الدرس الثاني عشر

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

7276 18
الدرس الثاني عشر

كتاب التوحيد 3

{بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أهلًا وسهلًا بكم أعزاءنا المشاهدين، في حلقة جديدة من شرح (كتاب التوحيد) يشرحه لنا فضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، نرحب وإياكم بفضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حياكم الله، وحيا الله الإخوة، نبدأ بالقراءة على بركة الله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمؤمنين، قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (بَابُ لا يَقُولُ: عَبْدِي وَأَمَتِي.
فِي الصَّحِيحِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُول اللَّهِ قَالَ: «لا يقُلْ أَحَدُكُمْ: أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي وَمَوْلَايَ. وَلَا يقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلْيَقُلْ: فَتَايَ وَفَتَاتِي، وَغُلَامِي»)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد، فيقول الشيخ الإمام العلامة المجدد، شيخ الإسلام/ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى وغفر له- في "كتاب التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد: (بَابُ لا يَقُولُ: عَبْدِي وَأَمَتِي) أي أنَّ هذا من الألفاظ التي نهى عنها الرسول لحماية جناب التوحيد، والأدب مع الله -سبحانه وتعالى-، وتنبيه المسلمين على التحفظ في العبارات، والبعد كل البعد عن كل ما لا يناسب، وما لا يليق من العبارات.
قال: (فِي اَلصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ قَالَ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي وَمَوْلَايَ. وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلْيَقُلْ: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي»[1]) ، وهنا صيغتان:
الأولى: تتعلق من العبد أو الأمة إلى المالك أو السيد، أو المالكة والسيدة.
والثانية: من السيد والمالك، أو السيدة والمالكة إلى العبد والأمة، ولا شك أنَّ الرق والعبودية من الأحكام التي جاء بيانها في الشريعة الإسلامية، سواء فيما يتعلق بسبب الرق، أو الحث على العتق، وكذلك أحكام تتعلق بالبيع والشراء، وأحكام بالتعامل، وأيضًا أحكام تتعلق بالمكاتبة وغير ذلك، فهذا التعامل مع هؤلاء الذين هم مماليك، يجب أن تُصان الألفاظ في التعامل معهم. ولكن عن ماذا تُصان؟
تُصان عن كل ما ينافي كمال التوحيد الواجب.
قال: («لا يَقُلْ أحَدُكُمْ: أطْعِمْ رَبَّكَ») الخطاب هنا: «أطْعِمْ رَبَّكَ»، من الذي يُقال له أطعم ربك هنا؟ المالك، لأن الربّ يُطلق على المالك وعلى السيد، كما يطلق الربّ على الخالق وعلى المعبود.
قال عبد المطلب لأبرهة الحبشي لَمَّا أراد هدم الكعبة، وجاءه عبد المطلب يطالبه بالإبل فقال: "جئت لأهدم البيت الذي تعظمونه، وأنت تطالبني بإبلك؟" فقال عبد المطلب له: "أنا ربُّ الإبل، وللبيت ربّ يحميه"، فقوله: "أنا ربُّ الإبل" يعني: أنا صاحب الإبل، ومالك الإبل، ومثله قول الناس: "هذا رب الدار، وهذه ربة الدار"، ما معنى رب الدار؟ يعني: صاحب البيت أو المالك للبيت، وربة الدار تعني: سيدة البيت أو صاحبة البيت أو المدبرة في البيت، الأم أو المرأة المسؤولة عن الأعمال في البيت، فلما يأتي المملوك ويريد أحد أن يقول لهذا المملوك: (قم أطْعِمْ رَبَّكَ) يعني: اصنع له الغداء، أو العشاء ليأكل صاحب البيت، وربك يعني: مالك وسيدك، ولكن هذا اللفظ نهى عنه الرسول ، قال: («لا يَقُلْ أحَدُكُمْ: أطْعِمْ رَبَّكَ، وضِّئْ رَبَّكَ») ومعروف أنَّ مراد المتحدث والطالب، مراده بالربّ هنا أي: مالك الدار، أو مالك المملوك هذا، ومالك العبد، أو مالك الأمة، ووجهه النبي للفظٍ فيه الحماية مما يُتوهم، لأن ربّ الجميع هو الله -سبحانه وتعالى- فهو رب الخلائق كلها، وهو رب العالمين.
 فقد يتوهم متوهم، وقد يذهب فهمٌ أو وهمٌ إلى أنّ المراد رب العالمين، والله هو الغني، وهو الذي يُطعِم ولا يُطعَم، وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، وليس بحاجة لأحدٍ من خلقه، بل العباد كلهم والخلائق كلها محتاجةٌ إليه، ولهذا لا يُقال: («لا يَقُلْ أحَدُكُمْ: أطْعِمْ رَبَّكَ، وضِّئْ رَبَّكَ، اسْقِ رَبَّكَ») فالذي يهدي، ويطعم، ويغني، ويسقي، ويشفي، ويُمرض، ويدبر هو الله- سبحانه وتعالى-، ولهذا لَمَّا كانت هذه العبارة فيها سوء أدب، وفيها ما لا يليق، نهى النبي عن هذه العبارة؛ فصارت حرامًا، ولذا لا يجوز للمؤمن أن يقول هذه العبارة لمملوكه.
فإن قيل: ما البديل؟
قال: («وليقل») يعني: لَمَّا نهاه عن اللفظ دله على لفظ آخر، وفي هذا تنبيه إلى الدعاة إلى الله -عز وجل- والمعلمين، والمربين، والمدرسين، والخطباء أنهم إذا نهوا الناس عن شيء قد نهت عنه الشريعة، أن يبينوا لهم الأمور المباحة أو البديلة، مما أباحه الله -عز وجل-.
قال: («ولْيَقُلْ: سَيِّدِي، مَوْلايَ») يعني: أطعم سيدك، أو أطعم مولاك، ونحو هذا، لأن هذه عبارات معروفة ليس فيها منازعة الربوبية، وليس فيها مشابهة في الربوبية.
وكذلك يصح أن يقول: "أطعم رئيسك، أو أطعم عمك" يعني: من الألفاظ المشهورة أن يجوز أن يقولها للمملوك في حق المالك.
فالمملوك قد يقول للمالك: هذا عمي، يعني يسميه أدبًا بمنزلة العم، يعني: أحترمه، وهو يملكني من جهة الرق.
قال: («ولْيَقُلْ: سَيِّدِي، مَوْلايَ») مولاي أيضًا لا بأس بهذه العبارة، فالمولى هو الناصر، وكذلك المالك، وكذلك السيد يُطلق على القدير، والله -سبحانه وتعالى- هو المولى للخلق كلهم وللمؤمنين، قال الله -عز وجل- في الكافرين: ﴿وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ﴾ ؛ لأنهم لم يعبدوا الله، ولم يخلصوا له الدين، ولم يؤمنوا به، فهم مخذولون، ولكن مَوْلايَ إذا قيلت عن المالك من المملوك فلا بأس بذلك.
ننتقل إلى المقام الثاني، ما الذي يقوله المالك، أو السيد؟ قال: («ولا يَقُلْ أحَدُكُمْ: عَبْدِي، أَمَتِي») تعال يا عبدي، تعالي يا أمتي، وإنما يقول: («لْيَقُلْ: فَتايَ، وفَتاتي، وغُلامِي») ونحو ذلك، لماذا؟ لنفس العلة، لأن العبودية كاملة لمن؟ هي لله -سبحانه وتعالى- وهذا من الأدب مع الله -عز وجل- فيقول: "تعال يا غلامي، تعالي يا فتاتي" ونحو ذلك، فكل هذا مما وردت به الشريعة لتنزيه المؤمن عن الألفاظ الخادشة أو التي فيها سوء أدب مع الله -سبحانه وتعالى.
 الشيخ محمد قال في المسائل:
(الْأُولَى: اَلنَّهْيُ عَنْ قَوْلِ: عَبْدِي وَأَمَتِي.
اَلثَّانِيَةُ: لَا يَقُولُ الْعَبْدُ: رَبِّي، وَلَا يُقَالُ لَهُ: أَطْعِمْ رَبَّكَ.
اَلثَّالِثَةُ: تَعْلِيمُ الْأَوَّلِ قَوْلَ: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي.
اَلرَّابِعَةُ: تَعْلِيمُ اَلثَّانِي قَوْلَ: سَيِّدِي وَمَوْلَايَ)
.
قال: (الْخَامِسَةُ: اَلتَّنْبِيهُ لِلْمُرَادِ) ، أدعو الإخوة الكرام للتنّبه لهذه المسألة، (وَهُوَ تَحْقِيقُ اَلتَّوْحِيدِ حَتَّى فِي الْأَلْفَاظِ) ، أي أنَّ الشريعة جاءت بتحقيق التوحيد في القلوب، وجاءت بتحقيق التوحيد في الأفعال، وفي العبادات، وجاءت بتحقيق التوحيد في الألفاظ، حتى في الأمور التي في البيت، والأمور التي في المخاطبات، فيجب على المسلم أن يحقق التوحيد في جميع أحواله، وفي جميع أوقاته، وفي جميع ما يصدر منه سواء من قلب أو لسان أو جوارح.
 {أحسن الله إليك.
{قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (بَابُ لَا يُرَدُّ مَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه : «مَنْ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعَروفاً فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونهُ؛ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْنَ أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، بِإسَنَادٍ صَحِيحٍ)
}.
قال المؤلف- رحمه الله تعالى-: (بَابٌ لَا يُرَدُّ مَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ) وقد عقد المصنف هذا الباب؛ ليُبين عظمة الله سبحانه، وأن السؤال بالله أمره عظيم، وإذا سمعت السائل يذكر الله -عز وجل- فعظّم الله -عز وجل-، وليكون في قلبك إجلالٌ لاسم الله، والسؤال به، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ ، وقوله: ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾ ، يعني: يسأل بعضكم بعضًا باسمه -جلّ وعلا-، وهذا كله تعظيمٌ لله، وهذا هو ما بجب على المؤمنين وعلى المسلمين.
ومما يؤسف له أنَّ بعض دعاة الشرك والخرافة إذا ذكر عندهم اسم الله فلا يبالون، وإذا ذُكر عندهم اسم الميت، والسؤال بالميت، وتعظيم الميت، أخذوا يرتعدون ويلبون حاجة من سألهم؛ فصار اسم الولي أو الميت أعظم من الله -عز وجل-، قال تعالى: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ۖ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ فبهذا يعرف المؤمن الفرقان، الفرقان بين ماذا؟
الفرقان بين الحق والباطل، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وبعضهم إذا حلف، أو قيل له احلف في المحكمة، فيحلف بالله ولا يبالي بالكذب، وبعضهم في بعض الأوضاع كما يُحكى عنهم يقولون -وهذا لا يجوز- ولكن يقال له: "احلف بالولي"، وهذا شركٌ لا شك، فيقول: "لا أحلف بالولي، أنا أخاف من الولي"، بينما لَمَّا قيل له: احلف بالله حلف ولم يبال، وهذا ناتج عن قلة تعظيمه لله -عز وجل-، وأن هذا المقبور أو هذا الميت أعظم عنده من الله -سبحانه وتعالى-، وهذا في غاية ما يكون من الشرك الأكبر، نسأل الله العافية والسلامة.
المؤمن يعظّم الله، ويرجوه، ويحبه، ويخافه، ويتوكل عليه، فإذا ذُكرَ اسم الله عظّمه.
(وعَنِ اِبْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ : «مَنْ سَأَلَ بِاَللَّهِ؛ فَأَعْطُوهُ، وَمَنِ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ؛ فَأَعِيذُوهُ») هذا يبين لك أنَّ السؤال بالله -عز وجل- هذا أمرٌ عظيمٌ، ولهذا قال النبي : («فَأَعْطُوهُ») ، فإذا قال: أسألك بالله، طيب هل مرّ معنا في الأحاديث السابقة صيغة فيها سؤال بالله؟
الجواب: نعم، حديث (الأقرع والأبرص والأعمى) ماذا قال الملك لَمَّا جاءهم في نفس صورتهم في المرة الثانية؟
قال: «أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن أو الشعر الحسن والمال» وقال: «أسألك بالذي رد عليك بصرك» فسألهم بماذا؟ بالله، ولهذا ماذا قال؟ قال: «خُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ فَوَالله لَا أَجْهَدَك اليوم عَلَى شَيءٍ أَخَذْتَه لِلِه»، أو كما قال.
(هذا من سأل بالله) فماذا؟ قال: «فأعطوه» هذا تعظيمٌ لله -عز وجل-، هل من سأل بالله يجب إعطاؤه؟
الجواب: هذا فيه تفصيل، أولًا: هناك نفقاتٌ واجبة على المؤمن فإذا سُئل إياها فيجب بذلها حتى لو لم يُسأل، وهناك أمور ليست واجبة، هي مباحة، وهذا يتأكد في حقه سُنة أن يبذلها إذا لم يتضرر بدفعها.
 النوع الثالث: هناك أمور محرمة، لو سألني بالله أن أعطيه إياها، فماذا نقول في حقه؟ لا يجوز بذلها، وإذا كان يطلب شيئًا محرمًا، كما لو قال مثلًا: "أنا أسألك بالله أن تشتري آلة غناء، أو أسألك بالله أن تشترى خمرًا، أو أسألك بالله أن تمكنني من هذه الفاحشة أو كذا" نقول: لا يجوز بذل المحرمات، ولا يجوز عصيان الله؛ لأجل هذا اللفظ، فما معنى قول من سأل بالله؟ يعني: مما يجب عليكم أو يُستحب فأعطوه، وأمَّا إذا كان محرّما مثلًا فيقول: "أنا أسألك بالله أن تعفيني من العقوبة" كما لو كانت حدًّا واجبًا عليه وثابتًا عند ولي الأمر، نقول: هنا يجب تنفيذ الحدود.
 قال: («وَمَنِ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ؛ فَأَعِيذُوهُ») ، من قال: "أسألكم بالله أن تعيذونني من كذا وكذا، فأعذه"، يعني مثلا: واحد جاءه حرامي يريد أن يسرق بيته، فقال: "أسألكم بالله، أعيذوني بالله، أطلب منكم، بالله عليكم أن تعيذوني من هذا الحرامي" ماذا تفعل؟
تعاونه قدر المستطاع، وتتصل بالشرطة، وتبلغ الجهات الأمنية، وتساعده، وتأتي بالناس حتى يسمع الحرامي؛ فيهرب وهكذا، لا تتخاذل عن أخيك المسلم.
 لكن لو قال: أسألك بالله أن تعيذني -من أمرٍ مشروعٍ في حقه، أو واجب في حقه- مثل: أن تعيذني من إقامة حد، أو أن تعيذني من الإلزام بالصلاة، أنا ما احتاج أصلي. فهذا لا يُستجاب له، والمقصود هنا: مما ورد، أو مما شُرع أن يعاذَ منه.
قال: «وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ»، هذا يكون واجبًا في دعوة الوليمة، وهي دعوة العُرس، لِمَا في ذلك من التآلفِ، والتقاربِ، والمودة بين المسلمين، وأمَّا في غير العرس فهي مستحبة أيضًا، أي أن الدعوة إلى الوليمة في غير العرس مستحبة، ولكن في دعوة العرس جاء في الحديث: «ومَن تَرَكَ الدَّعْوَةَ فقَدْ عَصَى اللَّهَ ورَسولَه »[2]، رواه مسلم.
هذا يبين أن إجابة دعوة الزواج واجبةٌ، إلا أن يكون هناك مانع أو عذر، مثل: السفر، أو المرض، أو بعد المكان، أو عائق يعوق دون وصولك، أو تكون الدعوة فيها منكرات فلا يجوز حضور المنكرِ، وإلا إذا لم يكن فيها شرب خمر ولا معاصٍ يعصى الله بها، فالواجب على المسلم أن يُلبي الدعوة، ولهذا صارت هذه من حق المسلمِ على المسلم، النبي كررها في عدة أحاديث: «وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبهُ» وجعلها مقاربة لبقية الحقوق مثل: «وإذا دَعاكَ فأجِبْهُ، وإذا اسْتَنْصَحَكَ فانْصَحْ له، وإذا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وإذا مَرِضَ فَعُدْهُ وإذا ماتَ فاتَّبِعْهُ»[3].
قال: («وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ») ، هذا من مكارم الأخلاق أن تردّ الخير الذي جاءك من أخيك المسلم بمثله، بمكافأة، فمثلًا أعطاك هدية؛ فتهدي له هدية مثلها أو مقاربةً لها، أو أحسن منها.
(«فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ؛ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ») بكثرة الدعاء، تدعو له حتى ترى ذلك قد بلغ مقدار ما أحسن به إليك.
 فإذا كان كافأك بمالٍ، فلتكافئه بمال إذا تيسر لك في مناسبة معينة، وإن لم يتيسر لك فعليك بالدعاء، أو الكلام الطيب.
وقوله: («فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ») يعني: حتى تظنوا وتعلموا أنكم كَافَأْتُمُوهُ بكثرة الدعاء والثناء عليه، وكل هذا من الأخلاق الكريمة، فإن لم تجدوا ما تكافئونه («فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ») .
إذًا هذا الباب فيه تعظيم الله -عز وجل- وتعظيم اسمه، فالسؤال بالله -سبحانه وتعالى- يعني السؤال بإيمانك بالله، أنا أؤمن بالله، وأنت تؤمن بالله، فلما أسألك بالله يعني: أسألك بالذي تؤمن به -سبحانه وتعالى- فإذا لم تجب هذا دل على النقص، ولكن كما تقدّم التفصيل السابق، والله تعالى أعلم.
إذًا هذا الباب -كما سمعنا- فيه تعظيم لله -عز وجل- وتعظيم للسؤال به -سبحانه وتعالى-، وفيه تقرير في هذا الحديث لعددٍ من الأخلاق الإسلامية العظيمة التي يكون بها التكافل بين المسلمين، والتعاون على البر والتقوى.
 {الله يحفظك.
 قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (بَابُ لَا يُسَأَلَ بِوَجْهِ اللَّهِ إِلَّا الْجَنَّةَ.
عَنْ جَابِرَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه : «لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللَّهِ إِلَّا الْجَنَّةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)
}.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (بَابُ لَا يُسَأَلَ بِوَجْهِ اللَّهِ إِلَّا الْجَنَّةَ) ، والمراد بهذا تعظيم الله سبحانه، وأنَّ وجهه -جل وعلا- من أعظم ما يُسأل به، ولهذا إذا سُئل بهذا فإنه لا يسأل إلا أعلى المطالب، وأعلى الأمور العظيمة، لا يسأل به الأمور العادية، أو الأمور قليلة الجدوى مثل: الحاجات البسيطة التي تكون في الدنيا. تقول: يا الله أسألك بوجهك الكريم أن تعطيني هذا الشيء اليسير أو نحو ذلك، وإنما تسأل بوجه الله الجنة؛ لأنه أعظم المطالب، وأعظم ما ترجوه، وذكر وجهه -جل وعلا- هو أعظم ما يكون من تعظيم الله -سبحانه وتعالى-، فهذا معنى الحديث، ولكن الحديث فيه ضعف من جهة السند، وفي سنده بعض اللين وبعض الضعف، ولكن المصنف- رحمه الله- لا يذكر هذه الأحاديث إلا وقد اختلف فيها أهل العلم، هذا من ناحية، فمنهم من جوزها واحتج بها، ولهذا أورد الشيخ هذا الحديث.
ثانيًا: إذا عرفنا أن هذه الأحاديث حتى لو كان فيها بعض الضعف واللين، لكنها تدل على ضبط الألفاظ في الدعاء، ومعنى الحديث هذا يُفهم مما ورد من الأحاديث التي فيها ذكر وجه الله.
والسؤال بوجه الله -عز وجل- ورد في بعض الأحاديث: «اللَّـهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِوَجْهِكَ الْكَرِيْمِ»، وجاء أيضًا في أحاديث أخرى ذكر وجه الله -عز وجل- فهذا يُبين لك أن معنى الحديث من جهة المعنى صحيحٌ.
ما المقصود أو لم ورد هذا في (كتاب التوحيد) ؟
لأن هذا من كمال التوحيد وكمال الإيمان؛ لأنك تسأل الله -عز وجل- بأعظم صفة له، وهي وجهه الكريم؛ فتسأله الجنة، وكذلك كل ما يؤدي إلى الجنة، مثل: الثبات على الإسلام، والثبات على سنة النبي ، وكذلك صلاح القلب والعمل، والنجاة من النار، والنجاة من الفتن، وكل هذا من أعظم المطالب المؤدية إلى الجنة.
وفي الحديث: «أعوذُ بالله العظيمِ، وبوجهه الكريمِ، وسلطانِه القديمِ، من الشيطانِ الرجيمِ»[4]. فالاستعاذة بوجه الله من شر الشيطان هي سبب كون المؤمن على التوحيد، وعلى الإيمان، ويدخل الجنة، فإذا أعاذك الله من الشيطان، وصرف عنك شر الشيطان؛ فأنت على خير عظيم.
وفي هذا الحديث إثبات وجه الله، والمؤمن يؤمن بما أخبر الله -عز وجل- به، وبما أخبر رسوله ، قال الله -عز وجل-: ﴿وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ ، وقال تعالى: ﴿كلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ، وكذلك جاء في السنة عن النبي إثباتُ وجه الله -جل وعلا-، فنؤمن بذلك من غير تمثيل، ومن غير تكييف، فلا نمثل الله بخلقه، ولا نتخيل، ونفكر بعقولنا لنتخيل، ولا يجوز ذلك، من غير تحريف ولا تعطيل، فلا ننكر وجه الله ونقول: "ليس له وجه" كما يقوله الجهمية، ولا نقول: "إن المراد بالوجه هو لا حقيقة له، وإنما المراد هو الثواب فقط، وأن الوجه ليس بثابت"، لا، هذا كلام باطلٌ، وهذا تحريفٌ للنصوص الشرعية.
إذا عرفنا ذلك نقول: هذا في صفة الوجه، وكذلك نقول: هذا في صفة اليدين، وهكذا نقول في صفة العينين، وكل ما أضافه الله -عز وجل- لنفسه أو أضافه له رسوله وهو أعلم الخلق به.
هذا باب واحد ونُمر كل ما ورد من أسماء الله وصفاته وأفعاله، على ما جاء في الكتاب والسنة من غير كيف، ومن غير تحريف، ومن غير تمثيل، ومن غير تعطيل.
قال الشيخ -رحمه الله تعالى-: (فِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: اَلنَّهْيُ عَنْ أَنْ يُسْأَلَ بِوَجْهِ اَللَّهِ إِلَّا غَايَةُ الْمَطَالِبِ.
اَلثَّانِيَةُ: إِثْبَاتُ صِفَةِ الْوَجْهِ)
.
{أحسن الله إليكم.
 قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (بَابُ مَا جَاءَ فِي الـ "لوْ"، وَقَوْلُ اللَّه تَعَالَى: ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ . وَقَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ الْآيَةُ.
وفِي الصحيح: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُول اللَّهِ قَالَ: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجَزَ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلَا تقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلَت؛ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»)
}.
قال المؤلف- رحمه الله تعالى-: (بَابُ مَا جَاءَ فِي الـ "لوْ") لا زال الشيخ -رحمه الله- يذكر ما يتعلق بالألفاظ، وما ينبغي للمؤمن أن يتحرز فيه وأن يتحفظ فيه، فيبتعد عن بعض الألفاظ المخالفة للشريعة، ومنها قول: (لو) في بعض المواضع، ولهذا قال: (بَابُ مَا جَاءَ الـ "لوْ") يعني قولك: "لو" هذا في اللغة العربية، وفي اللغات الأجنبية ما يقابل كلمة "لو"، وهذا موجود في كل اللغات، فما حكم هذه الجملة أو هذه الكلمة؟
ننظر في قوله: ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ﴾ ، يقولون: السياق في المنافقين، أي أنَّ أهل النفاق والمنافقين يقولون هذا الكلام ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ يعني: يريدون أن الأمر لهم، ويعترضون على ما قدّر الله -عز وجل- مما جرى من القتل على بعض من في المعركة، وهذه الآية الأولى التي أوردها الشيخ.
(وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ ) مَن هؤلاء القائلين لهذا الكلام؟ هم المنافقون.
 إذًا هنا ذم الله -عز وجل- المنافقين في أكثر من موضع في كتابه -جلّ وعلا- على قول ماذا؟ "لو" إلى آخره، إذًا نستفيد من هذا تحريم مُشابهة المنافقين، وأنَّ المؤمن لا يقول كما يقول المنافقون عند حلول المصائب.
ماذا يريد بها المنافقون؟ يريدون معارضة القدر، ومعارضة الشرع، فأما معارضة القدر فيزعمون أنهم لو كانوا أطاعوهم ما قتلوا ها هنا، ولو كان لهم من الأمر شيء ما قتلوا هنا؛ فيزعمون أنَّ هذا القتل الذي حدث ليس بالقدر؛ فيعارضون القدر، هذا الأمر الأول، والواجب على المؤمن التسليم لقضاء الله وقدره، والصبر، والاحتساب، والرضا، حتى يهوّن الله -عز وجل- عليه المصيبة.
 الثاني مما فعله المنافقون، لو كان لنا من الأمر شيء، يعني يريدون منازعة الرسول ، فهو الذي يأمر ويعلّم الناس، ويأمرهم بالجهاد، هم ينازعون حتى في الشرع، فيعترضون على الشرع، وعلى التشريع نفسه.
وكذلك في قوله: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾ ما أنتم؟ يعني يطيعون الرسول ، ولا يطيعونكم؛ فصاروا هؤلاء ينازعون في القدر، وينازعون في الشرع؛ فاستخدموا لفظ "لو".
إذًا يحرم استعمال لفظ "لو" لمعارضة القدر، ويحرم استعمال لفظ "لو" لمعارضة الشرع وهذا من بطن هذه الآيات الكريمة.
قال: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ قَالَ: «اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ») ، هذا الحديث كما قال الشيخ -رحمه الله- في الصحيح، وهو في صحيح مسلم، وأوله جملة لم يذكرها الشيخ، اختصرها وهي: «المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٌ خير»، المؤمن القوي يعني: في إيمانه، والقوي أيضًا في أفعاله، وفيما يقوم خير، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف في إيمانه، أو الضعيف في أفعاله.
قال: «وفي كلٌ خير» ما دام أنَّ هذا مؤمنٌ، وهذا مؤمن، ففي هذا خيرٌ وفي هذا خير.
ثم قال الرسول : («اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجَزَنْ») ، وقوله: («اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ») هذا أمرٌ واضحٌ جدًا في الأخذ بالأسباب المباحة، والأسباب المشروعة، والأسباب النافعة، مثال: واحد يذاكر يريد أن ينجح في الدراسة، («اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ») بماذا؟ بالمذاكرة، والمراجعة، وضبط الدروس.
واحد يريد أن يتاجر، يعني: عنده أموال، ويريد أن يبيع ويشتري، فماذا نقول له؟
احرص على ما ينفعك، بضبط الحسابات، وضبط الأموال، وضبط التجارة، ومعرفة كيف تعمل، فاحرص على ما ينفعك في أسباب السلامة.
واحد مريض أصابه مرض فماذا يفعل؟ قالوا له كذا وكذا وكذا، عدة أسباب، («اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ») .
 إذًا الشرع المطهر يأمر بالأخذ بالأسباب، طيب الأسباب المحرمة لا تدخل في هذا، الأسباب الموهومة الباطلة لا تدخل في هذا، ما مثال الأسباب محرمة؟
السحر، الكهانة، شرب الخمر، لو أن هذه أسباب لكذا وكذا، نقول: "لا هذه لا تنفع، هذه تضر"، «فَتَدَاوَوْا وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»[5] كما قال النبي .
طيب الأسباب الموهومة؟
قالوا له مثلًا: ضع حبلًا على كذا، اكتبي كذا، وافعل كذا، نقول: هذه لا تجوز إنما المراد بالأسباب، الأسباب المباحة، والأسباب المشروعة والتي ليس فيها محظور.
قال: «وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ»، يعني: مع فعل الأسباب لابُد من الاستعانة بالله، وهذا هو التوكل، ولذلك سبق في باب التوكل أن معنى التوكل على الله -سبحانه وتعالى- هو صدق الاعتماد على الله، وتفويض الأمور إليه، ومع الأخذ بالأسباب ومباشرتها.
(«وَلَا تَعْجَزَن») ما هو العجز؟
العجز هو التكاسل والتفريط والتهاون والتمادي في الدعة والاسترخاء، وعدم الجد، والعزيمة، الكسل، والتكاسل والتعاجز هذا منهيٌ عنه، قم بأمورك واجتهد، ولا تركن للكسل والدعة، وهذا معنى الكَيس، وهو ضد العجز. فضد العجز الكَيس والفطنة والتعقل للأمور، والهمة، والعزيمة الصادقة في كل أمور الدين، وأمور الدنيا.
مثال: واحد يريد أن يشتغل بالزراعة والحرث فقال: أنا اليوم أحرث، وأنظف المزرعة، ثم قال: الآن الوقت يحتاج إلى إفطار، وبعد الإفطار نسترخي، وبعد الاسترخاء نشرب كذا، وبعد كذا ننام قليلًا، وبعد كذا نفعل كذا، وبعد كذا نفعل كذا، حتى ذهب اليوم جاء من بكرة وأخذ يتلهى لا هذا يسمى عجزًا، قال: («وَلَا تَعْجَزَن») .
 طيب ما هو عكس العجز؟ الكَيس، الهمة، العزيمة، القيام بالأمور، خلاص خذ حاجتك من الفطور قم اشتغل، افعل كذا وافعل كذا، هكذا، عندك دراسة؟ عندك كتاب؟ عندك بناء؟ عندك أمور أخرى؟
(«احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجَزَن») جمعت الخير كله في كل أحوال الدنيا، وفي كل الأمور التي يحتاجها العباد، لا في أمور دنياه ولا في أمور دينهم، ولهذا انظر كيف أن هذا من محاسن الشريعة الإسلامية، أنها تأمر بكل ما فيه صلاحٌ ونجاحٌ وتقدمٌ، وفيه فائدة للأفراد والمجتمعات والدول.
ثم قال -وهو الاحتمال الذي قد يقع-: («وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْء») ؛ لأنَّ الكثير من الناس يفعل هذه الأمور ثم يفاجأ أن الزرع لم ينجح، أو يفاجئ مثلا بأن التجارة خسرت، أو يفاجأ بأنه رسب في الامتحان، أو يُفاجأ بكذا وكذا. فماذا قال النبي ؟
قال: («وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْء») فلا تقل: لا تفتح على نفسك الأوهام، الآن جاء مشكلة جديدة عندك وهي مصيبة، لكن هذه المصيبة دعها صغيرة، كيف تكون المصيبة صغيرة؟ لا تفتح الأوهام حينئذ، نهاك الرسول عن "لو" لماذا؟ لأنَّك الآن إذا قلت "لو" سيهجم عليك إبليس، وتهجم عليك الشياطين؛ فيضعف قلبك، ويضعف فكرك، وتضعف عزيمتك، وتصبح متقوقعًا على نفسك، عاجزًا ضعيفًا منهارًا متهالكًا، لا!
(«وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْء،ٌ فَلَا تقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلَت؛ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ») ما معنى قل؟ هذا أمر، يعني: في لفظ حرام، وفي لفظ أنت مأمور به، والله لو أخذ المسلمون بهذا لأفلحوا ونجحوا في كل أمورهم؛ لأن المصائب أمور قدرها الله -عز وجل-، ولابُد أن تقع على بعض الناس، فماذا تفعل عند ورود المصائب؟
بعض الناس يفتح على نفسه باب التحسف والتوجع والحزن والهم والغم بماذا؟ بقوله: "لو" لو إني ما فعلت كذا، لو أني ما طلعت الصبح ما حصل لي حادث، لو أني فعلت كذا ما حصل كذا، فيهجم عليك عدو الله إبليس، ويتسلط على قلبك ويضعفه ويوهنه، ويجعلك متهالكًا، شديد الضعف، شديد الهوان، ولكن قُل: («قدر الله») ، هذه مصيبة، هذا قدر الله.
وفي بعض الألفاظ ضُبطت «قدّر الله»، يعني: قدَّر الله عليه هذا الشيء، الحمد لله أنا راضٍ بقضاء الله وقدره، لكن اللفظ المشهور ولكن قل: («قدُر الله») يعني: هذه المصيبة هي قدر الله، فتجاوز هذا الأمر، واصبر، واحتسب، وابدأ اعمل وأنجح في حياتي وأكمل، ما أجلس كل ما جلست، لو أني فعلت كذا رأيت كيف؟ أنا كذا وأنا كذا، ويتحسف ويتوجع هذا غلط، وهذا خطيرٌ جدًا، هذا في حقيقته اعتراض على القدر، («وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ») هذا إيمان بالله -سبحانه وتعالى-.
ثم عللَ النبي ذلك بقوله: («فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ») ، يعني: أنت لما جلست تتحسف بهذا التحسفات، وفتحت كلمة "لو" ونطقت بها، أو اعتقدت هذا الكلام في قلبك، وقمت تردده على نفسك، ماذا صنعت بنفسك؟
أنت الآن فتحت للشيطان المدخل، قلت: "أدخل عندي واعمل أعمالك في قلبي، حتى تُضعف قلبي، وحتى تُوهن قلبي، وحتى تتسلط عليَّ" احمِ نفسك، وأغلق الباب على الشيطان، ولا تقل: "لو"، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان.
إذًا هناك عمل ينتظره الشيطان، يريد أن يعمله، لا يقدر أن يدخل عليك إذا قلت: («قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ») ، أي: إذا أغلقت الباب عليه.
هل يتأثر الشيطان بالألفاظ التي تقولها أنت؟
نعم، ومن الدليل على ذلك قولَ النبي : «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، ولاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ»[6]، يقول الشيطان لرفقائه الشياطين: «كيف لكم برجل وُقيَ وهُديَ وكفي؟» أي: ما لكم من سبيلٍ عليه.
إذًا صارت الكلمات تؤثر فيه، فإذا قلت: "لو" فقد فتحت باب الشيطان.
طيب ننتقل إلى مسألة أُخرى، وهي أن الإنسان لو تمنى الخير، هذا واحد تمني الخير.
ثانيًا: لو أخبر عن الحكم الشرعي بكلمة "لو" هل هذا محظور؟
نقول: لا، هذا ليس هذا بمحظورٍ ولا يُنهى عنه.
 المثال الأول ما جاء في الحديث: «لو أنَّ لي مالًا لعملتُ فيهِ بعملِ فلانٍ فَهوَ بنيَّتِهِ»[7] قال النبي فهما في الأجر سواء، تمني الخير، وتمني الإنفاق في سبيل الله بصدق، «لو أن لي مال فلان، لأنفقته وفعلته» قال : «فهما في الأجرِ سواء»، فلما تمنى بقول: "لو" هنا هذا ليس اعتراضًا على القدر، وليس تسخطًا، وليس فتحًا لأعمال الشيطان، هو يريد الخير، ولكن يخبر عن خبر أن لو حصل له هذا لفعل.
الصورة الثانية: الخبر عن الحكم الشرعي، مثلًا لو قال: "لو أدركت الإمام في الركعة الثانية، فكبرت تكبيرة الإحرام قبل الركوع لأدركت" هنا قوله: "لو" يخبر عن ماذا؟
يخبر عن حكم شرعي ليس بمحظور، ومنه قول النبي : «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ؛ ما أَهْدَيْتُ، ولولا أن معي الهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ»[8] ونحو ذلك، هذا ليس منهيًا عنه، هذا خبر عن حكم شرعي.
كذلك لو قال الإنسان: "أنا ما علمت أن العالم جاء إلى بلدتي، أو ما علمت أن فلانًا مرض ودخل المستشفى، فلان صديق عزيز عليَّ ومرض ودخل المستشفى، لو علمت أنه في المستشفى؛ لذهبت أزوره، أعوده" فهذا خبر وليس اعتراضًا على القدر، هذا خبرٌ، وتمنى للخير ونحو ذلك.
ولهذا ينبغي التفصيل والبيان لإعمال النصوص كلها، والفرق بين ما فيه اعتراض على القدر وما ليس كذلك.
قال الشيخ -رحمه الله-: (فِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: تَفْسِيرُ الْآيَتَيْنِ فِي آلِ عِمْرَانَ.
اَلثَّانِيَةُ: اَلنَّهْيُ اَلصَّرِيحُ عَنْ قَوْلٍ: "لَوْ" إِذَا أَصَابَكَ شَيْءٌ)
هذا ما فيه استثناء، ولا فيه الجواز عند المصيبة، لا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا.
(اَلثَّالِثَةُ: تَعْلِيلُ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَفْتَحُ عَمَلَ اَلشَّيْطَانِ.
اَلرَّابِعَةُ: الْإِرْشَادُ إِلَى الْكَلَامِ الْحَسَنِ)
إن نُهي عن شيء فدل على بديله من الحق.
(الْخَامِسَةُ:      الْأَمْرُ بِالْحِرْصِ عَلَى مَا يَنْفَعُ مَعَ اَلِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ) ، وهذا يعني كما تقدم من محاسن الشريعة، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾ .
(اَلسَّادِسَةُ: اَلنَّهْيُ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ وَهُوَ الْعَجْزُ) ، تقدم أن المأمور به هو الكَيس، وأن المنهيَ عنه هو العجز.
إذًا اتضح لنا ما جاء في الـ "لو"، وأن فيه النهي عما فيه معارضةٌ على القدر، أو تسخط، أو التشبه بالمنافقين، أو الاعتراض على الشرع.
 نسأل الله -جل وعلا- أن يوفقنا وإياكم لما يحبه، ويرضاه، وصلى الله ومسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، وجزاكم الله عنّا خير الجزاء، والشكر موصولٌ لكم المشاهدين على أمل اللقاء بكم في حلقة أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
------------------------------------
[1] البخاري (2552) ومسلم (2249) ، وأبو داود (4975) ، وأحمد (2/316) .
[2] أخرجه البخاري (5177) ، ومسلم (1432) .
[3] أخرجه البخاري (1240) ، ومسلم (2162) .
[4] أخرجه أبو داود (466) ، والبيهقي في ((الدعوات الكبير) ) (68) .
[5] رواه ابو داود (3874) .
[6] رواه أبو داود (5095) .
[7] أخرجه الترمذي (2325) واللفظ له، وأحمد (18060)
[8] أبو داود (1797) النسائي (2725) .
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك