الدرس الخامس

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

7275 18
الدرس الخامس

كتاب التوحيد 3

{بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أهلاً وسهلاً بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نشرح فيها متن (كتاب التوحيد) لإمام الدعوة الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد، أهلاً وسهلاً بك فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة المستمعين والمشاهدين، ونسأل الله -جل وعلا- للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{أحسن الله إليكم.
(ورد إشكال في باب القنوط من رحمة الله)، فكيف يمكننا الجمع بين كبيرة (القنوط من رحمة الله) وحديث إذا مت احرقوني ثم ذروني}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فنسأل الله لنا ولكم ولجميع إخواننا المسلمين التوفيق لما يحبه ويرضاه، والسلامة والعصمة من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأما ما تفضلت به من حديث الرجل الذي قال لأولاده: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في الهواء، فلئن قدر الله علي، أو فوالله لأن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين، وما صار من أبنائه أنهم فعلوا، فقال الله -عز وجل- لأجزائه: كن فكانت، فاجتمع فقال: ما حملك يا عبدي على ذلك؟ قال: مخافتك! فغفر الله له.
وهذا الحديث في الصحيحين، وله ألفاظ متعددة، ولا يفهم من الحديث أن الرجل قانط من رحمة الله تعالى، وإنما الذي حمله على أن يفعل به أولاده هذا الشيء، وأن يطلب من أولاده هذا الشيء، هو: شدة خوفه من الله -سبحانه وتعالى-، وليس لقنوطه من رحمة الله تعالى، وقد ذكر أهل العلم في شرح الحديث: أنَّ هذا مما يُحتج به على فضل الخوف من الله -سبحانه وتعالى-.
إذًا الخوف من الله -سبحانه وتعالى- عبادة، ولكن لا يحملن الخوف الإنسان على القنوط من رحمة الله؛ لأنَّ القنوط من رحمة الله كبيرة من الكبائر، والحديث لم يدل على أنَّ الرجل قانط من رحمة الله، وإنما دلَّ على أنَّه خاف من عذاب الله خوفًا شديدًا، فكانت العاقبة أن غفر الله له.
وأمَّا ظنه أنَّ الله لن يقدر عليه، فهذا من جهله بتفاصيل بعض الأمور، ومثل هذا قد يقع. والمقصود أنَّ الله -عز وجل- عفا عنه وغفر له.
هل يجوز للإنسان أن يطلب من أبنائه مثل هذا الطلب؟!
نقول: لا يجوز طلب مثل ذلك الطلب، وإذا طُلب فلا يجوز للأبناء أن يفعلوا مثل هذا الفعل؛ لأنَّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سبحانه. وبالله التوفيق.
{أحسن الله إليكم. هل تأذن لنا بالقراءة؟}.
تفضل، وقفنا عند باب (مَنْ أَطَاعَ الْعُلَمَاءَ).
{قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (بَابُ مَنْ أَطَاعَ الْعُلَمَاءَ وَالْأُمَرَاءَ فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، أو تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَه فَقَدْ اتَّخَذَهُمْ أَرْبَابُاً من دون الله.
وقال: ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، أَقُولُ لكم: قال رسول الله ﷺ، وَتَقُولُونَ: قال أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ!".
وقال أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: "عَجِبْتُ لِقَوْمٍ عَرَفُوا الْإِسْنَادَ وَصِحَّتَهُ يَذْهَبُونَ إِلَى رَأْيِ سُفْيَانَ، وَاللَّهُ تعالى يَقُولُ: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:63]، أَتَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ؟ الْفِتْنَةُ: الشِّرْكُ؛ لَعَلَّهُ إِذَا رَدَّ بَعْضَ قَوْلِهِ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الزَّيْغِ فَيَهْلِكَ".
عَنْ عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة:31]، فقلت لَهُ: إِنّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ، قال: «أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فَتُحِلُّونَهُ؟»، فقلت: بَلَى. قال: «فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، والتِّرْمِذِيّ وَحَسَّنَهُ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أمّا بعد، فقد عقد المصنف، وهو الإمام الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى وغفر له- هذا الباب في كتاب التوحيد، فقال: (بَابُ مَنْ أَطَاعَ الْعُلَمَاءَ وَالْأُمَرَاءَ فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، أو تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَه فَقَدْ اتَّخَذَهُمْ أَرْبَابُاً من دون الله)، والمقصود به: تعظيم شرع الله -عز وجل-، والإيمان والعمل به، وتقديمه على قول كل أحد، فما قاله الله -عز وجل- أو قاله الرسول ﷺ يجب الإيمان والالتزام والعمل به، ولا يجوز أن يُقدم على كلام الله أو كلام الرسول ﷺ قول: عالم، أو عابدٍ، أو أميرٍ، أو حاكمٍ، أو شيخٍ، أو رئيس قبيلةٍ، أو غير ذلك؛ لأنَّ كل هؤلاء طاعاتهم إنما هي طاعة مُقيدة بطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، وليست مُطلقة، وإنما الطاعة المطلقة تكون لله -جل وعلا- ولرسوله ﷺ؛ وذلك لأنَّه مُرسلٌ من الله تعالى، وكما قال الله -عز وجل- في وصفه: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾ [النجم:4]، وقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر:7]، فطاعة الله وطاعة الرسول ﷺ مُطلقة، بينما طاعة أولي الأمر -سواء كان عالِمًا، أو سلطانًا، أو حاكمًا، أو رئيسًا، أو شيخ قبيلة، أو غير ذلك ممن لهم شأن، ويُؤثرون فيمن تحتهم- مُقيدة، «إنَّما الطَّاعَةُ في المَعروفِ» ، فيطاعون في طاعة الله ورسوله، ولا يطاعون في معصية الله ورسوله، وهذا يُفهم من قول الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء:59]. ولم يقل: {وأطيعوا أولي الأمر منكم}؛ لأنّ الطاعة لله -عز وجل- مُطلقة، والطاعة للرسول ﷺ مطلقة كذلك؛ لأنه مرسل من الله -عز وجل-، ولأنَّه ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾ [النجم:3-4]، فلا يقول ﷺ إلا حقًا، وأمَّا غيره ولو كان من الصحابة أو التابعين فطاعته مُقيدة وغير مطلقة.
وهذه الطاعة لله -عز وجل- عبادة، وطاعة الرسول ﷺ من طاعة الله، قال تعالى: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء:80]، ومن عصى الرسول ﷺ فقد عصى الله؛ لأن الله -عز وجل- هو الذي أرسله، وأوحى إليه، وأمره أن يبلغ هذا الدين.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ المؤمن يتعبد بهذه الطاعة لله -عز وجل- ويتعبد كذلك لله -عز وجل- بطاعة الرسول ﷺ، فمن أطاع الله فقد عبده، ومن أطاع رسول الله ﷺ فقد عبد الله، ولم يعبد رسوله ﷺ.
الأمر الثاني: أن الطاعة في المعصية لا تجوز أبدًا، والرسول ﷺ لا يمكن أن يأمر بمعصية، وكل ما أمر به الرسول ﷺ أمر إيجاب أو أمر استحباب يُعد عبادة لله -عز وجل- وطاعة، ولا يمكن أن يكون معصية.
وأمَّا غير الرسول ﷺ فإنما يطاع في المعروف، ولهذا وقع كثير من الناس في الغلط، إما في طرف الغلو أو في طرف الجفاء والتقصير، وستأتي -إن شاء الله- الإشارة إلى هذا.
وأكثر ما يقع فيه الناس هو الغلو والتقديس لأقوال بعض العُبَّاد، أو أقوال بعض العلماء، ولذلك عقد الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- هذا الباب، فقال: (بَابُ مَنْ أَطَاعَ الْعُلَمَاءَ وَالْأُمَرَاءَ فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، أو تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَه فَقَدْ اتَّخَذَهُمْ أَرْبَابُاً من دون الله)، فإذا جاء العالم أو الأمير أو السلطان أو الأب في البيت أو الزوج وأمر بمعصية لله؛ فلا طاعة له؛ لأنَّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سبحانه، و «إنَّما الطَّاعَةُ في المَعروفِ»، هكذا جاء عن رسول الله ﷺ.
ومن الناس من يقدم قول العابد أو العالم أو السلطان على قول الله -عز وجل-، وسيأتي بيان حكم هذا وأنه مما يُخلُّ بالتوحيد.
قال الشيخ -رحمه الله-: (وقال: ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ") وهذا يبين خطورة هذا الذنب، وأنَّ العقوبة تكاد أن تنزل على من فعل هذا الذنب. ما هي العقوبة؟
(يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ) لماذا؟ (أَقُولُ: قال رسول الله ﷺ، وَتَقُولُونَ: قال أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ!) أي: إذا أتيتكم بحديث عن رسول الله ﷺ فلا تقبلونه وتدعونه وتقولون: (قال أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ!).
اذًا، بيَّن عبد الله بن عباس أنه لا يجوز مخالفة الكتاب والسنة لقول من هم أفضل الناس بعد الأنبياء؛ فإنه لا أفضل من أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- بعد الأنبياء، وإنَّه لم تطلع الشمس ولم تغرب على رجل بعد النبيين أفضل من أبي بكر وعمر.
وأبو بكر وعمر «سيِّدا كُهولِ أهلِ الجَنَّةِ منَ الأوَّلينَ والآخِرينَ» ، فهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، فاذا كان هؤلاء الذين حازوا هذا الفضل العظيم، والمقام الكبير في العلم والعبادة والإمامة والدين، لا يجوز طاعتهما فيما خالف قول الله وقول الرسول ﷺ، فما بالك بمن دونهما؟
ولذا لا يجوز تقديم قول: ولي، أو قول شيخ، أو قول أيٍ من الناس معارضةً لكلام الله وكلام رسوله ﷺ.
وهذا الكلام من عبد الله بن عباس قاله -رضي الله عنهما- لَمَّا أنكر عليه من أنكر فتواه بالمتعة، أي: متعة الحج، ومن المعلوم أن النبي ﷺ أمر كل من لم يسق الهدي ممن حج في حجة الوداع، أمرهم بعد أن طافوا وسعوا بين الصفا والمروة أن يقصروا، وتكون لهم بذلك عمرة، وذلك إلا لمن ساق الهدي، فمن ساق الهدي فعليه أن يمسك حتى يبلغ الهدي محله يوم العيد، يوم النحر، وأمَّا من لم يسق الهدي، فأمرهم ﷺ أن يحلوا وأن يتمتعوا، فتكون لهم عمرة، ثم إذا جاء يوم التروية يهلون بالحج. وهذا الأمر من النبي ﷺ ثابت وصريح في عدة أحاديث.
ولذا كان ابن عباس يفتي بذلك، فأنكر عليه البعض وقالوا له: إنَّ أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- كانا يأمران بالإفراد في الحج، فاذا جاء الحاج لم يأمراه بالتمتع، بل يستمر على إحرامه حتى يُؤدي مناسك الحج.
ومثل هذا مقابلة للنص بفعل صحابيين جليلين، وخليفتين راشدين، ولكن ما عذر أبي بكر وعمر؟
هو من باب الاجتهاد، وقد كان لهما نظر في السياسة الشرعية والمصلحة المرعية، وذلك فيما يتعلق بمصالح المسلمين.
وقد ذكر بعض أهل العلم أنَّ أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا كانوا جميعًا يأمرون بالإفراد، والسبب في ذلك -والله أعلم- حتى يكثر مجيء الناس إلى البيت الحرام، فيحصل لهم مزيد علم، ومزيد فقه في الدين، لأنَّ مكة والمدينة في ذلك الوقت فيهما أصحاب النبي ﷺ، فإذا جاء مرة واحدة، وجلس عشرة أيام أو أكثر ثم حج وتمتع، وأتمَّ عمرة وحجة، ربما لم يأت مرة أخرى.
ولكن إذا حجَّ ثم اعتمر في سفرة أخرى؛ فإن هذا يكون فيه مصلحة للرعية، وبالتالي صار هذا الرأي من أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فيه نفع ومصلحة متحققة للمسلمين الذين بمكة، وحتى يكثر طلب العلم، ويكثر تردد الناس على الحرمين، وأيضًا يكثر لهم الأجر بتمام النسك هذا، ثم ذلك النسك، ولعل هناك مصالح أخرى قد قامت في علم الشيخين، أبي بكر وعمر لم نستحضرها.
وعلى كل حالٍ، فإنَّ السنة تبقى مقدمة، ويبقى قول النبي ﷺ مقدمًا، ولا يمكن أن يُعارض بقول صحابي.
وليس المقصود هنا البحث في أي الأنساك، أفضل، التمتع أو القران أو الإفراد؟ وإنما البحث هنا في تعظيم النصوص الشرعية، وتعظيم كلام الله، وكلام رسوله ﷺ عند السلف الصالح.
قال: (وقال أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: "عَجِبْتُ لِقَوْمٍ عَرَفُوا الْإِسْنَادَ وَصِحَّتَهُ يَذْهَبُونَ إِلَى رَأْيِ سُفْيَانَ، وَاللَّهُ تعالى يَقُولُ ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:63]، أَتَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ؟ الْفِتْنَةُ الشِّرْكُ؛ لَعَلَّهُ إِذَا رَدَّ بَعْضَ قَوْلِهِ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الزَّيْغِ فَيَهْلِكَ")، هذا كلام عظيم من الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، الإمام المعروف، الذي له شأنٌ كبير في نصرة السنة والتوحيد، والرد على أهل البدع، يقول: (عَجِبْتُ لِقَوْمٍ عَرَفُوا الْإِسْنَادَ وَصِحَّتَهُ) يعني: عرفوا الأحاديث الثابتة عن النبي ﷺ. وأمّا الإسناد فيراد به: الأسماء التي يقولها المحدث، وذلك عندما يقول: "حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، عن رسول الله ﷺ". هذا يسمى الإسناد.
وعرفوا صحة الإسناد، يعني: هناك أسانيد أهل الحديث يميزون بينها، إذا كان الشيخ فلان ينسى أو يخطئ كان حديث ضعيفًا أو متروكًا، فلا يقبلون حديثه، وإنما يأخذون ما صحَّ، وما عرف عنهم الضبط والعدالة، وأيضًا يهتمون بالسلامة من العلة والشذوذ، واتصال السند، فلا يكون السند فيه انقطاع. وهذه شروط خمسة في صحة الحديث.
يقول الإمام أحمد: (عجبت) أي من أناس يعرفون هذا، ويعرفون أنَّ أحاديث النبي ﷺ بينت أشياء، فيتركون هذا ويذهبون إلى رأي سفيان، وهو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري -رحمه الله-، وهو عالم كوفي محدث، وكان إمامًا في الحديث، والفقه، وتوفي سنة مائة وواحد وستين، والإمام أحمد لم يدركه، فسفيان هو شيخ مشايخ الإمام أحمد بن حنبل، ولذا فهو ممن له منزلة عند أهل الحديث.
سفيان الثوري وسفيان بن عيينة يقال لهما: السفيانان، كما يقال لحماد بن زيد، وحماد بن درهم: الحمادان، ويطلق عليه أمير المؤمنين في الحديث، وله فقه معروف منقول عنه -رحمه الله.
فيقول: أنا أتعجب ممن يعرف الأحاديث عن النبي ﷺ ثم يتركها، ويذهب إلى رأي سفيان، مع أنَّ رأي سفيان، ورأي غيره من أهل العلم، فيه صواب كثير، وليس كله غلط، ولكن هذا تبيين؛ لأنَّ الإمام أحمد يريد أن يُبين للطلبة، ولأصحابه، ولمن حوله من المسلمين، أنه لا يجوز تقديم رأي عالم على قول الله، أو قول رسوله ﷺ.
فإذا قال قائل: العالم أعلم منا، فقل: لا شك أنَّ العالم أعلم منا، ولكننا متعبدون بطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ.
قوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:63]، واللام في قوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ﴾ هي لام الأمر، و ﴿يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ أي: يعصونه، ويحيدون عن أمر الرسول ويتركونه، ﴿أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ، أمَّا العذاب الأليم فواضح، وأمَّا الفتنة فقد قال عنها الإمام أحمد: (أَتَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ؟ الْفِتْنَةُ الشِّرْكُ) يعني الفتنة في هذا الموضع، ومن وقع فيها فقد وقع في الشرك والكفر والخروج عن الإسلام. كيف؟ إذا اعتقد قلبه أنَّ أحدًا من الناس مُقدم على الرسول ﷺ، فهذه فتنة. ولكن هل هذا موجود في المسلمين؟
نعم قد يوجد؛ لأنَّ الإنسان معرض لمثل هذه الواردات والمعاني الخطيرة.
وإذا وقع في هذه الفتنة أو مثلها كمن قدَّم فلانًا من الناس، واعتقد أنَّه أعظم من الرسول ﷺ؛ فإنَّه لا يبقى على الإسلام، نسأل الله السلامة والعافية.
قوله: (لَعَلَّهُ إِذَا رَدَّ بَعْضَ قَوْلِهِ)، أي: ردَّ بعض قول النبي ﷺ (أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الزَّيْغِ فَيَهْلِكَ)، وزيغ القلب هو ميلانه عن الحق، والقلوب يثبتها الله -عز وجل-، وقد يزيغ بعضها، ويضل بعضها، فإذا رأينا شخصًا عظيمًا من الصحابة والتابعين والأئمة والعابدين والعباد؛ فإننا نحبه، ونقدره، ونحترمه، وندعو له، ونترحم عليه، ونثني عليه بما أصاب، ولكننا لا نقدم قوله على قول الله أو قول رسوله ﷺ، ولا يوجد أحد معصوم لا يخطئ أبدًا، سواء من العلماء أو من العباد، ولكن الناس في هذا طرفان ووسط:
فمنهم من إذا غلط العابد سبَّه، وشتمه، واحتقره، وازدراه، ورأى نفسه مُقدما عليه، حتى إنَّ بعضهم يقول: هم رجال ونحن رجال، يعني: مُعتزيًا بنفسه، ومقدما لنفسه عليهم، وهذا المسلك مذموم غير محمود.
وفي مقابل هذا من إذا رأى غلط العالم أو غلط العابد تابعه في غلطه وعظمه، وإذا قيل له: هذا مخالف للآية أو الحديث، قال: لا نبالي؛ لأنَّ الشيخ فلان مقدم، وهذا مما وقع فيه بعض المتأخرين من الغلاة المنحرفين عن المنهج الصحيح والصراط المستقيم.
في أحد الكتب المتأخرة، مرَّ عليَّ قول أحد الزائغين: قال: لا يجوز الأخذ بقول الصحابي إذا خالف المذاهب الأربعة، بل ولا يجوز الأخذ بالآية أو الحديث إذا خالفت المذاهب الأربعة.
ثم قال ما هو أشد، قال: إذ الأخذ بالظواهر -أي: ظواهر النصوص- من أصول الكفر، فجعل ما يظهر من كلام الله وكلام رسوله ﷺ ليس الكفر فقط، بل جعله من أصول الكفر، وجعل قول علماء المذاهب الأربعة مُقدمًا على الآية والحديث.
هذا النقاش يحتاج إلى وقت طويل في تحليل هذا الكلام، وبيان أوجه فساده، وما الموقف من أهل العلم والمذاهب الفقهية المعتبرة والتي يجب احترامها والاستفادة منها والتعلم على الكتب المفيدة فيها، هذا لا شك فيه، ولا يضر، ولكن الذي يضر هو التعصب، والتقليد الأعمى.
فالواجب علينا أن نترك قولنا، حتى وإن كان قولي أنا، إذا ظهر ثم دليل بضده أو عكسه، فلنأخذ بالدليل، ولنترك أقوالنا، حتى وإن قال طلبتي أو أصحابي: إنني قلت كلاما ثم عدت فيه، فهذا لا يضرني؛ لأنَّ الرجوع للحق فضيلة، وهو بخلاف الإصرار على معاندة كلام الله وكلام رسوله ﷺ.
مسألة مهمة: من الذي ينظر في الأدلة؟
الذي ينظر في الأدلة ويرجح هو من عنده ملكة فقهية، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء:59]، فإن لم يكن عنده الملكة العلمية الكافية، وكانت بضاعته مجزاة، أو كان هو من عوام المسلمين، فماذا يفعل عند ورود الاختلاف؟
نقول: له أن يأخذ بقول العالم المجتهد المتحري للكتاب والسنة والأدلة، فإذا اختلف هؤلاء أيضًا وصار عنده أكثر من واحد؛ فليأخذ برأي من هو أقربهم في ظنه للحق، وذلك عملاً بقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:43].
وأمَّا أن يعرف الإنسان الدليل الصريح فيخالفه، ولا يبالي به، تقليدًا لقول شخص، فهذا لا يصلح ولا يجوز، وهذا المعنى مذكور في كتاب الله في مواضع كثيرة، منها: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف:3]، وكذلك في قول الله -عز وجل-: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [النور:54]، وكذلك: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ﴾ [آل عمرا:31].
وطاعة الرسول ﷺ مذكورة في القرآن في مواضع كثيرة جدًا، ولعلي في هذا الدرس أحث الإخوة الطلبة والطالبات، والمشاهدين والمشاهدات، على أن يجمعوا هذه المواضع من كلام الله، ومن كلام رسوله ﷺ، في ورقة وينظر كم ورد الأمر بطاعة الرسول ﷺ.
أيضًا ختم الشيخ بحديث عدي بن حاتم، وعدي بن حاتم صحابي، وأمَّا أبوه فهو حاتم الطائي، فلم يسلم وقد مات على الكفر، ولكنه كان معروفًا بالكرم.
قال: (عَنْ عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة:31]، فقلت لَهُ) والقائل هنا هو عدي بن حاتم، (فقلت لَهُ: إِنّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ، قال: «أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فَتُحِلُّونَهُ؟»، فقلت: بَلَى. قال: «فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، والتِّرْمِذِيّ وَحَسَّنَهُ).
إذًا، هذا هو معنى قوله: ﴿أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ ، وهو أنهم يعلمون أنهم غيروا وبدلوا الدين، فجعلوا الحلال حرامًا، وزعموا أنَّ هذا التحريم هو الدين الذي ارتضاه الله -عز وجل، وعلى الناس أن يتدينوا به.
والصورة الثانية: تحريمهم للحلال مع زعمهم أنَّ هذا هو الدين ليتدين الناس به، وبهذا اتخذوهم ﴿أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ ، أي أنهم جعلوهم مشرعين مع الله، وهذا من أعظم أنواع الشرك.
وفي سورة الشورى قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى:21]، ومن هنا البدعة صارت أكبر من الكبائر من هذا الجانب؛ لأنَّ الكبيرة كالقتل والسرقة والربا والزنا يفعلها صاحبها وهو لا يعتقد أنه يتدين ويتعبد بذلك، بل يعتقد أنه مسيء، ولكنه إنما يريد أن يأتي شهواته ورغباته الحسية، وأمَّا المبتدع فيفعل هذه البدع وهو يعتقد أن له الحق لأن يقول هذا شرع ودين، فهو يشارك الله -عز وجل- في التشريع، ولهذا ذَمَّهم الله في قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى:21]، فهذا من أعظم الكبائر، وهو أن يرى الإنسان نفسه مُنازعًا لله في: التشريع، والتحليل، والتحريم، فيأتي ويقول: أنا أرى أنَّ الخمر حلال فأحلوه.
ما حكم هذا التحليل للحرام المجمع عليه؟
هذا كفر مخرج من ملة الإسلام، والذي يتابع ذاك الزائغ الذي يزعم أنَّ الخمر حلال -الذي يتابعه في التحليل- قد اتخذ ذاك العالم الزائغ ربًا.
مثال آخر: لو جاء عالم أو أمير أو قاض، وقال للناس: إني أحرم هذا -وهو حلال- كمن يحرم القطن، أو لبس القمص، أو لبس ما أباح الله -عز وجل-، فقال: أقول لكم هذا حرام فحرموه -وهو حلال بدلالة الكتاب والسنة والإجماع- فترى بعض الناس يقول: ما دام أن هذا الحاكم أو هذا العالم أو هذا العابد حرمه؛ فإننا سنحرمه!
فمن فعل ذلك فقد اتخذ هذا العالم ربًا من دون الله، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ ، والأحبار جمع حبر، وهو: العارف، والرهبان جمع راهب، وهو: العابد. هذه الصورة الأولى ما حكمها؟
نقول: من فعلها فهو خارج من ملة الإسلام، وتسمى هذه المتابعة للعالم الضال أو الحاكم الفاسد الضال، تسمى هذه المتابعة: عبادة، ولهذا توهم عدي -رضي الله عنه- أول الأمر أنَّ العبادة هي: الركوع، والسجود، والدعاء، ونحو ذلك، فبين له النبي ﷺ أنَّ متابعتهم في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحلَّ الله، هو عبادة لهم، فقال: «فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ».
ونستفيد من هذا الحديث، أنَّ العبرة في الأمور ليست بالمسميات التي يصطلح عليها الناس، وإنما العبرة بالحقائق، فلو سمَّى الشركَ بالله -عز وجل- توسلاً بالصالحين، أو سمَّى الشرك بالله -عز وجل- بالخطأ اليسير الذي يقع فيه الناس، أو سمَّى الخمر: مشروبًا روحيًا، أو سمى الزنا: علاقات حرية شخصية، أو نحو ذلك، فكل هذا لا يُغير من حكم الله شيئًا، وكل يأخذ حكمه بحسب ما جاء في النصوص الشرعية.
لَمَّا قال عدي بن حاتم: (إِنّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ) كان قد ظنَّ أنَّ هذا ليس عبادة، ولكن النبي ﷺ بين أنها عبادة حتى وإن لم يسمونها بهذا الاسم.
ونستفيد من هذا أيضًا، أنَّ ما يفعله عباد القبور اليوم، الذين يلجئون إلى الأضرحة والأموات، ويحجون للمشاهد، ويستغيثون بغير الله، فتراهم يستغيثون بالملائكة، أو بالجن، أو بالصالحين، كمن يقول: "يا عبد القادر يا جيلاني يا متصرف في الأكوان"، أو يقول: "يا فلان أنا في حسبك، المدد المدد"، فإذا نُصِحَ ووعظ وَذُكِّرَ بالتوحيد والإسلام، قال: أنا لم أعبده، فنقول: حتى وإن ظننت أنك لم تعبده إلا أن فعلك عبادة له، وأنت عبدته بهذا الصرف للعبادة لغير الله -عز وجل-.
وهناك صورة ثانية ليست من الكفر، وليست من الشرك، وليست عبادة لهم من دون الله. ما هي؟
أن يعتقد الشخص أنَّ الحرام حرام، وأنَّ الحلال حلال، ولكنه يفعله من باب الشهوة. لا من باب الاعتقاد، فتراه يشرب الخمر، وهو لا يعتقد أنها حلال، وإنما يعتقد أنَّها محرمة، لكنه يشربها من باب اتباع النفس الأمارة بالسوء. ما حكم فعله؟
فعله هذا يعد كبيرة من كبائر الذنوب، ولكنه لا يكفر به.
لو جاء عالم سوء فاجر، فقال لِمن حوله ممن يحبونه: اشربوا الخمر فشربوه، فحينئذ نسأل، هل هم يعتقدون أن هذا العالم له الحق في التحليل والتحريم، وأنَّ الخمر صار حلالا بالنسبة لهم بناء على قوله؟
نقول: إن اعتقدوا أن الخمر صار حلالا بتحليله لهم، فهذا من القسم الأول، وهو الكفر والخروج من الإسلام.
وأمَّا إن لم يعتقدوا ذلك، ولكنهم تساهلوا فشربوا الخمر فقد وقعوا في ذنب عظيم، وكبيرة من كبائر الذنوب، وبالتالي فلهم أحكام أمثالهم من أهل الذنوب، وهم معهم أصل الإيمان، ولكنهم معرضون للوعيد الشديد.
وهنا نقف وقفة في الرد على الخوارج، وخاصة على بعض الذين يذهبون مذهب الخوارج وهم لا يدرون أنهم على هذا المذهب الخطير.
نقول: إن مما يحتج به الخوارج من قديم الزمان، قول الله -عز وجل- في سورة الأنعام: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام:121]، هذه الآية ضمن آيات تحريم الميتة، جاء قبلها ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ ، أي أنَّ الذبيحة إذا ذبحت ولم يسمَّ عليها، أي لم يقل: بسم الله، فلا يجوز أكلها، ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ﴾ ، أي: كفار قريش، ﴿لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ ، ما هي المجادلة التي جادلوها للمسلمين من الصحابة؟
قالوا لهم: أنتم تأكلون مما ذبحتم بأيديكم، ولا تأكلون مما قتله الله، يعني الذي مات حتف أنفه مات بقدر الله، فكيف لا تأكلونه وقد قدَّر الله موته؟ وهذه قال فيها الله -عز وجل-: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ ، ثم عقَّب سبحانه بالحكم فقال: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ ، ما معنى أطعتموهم؟
أي إذا قلتم كما قال المشركون: من مات حتف أنفه فهو حلال، ولا تشترط له التسمية والتزكية الشرعية، وهذا يعود بنا إلى قوله ﷺ: «أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فَتُحِلُّونَهُ؟»، وهذا معنى قوي، فقوله: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ﴾ أي: باعتقاد ما قالوه، ونبذ كلام الله -عز وجل-.
لكن الصورة الثانية التي نرد بها على الخوارج، لو أنَّ كافرًا من الكفار عرض على مسلم، وقال له: اشرب الخمر، فشرب المسلم وارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، ولكنه لم يعتقد أنَّ الخمر حلال، فهل هذه الطاعة تعدُّ كفرًا وشركًا؟ الإجابة: لا.
النوع الثالث، حتى تنحل الشبهة في قلوب بعض الناس، لو أنَّ الكافر قال لمسلم: أنت ظمآن وعطشان ثم أمره أمرًا مؤكدًا بشرب الماء، فشرب المسلم الماء.
السؤال: هل شرب المسلم الماء استجابة لطلب وأمر الكافر يُعد طاعة للكافر؟
نقول: نعم يعد طاعة له.
هل صار المسلم مشركًا بطاعته للكافر؟
نقول: لا. ليس بمشرك، ولهذا كان قوله -عز وجل-: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ لا يدل على مطلق الطاعة.
المثال الرابع: "لو قال كافر لمسلم: قم فاسق أباك الماء، وأخدم أبويك وبرهما"، وكان المسلم كسولاً، فشدد الكافر عليه وأمره أمرًا. ما حكم هذا الأمر؟
الجواب: إن فعله لهذا البر ليس طاعة شركية مخرجة من الملة.
أنا أريد بهذه الأمثلة أن أحل الشبهة، بأنه ليس مطلق الطاعة للكافر يعد كفرًا مخرجًا من الملة، وأنَّ قوله -عز جل- ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ يراد به طاعتهم في تحليل الميتة، وتصديقهم فيما تلقيه عليه شياطينهم.
كذلك لو فعل العامي المتابع للعالم، لو فعل شيئًا جهلاً منه لا استحلالاً للحرام، ولا طاعة للمخلوق في معصية الخالق، وإنما لظنه أنَّ هذا العالم مصيب، فهذا لا يكون عبادة له، ولكنه خطر ويجب على الإنسان أن يحاسب نفسه.
ومن هنا نقول: لا يجوز تتبع رخص العلماء وأغلاطهم، ولكل عالم زلة، وما من عالم يسلم الزلل، وعلى الإنسان ألا يدخل في الوعيد وألا يتعرض للخطر العظيم برقة الدين، وفساد الدين، فيأخذ من هذا الغلط، ويأخذ من الثاني الغلط، ويأخذ من الثالث الغلط، ولهذا بعض العلماء قال: من تتبع الرخص تزندق، أي: جمع الشر كله. نسأل الله العافية والسلامة، ولهذا قيل: يهدم الإسلام زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين. هذا ما يتعلق بهذا الباب.
قال الشيخ في المسائل:
المسألة الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي.
المسألة الرابعة: تمثيل ابن عباس لأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان.
فكل هؤلاء، أبو بكر وعمر وسفيان لا شك في فضلهم، ومع ذلك لا يجوز تقديم أقوالهم على قول الله وقول رسوله ﷺ، فما بالك بمن سواهم؟
المسألة الخامسة: قال الشيخ: تغير الأحوال إلى هذه الغاية، حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي: أفضل الأعمال، وتسميتها ولاية، وعبادة الأحبار هي: العلم والفقه، ثم تغيرت إلى أن عُبِدَ مَن ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين، وهذا موجود عند الخرافيين بكثرة، هناك أمثلة كثيرة، حتى صار بعض الرهبان أو بعض العباد يغلط أغلاطًا شنيعة مثل: الشمس، كحال من يقول: فلان يصلي من بعد العشاء إلى أن يطلع الفجر كل يوم، ولا ينام أبدًا، وثم يقول: وهذه كرامة، وفعله مستحسن، ويظل يمدح أمورًا قد نهى عنها النبي ﷺ، حيث قال: «وأُصَلِّي وأَرْقُدُ» .
وآخر يقول: إنَّ من فضله ومناقبه أنه لا يأكل اللحم أبدًا حتى لا يقسو قلبه، بينما النبي ﷺ قال: «وآكلُ اللَّحمَ».
وثالث يقول: لا أتزوج النساء! فصار البعض يعظم عبادة الرهبان الباطلة، ويجعلها أفضل الأعمال.
وقد يقول بعضهم: فلان يبكي طوال وقته من خشيه لله، فتراه باكيًا في الصباح والمساء والظهر والعصر، فيمدحونه على هذا الشيء، بينما النبي ﷺ ما كان باكيًا طوال وقته، نعم كان يبكي من خشية الله، ولكن لم يكن بكاؤه ﷺ طوال الوقت.
فتراهم يسمون هؤلاء بأولياء مع أغلاطهم الشنيعة المخالفة للشريعة، وهذه طامة كبيرة قد وقعت، ولذا فالواجب على المسلم ألا يقبل وألا يصدق ما يروى في كتب الفضائل أو كتب التواريخ.
الثاني: الأحبار وهم العلماء، صار لِمَا يقعون فيه من أغلاط، يعني: اختلف العلماء وبعضهم لهم أغلاط واضحة مثل الشمس، فيأتي بعض الناس ويقول: قول فلان مقدم أليس هو عالم؟ أليس هو كذا وكذا؟
فتراه يقدم قوله على الكتاب والسنة عامدًا عالمًا. قال الشيخ: ثم تغيرت الحال مرة أخرى. ماذا حدث؟ عُبِدَ من ليس من الصالحين، أناس فجار، زناة، سراق، تاركون للصلاة، تاركون للفرائض، يتعاطون السحر والشعوذة، ويأكلون الربا، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ثم يسمونهم أولياء.
وهناك من يعظم بعض العلماء وهم ليسوا بعلماء، بل ربما يوصفون بألقاب كبيرة جدا. وهم لا يفهمون شيئًا في الشريعة، أحاديث مثل الشمس عن النبي ﷺ يعرفها صغار المسلمين قبل كبارهم وهو يجهلونها ويسمونهم علماء، وهؤلاء ليسوا بعلماء، أو هم علماء سوء، وأحبار سوء.
وهذا الباب في الحقيقة باب مهم جدًا، ولذلك كانت العناية بدراسته والنظر فيه مرة بعد مرة، حتى يكون في قلب المؤمن تعظيم الله -عز وجل-، وتعظيم الرسول ﷺ، وأن تكون أقوال أهل العلم محل التقدير والاحترام والاعتذار، ومن أحسن من اعتذر لأهل العلم عند وجود أغلاط أو أخطاء شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، وجمع في ذلك الكتاب عشرة أعذار يعذر بها العالم، وهذه الأعذار تعود إلى ثلاثة. وأحيلكم على هذا الكتاب، وهو (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، فنحن نعتذر لهم إذا غلطوا، أو فاتهم الحديث، أو لم يبلغهم الخبر، أو لم يعرفوا بالمنسوخ والناسخ، ولكن في نفس المقام نحفظ كرامتهم وحقهم، ولا نتابعهم فيما علمنا أنه مخالف لقول الله وقول رسوله ﷺ.
إذا أردنا أن لا نأخذ بقولهم، فلا بد أن يكون لنا قدوة من أهل العلم ممن سبقنا، يعني: ما ينبغي أن نأتي بقول لم يقل به عالم، ولم يقل به صحابي ولا تابعي ولا عالم من علماء المسلمين، فهذا شذوذ، فالشذوذ لا يجوز أن يسلكه المؤمن، لقول الله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء:115].
وكذلك العباد، فقد تقرأ أحيانًا في بعض الكتب المتقدمة، عن أحد التابعين أو أتباعهم: فلان لم يأكل حتى أخضر جلده، وفلان يصلي حتى كذا وكذا، فتراهم يذكرون أشياء متعددة عن العباد، وحقيقتها تعود إلى مخالفة السنة. فماذا نفعل؟
أناس يعظمونهم ويصححون أخطاءهم، وأناس يسبونهم ويستهينون بهم، وهم عندهم فضل، والصواب أننا نتوسط في هذه الأمور، فمن عُرف فضله، وخيره، وحرصه على السنة، ولكن غلط، فنقول: هو فاضل، ولكننا لا نتابعه في غلطه.
وأمَّا من لم يعرف بفضل ولا خير، فهذا لا يقدم، ولا كرامة له، وخاصة المبتدعة.
والمقصود: أنَّ هذا باب عظيم، ويقع فيه أغلاط كثيرة من الناس، والخلاصة فيه: أنه يجب أن يعظم الكتاب والسنة، وأن يعظم الشرع، وأن يقدم على قول كل أحد، وإلا فإنَّ هذا هو أعظم مدخل ضلَّ به الخرافيون، والمتصوفون، وعباد القبور. فهم قد ضلوا بسبب هذا.
يقول لك مثلاً: الكرخي، قبر معروف الترياق المجرب.
وعبد القادر الجيلاني له كرامات متواترة، فنسأل ونقول:
هل عبد القادر الجيلاني خير من الرسول ﷺ؟
هل عبد القادر الجيلاني خير من الصحابة؟
إذًا لا يجوز هذا الكلام، ومن قال هذا؛ فإنه خارج من ملة الإسلام، وعبد القادر الجيلاني لا يقول عن نفسه هذا الكلام.
والمقصود أننا نحترم العلماء، والعباد الصالحين المعروفين بالسنة، من غير غلو فيهم، ولا نقدم أقوالهم على قول الله، أو قول رسوله ﷺ، ولا نقول: إنهم يملكون التصرف في الكون، أو عندهم قدرات كذا وكذا؛ لأنَّ هذا كله مما اختص الله -عز وجل- به نفسه، فلا يتصرف في الكون، ولا يدبر الكون إلا الله -سبحانه وتعالى-، ولذا يجب على المسلمين الحذر كل الحذر من هذه الضلالات، ومن هذا الغلو الذي أوقع كثيرا منهم في الشرك بالله.
نسأل الله العافية والسلامة لنا ولكم ولجميع المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{أحسن الله إليكم فضيلة شيخنا، وجزاكم الله عنا خير الجزاء، والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين، على أمل اللقاء بكم في حلقة أخرى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك