الدرس الثامن عشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

5598 24
الدرس الثامن عشر

المحرر في الحديث (1)

الحمد لله رَبِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعد.
فأحييكم وأرحب بكم في لقاءٍ جديدٍ مِن لقاءاتنا في قراءة كتاب "المحرر" للحافظ ابن عبد الهادي المقدسي -رحمه الله تعالى.
نتدارس فيه شيئًا من أحاديث باب صفة الصلاة، وكنا قد قرأنا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في إثبات مشروعية تكبيرات الانتقال، ولعلنا في هذا اليوم -بإذن الله عَزَّ وجَلَّ- أن نُواصل الحديث في ذلك، وكان حديث أبي هريرة قد تَضمن أنَّ الإمام يقول بالتسميع والتحميد، فيقول: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَه" وفي نفس الوقت يقول: "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمدُ"، فلنواصل الحديث في ذلك.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، اللهُمَّ اغفر لنا ولشيخنا، وللحاضرين والمشاهدين.
قال المصنف: (عَنْهُ)}.
(عَنْهُ) يعني: عن أبي هريرة.
{(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذا قَالَ الإِمَامُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْد، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»)}.
في هذا اللفظ دلالة على أنَّ الإمام يَقول التَّسميع، وقد قال بعض الفقهاء إنَّ هذا الحديث يَدُل على أنَّه لا يقول التحميد، لكن حديث أبي هريرة السَّابق صريح في أنَّ الإمام يحمد، وهنا إنما استُدِلَّ بِه مِن دَلالة السكوت، حيث لم يَنقل الراوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الإمام يقول: "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمدُ".
هناك لفظين مَا حُكْمُهُما؟
قال الجمهور: إنهما مِن المُستحبات في حق الإمام والمأموم والمنفرد.
وذهب الإمام أحمد إلى أنَّهما واجبات، والواجب ليس كالركن، فالواجب يَسقط مع النِّسيان، واستَدَلَّ بأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قد أَمَرَ بذلك في قوله: «فَقُولُو» فإنَّ الظَّاهر مِن هذه اللفظة الإيجاب.
وقال الجمهور: إنَّ هَذَا مثل حديث التَّأمين، وبالاتفاق أنَّ قَولَ "آمين" ليس من الواجبات.
قوله: «اللهم رَبَّنَا لَكَ الْحَمْد»، يعني: يا الله، «رَبَّنَ» نُقِرُّ بربوبيتك وبنعمك علينا، «لَكَ الْحَمْد»، ثم قال: «فَإِنَّهُ» يعني: العِلة «مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ» أي: التحميد «قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» فيه دلالة على أنَّ الملائكة يُكبِّرون مَع صلاة المصلين ويحمدون ويؤمِّنون، وفي هذا ترغيب للنفوس في أن يذكروا الله بهذه الأذكار.
{(وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمِلءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ العَبْدُ، وكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ». رَوَاهُ مُسلمٌ، وَله منْ حَدِيث ابْن عَبَّاس نَحوُهُ)}.
(وَعَنْ أَبي سَعيدٍ) هو: سعيد بن مالك، (قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم) أي: هذه الطريقة هي التي يستمر عليها، ويداوم عليها صلى الله عليه وسلم، (كَانَ إِذا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمدُ») النَّبي صلى الله عليه وسلم إمامٌ أو منفردٌ، ومع ذلك كان يُحمِّد، وفي هذا دليلٌ على مَشروعية التَّحميد للإمام والمنفرد.
«مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» أي: حمدًا يُوازي مَا يَملأ السَّماوات والأرض، «وَمِلءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ»، وفي هذا مشروعية الثَّناء على الله -جلَّ وعلا، ومدحه سبحانه وتعالى، فهو الأحق بالمدح والثَّناء؛ ولذا قال: «أَهْلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ».
ثم قال: «أَحَقُّ مَا قَالَ العَبْدُ»، أي: أولى ما يقوله العبد، وأكثره مُناسبة لحاله.
قوله: «وكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ» فيه الاعتراف بالعبودية لله -عَزَّ وجَلَّ.
ما هو أحق ما قال العبد؟
أن يقول: «اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ» وفي هذا: التسليم لله عَزَّ وجَلَّ، ومعرفة أنَّ مَا في الكون مِن فِعل إِلَّا وَهُو بأمر الله -سبحانه وتعالى، وأنَّه المُعطي المانع -جلَّ وعلا.
ثم قال: «وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ» أي: المكانة والمنصب، «مِنْكَ الْجَدُّ»، أي: مكانته ومنصبه، إنما ينتفع الإنسان بعمله.
{(وَعَنْ شريكٍ، عَنْ عَاصِمِ بنِ كُلَيْب، عَنْ أَبِيه، عَنْ وَائِل بنِ حُجْرٍ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قبل يَدَيْهِ، وَإِذا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِم، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى همَّامٌ عَنْ عَاصِمٍ هَذَا مُرْسَلًا، وَشَرِيْكٌ كثيرُ الْغَلَطِ وَالوَهْمِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، عَن شَرِيْكٍ، وَلم يُحَدِّثْ بِهِ عَنْ عَاصِمْ غَيرُ شَرِيْكٍ، وَشَرِيْكٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِيمَا يَتَفَرَّدُ بِهِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: حَدِيثُ وَائِل أَصحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ حَسَن، عَنْ أَبي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِذا سَجَدَ أَحَدُكُم فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبِلَ رُكْبَتَيْهِ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ فِي "تَارِيخه" وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَفظُهُ: «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَبْرُكُ فِي صَلَاتِهِ بَرْكَ الْجَمَلِ» وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَمُحَمّدٌ وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ البُخَارِيُّ: لَا يُتَابعُ عَلَيْهِ، وَلَا أَدْرِي أَسَمِعَ مِنْ أَبي الزِّنَاد أَمْ لَا. وَقَالَ البُخَارِيُّ: وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عمرُ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ، وَقد رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه مَرْفُوعً)
}.
هذه المسألة، وهي أيهُما يوضع أولًا عند الانتقال من القيام بعد الركوع إلى السجود؟ فهل يُقدِّم رُكبتيه أولًا ثُمَّ يَضَعُ يَديه؟ أو يَضَعُ يَديه أولًا ثم يَضعُ رُكبتيه؟
هذه المسألة وقع الخلاف فيها، والسبب وقوع الاختلاف في أحاديث هذا الباب، فإنَّه قَد رَوَىَ وَائِل بنِ حُجْرٍ تقديم وضع الركبتين قبل اليدين، وَرَوىَ أبو هريرة تقديم وضع اليدين على الركبتين، ولذا وقع الاختلاف بين أهل العلم في هذه المسألة.
وشَرِيْكُ بن عبد الله قد اختَلَفَ أهلُ العِلم في الحكم عليه، والأظهر أنَّه صَدوق، وروايته مِن قَبيل الحسن، لكن لا يُقبل تَفَرده.
وعَاصِمِ بنِ كُلَيْب صدوق أيضًا، قَالَ: (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ) يعني: يبتدئ بوضع الركبتين قبل اليدين، (وَإِذا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ)، وقد تُكُلِّمَ فيه من جهتين، الأولى: أنَّه مِن رواية شريك، والثانية: أنَّه قد وَرَدَ مِن حَديث همام عن عاصم مُرسلًا.
ثم قال: (رَوَى الْأَعْرَجِ) أي: عبد الرحمن بن هرمز (عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِذا سَجَدَ أَحَدُكُم فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبِلَ رُكْبَتَيْهِ») ظاهره استحباب تقديم اليدين، وقد تُكُلِّمَ في هذا مِن جهة المعنى والمتن، ومن جهة الإسناد، أمَّا من جهة المتن، فقالوا: إنَّ البَعير يَضع يَديه أولًا قبل ركبتيه؛ وذلك لأنَّه ينزل أولًا على وَجهه، ثم تَنزل مُؤخرته، فلذلك نُهي عن أن يُفعل مثل فِعله.
وبالتالي قالوا: الظاهر أنَّ هذه اللفظة قد انقلبت على الراوي، وأنَّ الصَّواب: «وَلْيَضَعْ رُكْبَتَيْهِ قَبِلَ يَدَيْهِ»؛ ليتناسق مع أول الحديث.
والآخرون قالوا: إنَّ البَّعير فيه ركبتان في اليدين، وركبتان في الرجلين، كلاها أرجل، في المقدمة وفي المؤخرة.
وعلى كُلٍّ، هذا ما قُدِحَ به بالاستدلال على هذه المسألة، بحديث أبي هريرة.
وأمَّا الأمر الثاني فهو ما قُدِحَ به في إسناد هذا الخبر، فإنَّ البُخاري قال: إنَّ محمد بن عبد الله بن حسن لم يُتَابَع عليه.
ثم طُعِنَ فيه من جهة السَّماع، سماع محمد هذا من أبي الزناد، حيث إنَّه لم يَثبت سماعه.
ثم أيَّد بعضهم القول بوضع اليدين أولًا؛ لأنَّه مِن فِعل ابن عُمر رضي الله عنه، ولكنه قد وَرَدَ عَن غيره مِنَ الصحابة أنَّه كان يضع الركبتين، وبالتالي لا يصح أن يُستدل في هذه المسألة بأفعال الصحابة -رضوان الله عليهم.
وقد قال بعضهم بالتساوي بين الفعلين، وقال آخرون: وضع الركبتين أولا ًهذا للصحيح السليم، ووضع اليدين أولًا هذا لمن كَبُرَ سِنه، حيث إنَّ أبا هريرة إنما قَدِمَ في السَّنة السَّابعة مِن الهجرة، أي: في أواخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم.
فهذا خلاصة مَا يَتَعَلق بهذه المسألة.
{(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى الْجَبْهَةِ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ وَالْيَدَيْنِ والرُّكْبَتَيْنِ وأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ- وَلَا نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَالشَّعْرَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ للْبُخَارِيِّ)}.
قوله: «أُمِرْتُ» هذا يُنسب إلى الله -عَزَّ وجَلَّ؛ لأنَّ القائل هو النَّبي -صلى الله عليه وسلم، وبالتالي يكون هذا مَنسوبًا لله -عَزَّ وجَلَّ، والأصل في الأوامر أن تكون للوجوب، فيدل هذا على وجوب هذه الأمور في الصلاة.
قال: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ» ما هي الأعظم السبعة عندنا؟
قال: العظم الأول: «الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ» فيه دلالة على أنَّ الواجب هو السجود على الجَبهة، وأنَّه يُستحب وضع الأنف على الأرض. وهناك رواية عن أحمد بوجوب الأمرين مَعًا، الجبهة والأنف، ولكن ظاهر حديث الباب الاقتصار على الجبهة في الوجوب، واستحباب وضع الأنف.
وأمَّا الثَّاني والثالث فاليدان، فالمُصلي يُؤمر بأن يضع كفيه على الأرض حال السجود، ولو قُدِّر أنَّه لم يَضع كفيه على الأرض، فحينئذ لا يَصح سُجوده، و بالتالي لا تَصح صلاته.
وأمَّا الرَّابع والخامس: فهما الركبتان، يضعهما على الأرض، والركبتان توضعان على الأرض بحائل؛ لأنه لابد أن يكون لابسًا ثيابًا يلبسها في صلاته، فَدَلَّ هذا على أنَّ وَضْعَ الحائل لا يُؤثر؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الخُمْرَةِ، وهي قماش صغير يَسجد عَليه، ولم يمنع هذا من أن يُقال إنَّه قد سَجَدَ على الأرض.
وهكذا لو قُدِّر أنَّه وَضَعَ يَدَيه على فُرُش، أو على أطراف ثيابه، وكانت على الأرض فإنَّه يُعد قد وضعهما على الأرض.
وأمَّا السَّادس والسَّابع: فهما أطراف القدمين، فإنَّه لابدَّ أن يَصل بعض أصابعه إلى الأرض، فمن كانت قَدَماه مُرتفعتين عن الأرض لم يصح سجوده، وبالتالي لا تصح صلاته.
ويكفي في هذا الأصبع الواحد، والمدة القليلة الواحدة التي تكون داخل السجود، وإن كان الأولى أن يَضعها دَومًا، وأن يُوجهها دومًا إلى القبلة.
قال: «وَلَا نَكْفِتَ» أي: لا نقوم بكف الثياب، أو إِمالتها وعَفْطِها، وهكذا الشَّعر، والمراد مِن هذا: أنَّ مَا لم يكن مَكفوتًا فلا تَكفُته مِن أجل الصلاة، لا في الشَّعْر، ولا في الثياب.
{(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ مَالك بن بُحَيْنَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إبِطَيْهِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
كانوا في الزمن السابق يلبسون ثيابًا واسعة اليدين، وبالتالي إذا رفع يديه، أو جافاهما عن جنبيه شوهد بياض الإبط، وهذا الحديث يُفسِّر لك أحوالهم في عهد النبوة.
قال عبد الله: (وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ مَالك بن بُحَيْنَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ) ولعل المراد هنا حال السجود، (حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إبِطَيْهِ) وهذا خاص بالرجال؛ لأنَّ المرأة مأمورة بالتستر والانكفاء.
{(وَعَنْ البَراءِ بنِ عَازِب رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَجَدْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
في هذا وجوب وضع الكفين على الأرض حال السجود، في قوله: «فَضَعْ» هذا فعل أمر فيدل على الوجوب.
وقوله: «وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ» فيه دلالة على وجوب رفع المرفقين، والمرفق هو المفصل الذي بين الساعد والعضد، فهذا لا يجوز للإنسان أن يضعه على الأرض على الصحيح، لكنه لا تبطل الصلاة به، لذلك قال بعض الفقهاء: إنه يُكره، ومرادهم بهذا أنه لا تبطل الصلاة به، مع كونه يُنهى عنه.
وقد ورد في الحديث أن السبب في هذا أن من وضع مرفقيه على الأرض شَابَهَ حال الكلب؛ ولذا قال: «اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ»[102].
{(وَعَنْ وَائِلِ بنِ حُجْرٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا رَكَعَ فَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَإِذا سَجَد ضَمَّ أَصَابِعَهُ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: عَلَى شَرطِ مُسلم)}.
وَائِلِ بنِ حُجْرٍ تقدَّم معنا، قال: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا رَكَعَ فَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) أي: فرَّق بين الأصابع، ووضع مسافة بينها؛ لأنه يضع يديه على ركبتيه، ثم بعد ذلك يفرِّق الأصابع، أمَّا إِذَا سَجَدَ، فإنَّه يَجعل الأصابع مُتجهة إلى جِهة القبلة، ويضم هذه الأصابع، وتكون حَذو مَنكبيه.
وقد اختُلِفَ في الإبهام، هل يَضمها مع بقية الأصابع، أم أنَّه يُفرِّق بينها وبين غيرها، وظاهر حديث الباب أنَّه يَضم حتى أُصبع الإبهام. وقد وَرَدَ أنها تكون مُتجهة إلى جهة القبلة.
{(وَعَنْ كَامِلٍ أَبي الْعَلَاءِ، عَنْ حَبيبِ بنِ أَبي ثَابتٍ، عَنْ سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ بَينَ السَّجْدَتَيْنِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وارْحَمْنِي واهْدِنِي وَعَافِنِي وارْزُقْنِي» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَهَذَا لفظ أَبي دَاوُد وَالْحَاكِم. وَعند التِّرْمِذِيِّ وَابْن مَاجَه: «واجْبُرنِي» بَدَل «وَعَافِنِي»، وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَه أَيْضًا: «وارْفَعْنِي» بَدَل «واهْدِنِي». وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ بَعضُهم عَنْ كَامِلٍ أبي الْعَلَاء مُرْسَلاً. وَقَدْ وَثَّقَ كَامِلاً ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَرَوَى هَذَا الحَدِيثَ وَلَفْظُهُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاجْبُرْنِي وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي وَاهْدِنِي»)}.
قول المؤلف هنا: عن ابن عباس: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ بَينَ السَّجْدَتَيْنِ) فيه دلالة على استحباب دعاء الإنسان في الجلسة بين السجدتين، وقد قال الإمام أحمد: إنَّ الواجب هو الدعاء بالمغفرة، وبعض النَّاس قد يتحرج مِن الدعاء لغيره، والصَّواب أنَّه لا حَرَجَ في هذا، فلو قال: اللهم اغفر لي ولوالدي، فلا حرج فيه.
والحديث فيه اختلاف على تصحيحه وتضعيفه، وإن كان الصواب أنَّه مِن قَبيل الحسن، إلا أنَّه ليس على جهة حَصْرِه، يعني هذا الحديث لا يدل على أنَّ غَير هذه الصيغة تكون مِن المحرمات؛ لأنَّ هذا فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم ولم يُلزم الآخرين بأن يقولوا مثلها، فقال: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وارْحَمْنِي واهْدِنِي وَعَافِنِي وارْزُقْنِي»، وفي بعض الروايات قال: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وارْحَمْنِي واهْدِنِي واجْبُرنِي وارْزُقْنِي»، وفي بعض الروايات: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وارْحَمْنِي وارْفَعْنِي واجْبُرنِي وارْزُقْنِي»، كل هذه الروايات ثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وابن عدي قد روى الخبر، فجمع بين هذه الألفاظ جميعًا، وبالتالي لا حرج للإنسان أن يدعو بمثل هذه الأدعية.
{(وَعَنْ مَالِكِ بنِ الْحُوَيْرِثِ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه: أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فَإِذا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ لم ينْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
نعم، حديث مَالِكِ بنِ الْحُوَيْرِثِ: (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فَإِذا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ) يعني: في نهاية الركعة الأولى، أو نهاية الركعة الثالثة، (لم ينْهَضْ) للركعة الثانية أو الرابعة (حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدً) هذه الجِلسة يُقال لها جَلسة الاستراحة، وقد اختلف العلماء فيها، ومنشأ الخلاف: أنَّ بقية الرواة لم يرووا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه جلسها، وإنما تفرَّد بذكرها مَالِك بن الْحُوَيْرِث، فقالت طائفة: مَالِك بن الْحُوَيْرِث صحابي نقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه فعلها، والأصل أنَّ أفعاله -صلى الله عليه وسلم- يُشرع لنا الاقتداء به فيها، فتكون هذه الجلسة مُستحبة.
وقال آخرون: هذه الجلسة ليست مستحبة؛ لأنَّ بقية الصحابة لم يرووا هذه الجلسة، ومَالِك بن الْحُوَيْرِث إنما جاء في آخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم، فيظهر أنَّه لم يجلسها إلا مِن أجل تَعَبِه، لا لكونها جزءًا من الصلاة، فترددت هذه الجلسة بين كونها قد فُعلت للعبادة، وبين كون النبي -صلى الله عليه وسلم- فَعَلَها للحاجة، لكن القاعدة أنَّ الأصل في أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة أن تكون عبادية، ولذا قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»[103]، ولذا فإنَّ الظَّاهر مِن قَولي أهل العلم: هو استحباب جلسة الاستراحة، لكن يلاحظ أمر: وهو أنَّ الإنسان إذا صَلَّى خَلف إِمام، فلا يُشرع له أن يجلس للاستراحة وإمامه لم يجلسها، لماذا؟
لأنَّ المأموم مأمور بالاقتداء بإمامه.
{(وَعَنْ أَبي جَعْفَر الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبيعِ بنِ أَنسٍ، عَنْ أَنسِ بنِ مَالكٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا زَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ حَتَّى فَارق الدُّنْيَا. رَوَاهُ أَحْمدُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. وَأَبُو جَعْفَر وَثَّقَهُ غيرُ وَاحِد، وَقَالَ أَبُو زُرْعَة: شيخٌ يَهِمُ كثيرًا، وَقَالَ الفَلَّاسُ: فِيهِ ضَعْفٌ، وَهُوَ منْ أَهلِ الصِّدْق سَيِّءُ الْحِفْظِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّان: ينْفَرِدُ بِالمنَاكِيرِ عَنِ الـمَشَاهِيْرِ)}.
القنوت في الفجر، قال به الشَّافعية والمالكية أخذًا مِن هذا الحديث، قالوا فيه دلالة على أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- استمر على القنوت حتى فارق الدنيا، والآخرون قالوا: إنَّ القنوت في صلاة الفجر غير مشروع، ووقفوا من هذا الحديث موقفين:
موقف يقول: إنَّ المراد بالقنوت هنا طول القيام، فإنَّ صلاة الفجر يُستحب إطالة القراءة فيها، وقد قال الله تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238]، ويدل على هذا: أنَّه قد ورد من حديث جماعة مِن الصحابة أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قنت بعد الركوع في النَّوازل شهرًا ثم تَركها، فدلَّ هذا على أنَّ ذاك القنوت إنما هو للنازلة.
والجواب الثاني: تضعيف هذا الخبر، وذلك من خلال الكلام في أبي جعفر الرازي، الراوي له، وما هذا إلا أنَّ هذه الفعلة وهي القنوت، قد ورد عَن عَدد مِن الصَّحابة إنكارها، ولذلك قالوا بعدم العمل بظاهر هذا اللفظ، إمَّا لتأويله على أنَّ المراد به طول  القراءة في صلاة الفجر، وهو أظهر، وإمَّا القول بتضعيف هذا الخبر.
{(وَعَنْ سَعْدِ بن طَارقٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: قُلْتُ لأَبي: يَا أَبَتِ، إِنَّكَ قَدْ صَلَّيتَ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبي بَكْرٍ وَعُمرَ وَعُثْمَانَ وَعليٍّ هَاهُنَا بِالْكُوفَةِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ)}.
يعني صلاته خلف علي رضي الله عنه.
{(فَكَانُوا يَقْنُتُونَ فِي الْفَجْرِ؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ مُحْدَثٌ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْن مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَسعدٌ: رَوَى لَهُ مُسلمٌ، وَأَبُوهُ طَارِقٌ: صَحَابِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ الْخَطِيبِ: فِي صُحْبَةِ طَارقٍ نَظَرٌ)}.
هذا الحديث فيه دلالة على عدم مَشروعية القنوت في صَلاة الفجر، وحينئذ عندنا خبر يُثبِتُ القنوت، وعندنا خَبر يَنفي القنوت، فنحملهما على معنيين مختلفين، فنقول: نفي القنوت يَدلُ على نَفي القيام والدعاء بعد الركوع، وحديث إثباته يدل على طول القراءة قبل الركوع، ولذا قال طارق هنا: (أَيْ بُنَيَّ مُحْدَثٌ) أي: أمرٌ حادثٌ ناشئٌ لم يكن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي -رضي الله عن الجميع.
{(وَعَنْ أَنسِ بنِ مَالكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكــُوعِ يَدْعُو عَلَى أَحيَاءٍ مِنْ أَحيَاءِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَرَكَهُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
في هذا الحديث مَشروعية القُنوت لوجود النَّوازل؛ لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ عَددًا مِن الصَّحابة لإقراء النَّاس، فَقُتِلُوا، تَلاءَمَ عليهم أحياء مِن أَحياء العرب، فقنت -صلى الله عليه وسلم- في الفجر يدعو بعد الركوع عليهم.
هذا القنوت في أي صلوات؟
بعضهم قال: هو خاص بالفجر، وبعضهم قال: إنَّه يكون في الصلوات الجهرية، وبعضهم قال: يكون في جميع الصلوات، ولعله -إن شاء الله- يأتي.
والمسألة الثانية: في الاستمرار في القنوت في صلاة الفجر، فإنَّه في حديث أنس قال: (ثُمَّ تَرَكَهُ) فَدَلَّ هذا على أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستمر في هذا القُنوت، مما يَدل على أنَّ صلاة الفجر لا يُشرع فيها القنوت لذاتها، وإنما يُشرع عندما توجد النَّوازل.
وقوله هنا: (قَنَتَ شَهْرً) استَدَلَّ به بعض أهل العلم على أنَّ قُنوت النَّوازل إنما يكون لشهرٍ واحدٍ.
{(وَعنهُ: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَقْنُتُ إِلَّا إِذا دَعَا لِقَومٍ أَوْ دَعَا عَلَى قَوْمٍ. رَوَاهُ الْخَطِيب فِي "الْقُنُوت" بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ نَحوه منْ حَدِيث أبي هُرَيْرَة)}.
هذا في مشروعية القنوت في النَّوازل، وظاهره أنَّ القنوت لا يُشرع في صلاة الفجر، في غَير النَّوازل.
{(وَعَنِ الحَسَنِ بنِ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَولَّيْت، وَبَارِكْ لِيْ فِيمَا أَعْطَيْتَ، وقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، إنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ واليْتَ، تبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ» رَوَاهُ أَحْمدُ-وهذا لَفْظُهُ- وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ-، وَهُوَ مِمَّا أُلِزمَ الشَّيْخَانِ تَخْرِيجَهُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَزَاد فِيهِ -فِي بَعْضِ رِوَاياتِهِ: بَعْدَ: «والَيْتَ»: «وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيتَ»)}.
هذا الحديث فيه مشروعية صلاة الوتر، وقد وَرَدَ الترغيب فيها، وقد وقع الخلاف في وجوبها، وسيأتي بحثه، وفيه مشروعية دُعاء القُنوت في صلاة الوتر، وظاهره أنَّه يُقنت في الوتر في جميع أيَّام السَّنة، وبعض أهل العلم قال: لا يُقنت إلا في رمضان، وبعضهم قال: لا يُقنت إلا في النصف الأخير مِن رَمضان، وظاهر حديث الباب أنَّه يُقنت في جميع أيام السنة.
وقوله في هذا الخبر: (عَلَّمَنِي) فيه مشروعية تعليم الأولاد كيفية الصَّلاة، وتعليمهم لصلاة النَّوافل، فإنَّ الحسن بن علي كان صغير السن، ومع ذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُعلمه كيف يصلي صلاة الوتر، وهي من النوافل، ولذا يحسن تعليم الأولاد والبنات كيفية صلوات النَّوافل فضلًا عن الصلوات المفروضة.
وقوله: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي» قيل: إنَّه يَبتَدئ في قنوت الوتر بهذا، وقيل: يكتفى بالدعاء هذا، وقد وَرَدَ أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في آخر وِتره: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»[104]، مما يدل على أنَّه كان يُطيل قُنوته، وأنَّه يجعل هذا في آخر القنوت.
وهذه الأدعية، أدعية جوامع، و قوله: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ» فيه: احتقار الإنسان لنفسه، فإنَّه طَلَبَ أن يكون واحدًا ممن يَمتن الله -عَزَّ وجَلَّ- عليهم بهذه الأمور مِن الهداية، والعافية، والتولي.
وقوله هنا: «وتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَولَّيْت» أي: كُن قَائمًا بشئوني كلها.
وقوله: «وَبَارِكْ لِيْ فِيمَا أَعْطَيْتَ» أي: اجعله متضاعف العطاء، وهذا يشمل كل ما أعطيه الإنسان سواءً في أخلاقه، أو في ماله، أو في وقته، أو في غير ذلك.
وقوله: «وقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ» ليس المراد هنا الوقاية من المصائب مُطلقًا، وإنما الوقاية من أن تكون المصائب شرًّا.
وقوله: «فَإنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ» هذا ثناءٌ على الله -عَزَّ وجَلَّ.
الأدعية السابقة إذا قالها الإمام استُحِبَ للمَأمومين أن يقولوا: آمين، فإذا قال: «فَإنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ» هذا ليس دعاءً، وبالتالي لا يقول التأمين، ولا يقول لفظًا آخر. بعض الناس يقول: سبحانك، وهذا لم يرد، وبالتالي نقول: إنَّه لا يُشرع قول هذه اللفظة، إذن ماذا يفعل؟
نقول: يسكت عند هذه اللفظة.
والحديث يدل على أنَّ الذل والعز من عند الله -عَزَّ وجَلَّ- يعطيها لمن شاء -سبحانه وتعالى.
{(وَعَنِ ابْنِ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا قَعَدَ للتَّشَهُّدِ وَضَعَ يَدهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتهِ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى، وَعَقَدَ ثَلَاثَةً وَخَمْسينَ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ بالسَّبابةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، وَأَشَارَ بإِصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ. رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
حديث ابن عمر صحيح الإسناد، فيه مشروعية الإشارة في التشهد، ولذلك قال الجمهور خلافًا للإمام أبي حنيفة. وفيه دلالة: على أنَّ التشهد يُجلس فيه، ولا يُقال إلا حال الجلوس، وفيه أنَّ اليد اليُمنى تُوضع على الرِجل اليُمنى، واليد اليُسرى توضع على الرِجل اليُسرى.
وقد تقدَّم معنا البحث في: هل اليدين توضع على الركبتين بحيث يُلقمها إلقامًا، أو يضعها على الفخذ، وبالتالي تكون أطراف الأصابع على الركبتين؟
قلنا: الصواب هو الثاني، وليس الأول؛ لأن الروايات يفسِّر بعضها بعضًا، وقد قال: (وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى).
ولأنه لو ألقمها لم يكن واضعًا، إنما يقال له قد ألقمها.
وقوله: (وَعَقَدَ ثَلَاثَةً وَخَمْسينَ) يعني أنَّ أصابعه الثلاثة عقدها، ثم جعل أصبع الإبهام بمثابة الخمسة، ثم أشار، وهذه إحدى الروايات الواردة في الإشارة في الأصبع، وقد وَرَدَ أنَّه يُمسك الوسطى بإبهامه، ويشير بسببابته، أو سباحته.
وكل هذه الروايات، أو الصفات الواردة في كيفية الإمساك وهي ثلاث صفات، كلها مشروعة.
وجاء في بعض الألفاظ قال: (وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، وَأَشَارَ بإِصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ)، معناه أنه لم يقبض إبهامه.
فالمقصود أن هذه الصفات كلها واردة، ويجوز أن تُفعل في التشهد.
وفي هذا: الإشارة بالأصبع الذي يلي الإبهام، وقد ورد في بعض الروايات، أنه قال: «يوحد الله به»، وفي بعضها قال: «يذكر الله به»، ولذا فإن الصواب أنه يشير بها إلى الأعلى، ولا ينكتها يمينها، ولا يميلها يمينًا وشمالًا.
وهكذا لا يقوم بوضعها أو بقبضها هكذا، بحيث يجعل الأصبع يميل، وإنما يشير إشارة مستقيمة، والإشارة تكون عند ذكر الله -عَزَّ وجَلَّ-، فكلما ذُكر الله، شُرع رفع الأصبع عند ذلك، وبالتالي نقول: بأنه لا يرفعها مِرارًا ويكرر الرفع، وإنما يرفعها عند ذكر الله -جلَّ وعلا-.
{(وَرَوَى عَنْ عبد اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا قَعَدَ فِي الصَّلَاةِ جَعَلَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى بَينَ فَخِذِهِ وَسَاقِهِ، وفَرَشَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى، وَوَضعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَوضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَأَشَارَ بإِصْبَعهِ السَّبَّابَة، وَوَضَعَ إِبْـهَامَهُ عَلَى إِصْبَعِهِ الْوُسْطَى)}.
هنا فيه أيضًا ذكر لكيفية الجلوس للتشهد، قال: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا قَعَدَ فِي الصَّلَاةِ) يعني للتشهد، (جَعَلَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى بَينَ فَخِذِهِ وَسَاقِهِ) هذا يُقال لها جلسة التورُّك، (وفَرَشَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى، وَوَضعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَوضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى) تقدَّم معنا الاختلاف في كيفية جلسات الصلاة، فقال مالك: يتورك فيها جميعًا، وقال أبو حنيفة: يفترش فيها جميعًا، وقال أحمد والشافعي: يفترش فيها إلا في التشهد الأخير، قال أحمد: التشهد الأخير من الثالثة والرابعة، وقال الشافعي: التشهد الذي يعقبه سلام، وبالتالي يفترقان في الصلاة الثنائية كالفجر، والسنن الرواتب.
وتقدَّم معنا ترجيح مذهب أحمد بأنه يفترش في الركعة الثانية، التي يعقبها تشهد.
وهنا أيضًا فيه دليل لمذهب الجمهور على الإشارة بالسبابة، وفيه أيضًا وضم الإبهام على الأصبع الوسطى.
{(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا إِذا صلَّينَا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، السَّلَامُ عَلَى فلَانٍ وَفُلَانٍ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلَامُ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُم فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ للهِ، والصَّلَواتُ والطَّيِّباتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحينَ، فَإِنَّكُم إِذا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْض، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ لِـيَـتَـخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيّ.
وَلهُ أَيْضًا قَالَ: كُنَّا إِذا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى اللهِ مِنْ عِبَادِهِ، السَّلَامُ عَلَى فلَانٍ وَفُلَانٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقولُوا السَّلَامُ عَلَى اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ هُوَ السَّلَامُ».
وَعَنْ أَبي الزُّبيرِ، عَنْ سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، وَعَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَكَانَ يَقُولُ: «التَّحِيَّاتُ المُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لله، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَينا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِيْنَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ». رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا نقُولُ فِي الصَّلَاةِ، قبل أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ: السَّلَامُ عَلَى اللهِ... الحَدِيث، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَصحَّحَ إِسْنَادَهُ.
وَقَالَ عُمرٌ رضي الله عنه: لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ إِلَّا بِتَشَهُّدٍ. رَوَاهُ سَعِيْدٌ وَغَيرُهُ)
}.
هذه الأحاديث في التشهد وصيغة التشهد، وقد اختلف العلماء في ترجيح هاتين الصيغتين، ورد من حديث ابن مسعود الصيغة الأولى، وورد من حديث ابن عباس الصيغة الثانية، وفيهما اختلاف.
وللعلماء ثلاثة مناهج أو أربعة مناهج:
المنهج الأول يقول بترجيح حديث ابن مسعود، وهذا مذهب أحمد وجماعة.
المذهب الثاني بترجيح تشهد ابن عباس، وهو مذهب الشافعي وجماعة.
والآخر يقول: بالتساوي بينهما فينوع بينهما، مرة يقرأ بتشهد ابن مسعود ومرة بتشهد ابن عباس.
والقول الثاني يقول: يجزئه ما اشتركا فيه، لكن هذا القول ضعيف، لأنه يمكن أن يكون ما ذكر في حديث ابن مسعود ولم يذكر في حديث ابن عباس يعوض عنه ما ذكر في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
وبالتالي نقول بأن الصيغتين جائزتان لوردهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبأيهما قال أجزئ، لكن يبقى مسألة الترجيح، ولكل وجهة في ترجيحه.
قال ابن مسعود: (كُنَّا إِذا صلَّينَا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ).
لعلنا نترك الاستفصال في أحكام هذه الأحاديث للقائنا الآتي.
نسأل الله -جلَّ وعلا- أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
--------------------------
[102] البخاري عن أنس بن مالك.
[103] البخاري ومسلم عن مالك بن الحويرث
[104] أخرجه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك