الدرس الثاني

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

5655 24
الدرس الثاني

المحرر في الحديث (1)

أهلًا ومرحبًا بكم في برنامج البناء العلمي، مع معالي الشيخ سعد بن ناصر الشثري، أهلًا ومرحبًا بك شيخنا الكريم}.
بارك الله فيك، وأرحب بك، وأرحب بإخواني وأحبابي ممن يتابع هذا اللقاء.
{(وروى محمد بن عجلان، قال: سمعت أبي يحدِّث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ»، رواه أبو داود، عن مسدد، عن القطان، عنه وابن عجلان، وأبوه رواه لهما مسلم)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
قول المؤلف: وَرَوى محمد بن عجلان، "ابن عجلان" مِن التابعين، مِن أهل المدينة، وقد رَوى له مسلم، كما ذكر المؤلف، وكثير مِن أهل الحديث يَرى أنه صدوق؛ فيكون حديثه مِن قبيل "الحسن".
والحديث الحسن مَقبول ويُعمل به، وتُستخرج منه الأحكام.
وقوله: «لَا يَبُولَنَّ»، هذا نهي، والنَّهي يُفيد التَّحريم، ويفيد الفساد أيضًا، ويعني هذا أنَّ الماء يَفسد بمثل ذلك، ولا يجوز استعماله على أحد أقوال أهل العلم في ذلك.
قوله: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ» هنا «يغتسل» نهي تفيد التحريم، وتفيد أيضًا الفساد، فهذا الاغتسال الذي كان في هذا النَّوع مِن أنواع المياه، وهو الماء الدائم الذي حصل فيه البول، يُحكم بفساده، أي: بفساد ذلك الاغتسال، وبالتالي لا يُجزئ، ويجب اغتسال آخر.
وقوله: «وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ» يدل على مشروعية الغُسل من الجنابة.
وذكر في هذا الخبر «الْمَاءِ الدَّائِمِ» ، أي: الماء الباقي في الأرض، ويُقابله الماء الجاري، فالماء الجاري لمَّا كانت كل "جرية" منه مستقلة في أحكامها، فإنَّ "الجرية" تُزيل مَا تزيل مما وَرَدَ عليها مَعها، وتبقى "الجرية" التي تليها طاهرة، ليس فيها شيء مِن النَّجاسة.
ومِن هنا فإنَّ البول في الماء الجاري، وإن كان ممنوعًا منه، إلا أنه لا يؤدي إلى تنجيس جميع الماء، وإنما يختص ذلك بالجرية التي وقعت فيها النجاسة.
{أحسن الله إليكم، (وروى مسلم من حديث بُكير بن الأشجع، أنَّ أبا السائب مولى هشام بن زهرة، حدَّثه أنه سمع أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ»، قَالُوا: كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا، وأبو السائب لا يُعرف اسمه)}.
اللام في قوله: «لَا يَغْتَسِلُ»، هل هي مجزومة؟ أو مضمومة؟
إن كانت مجزومة كانت "لا ناهية" «لَا يَغْتَسِل أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ»، بينما إذا كانت مضمومة؛ فإنها تفيد النفي. والنهي في النفي يُستفاد منه النفي.
وقوله: «لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ» أي: الباقي، كما تقدم، «وَهُوَ جُنُبٌ».
استدل بهذا بعض أهل العلم كالشَّافعية والحنابلة على أنَّ الماء المُستعمل في رفع الحدث لا يجوز استعماله مرة أخرى.
ولكن الجمهور يخالفونهم في ذلك، ويقولون بأنه يجوز استعماله؛ لأن الله تعالى قال: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبً﴾ [النساء: 43]، و"ماء" نكرة في سياق النفي فتكون عامة، حتى هذا الماء الذي تم الاغتسال فيه.
{(وَعَنْ عَمْرِو بنِ دِينَارٍ، قَالَ: عِلْمِي وَالَّذِي يَخْطُرُ عَلَى بَالي أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ أَخْبرنِي، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَخبَرهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ r كَانَ يَغْتَسلُ بِفَضلِ مَيْمُونَةَ. رَوَاهُ مُسلمٌ" رواه مسلم.
وَرُوِيَ عَن سِماكِ بنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: اغْتَسلَ بَعضُ أَزوَاجِ النَّبِيِّ r فِي جَفْنَةٍ، فجَاءَ النَّبِيُّ r لِيَتوضَّأَ مِنْهَا -أَو يَغْتَسِلَ- فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ جُنُباً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: «إِنَّ الماءَ لَا يَجْنُبُ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ، وَقَالَ أَحْمدُ: "أتَّقِيهِ لحَالِ سِماكٍ، لَيْسَ أحدٌ يَرويهِ غَيرُه"، وَقدِ احْتجَّ مُسْلمٌ بِسِماكٍ، وَالبُخَارِيُّ بِعِكْرِمَةَ، وَاللهُ أعلم.
وَعَنِ حُميدٍ الحِمْيَرِيِّ، قَالَ: لقِيتُ رُجُلاً صَحِبَ النَّبِيَّ r أَربعَ سِنِينَ كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: نهَى رَسُولُ اللهِ r أَنْ تَغْتَسِلَ المرْأَةُ بِفَضلِ الرَّجُلِ أَو يَغْتَسلَ الرَّجُلُ بِفضْلِ المرْأَةِ، ولْيَغْتَرِفا جَمِيعاً. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحهُ الحُميدِيُّ، وَقَالَ البَيْهَقِيُّ: "رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ". وَالرَّجلُ المبْهَمُ، قِيلَ: هُوَ الحَكمُ بنُ عَمْرو، وَقيلَ: عبدُ اللهِ بنُ سَرْجِسٍ، وَقيلَ: ابْنُ مُغَفَّلٍ)
}.
أورد المؤلف ثلاثة أحاديث في مسألة فضل المرأة، والمراد بالفضل مَا بقي في الإناء بعد استعماله في رفع الحدث.
هل لو بقي في الإناء ماء بعد استعمال امرأة له في رفع الحدث عنها، هل يكون هذا الماء مما يجوز استعماله للرجال؟ أو لا يجوز؟
تلاحظ هنا أنهم يشترطون في بيان محل الحكم، أن تكون المرأة قد خلت بالماء، وأن يكون ذلك لطهارة كاملة، وأن يكون المستعِمِلُ له مرة أخرى من الرجال، فهذا هو محل البحث بين أهل العلم.
قال أحمد: لا يجوز للرجال استعمالُه بعد ذلك، أي: لا يجوز للرجل أن يرفع حدثه بفضل امرأة قد خلت به لطهارة كاملة.
والجمهور يقولون: هذا ماءٌ طهورٌ طاهرٌ، فجاز للرجل أن يرفع به حدثَه كالمرأة.
ومستند أحمد خصوص هذه الأحاديث التي وردت بالنهي، والقاعدة أنه إذا وجد "خبر عام"، ووجد "خبر خاص"، فيُعمل بالخاص في محل الخصوص، ويُعمل بالعام فيما عدا ذلك.
أورد المؤلف هنا حديث عمرو بن دينار، وهو من علماء التابعين، قال: "علمي والذي يخطر على بالي أنَّ أبا الشعثاء".
"أبو الشعثاء" أيضًا من علماء التابعين، وقال: "أخبرني أن ابن عباس أخبره، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يغتسل بفضل ميمونة"، فهذا دليل على جواز اغتسال الرجل بفضل المرأة، ولكن الآخرين حملوه على ما لم توجد فيه الشروط، حيث قالوا: لم تخل به ميمونة. وهذا حديث صحيح قد أخرجه مسلم.
ثم أورد المؤلف حديث "سِماك بن حرب".
و"سِماك بن حرب" مختلف فيه بين أهل الحديث في روايته، والصَّواب أنه صدوق، وأن روايته مِن قبيل الحسن.
عن "عكرمة"، و "عكرمة" من التَّابعين، وهو مولى لابن عباس.
قال: "عن ابن عباس، قال: اغتسل بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في جفنة"، و "الجفنة" نوع مِن أنواع الأواني التي توضع فيها المياه.
"فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ليتوضأ منها، أو يغتسل، فقالت: يا رسول الله، إني كنت جُنُبًا" يعني: حين استعمالي للماء.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الماءَ لَا يَجْنُبُ»، فهنا السبب خاص في ماءٍ "خلت به امرأة"، والحكم عام، يعني: لفظة "الماء" اسم جنس معرَّف بـ"ال" الاستغراقية؛ فيفيد العموم، قال: «إِنَّ الماءَ لَا يَجْنُبُ» أو «يَجْنُب»، روايتان في رواية هذا الخبر.
ففي هذا دلالة على مذهب الجمهور في جواز وضوء الرجل مِن فَضل الماء الذي استعملته المرأة.
استدل به أيضًا على أنَّ الماء المستعمل لا مانع من استعماله في رفع الحدث؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ الماءَ لَا يَجْنُبُ».
وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ الماء المستعمل لا يجوز استعماله مرة أخرى، ولكن ظواهر الأخبار تدل على جواز الاستعمال، وذلك مِن مثل هذا الخبر.
وذكر المؤلف أنَّ سِماك بن حرب قد انفرد بهذا الخبر، ولهذا قال الإمام أحمد: إنَّ سِماك انفرد بهذا الخبر، وبعض أهل العلم تكلم في سِماك؛ لأنه في آخر عمره كان يَقبل أن يُلقَّن في الأحاديث، لكن هذا في غير رواية أهل الحديث الثقات، ومن أمثلتهم شعبة، فإن شعبة روى هذا الخبر عن سِماك، وشعبة ينتقي من حديث مشايخه، ولا يقبل الحديث الذي فيه تلقين.
ثم روى المؤلف عن حُميد الحميري، وهو من التابعين، قال: لقيت رجلًا صحب النبي -صلى الله عليه وسلم.
من هو هذا الرجل؟
اختُلف فيه، فقالت طائفة إنه عبد الله بن سرجس؛ لأنه قد ورد من حديثه عند ابن ماجة، وقيل: إنه هو الحكم بن عمرو؛ لأنه قد أخرجه الإمام أحمد من حديثه، مِن حديث الحكم بن عمرو، وقيل: إنه عبد الله بن مغفل.
لكن هذا الاختلاف في هذا الراوي لا يؤثر على صحة الخبر؛ لأن هذا الراوي من الصحابة، الراوي المُبهم من الصحابة، والصحابة كلهم عدول، وبالتالي تكون روايته مقبولة.
قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جميعًا"، أي: ليتوضئا جميعًا، هذا رجل وامرأته.
وقد صحح هذا الخبر طائفة من أهل العلم، وقد أشار المؤلف إلى بعضهم، فهذا من حُجة مَن يَرى أنَّ فضل الماء الباقي بعد تطهُّر المرأة لطهارة كاملة، لا يجوز للرجل أن يستعمله في الطهارة.
«إِنَّ الماءَ لَا يَجْنُبُ».
{(وَعَنْ هِشَامِ بنِ حَسَّان، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «طُهُورِ إِنَاءِ أَحدِكُم إِذا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُوْلَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» رَوَاهُ مُسلمٌ، وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ همَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أبي هُرَيْرَة وَلَيْسَ فِيهِ: «أُوْلَاهُنَّ بِالتُّرَابِ»، وَذَكر أَبُو دَاوُد أَنَّ جمَاعَةً رَوَوْهُ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ فَلمْ يذكرُوا «التُّرَابَ»، وَفِي لَفظٍ: «إِذا شَرِبَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أحدِكُم فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى مُسلمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ منْ رِوَايَة عليِّ بنِ مُسْهِرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أبي رَزينٍ وَأبي صَالحٍ، عَنْ أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أحدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ، ثمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ»، وَرَوَاهُ مُسْلمٌ مِنْ رِوَايَة إِسْمَاعِيلِ بنِ زَكرِيَّا، عَنِ الأَعْمَشِ، وَقَالَ: وَلمْ يَقلْ: «فَلْيُرِقْهُ»، وقَالَ النَّسائيُّ: لا أعلمُ أحَداً تابعَ عليَّ بنَ مُسْهِرٍ عَلى قَولِهِ: «فَلْيُرِقْهُ»، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِسْنَادٌ حَسَنٌ وَرُوَاتُهُ كُلُّهم ثِقَاتٌ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَوَّارِ بنِ عبدِ اللهِ العَنْبَريِّ، عَنِ المعْتَمِرِ بنِ سُلَيْمَان قَالَ: سَمِعتُ أَيُّوبَ يُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُغسَلُ الإِنَاءُ إِذا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُخْراهُنَّ -أَو قَالَ: أُوْلَاهُنَّ- بِالتُّرَابِ، وَإِذا وَلَغَتْ فِيهِ الهِرَّةُ غُسِلَ مَرَّةً» -وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد قَوْلَه: «وإِذا وَلَغَ الهِرُّ غُسِلَ مَرَّة» مَوْقُوفاً، وَهُوَ الصَّوَابُ.
وَعَنْ كَبْشَةَ بنتِ كَعْب بنِ مَالكٍ -وَكَانَتْ تَحتَ ابْنِ أبي قَتَادَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا، قَالَتْ: فَسَكَبْتُ لَهُ وَضُوءاً قَالَتْ: فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشرَبُ فأصْغَى لَهَا الإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ، قَالَت ْكَبْشَةُ: فَرآني أنظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي؟ فَقلتُ: نعمْ. قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّهَا لَيستْ بِنَجَسٍ، إِنَّمَا هِيَ منَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُم أَو الطَّوَّافات» لَفظُ التِّرْمِذِيِّ، وَغَيرُه يَقُولُ: «والطَّوَّافاتِ» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّان وَالحَاكِمُ وَغَيرُهم، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: "رُوَاتُه ثِقَاتٌ مَعْروفُونَ"، وَقَالَ الحَاكِمُ: "وَهَذَا الحَدِيثُ مِمَّا صَحَّحهُ مَالكٌ وَاحْتجَّ بِهِ فِي الموَطَّأ، وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّ لَهُ شَاهِداً بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ)
}.
ذكر المؤلف هنا أحاديث ولوغ الكلب في الإناء، والعلماء لهم منهجان في الكلب إذا ولغ في الإناء، فعند الإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، أنه لا يؤخذ بهذا الخبر، ولا يُغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعة.
بينما قال الشافعي وأحمد: إنه يؤخذ بهذا الخبر، ويجب غسل الإناء الذي ولغ الكلب فيه سبع مرات، وأنه لا يَطهر إلا بذلك.
أصحاب القول الأول قالوا عن هذه الأحاديث التي استدل بها أصحاب القول الثاني بأنها أحاديث آحاد مخالفة للقياس، وما خالف القياس فإنه يرد من أخبار الآحاد.
وهذه قاعدة يؤصلونها، والصَّواب أنَّ الأقيسة يطرأ عليها مِن النزاع والاختلاف والشبهة والتشكيك ما لا يطرأ على أخبار الآحاد، فتقدم أخبار الآحاد؛ لذا فإن مذهب الشافعي وأحمد في ذلك أرجح.
وقوله هنا: «طُهُورِ إِنَاءِ أَحدِكُم» أي: إنَّ الفعل الذي يُطهر الإناء عندما يَلغ فيه الكلب.
"ولوغ الكلب" بأن يدخل الكلب لسانه في الماء؛ وذلك لأنَّ الكلب عند الشرب يخرج لسانه فيغرف به من الماء فيشربه، فهذا يقال له الولوغ.
هل ذكر الولوغ يُفهم منه أنَّ غير الولوغ لا يؤخذ هذا الحكم له أو لا؟
الولوغ هنا فعل، والأفعال لها مفهوم مخالفة، وبالتالي يختص الحكم بحالة الولوغ على الصحيح.
ولذلك مثلا: لو أنَّه لمس ثياب إنسان فلا نقول يجب غسلها سبعًا بل يكفي غَسلها مرة واحدة متى كان هناك رطوبة؛ لأنَّ هذا ليس ولوغًا.
يعني مثلا: في بعض كلاب الحراسة قد يشم الثياب وقد يلحسها بلسانه، فهذا لا يُعد وُلوغًا، وبالتالي لا يدخل في هذا الخبر.
وقوله: «إِذا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ» هل هذا خاص بالكلب؟
هذا ظاهر الخبر، أو يُلحق به الخنزير؛ لأنه أكثر نجاسة؟
هنا لم يعقل المعنى الذي مِن أَجله ثبت الحكم في الكلب، وإذ لم يُعقل المعنى فإننا لا يصح أن نُلحق به غَيره.
قال: «أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» "أن" وما بعدها خبر، أمَّا المبتدأ فهو «طُهُورِ»، وقوله: «أَنْ يَغْسِلَهُ» الغسل يفاوت معنى النضح، فالغسل فيه تحريك وفيه شيء من الخض ونحوه، بخلاف النضح فإنه غمر الماء فقط.
قال: «أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» "سبع" هذا نص، وبالتالي لا يجوز لأحد أن يزيد أو يقل.
وقوله: «أُوْلَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» هذا تقييد لإحدى الغسلات، وجعلها الأولى، أي: أنه لابد من جعل تراب معها.
وجاء في بعض الروايات: «أُخْراهُنَّ» وفي بعض الروايات «إِحْدَاهُنَّ»، فهنا القيد اختلف، مرة في الأولى، ومرة في الأخيرة، ومرة في آي واحدة، والقاعدة تقول:
عند تعارض المقيدات فإنها تُترك ويبقى الخبر على إطلاقه، وبالتالي تكون هذه الغسلة التي فيها التراب يجوز أن تكون الأولى وأن تكون الأخيرة وأن تكون أي غسلة مِن الغسلات.
وقوله هنا: «بِالتُّرَابِ» قيد الحكم بالتراب، فهل يَلحق به المنظفات الأخرى مثل: أنواع الصابون، أنواع الشامبو ونحوها أو لا؟
نحن لم نعلم المعنى الذي مِن أجله ذُكر التراب هنا، وبالتالي لا يصح لنا أن نقيس غيره عليه؛ لأننا لا نعلم معنى ذكر التراب هنا.
قال: وفي لفظ: «إذا شَرب» هناك في الأولى «وَلَغَ» لكن شرب الكلب لا يكون إلا بالولوغ، بالتالي تفسر الروايتان ببعضهما خصوصًا أنَّ الخبر واحد، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتكلم باللفظين معا.
وقد أشار المؤلف إلى أن رواية همام عن أبي هريرة ليس فيها أولاهن، ثم أورد المؤلف من حديث مسلم الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه من طريق أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِذا وَلَغَ» حيث علق الحكم بالولوغ «الكَلْبُ» وعلق الحكم بالكلب، «فِي إِنَاءِ أحدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ»، أي: ليلقي الماء الموجود فيه الذي ولغ الكلب فيه، وهذه زيادة في هذه الرواية، مما يدل على أنَّ ذلك الماء نجس.
قال: «ثمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ».
لكن لفظ «فَلْيُرِقْهُ» وقع فيها كلام لبعض أهل العلم، فإنَّ بعضهم قال: قد انفرد بها "علي بن مسهر" راوي الخبر عَن الأعمش، وبالتالي قالوا: بأنه لم يتابعه أحد في هذه اللفظة، لكن آخرين قالوا: بأن هذا وإن لم يصح في هذا الخبر لكن هذا هو بقية الأخبار، إذ كيف يغسل الإناء إلا بعد إلقاء ما فيه من الماء.
ثُمَّ أورد المؤلف حديثًا أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة، قال: «يُغسَلُ الإِنَاءُ إِذا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُخْراهُنَّ -أَو قَالَ: أُوْلَاهُنَّ- بِالتُّرَابِ» وهذا تأكيد لما في الأخبار الأولى، لكن زاد لفظة: «وَإِذا وَلَغَتْ فِيهِ الهِرَّةُ غُسِلَ مَرَّةً»، فإن هذه اللفظة تكلم فيها بعض أهل العلم، حيث قالوا: إنَّ الصواب أنها من كلام أبي هريرة، وأنها قد أدرجت في الخبر.
وبالتالي لا يؤخذ الحكم من هذا اللفظ.
"كبشة بنت كعب بن مالك" تابعية، وكانت تحت ابن أبي قتادة، و "أبو قتادة" هو: الصحابي المعروف، وأن أبا قتادة دخل عليها، قالت: فسكبت له وضوءا، يعني ماء يتوضأ به، "سكبت" أي: أفرغت من إناء في إناء، فجاءت هرة تشرب، "الهرة" القطة، فجاءت تشرب، فأصغى لها الإناء حتى شربت، هذا ماء يريد أن يتوضأ به، ومع ذلك لما شربت منه الهرة لم يمتنع مما بقي بعد شربتها.
قال: فأصغى لها يعني للهرة الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا بنت أخي، فقلت: نعم أعجب من صنيعك، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّهَا لَيستْ بِنَجَسٍ، إِنَّمَا هِيَ منَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُم أَو الطَّوَّافات».
«إِنَّهَ» "إنَّ" أداة تعليل، الهاء تعود على الهرة، «لَيستْ بِنَجَسٍ»، يعني أنَّ لعابها لا يعد نجسًا، وبالتالي لا تنتقل النجاسة مِن فمها إلى الإناء.
«إِنَّمَا هِيَ منَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُم أَو الطَّوَّافات»، الطواف هو الذي يدور على الناس، وفي هذا بيان العلة، فما كان من الحيوانات يطوف بين الناس؛ فإنه لا يلزم غسل الإناء بعد شربه، فليحق به كل ما كان طوافًا بين الناس من أنواع الحيوانات.
{(وَعَنْ أنسِ بنِ مَالكٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ المسْجِدِ فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للبُخَارِيِّ)}
هذا آخر حديث في كتاب الطهارة، وقد أورد المؤلف فيه حديث أنس بن مالك، قال: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ"، "الأعرابي" هو مَن يسكن البادية، ويتنقل ولا يبقى في مكان واحد، والأعراب في الغالب لا يعلمون الأحكام الشرعية، ولذا لما كانوا في البرية يبولون في أي مكان عندهم، فظنَّ الأعرابي أنَّ الأمر في المسجد كذلك، فبال في طائفة المسجد؛ فزجره الناس، أي: تكلموا معه ونهوه وأمروه أن يتوقف عمَّا هو فيه.
فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، أي: نهاهم عن زجر ذلك الأعرابي؛ لأنه لو أمسك نفسه يمكن أن ينجس ثيابه، وكذلك يمكن أن ينجس أمكنة أخرى من المسجد، ولذلك كان من الحكمة عدم زجره، وهذا يدل على ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحِلم، وسعة الأفق، والأناة مع من يفعل مثل هذه الأفعال التي تعد في نظر الناس شنيعة، وهو فعل محرم ممنوع منه؛ فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "فِي طَائِفَةِ المسْجِدِ"، أي: في جانب من جوانبه، فلما قضى بوله، أي: انتهى من البول، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء.
"الذنوب" عبارة عن دلو كبيرة، تملأ ماء فأمرهم أن يلقوها على مكان بوله.
فأهريق عليه، يعني: ألقي هذا الماء على مكان النجاسة، وفي هذا أنَّ الماء مطهر يطهر النجاسات سواء كانت في الأرض أو في الثياب أو في غيرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد استعمله، وذهب طائفة إلى أنه لا يُطهر إلا بالماء الطهور وحده، كما هو مشهور الشافعي وأحمد.
ولكن ورد في عدد من الروايات والأخبار أنه قد طُهر بغير الماء، مثلا في الحروب كانوا بعد الحرب يأخذون سيفهم فيمسحونه بطرف الخرقة؛ لتزيل ما فيه من الدماء، ثم يصلون به مما يدل على أنه يمكن تطهيره بغير الماء.
وهكذا في أحاديث أخرى، سئل عما يكون في حذاء الإنسان مما يمر به، فقال صلى الله عليه وسلم: « يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ»[1].
وقوله: فأهريق عليه، هنا الماء الذي يلقى لن تنفصل الاتصال بين أفراده وبين ما في ذلك الموطن، ولذلك كان الخبر دليلا على أنه إذا أُلقي الماء على مكان النجاسة أجزأ، وفي هذا دلالة على أنه لا يلزم غسل النجاسات سبع مرات؛ لأنه اكتفى بإراقة الماء مرة واحدة.
وبعض أهل العلم قال: الأرض تطهر بغسلة واحدة، وغيرها من النجاسات يلزم غسلها سبعًا، لكن لم يَرد دليل يَدل على ذلك، والحديث إنما ورد في ولوغ الكلب؛ فيختص الحكم بذلك الموطن، ولا يلحق به ما عداه من أنواع النجاسات.
وفي هذا أيضًا قال: فلما قَضى بوله، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء، فأهريق عليه، قد يستدل به على أن الأرض التي تقع فيها النجاسة لا تطهر بالتشميس، فالشمس لا تطهرها، وإن كان يعلم من مثل هذا أن الأصل في الأراضي أن تكون طاهرة، ولا يحكم بنجاستها إلا لدليل.
{(بَابُ الآنِيَةِ
عَنِ البَراءِ رضي الله عنه قَالَ: أمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ وَنَهانا عَنْ سَبْعٍ، أمرنَا بِاتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وعِيادَةِ المرِيضِ، وَإجَابَةِ الدَّاعِي، وَنَصْرِ المظْلُومِ، وإبْرَارِ القَسَمِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وتَشْمِيتِ العَاطِسِ، ونَهانَا عَنْ آنِيةِ الفِضَّةِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، وَالحَرِيرِ، والدِّيباجِ، والقَسِّيِّ، والإسْتَبرَقِ وَلم يَذْكُرِ السَّابِع. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لفظُ البُخَارِيِّ. وَفِي لفظِ مُسْلِمٍ: وَعَنْ شُرْبٍ بِالفِضَّةِ)
}
الماء يحتاج "ظرف" يوضع فيه من أنواع الأواني، وبالتالي أفرد بابًا للآنية، و "الآنية" جمع إناء، وهو ما يستعمل لوضع الحوائج فيه.
في الغالب أن أواني المياه تكون من المعدن من حديد أو نحاس أو نحوهما، بخلاف غيرها من أنواع الآنية، فقد تكون من خشب ومن غيره.
وهذا الحديث فيه أحكام متعددة قد لا يتسع لها أواخر لقاءنا هذا، ومن ثم نُذكر بأمهات باب الطهارة.
وأنَّ المراد بالطهارة رفع الحدث وما في معناه، أو إزالة الخبث وما في معناه.
و" الحدث": حُكم شرعي ليس وصفًا ذاتيًا؛ فالإنسان إذا أحدث الآن بالجنابة ثم بعد ذلك يَغتسل ويصبح لا حدث عنده، هذا وصف يأتي ويزول.
والأصل في باب الطهارات أن تكون بالمياه كما تقدم، وهناك مواطن خاصة جاز التطهير بغير الماء لورود نصوص فيها.
والمراد بالماء الذي يُتطهر به يشمل جميع أنواع المياه، سواء كانت نازلة من السماء، أو مستخرجة من الآبار، أو كانت مأخوذة من البحار كما دلَّ عليه حديث أبي هريرة.
والأصل في المياه الطهارة، فلا يُحكم بنجاستها إلا لورود دليل يدل على حلول النجاسة عليها، ويبقى هناك مياه خالطتها النجاسة فلم تغيرها، مثلاً: عندنا ماء لم تخالطه نجاسة فهو على طهوريته، وماء خالطته النجاسة فغيرته فهذا نجس بالاتفاق، وماء خالطته النجاسة فلم تغيره، فإن كان كثيرًا لم يُحكم بنجاسته، وإن كان قليلا وقع الاختلاف فيه كما تقدم معنا.
بارك الله فيك، ووفقك الله للخير، وبارك فيمن يستمع إلينا من إخواننا أو يشاهدنا، كما أسأله جل وعلا أن يرزقنا فهما صحيحا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لك شيخنا، وأشكرك باسمي واسم المتابعين الكرام على تقديمك المبارك جزاك الله خير ورفع قدرك، أشكركم إخواني المتابعين الكرام على حسن الاستماع، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين}
--------------------
[1] رواه الترمذي (143) وأبو داود (383) وابن ماجه (531) والحديث صححه الشيخ الألباني في "صحيح الترمذي".

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك