النَّصب: "رأيتُ صديقًا"، وفي الجر: "سلمتُ على صديقٍ".

لو أضفنا "صديق" إلى اسم ظاهر مثل: "محمد"؛ فإن الإضافة ستمنع التنوين، ولكنها لا تمنع الإعراب، فالضمة باقية في الرفع ولكن التنوين يذهب، تقول: "جاءَ صديقُ محمدٍ، رأيتُ صديقَ محمدٍ، سلمتُ على صديقِ محمدٍ".

لو أضفنا "صديق" إلى أي ضمير غير ياء المتكلم، ككاف الخطاب، فنقول: "جاءَ صديقُكَ، رأيتُ صديقَك، سلمتُ على صديقِك".

أمَّا لو أُضيفت إلى ياء المتكلم -وياء المتكلم لها خاصيَّة في اللغة العربية، وهي أنها تكسر ما قبلها، وهو حرف الإعراب- ففي الرفع كنتَ تقول: "جاءَ صديقٌ" أمَّا لو أضفتها إلى ياء المتكلم فتقول: "جاءَ صديقُــِ ــيِ" فاجتمع شيئان على الحرف: الضمة وهي حق الإعراب، وكسرة المناسبة لياء المتكلم، ولا يُمكن أن يظهرا، فحركة المناسبة -الكسرة- منعت علامة الإعراب من الظهور، فتقول في الرفع: "جاءَ صديقي" مرفوع بضمة مُقدرة، وفي النَّصب: "رأيتُ صديقي" منصوب بفتحة مُقدرة، وفي الجرِّ: "سلَّمتُ على صديقي" مجرور بكسرة مُقدرة؛ فلهذا قال ابن هشام: (تقدر جميع الحركات)، فالمانع الذي منع علامة الإعراب هو حركة المناسبة، وهي هنا الكسر.

سؤال: علامة الرفع الضمة مُقدرة ومتفق عليها، وعلامة النصب مُقدرة ومتفق عليها؛ فهل علامة الجر مقدرة؟ فعلامة الجر الكسرة، والمانع هنا هو الكسر، فهما في النطق سواء!

الجمهور قالوا: علامة الإعراب مُقدرة طردًا للحكم، وهذا هو الراجح.

وبعض النحويين كابن هشام قال: لا حاجة إلى أن نقول إنها مقدرة، ولكن نقول: الحركة الظاهرة في "سلمتُ على صديقي" هي علامة الإعراب. وهذا القول ضعيف.

ننتقل إلى الباب الثاني من أبواب علامات الإعراب المقدرة وهو: الاسم المقصور.

يقول ابن هشام: (تُقَدَّرُ جميعُ الحركاتِ في نحوِ: "غلامِي والفَتَى" ويُسَمَّى مقصوراً).

الاسم المقصور: هو الذي ينتهي بألف لازمة، سواء كانت الألف نائمة -مقصورة- أو واقفة -يابسة-؛ لأنَّ كتابتها أمر إملائي لا علاقة للنحو به. وشرحه في الحقيقة إنما هو في الصرف لأنَّ هذا بنية.

إذا قلت: "جاء الفتى"، فــ "جاء" ترفع "الفتى" أي: تضع على آخره ضمَّة، ولكن "الفتى" مختوم بألف، والألف ملازمة للسكون، وهذا السكون الملازم للألف منع الضمَّة من الظهور، ويسمونه "التَّعذُّر"، والتعذر في اللغة: هو الاستحالة. تقول: تعذر الشيء، أي مستحيل، والمستحيل هنا هو تحريك الألف، إمَّا بضمةٍ في الرفع أو بفتحةٍ في النصب، أو بكسرةٍ في الجر.

قال ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- مع تقدير كلامه: (وتُقدَّر الضمةُ والكسرةُ في نحو "القاضي" ويسمى منقوصاً. وتظهر الفتحةُ في نحوِ "إنَّ القاضيَ").

الاسم المنقوص: هو الاسم الذي ينتهي بياء قبلها كسرة، أو تقول: ياء مديَّة، فإن الياء المدية هي المسبوقة بكسرة، مثل: "القاضي، الراضي، المهتدي، المدعي"، وشرح ذلك إنما هو في الصرف.

والاسم المنقوص تُقدَّر الضمة والكسرة عليه فقط، فالضمة علامة الرفع، والكسرة علامة الجر، فنقول في الرفع: "جاءَ القاضي"، فـ "جاء" رفعت "القاضي" أي: وضعت على الياء ضمَّة، وكان يُمكن في النطق أن نتكلف ونقول: "جاء القاضيُ" مثل: "جاء الفاضلُ، والحارسُ، والقائمُ" فهذا يُمكن ولكنه ثقيل، لا مُستحيل ولا مُتعذر، فبسبب الثقل جلبت العرب سكونًا لتدفع هذا الثِّقل، فالمانع هو دفع الثقل. إذًا؛ هذا السكون الذي جلبته العرب لدفع الثقل منع الضمة من الظهور.

وكذلك في الجر، نحو: "سلكتُ على القاضي"، فـ "على" حرف جر، و"القاضي" اسم مجرور على آخره كسرة، وكان يُمكن أن نتكلف ونقول "على القاضيِ"، ولكن هذا فيه ثقل، لكنه ممكن، وبسبب هذا الثقل سكَّنت العرب الياء، فالسكون المجلوب لدفع الثقل منع الكسرة من الظهور.

إذًا؛ المانع هنا: الثِّقل، ولأنَّ المانع هو الثقل فإنه سيمنع الحركات الثقيلة فقط، وهي الضمة والكسرة، وأما الفتحة فخفيفة، وذلك أنهم يقولون: إنَّ الفتحة سُميّت بذلك لأنه مجرد فتح للفم، لكن الضمة تحتاج إلى علاجين: أن تفتح الفم ثم تضم الشفتين، والكسرة تحتاج إلى أن تفتح الشفتين ثم تُنزلهما إلى أسفل، فالضمَّة والكسرة ثقيلتان لأن كل منها يحتاج إلى عملين، أما الفتحة فخفيفة، ولهذا نجد أنَّ الفتحة هي الأكثر في اللغة، ليكون أكثر الكلام على الخفيف.

إذًا الفتحة تظهر على الاسم المنقوص، فتقول: "رأيتُ القاضيَ"، فلهذا قال ابن هشام: (وتظهر الفتحةُ في نحوِ "إنَّ القاضيَ).

ما حكم المنقوص المنوَّن مثل: "قاضٍ

إذا نكَّرت الاسم المنقوص وحذفت منه "أل" والإضافة فحكمه مثل ما قلنا قبل قليل، ولكن تطبيق الذي قلناه قبل سيؤدي إلى الآتي:

- أنه في الرفع والجر: ستحذف الياء وتنوِّن. تقول: "جاءَ قاضٍ، سلمتُ على قاضٍ"؛ لأنَّ الضمة والكسرة ثقيلتان، فأدَّى ذلك إلى حذف الياء وإثبات التنوين.

- وفي النَّصب: ستثبت الياء، تقول: "رأيتُ قاضيًا"؛ لأنَّ الياء ثبتت والفتحة خفيفة.

ننتقل بعد ذلك إلى الباب الرابع من أبواب علامات الإعراب المقدرة، وهو: الفعل المضارع المختوم بألف، ونُخرج الماضي والأمر لأنهما مبنيان، فلا مدخل لعلامات الإعراب عليهما.

فالفعل المضارع المختوم بألف مثل: "يرضى، يخشى، يرعى، يُدعى، يُرمى".

قال ابن هشام (وتُقدَّر الضمةُ والفتحةُ في نحو: "يخشى").

تُقدَّر الضمَّة وهي علامة الرفع، وتُقدَّر الفتحة وهي علامة النصب، ولم يذكر علامة الجزم لأنها حذف حرف العلة، وحذف حرف العلة في نحو: "يدعو - ولم يدع، ويخشى، ولم يخش"، علامةٌ ظاهرةٌ في النطق، فلهذا لم يذركها لأنه الآن يتكلم على علامات الإعراب المقدرة، وقد ذكرها في علامات الإعراب الأصلية والفرعية، وهي علامة ظاهرة.

ما المانع من ظهور علامات الإعراب؟

إذا قلتَ: "يخشى محمدٌ ربَّه"، فـ "يخشى" فعل مضارع لم يُسبق بناصب ولا بجازم فهو مرفوع، وعلامة الرفع الضمة، إلَّا أنَّ الضمة وقعت على الألف، والألف مُلازمة للسكون، والسكون منع الفتحة من الظهور، فالمانع هنا هو التَّعذُّر، ومع الواو والياء الثقل.

وكذلك في النصب، فلو قلت: "لن يخشى" فالأصل أنَّ هناك فتحة على الألف، ثم إنَّ الألف عليها سكون، والسكون منع الفتحة من الظهور، فصارت مُقدَّرة للتعذُّر.

الباب الخامس والأخير من علامات الإعراب المقدرة: الفعل المضارع المختوم بواوٍ أو ياءٍ، قال اين هشام مع تقدير كلامه: (وتُقدَّر الضمةُ في نحو "يدعو ويقضي". وتظهر الفتحةُ في نحوِ "إنَّ القاضيَ لن يقضيَ ولن يدعوَ").

الفعل "يدعو" على وزن "يفعُل" مثل: "يكتب. وكذلك: "يقضي" مثل: "ينزل".

هذا الفعل إذا كان مرفوعًا مثل: "يقضي محمد، ويدعو محمد"، علامة رفعه الضمة، وهي علامة أصلية، فالوا في الأصل: عليها ضمَّة، والياء في الأصل عليها ضمَّة، فأصل الفعل "يدعوُ، ويقضيُ"، فيُمكن أن نضع الضمة ونظهرها على الواو والياء، ولكن هذا ثقيل، فدفعت العرب هذا الثقل بجلب السكون الذي منع الضمَّة من الظهور على الواو وعلى الياء، فلهذا نقول: إن المانع هنا من الظهور هو الثِّقل، ولأنَّ المانع هو الثِّقل فقد منع الحركة الثقيلة وهي الضمة، وأما الفتحة فإنها حينئذٍ ستظهر، مثل: "لن يدعوَ، لن يقضيَ"، وهذا هو قول ابن هشام: (وتظهر الفتحةُ في نحوِ "إنَّ القاضيَ لن يقضيَ ولن يدعوَ")؛ لأنها خفيفة، وإنما كان المانع في الضمة هو الثقل.

وأما الجزم فلم يذكر علامته لأنها علامة ظاهرة، وهي حذف حرف العلة.

قد يسأل سائل فيقول: هل هذه المواضع التي ذكرها ابن هشام هي مواضع التقدير فقط؟ أم هناك مواضع أخرى لعلامات الإعراب المقدرة؟

نقول: هناك مواضع أخرى لعلامات الإعراب المقدرة، لكنها ليست مطردة، فهي أقل ورودًا من هذه المواضع التي ذكرها ابن هشام، من ذلك مثلًا: أن يكون المانع من الظهور هو التخلص من التقاء الساكنين، فلو قلت مثلا: "لـمْ يخرجْ"، فـ "يخرجُ" فعل مضارع مجزوم بــ "لـم" وعلامة جزمه السكون، فلو جاء بعد ساكن مثل: "الرجل"؛ فإذا وصلتها في الكلام ستقول حينئذٍ: "لـمْ يخرجِ الرجلُ"، فهذا الكسر ليس علامة إعراب، وإنما حركة للتخلص من التقاء الساكنين، وهذه الحركة هي التي منعت السكون من الظهور.

وهناك سؤال مهم ويُسأل كثيرًا: ما الفرق بين المعرب بالحركات التقديريَّة وبين المبني؟

جميعها لا تضع عليهما الحركات، فالمبني مثل "الذي"، والمعرب لا حركة المقدرة مثل "الفتى"؛ ويُمكن أن نفرِّق بينهما بطريقتين:

- طريقة سهلة تعليميَّة: وهي أن الأسماء المبنية محصورة، وقد حصرناها من قبل في عشرة أسماء، فما دخل فيها فهو مبني، وما لم يدخل فيها فإنه ليس مبنيًّا ويكون من المعرّب بالحركات التقديرية.

- طريقة علمية: وهي أن المبني بناؤه بسبب بنيته، لأننا قلنا إن الأسماء المبنية إنما تُبنى لشبهها بالحرف، إما شبهًا وضعيًّا أو معنويًّا أو استعماليًّا أو افتقاريًّا، وأما المعرَب بحركات تقديرية فإنَّ المانع في الحرف الأخير فقط، فهناك سبب في الحرف الأخير كأن يكون ألفًا لا يقبل علامات الإعراب، أو يكون واوًا أو ياءً وعلامات الإعراب ثقيلة عليه؛ يعني أنَّ المعرب بحركات مقدَّرة مشكلته في الحرف الأخير، وأما المبني فسبب بنائه بنية الكلمة كلها.

انتهينا من الكلام على علامات الإعراب، وبذلك ننتهي من الكلام على ما بدأ به ابن هشام -رَحِمَهُ اللهُ- من أنواع الإعراب وعلامات الإعراب؛ لننتقل إلى باب آخر وهو: إعراب الفعل المضارع.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (يُرْفَعُ المضارعُ خالياً من ناصب وجازم نحوُ "يقومُ زيدٌ")}.

الآن سيبدأ ابن هشام في موضوع آخر كبير، وقد ذكرنا في الدرس الأول أن ابن هشام في "قطر الندى" من العلماء الذين قدَّموا الكلام على إعراب الفعل المضارع في أول الكتاب، وكثير من النحويين يؤخرون الكلام على إعراب الفعل المضارع في آخر النحو، والمسألة سهلة ولا مشاحة في الترتيب.

عرفنا أن الفعل المضارع يدخله الرفع والنصب والجزم، ولا جرَّ فيه؛ لأن الجر خاص بالأسماء.

وقبل أن نبدأ بالتفاصيل نُلخِّص كل ذلك، فنقول:

- يُنصَب الفعل المضارع إذا سُبق بناصب، ونواصبه أربعة.

- يُجزم الفعل المضارع إذا سُبق بجازم، وجوازمه خمسة.

- يُرفع الفعل المضارع فيما سوى ذلك، أي: إذا لم يُسبق بناصب ولا بجازم.

سندرس الآن نواصب الفعل المضارع، وجوازم الفعل المضارع، وما سوى ذلك يكون الرفع، وبهذا ينتهي الكلام على إعراب الفعل المضارع.

بدأ ابن هشام بالكلام على رفع الفعل المضارع، فقال: (يُرْفَعُ المضارعُ خالياً من ناصب وجازم نحوُ "يقومُ زيدٌ")، يعني: إذا لم يُسبق بناصبٍ ولا جازم، وهذه هي الحالة الأصلية للفعل المضارع.

مثال ذلك: أي فعل مضارع لم يُسبق بناصب "أنْ، لنْ، كي، إذن"، ولم يُسبَق بجازم "لـمْ، ولـمَّا، ولام الأمر، و(لا) النهاية".

مثل: "يقومُ زيدٌ" فالفعل لم يُسبق بناصبٍ ولا جازم.

وقولك: "زيدٌ يقومُ"، فالفعل "يقوم" مسبوق بــ "زيد" وهي ليست بناصب ولا جازم، فيُرفع الفعل.

ولو قلت: "كان زيدٌ يقومُ"، فـ "يقومُ" فعل مضارع مرفوع؛ لأنَّه لم يُسبَق بناصب ولا بجازم، فــ "كان" ليست من نواصبه ولا من جوازمه، فإنَّ "كان" ترفع اسمها وتنصب خبرها، وخبرها هنا جملة "يقومُ هو".

ولو قلت: "إنَّ زيدًا يقومُ"، أو "ظننتُ زيدًا يقومُ"، فالفعل هنا مرفوع؛ لأنَّ "ظننتُ" ليست من نواصب الفعل المضارع.

وكذلك في الأفعال الخمسة التي تُرفع بثبوت النون إذا تَّصلت بواو الجماعة "يقومون"، أو ألف الاثنين "يقومان"، أو ياء المخاطبة "تقومين"؛ فكل فعلٍ من الأفعال الخمسة رأيتَ فيه النون فاعلم أنه مرفوع؛ لأنَّ فيه علامة الرفع، كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة/3].

ثم ينتقل ابن هشام إلى الكلام على نصب الفعل المضارع.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وينصبُ بـ "لنْ" نحوُ "لن نبرحَ")}.

النواصب إجمالًا "لنْ، كي، إذن، أنْ".

بدأ بــ "لـن" فقال: (وينصبُ بـ "لنْ" نحوُ "لن نبرحَ").

و "لن": لنفي المستقبل، ولا تنفي الماضي، فإذا أردتَّ أن تنفي قولك: "محمد قام بالأمس"؛ ما تقول: "لنْ قامَ بالأمس"؛ وإنما تقول: "لـمْ يقُم" أو "ما قامَ".

ومن الأمثلة: قوله -سبحانه وتعالى: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ﴾، وقوله ﴿لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ﴾، وقوله ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾، فهنا علامة النصب الفتحة، وقوله: ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا﴾، وعلامة النصب هنا حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وقوله ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾، أيضًا علامة النصب هي حذف النون.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وبـ "كَيْ" المصدريةِ نحوُ "لكَيْلا تأسَوْا")}.

الناصب الثاني: "كــي" المصدريَّة، والحروف المصدريَّة -كما شُرح في أكثر من مُناسبة- هي التي ينسبك منها ومما بعدها مصدر، مثل: "أنْ، أنَّ، ما"؛ فهذه كلها قد تأتي حروفًا مصدريَّة، كأن تقول: "يُعجبني أن تذهب"، يعني: ذهابك. وقولك "يعجبني أنَّك مجتهد"، يعني: اجتهادك. أو قولك: "يعجبني ما فعلتَ"، يعني فعلكَ"، ومن ذلك: "كـي".

فإذا قلتَ: "جئتُ كـي أتعلم"، فــ "أتعلم" منصوبة وعلامة نصبها الفتحة، وهي منصوبة بـ "كـي" وهي حرف مصدري -يعني ينسبك منه ومن الفعل بعده مصدر- فلو أردنا أن نقابله بمصدره الصَّريح فيكون "التَّعلُّم".

فهل تقول: "جئتُ التَّعلُّم" في الصريح؟

الجواب: لا، لأنَّ هناك محذوفًا مفهومًا وهو لام التعليل، وهو حرف جر، والمعنى: "جئتُ للتَّعلم" فإذا جئتَ بالمصدر صريحًا فلابدَّ أن تأتي باللام.

أما لو أتيتَ به مؤوَّلًا -يعني منسبكًا من (كي) والفعل- جاز لكَ أن تحذفها، فتقول "جئتُ كي أتعلَّم"، وجاز لك أن تثبتها فتقول "جئتُ لكي أتعلَّم" واللام في "لكي" هي التي جرَّت المصدر المؤوَّل، لأنَّ المصدر المؤوَّل اسم، سواء كان المصدر صريح أو مؤوَّل فهو اسم.

إذًا؛ لام الجر جرَّ المصدر المؤوَّل من "كي" والفعل؛ إلا أن هذه اللام يجوز أن تُحذَف ويجوز أن تُذكَر -كما سنذكر ذلك بعد قليل.

من الأمثلة: قوله تعالى: ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا﴾، منصوب بالفتحة، وقوله: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾، فالفعل "تأسوا" والناصب "كي" وبينهما "لا" النافية، وهي لا تؤثر وليس لها عمل، فهي أدخلت فقط معنى النفي، وأمَّا الفعل فهو منصوب بـ "كي". وقال تعالى كذلك: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً﴾.

أحوال النصب بـ "كي":

النصب بــ "كي" من حيث تتبُّع اللغة تأتي على ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: أن تُسبَق بلام التعليل، فتأتي بـ "كي"، وتأتي معها بلام التعليل، تقول "جئتُ لكي أتعلَّم"، وهذه واضحة، فاللام حرف جر، وجرَّت المصدر المؤوَّل من "كي" والفعل.

الحالة الثانية: أن لا تسبق بـلام التعليل، أو نقول: أن تحذف لام التعليل قبلها، كقولك: "جئتُ أتعلم"، نقول: "كي أتعلم" مصدر مؤوَّل، ولكن مجرور بحرف جرٍّ محذوف، وحذفه وذكره كثيران.

الحالة الثالثة: أن تُزاد بعد "كي" كلمة "مـا" كأن تقول: "جئتُ كيما أتعلم"، فإن زيدت "ما" وحدها جازَ أن تُعمل "كي" وأن تهملها.

*إذا أعملت "كي" يكون الفعل "أتعلم" منصوب بها، و"ما" حرف زائد.

 * إذا أهملت "كي" يكون الفعل "أتعلمُ" مرفوع، فـ "كي" حرف مُلغى، فـ "كيما" حرف مكفوف مثل "إنما"؛ "كي" مكفوفة" و"ما" كافة، و"أتعلم" فعل مضارع مرفوع، لأنَّ "كي" بطل عملها بسبب زيادة "مـا".

ومن ذلك قول الشاعر:

ولقد لحنتُ لكم لكيما تفهموا ** واللحن يعرفه ذووا الألباب

الشاهد "لكيما تفهموا" نصف الفعل بحذف النون.

وقال الآخر:

إذا أنت لم تنفع فضُرَّ فإنما ** يُرجَّى الفتى كيما يضرُّ وينفعُ

فهنا ألغى عمل "كي" ورفع الفعل.

فالإعمال والإهمال جائزان إذا زدتَّ "مـا" وحدها.

الحالة الرابعة: أن تزيدَ "ما" و"أنْ"، فتقول "جئتُ كيما أنْ أتعلَّمَ"؛ فحينئذٍ ليس في الفعل إلَّا النَّصب، إمَّا يُنصب بـ "أنْ" أو منصوب بـ "كي" على تفصيل.

ومن ذلك قول الشاعر:

فقالت: أكل الناس أصبحتَ مانحًا لسانك ** كيما أنْ تغرَّ وتخدعَ

ننتقل إلى الناصب الثالث هو: إذن.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وبـ "إِذَنْ" مُصَدَّرَةً وهو مُسْتَقْبَلٌ متصِلٌ أو منفصلٌ بقَسَمٍ نحوُ "إذن أُكْرِمَك" و: "إِذَنْ - وَاللهِ - نَرْمِيَهُمْ بِحَرْبٍ")}.

عمل "إذن": النصب.

معنى "إذن": حرف جواب. أي: أنه منبنٍ على كلامٍ متقدِّمٍ، وهذا الجواب هو نتيجة له وجزاء له.

فـ"إذن" تأتي في الجوب، كأن تقول مثلًا: "سأزوركَ غدًا" فأقولُ: "إذن أفرح، أو: إذن أنتظرك، أو: إذن أُكرمك".

وإذا قلتَ مثلًا: "آملُ أن يتحدَ المسلمون" فأقولُ: "إذن ينتصروا. أو: إذن يُفلحوا".

شروط النصب بـ "إذن":

النصب بـ "إذن" ضعيف، ولهذا لا تنصب المضارع إلا بشروطٍ ذكرها ابن هشام:

الشرط الأول: أن تكون مصدَّرةً، أي: تكون في صدر الجواب، فعندما تقول مثلا: "سأزوركَ غدًا"، فلابد أن يكون جوابي في أوله: "إذن"، فأقول: "إذن أكرمك".

فإن لم تكن مُصدَّرة فإنها لا تنصب، أي: يبطل عملها ويُرفع المضارع بعدها، فإذا قلتَ: "سأزورَك غدًا" أقولُ "أكرمُكَ إذن" فأرفع الفعل "أكرمُكَ"، أو أقول "إنِّي إذن أكرمُكَ"؛ فهنا لم تأتي في الصدر، فحينئذٍ يبطل عملها ويُرفع المضارع.

قالوا: يُستثنى من التصدير: حروف العطف، فإذا كان الذي تقدَّمها حرف العطف "الواو، أو الفاء، أو ثم"؛ فإخراجها من الصدر ليس إخراجًا قويًّا، ولهذا جاء في اللغة إهمالها -وهذا هو الأكثر-، وجاء إعمالها، لأنَّ هذا الإخراج عن الصدر ليس قويًّا، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، وجاء في قراءة ﴿وَإِذًا لَا يَلْبَثُوا. وفي قوله تعالى: ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾، وفي قراءة ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُوا، لأن الذي أخرجها عن الصدارة الواو والفاء.

الشرط الثاني: أن يكون المضارع مُستقبلًا، يعني: في زمن الاستقبال، ونعرف أن الأفعال لها ثلاثة أزمنة:

- إما في الماضي.

- أو في الحال: زمن التكلُّم.

- أو في الاستقبال: زمن ما بعد التكلُّم.

فابن هشام يشترط أن يكون زمن المضارع الاستقبال، وهذا الشرط تحصيل حاصل، لأن المضارع أصلا لا ينصَب في كل أحواله إلا في الاستقبال، فإذا لم يكن في الاستقبال لم ينصب أصلًا، ولكن التنبيه عليه طيب، كأن تقول "إذن أكرمَك" في المستقبل، فينتصب لأنه في المستقبل.

أما إذا كان زمانه الحال فإنه يُرفع حتى ولو سُبق بـ "إذن" مصدرةً، فلو قلت لي "أحبك" وأنا أعرف أنك تحبني، فأقول لك "إذن أصدقُكَ"، لأن تصديقي إيَّاك ليس في المستقبل، ولكن في زمن كلامي، أما لو قلتُ "إذن أحبُّك" وأعني أني أحبك في الحال؛ فترفع أيضًا، لأن المضارع لا يُنصب إلا في الاستقبال.

الشرط الثالث: الاتصال، أي: ليس هناك فاصل بين "إذن" والفعل المضارع، تقول "إذن أكرمك"؛ فإن وُجد بينهما فاصل فإن "إذن" يُلغى عملها ويُرفع المضارع، كأن تقول مثلًا "إذن إني أحبُّكَ، إذن محمدٌ يزورُك".

ثم استثنوا من الفصل: الفصل بالقسَم، فقال ابن هشام (أو منفصل بقسَم)، ومثل لذلك بقول الشاعر:

إِذَنْ -وَاللهِ- نَرْمِيَهُمْ بِحَرْبٍ ** تُشِيبُ الطّفلَ مِنْ قبْل المَشيبِ

فــ "إذن" جاءت في الصدر، وفُصل بين "إذن" والمضارع "نرميَهم" بالقسم "والله"؛ والفصل بالقسم ضعيف، فلهذا بقي العمل وهو النصب، وهذا متفقٌ عليه.

هل نقيس الفواصل الضعيفة بالقسم؟

هناك فواصل متفق على أنها ضعيفة كشبه الجملة -الجار والمجرور وظرف الزمان والمكان- وكذلك النداء، فكثير من النحويين يقيسون هذه الفواصل الضعيفة على القسم، وهو قياس قوي، كأن تقول لمن أراد أن يزوركَ "إذن يا محمد أكرمَك"، فصلتَ بالنِّداء، أو تقول "إذن الليلةَ أكرمَك" فصلتَ بظرف الزمان، أو تقول "إذن في البيت أكرمَك" فصلتَ بالجار والمجرور.

ثم انتقل شيخنا ابن هشام إلى الناصب الرابع.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وبـ "أَنْ" المصدريةِ ظاهرةً نحوُ "أَنْ يغْفِرَ لِي")}.

الناصب الثالث: "أنْ" وهي أم الباب، وأقوى هذه النواصب، فلهذا سنجد أنَّها تنصبُه ظاهرة أو محذوفة -أو مضمرة.

وننبه هنا إلى أن كلمة "أنْ" هي في الأصل مفتوحة الهمزة ساكنة النون، كقولك: "أحبُّ أَنْ تذهبَ، أَنْ يغفرَ اللهُ لي"، لابدَّ أَنْ تجتهد، يعجبني أَنْ تزورني"، ولكن في الكتابة بـ "أنِ المصدرية" كسرنا النون، لأنَّ النون ساكنة وجاء بعدها ساكن "أل" فكسرنا النون تخلصًا من التقاء الساكنين.

و "أَنْ" الناصبة هي مصدريَّة، تقول: "يعجبني أَنْ تجتهدَ" يعني: "يعجبني اجتهادُكَ"، وقولك: "لابدَّ أن تسافر" يعني: "لابدَّ من سفركَ".

الأمثلة: قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ﴾، وقوله: ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا﴾، وقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ﴾، فهذه كلها منصوبة بفتحة، وقوله: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا﴾، فالفعل "تصوموا" منصوب بحذف النون.

أما قوله: ﴿أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾؛ فــ "ألا" عبارة عَن "أنْ" الناصبة + "لا" النافية؛ لكن في النطق أدغمنا النون في اللام وكتب إملائيًّا حرفًا واحدًا "ألَّا".

وقلنا إنَّ "أَنْ" هي أقوى النواصب، فلهذا عملت ظاهرة ومقدرة، وسيذكر لنا الشيخ ابن هشام الآن أحوال "أنْ" في اللغة العربية.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ما لم تُسْبَقْ بِعِلْمٍ نحوُ ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى﴾، فإن سُبِقَتْ بِظَنٍّ فوجهانِ نحوُ ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾)}.

لــ "أَنْ" ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: بعدَ العلم، يعني: بعد أمر يدل على علم أو يقين أو تأكُّد، كقوله تعالى ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى﴾، فــ "أنْ" وقعت بعد "علِمَ" فهي ليست مصدرية ناصبة، وإنما هي مخففة من "أنَّ" الثقيلة، وهذا سيأتي درسه في باب "إنَّ" وأخواتها، فــ "إنَّ" وأخواتها قد تُخفَّف، فيُقال في "إنَّ - إنْ" وفي "أنَّ - أنْ".

فهنا قوله ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ﴾، أي "علم أنَّه سيكونُ" فلهذا جاء المضارع بعدها مرفوعًا، لأنَّ "أنْ" هنا مخفَّفة من الثَّقيلة، فهي ليست ناصبة.

وكذلك في قوله ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ﴾:

فـ "يرونَ" هنا رؤية العقل بمعنى العلم.

و"ألَّا" هي "أَنْ" + "لا".

و"أَنْ" هنا ليست مصدرية ناصبة، ولكنها "أنَّ" المخففة، أي: "أفلا يرون أنه لا يرجعُ"؛ فلهذا جاء المضارع "يرجعُ".

الخلاصة: أنَّ "أَنْ" إذا وقعت بعدَ كل ما يدل على علم فهي مخففة من الثقيلة، فالمضارع بعدها يكون مرفوعًا.

الحالة الثانية: بعد الظَّن، يعني: بعدما ما يدل على الظَّن والشَّك وعدم التَّأكَّد، مثل "ظنَّ، وخالَ، وحسبَ"؛ فيجوز في "أنْ" الوجهان:

- أن تكون ناصبة: فتنصب المضارع بها.

- أن تكون مخففة من الثقيلة: فترفع المضارع بها.

كأن تقول "ظننتُ أنْ سيسافرُ زيدٌ"، فإما أن تجعلها ناصبة -وهذا هو الأكثر- فيكون التقدير "ظننتُ سافرَ زيدٌ"، فتكون مصدرية وتؤولها. ويجوز أن تجعلها مخففةً من الثقيلة، يعني: "ظننتُ أنَّه سيُسافر زيدٌ".

فإذا جعلتها ناصبة قلتَ "ظننتُ أنْ سيُسافرَ زيدٌ"، وإذا جعلتها مخففة رفعتَ وقلتَ "ظننتُ أن سيسافرُ زيدٌ".

ومن ذلك قوله تعالى ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا﴾، فـ "حسب" ظن، و"أنْ" في الآية ناصبة، والفعل "يتركوا" منصوب بحذف النون، وهذا باتفاق القراء.

وقال تعالى: ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، فــ "ألَّا" يعني "أَنْ" + "لا"، وسبقت بــ "حسبوا" الذي فيها معنى الظن، وجاء في الآية قراءتان:

* النصب: ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ﴾، على أنَّ "أنْ" مصدريَّة، يعني: حسبوا عدمَ كونه فتنة.

* الرفع: ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونُ، على أنَّ "أنْ" مخففة، يعني: حسبوا أنه لا تكونوا.

الحالة الثالثة: أن لا تقع بعدَ علمٍ ولا بعدَ ظنٍّ، وهذه لا تكون إلا مصدريَّة ناصبة، نحو "أحبُّ أن تسافرَ، أريدُ أن تجلسَ، لابدَّ أن تفعلَ كذا".

وسيتكلم ابن هشام بعد ذلك على أنَّ "أَنْ" هذه قد تعمل مضمرةً كما أنها تعمل ظاهرة، ولعملها ظاهرة ومقدَّرة ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: وجوب إضمار "أنْ": أن تكون محذوفة مضمرةً، وذلك في خمسة مواضع.

الحالة الثاني: جواز إضمار "أَنْ" وإظهارها، وذلك في موضعين.

الحالة الثالثة: وجوب إظهار "أَنْ" وذلك فيما سوى ذلك.

نقف هنا ونكمل -إن شاء الله- في الدرس القادم -بإذن الله تعالى.

{شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما قدمتم، سائلين الله أن يجعله في موازين حسناتكم، والشكر موصول لكم أعزائي المشاهدين على طيب المتابعة، وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من حلقات برنامجكم البناء العلمي؛ إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك