الدرس التاسع عشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

5596 24
الدرس التاسع عشر

المحرر في الحديث (1)

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رَبِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
نُرحب بكم أيُّها المشاهدون والمشاهدات في الأكاديمية الإسلامية المفتوحة ضِمن برنامجها البناء في شرح كتاب "المحرر" لمحمد بن أحمد الجماعيلي الصالحي المتوفى سنة 744 هـ المشهور بـ "ابن عبد الهادي"، مع شيخنا سعد بن ناصر الشثري عضو هيئة كبار العلماء والمستشار بالديوان الملكي.
حياكم الله شيخنا}.
حياك الله وأهلاً وسهلاً، أرحب بك وأرحب بالمشاهدين الكرام.
الحمد لله رَبِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بَعد:
فقد تدارسنا في لقاءنا السَّابق أحاديث التشهد، وذكرنا أنَّ أحاديث التشهد وَرَدَت بصيغيتين مَشهورتين، أولاهما: مَا ورد في حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- بصيغة (التَّحِيَّاتُ للهِ، والصَّلَواتُ والطَّيِّباتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيهَا النَّبي وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ).
وثانيهما: وردت في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- بلفظ (التَّحِيَّاتُ المُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لله، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُهَا النَّبي وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَينا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِيْنَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ).
فهنا تلاحظ في أوائل اللفظ في حديث ابن مسعود قال: (التَّحِيَّاتُ للهِ، والصَّلَواتُ والطَّيِّباتُ)، وفي حديث ابن عباس قال: (التَّحِيَّاتُ المُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لله) فأختار طائفة من أهل العلم حديث ابن مسعود، وذلك لأنَّ حديث ابن مسعود متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم، وحديث ابن عباس إنَّما رواه مسلم في صحيحه، وقد اختار الإمام أحمد وجماعة حديث ابن مسعود، لأنَّه هو الذي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يعلمه أصحابه، وقال: إنَّه كان يعلمهم هذا اللفظ كما يعلمهم السورة من القرآن، مما يدل على اعتنائهم بذلك. بينما اختار الشَّافعي وجماعة حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وهناك طائفة اختارت التنويع بينهما، وقالوا: كلاهما ثابت عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم، ومِن ثَمَّ فكلاهما ذِكرٌ فاضل واردٌ، ومِن هُنا فَلا بَأسَ أنْ يُنوع الإنسان بينهما.
ولعل لكل قول هنا منهج ودليل، وَمَن ذَكَرَ التَّشهد بأي لفظ مِن هذه الألفاظ، فإنَّه يُجزئه.
وفي هذه الأحاديث دلالة على أنَّ التَّشهد رُكن مِن أَركان الصَّلاة، لا تصح إلا به، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم: «فليقل» هذا فعل أمر، والأصل في الأوامر أن تكون للوجوب، ويدل عليه اعتناء النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا التعليم، ويدل عليه أيضًا مَا وَرَدَ عَن عُمَرَ مما ذكره المؤلف هنا، بأنه لا تجزئ أو لا تجوز صلاة إلا بتشهد.
وفَرَّقَ بعض أهل العلم بين التشهد الأول والتشهد الأخير، وقالوا: التشهد الأول سنة، وآخرون قالوا: هو واجب وليس بفرض، واستدلوا على ذلك بما ورد في الحديث، أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنَّ مَن قام عن التشهد فاستتم قائمًا فليتم صلاته، وليسجد سجدتين[105].
قالوا: فَدَلَّ هذا على أنَّه ليس مِن أركان الصَّلاة وفروضها المتحتمة، ولم يوجب عليه سجود التشهد إلا لكونه مِن الواجبات، فَدَلَّ هذا على أنَّه يسقط حالة النسيان وحالة الجهل ونحو ذلك، وأنَّه يُعوض عنه بسجدتي السهو كما سيأتي.
وقوله في الحديث السابق: (كُنَّا إِذا صلَّينَا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)[106] فيه دلالة على أنَّ المأموم يقف خلف الإمام.
وقوله: (قُلْنَا السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، السَّلَامُ عَلَى فلَانٍ وَفُلَانٍ) فأرشدهم النَّبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يقولوا الذكر الوارد في هذا الباب، مما يدل على مشروعية تعليم الجاهل وبيان المشروع من الألفاظ في الأذكار ونحوها.
وفي هذا قوله: (فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ظاهره أنَّ هذا بعد السَّلام؛ لأنَّ المُصلي ممنوع مِنَ الالتفات أثناء صلاته.
فقال -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلَامُ» هذا فيه دليل على أنَّ هذا الاسم "السَّلام" من أسماء الله -جَلَّ وَعَلا، وقوله: (التَّحِيَّاتُ)  جمع تحية، والتحية هي السَّلام أو اللفظ الذي يُبتدئ به في الكلام مع الآخرين، بحيث يتضمن رَفْعًا لشأن الواحد.
وقوله هنا: (التَّحِيَّاتُ) لا يمنع من أن يُقال تحيتي لفلان، وتحياتي لفلان، فإنَّ الله قال: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَ﴾ [النساء: 86]، إنَّما المراد التحية التَّامَّة الكاملة تكون لله -عَزَّ وَجَلَّ.
وقوله: (والصَّلَواتُ) قيل: المراد بها الصَّلاة الشرعية؛ لأنَّ النَّاس لا يصلون إلا لله، وقيل: إنَّ المُراد بها الذكر والدعاء، فإنَّ مِن مَعاني لفظة الصَّلاة في لغة العرب الدعاء، وذلك أنَّ الدعاء حق خالص لله لا يجوز أن يُصرف لأحد سواه.
وقوله: (السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيهَا النَّبي) قال هنا: (عَلَيْكَ)  السلام المراد به السَّلامة مِن أنواع الأذى والنقص والقصور ونحو ذلك.
وقوله: (عَلَيْكَ) هذا اللفظ هو الوارد عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم، وكان بعض النَّاس بعد وفاة النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لا يَقول هذا اللفظ، وإنما كان يقول: "السَّلام على النَّبي"؛ لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات، لكنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قَد عَلَّمَ أصحابه هذا اللفظ، ولم يَقل لهم: إذا مِتُ فاتركوا هذا اللفظ، والأصل بقاء الأحكام واستمرارها، ومِن ثَمَّ فإنَّ الصَّواب أنْ يُقال: (السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيهَا النَّبي).
ويدل على هذا مَا وَرَدَ في حديث أبي هريرة في السنن، أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «سلموا عليَّ حيثما كنتم، فإن تسليمكم يبلغني»[107]، وكونه -صلى الله عليه وسلم- قد تُوفي لا يَعني أن يجعله الله -جل وعلا- يَستشعر بمن يُسلم عليه.
وقوله: (السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحينَ) فيه دلالة على أنَّ الجمع المضاف إلى معرفة يُفيد العموم، فإنَّه قال: (عَلَى عِبَادِ اللهِ) ثم قال: (فَإِنَّكُم إِذا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ) معناه: أن لفظة (وَعَلَى عِبَادِ اللهِ) عَامَّة تشمل جميع الأفراد.
وقوله: (فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْض) كأنهم لما كانوا يَذكرون أسماء مَنْ يُسلم عليهم، السلام على جبرائيل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، السلام على فلان، كثر هذا فجاء بلفظ جامع يشمل هؤلاء جميعًا، وهو لفظ (السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحينَ).
وهنا ينبغي للإنسان أن يختار من الألفاظ ما يكون جامعًا لمعانٍ كثيرة.
وقوله: (كُنَّا إِذا كُنَّا مَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلاة قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى اللهِ مِنْ عِبَادِهِ) فأرشدهم النَّبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أنَّه لا يُقال مثل هذا اللفظ في حق الله؛ لأنَّ الله هو السَّلام، وإنما أرشدهم إلى أن يقولوا: (السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيهَا النَّبي، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحينَ).
أمَّا مَا وَرَدَ في حديث ابن عباس، ففيه تعليم أركان الصَّلاة وأذكارها مِن أَجل أن تُؤدى الصَّلاة على أكمل وجوهها، وفي هذا أنَّ التَّشهد أَمر مُهم، وأنَّه أَمر مَفروغ يجب على الإنسان أن يقوله أثناء صلاته، وفي الحديث دلالة على مشروعية حلقات تحفيظ القرآن.
من أين أخذناه؟
من قوله: (كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي: أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يعلمهم سور القرآن، وفيه دلالة على أنَّ تدريس القرآن ليس بالأمر الهين، وأنَّه لا يترفع عنه مَن يريد الخير، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ممن يعلم القرآن مع كونه قد قام بأمور دولته وإرشاد أصحابه، وكان تبليغ الوحي من عنده، ومع ذلك كان -صلى الله عليه وسلم- يعلم الصَّحابة سور القرآن.
وقوله: (فَكَانَ يَقُولُ) ظاهره أنَّه يكرر ذلك، يعني في تعليمهم، وقوله: (التَّحِيَّاتُ المُبَارَكَاتُ) المبارك كثير الخير والنفع، (الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ) فيها ما تقدم.
 وقوله: (كُنَّا نقُولُ فِي الصَّلاة، قبل أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ) في اللفظ الآخر، دليل على أنَّ التشهد مَفروض وأنَّه رُكن مِن أَركان الصَّلاة، وهذا التشهد في آخر الصَّلاة، هذا التشهد المفروض في آخر الصَّلاة، وهو رُكن مِن أركانها.
{أحسن الله إليكم.
(وَعَنْ فَضَالةَ بنِ عُبيدٍ قَالَ: سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَدْعُو فِي صلَاتِهِ لم يُمَجِّدِ اللهَ، وَلم يُصَلِّ عَلَى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عَجِلَ هَذَ»، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ -أَو لِغَيْرِه: «إِذا صَلَّى أَحَدُكُم، فَلْيَبْدَأ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبي صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفْظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَابْنُ حِبَّان وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: "صَحِيح عَلَى شَرطِ مُسلم"، وَفِي مَوضِعٍ: "عَلَى شَرْطِهِمَا"-، وَفِي لَفْظِ بَعْضِهِمْ: «إِذا صَلَّى أَحَدُكُم، فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبي صلى الله عليه وسلم»)}.
تَقدم معنا في حديث ابن عباس أنَّه قال: «ثُمَّ لِـيَـتَـخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ» فيه دلالة على أنَّ الإنسان يَجوز له أن يدعو في صلاته بما يُريده مِن أمور الدنيا والآخرة، بينما ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه لا يَدع في الصَّلاة إلا بما جاء في آيات الكتاب أو أحاديث من سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم، واستدل على ذلك بما وَرَدَ في الحديث أنَّ الصَّلاة لا يَصلح فيها شيء من كلام الآدميين.
وذهب الإمام أحمد إلى أنَّ الصَّلاة لا يجوز الدعاء فيها بأمر مِن مَلاذ الدنيا، لأنَّ الصَّلاة يُراد بها الآخرة، فلا يصلح أن يُراد بها الدنيا، وهذان قولان محجوجان ضعيفان بما وَرَدَ في هذا الحديث، من قوله: «ثُمَّ لِـيَـتَـخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو».
ومثله أيضًا بما ورد في حديث فضَالةَ بنِ عُبيدٍ، فإنه قال: (سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَدْعُو فِي صلَاتِهِ) ففي هذا مشروعية الدعاء في الصَّلاة، وقوله: (لم يُمَجِّدِ اللهَ، وَلم يُصَلِّ عَلَى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عَجِلَ هَذَ») أُخِذَ مِن هذا مشروعية الصَّلاة على النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر الصَّلاة، وقد قال بعض الفقهاء: إنَّها واجب، وقال آخرون: إنَّها ركن في الصَّلاة وهو إحدى الروايات في مذهب الإمام أحمد.
وقوله: («عَجِلَ هَذَ» ثُمَّ دَعَاهُ) أي: طلب منه الحضور إليه، (فَقَالَ لَهُ -أَو لِغَيْرِه: «إِذا صَلَّى أَحَدُكُم، فَلْيَبْدَأ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ») ومن ذلك لفظة التشهد («ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبي صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ») وفي هذا مشروعية إطالة الدعاء قبل السَّلام.
وقد أُثِرَ عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بعض الدعوات كما ورد في حديث سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة، ولعلنا -إن شاء الله- نأخذ شيئًا منها فيما يأتي.
{أحسن الله إليك.
(وَعَنْ أَبي مَسْعُودٍ الْأنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَنحنُ فِي مجْلِسِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا الله تَعَالَى أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَكيفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللِه صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيم، وَبَاركْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُم» رَوَاهُ مُسلمٌ. وَرَوَاهُ أَحْمدُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ بِنَحْوِهِ، وَعِنْدهم: فَكيفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ إِذا نَحنُ صَلَّينَا عَلَيْكَ فِي صَلَاتِنَا؟. وَهَذِه الزِّيَادَةُ تَفرَّدَ بِهَا ابْنُ إِسْحَاق، وَهُوَ صَدُوقٌ، وَقدْ صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ فَزَالَ مَا يُخَاف مِنْ تَدْلِيْسِه، وَقَد صَحَّحَهَا ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيرُهم)}.
في هذا الحديث مشروعية الاجتماع لتدارس العلم وتذاكره كما كان الصَّحابة يفعلون، وفيه أنَّ الرجل صاحب المقامة العالية يُشرع له إتيان النَّاس في مجامعهم، ليُجيب على أسئلتهم وليُعلمهم مَا جهلوا من أحكام دين الله -عز وجل.
والحديث يُشير إلى فَضْلُ بشير بن سعد، وهو والد النعمان وهم ثلاثة من الصَّحابة: "النعمان بن بشير بن سعد".
وقوله: (أَمَرَنَا الله تَعَالَى أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ) الأمر بالصَّلاة عليه في قول الله -عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾ [الأحزاب: 56].
فقال طائفة: هذه الآية توجب الصَّلاة عليه مرة في العُمر؛ لأنَّ الأمر يكون للمرة، وقال آخرون: بل المراد به الصَّلاة عليه صلى الله عليه وسلم في أثناء الصَّلاة، ولعل هذا هو ظاهر فهم بشير بن سعد.
 قال: (أَمَرَنَا الله أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَكيفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟) وفي هذا بيان اللفظة الواردة في الصَّلاة على النَّبي -صلى الله عليه وسلم.
قوله: (فَسَكَتَ رَسُولُ اللِه صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لمْ يَسْأَلْهُ) فيه شفقة الصَّحابة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى من السؤال الذي قد يُكدر خاطره -صلى الله عليه وسلم.
(ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قُولُو») لفظ قولوا هنا هو فعل أمر، وقيل: إنَّه جواب على السؤال فلا يدل على الوجوب، وقيل: إنَّه محمول على أصل من دلالته على الوجوب.
(اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيم، وَبَاركْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) وردت الصَّلاة الإبراهيمية بصيغ مختلفة، كلها جائز وكلها واردة عنه -صلى الله عليه وسلم.
{أحسن الله إليك.
(وَعَنْ أَبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّه قَالَ لرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتي، قَالَ: «قُل: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمَاً كَثِيراً، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وارْحَمْنِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيم» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)}.
هذا حديث ثابت صحيح الإسناد، وفيه طلب الإنسان مِن غَيره أن يُعلمه بالأدعية المناسبة مِن أجل أن يدعو الله -عز وجل- بها، وفيه أيضًا طلب هذه الأدعية سواء من الكتب أو من وسائل التقنية الحديثة أو من غيرها، وفيه جواز الدعاء في الصَّلاة، وظاهر تصرف المؤلف أنَّ هذا الدعاء يُقال في آخر الصَّلاة بعد التشهد.
قال: «قُل: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمَاً كَثِيرً» وذلك بإقدام العبد على الذنوب أو بغفلته عن أنواع الطاعات، فكم من لحظات مَضت علينا بدون طاعة الله -عز وجل- فيها.
قال: «وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» أي: لا يَسترها ويزيلها إلا رَبِّ العِزة والجلال «فَاغْفِرْ لِي مَغْفرَةً مِنْ عِنْدِكَ» أي: استر علي عيوبي وتجاوز لي عنها.
وقوله: «مَغْفرَةً مِنْ عِنْدِكَ» أي: أطلبها منك وحدك لا مِنْ أَحد مِنَ الخلق.
«وارْحَمْنِي» أي: أدخلني في باب رحمتك، وفيه إثبات أفعال المغفرة والرحمة لله -جَلَّ وَعَلا- «إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيم» فيه مشروعة التوسل إلى الله -عز وجل- بالأدعية المناسبة بلفظ الدعاء.
{أحسن الله إليك.
(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فتْنَةِ الْمَحْيا وَالْمَمَاتِ، وَمنْ شَرِّ فتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلم.
وَفِي لفظٍ لَهُ: «إِذا فَرَغَ أَحَدُكُم مِنَ التَّشَهُّدِ الآخَرِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ»)
}
قوله: «إِذا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ» فيه مشروعة التشهد في الصَّلاة، وفي اللفظ الآخر قال: «إِذا فَرَغَ أَحَدُكُم مِنَ التَّشَهُّدِ الآخَرِ» فيه دلالة على أنَّ التشهد على نوعين، تشهد أثناء الصَّلاة وتشهد في آخرها.
قوله: «فَلْيَسْتَعِذْ» هذا فعل أمر، لكننا صرفناه عن الوجوب لكون ذلك لم يكن مُلتزما به في آخر الصَّلاة عند الصَّحابة -رضوان الله عليهم، ثم استعاذ من أربع:
(مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ) وهي نار غليظة، نار شديدة يخلد فيها أصحاب الخلود.
(وَمنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) لأنَّ النَّاس يُعذبون في قبورهم، كما ورد في الحديث أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بقبرين، وقال: «إِنِّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتبرئُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ»[108].
قال: «وَمِنْ فتْنَةِ الْمَحْيا وَالْمَمَاتِ» مَا المراد بالفتنة؟
الفتنة إدلهام الأمور على الإنسان بحيث لا يُميز بين الحق والباطل، وقوله: «وَمِنْ فتْنَةِ الْمَحْي» قد يُراد بها أحد ثلاث معاني، أو جميع المعاني الثلاثة:
الأولى: الاغترار بالدنيا ونسيان الآخرة.
الثاني: الإقرار بوجود البعث والعذاب في الآخرة.
الثالث: ما يتعلق بأن يكون المحيا محلاً للفتنة، بحيث لا يميز الإنسان بين حقٍ ولا باطل.
وقوله: «وَمنْ شَرِّ فتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» بعض النَّاس يزيده وجود الدجال إيمانًا؛ لأنه يكفر به ويجابهه ويستمر في عرض الخير والهدى على النَّاس، وبالتالي لا تكون فتنة المسيح الدجال شرًّا محضًا له، ولذا قال: «وَمنْ شَرِّ فتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» ولم يقل ومن فتنة المسيح الدجال، وفتنة -كما تقدم- هي الأمر المدلهم الذي لا يميز فيه الإنسان بين الحق والباطل، والمسيح: هو عيسى بن مريم، سمي بذلك لأنه يسوح في الأرض وينتقل من مكان لآخر.
وقوله: «الدَّجَّالِ» يعني: الكذاب، وذلك أنَّ هناك مسيحان، مسيح عيسى بن مريم وهو صادق موقن، وهناك الدجال الذي يكون في آخر الزمان.
{أحسن الله إليكم.
 (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاة: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعوذُ بكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَأَعُوذُ بكَ مِنْ فِتْنَةِ المسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيا وفِتْنَةِ المَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ والمَغْرَمِ» فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكثرَ مَا تَسْتعيذُ مِنَ الـمَغْرَمِ، فَقَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذا غَرِمَ؛ حَدَّثَ فَكَذَبَ، ووَعَدَ فَأَخْلَفَ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
قوله: (كَانَ يَدْعُو) هذا دليل على الاستمرار في هذا الدعاء، وقوله: (يَدْعُو فِي الصَّلاة) بينته بعض الروايات الأخرى، كما في حديث أبي هريرة المتقدم، أنَّه كان يدعو إذا فرغ المصلي من التشهد الأخير.
وقوله: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعوذُ بكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ» لأنَّ القبر فيه أنواع مِن العذاب، من الضغطة ومن تداخل الأضلاع ببعضها.
قال: «وَأَعُوذُ بكَ مِنْ فِتْنَةِ المسِيحِ الدَّجَّالِ» لأنَّ أول ما يأتي ينخدع النَّاس به، فهو يأتي ومعه الأنهار والسحاب؛ فينخدع النَّاس به، ولذلك أَمَرَ النَّاس أن يستعيذوا بالله من فتنته.
قال: «وَأَعُوذُ بِكَ» يعني: بالله -عَزَّ وَجَلَّ- «مِنْ فِتْنَةِ المَحْيا وفِتْنَةِ المَمَاتِ» قد تقدم شرحها.
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ» من الإثم، أي: أن أقدم على فعل يأثم به الإنسان، «والمَغْرَمِ» يعني: الدين.
(فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكثرَ مَا تَسْتعيذُ مِنَ الـمَغْرَمِ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذا غَرِمَ؛ حَدَّثَ فَكَذَبَ») يكذب في الحديث؛ لأنهم يطالبونه بالمال، وهو يريد أن يتصدد عنهم ليس معه مال، فيكذب مِن أجل أن لا يجدوه، وهكذا من صفاته خلف المواعيد.
{أحسن الله إليك.
(وَعَنْ وَائِلِ بنِ حُجْرٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيتُ مَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم فَكَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ»، وَعَنْ شِمَالِهِ  «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ)}.
هذا اللفظ فيه مشروعية السلام في الصَّلاة، ولكن المشهور من السَّلام أن ليس فيه لفظة «وَبَرَكَاتُهُ» فهنا وردت في حديث وائل بن حجر، وهذا الحديث بعض أهل العلم يتكلمون فيه، فمن رواته موسى بن قيس، تكلم فيه بعضهم وبالتالي المأثور عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي استمر عليه، أنَّه لم يكن يقول: «وَبَرَكَاتُهُ».
{(وَعَنْ وَرَّادٍ كَاتبِ الْمُغيرَة قَالَ: أَمْلَى عَليَّ الْمُغيرَةُ بنُ شُعْبَةَ فِي كتابٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ: أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلهُ الْحَمدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبي الزُّبير قَالَ: كَانَ ابْنُ الزُّبـُيْـرِ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ حِينَ يُسَلَّمُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَريكَ لَهُ، لَهُ الـمُلْكُ وَلهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَلَا نعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدَّينَ وَلَو كَرِهَ الْكَافِرُونَ، وَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ. رَوَاهُ مُسلم)
}.
هذه أدعية وأذكار مما كان يداوم عليها النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بعد فراغه من صلاته وَوِردِه.
قوله: (أَمْلَى عَليَّ الْمُغيرَةُ بنُ شُعْبَةَ) فيه جواز الاعتماد على المكتوب من العلم ممن كان أهلاً لفهمه، كما هو حال الصحابة، فقال: (أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ)،
قوله: (كَانَ يَقُولُ) ظاهره المداومة والاستمرار.
(فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ) لم يُبين هل هذا في نهاية الصَّلاة أو في أثنائها؛ لأنَّ كلمة دُبر قد تصدق على الأمرين، فـ "دبر الحيوان" جزء منه، وقد يطلق لفظ الدبر على ما لا علاقة له به، فهنا هل الدبر جزء أو هو أمر خارج؟
(دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ) هل الدبر جزء من الصَّلاة أو ليس الأمر كذلك؟
هذا مبني على معنى كلمة الدبر، كلمة الدبر هل هي جزء الحيوان الذي منه؟ أو هي أمر خارج عنه؟
الذي يظهر أنَّ هذا لفظ يُقال بعد الصَّلاة، وقد ورد ذلك في بعض روايات هذا الخبر، وورد أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرفع صوته بالذكر بعد الفراغ من الصَّلاة.
وقوله: (فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ) ظاهره أنَّه لا يُقال في الصلوات الأخرى، وإنَّما يُقال في الصَّلوات المكتوبة، يعني: عندنا صلوات نوافل، وصلوات فروض كفاية، يمكن فروض الكفاية تدخل لكن الصلوات المُستحبة لا تدخل.
وقوله: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلهُ الْحَمدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ» إثبات قُدرة الرب -جل وعلا- «اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ» يعني: المكانة والمنزلة منك الجدُّ، فيه أن العبد ينبغي به أن يعلق قبله بالله -عز وجل- وأن لا ينظر إلى الأسباب على أنها هي المؤثر وحدها، بل كل ما في الكون من تقدير الله -عز وجل.
{(وَعَنْ سَعْدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ بَـنِـيْـهِ هَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الـمُعَلِّمُ الغِلْمَانَ الكِتَابَةَ وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأعُوْذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ, وَأعُوْذُ بِكَ مِن أَنْ أُرَدَّ إِلى أَرْذَلِ العُمُرِ, وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا, وَأَعُوْذُ بِكَ مِن عَذَابِ الْقَبْر» رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا انْصَرفَ مِنْ صَلَاتِهِ، اسْتغْفرَ ثَلَاثاً، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ ومِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الجلَالِ وَالْإِكْرَامِ»، قَالَ الْوَلِيدُ بن مُسْلِمٍ: فَقُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: كَيفَ الاسْتِغْفَارُ؟, قَالَ تَقولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ, أَسْتَغْفِرُ اللهَ. رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَرَوَى عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ سَبَّحَ اللهَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ».
وَعَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، أُوصيكَ يَا معَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ.
وَعَنْ أبي أُمَامَةَ رضي الله عنه قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:1] دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا الْمَوْتُ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَابْنُ حِبَّان وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي "لْأَفْرَاد" وَالطَّبَرَانِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ-، وَلم يُـصِبْ مَنْ ذَكَرَهُ فِي "الـمَوْضُوعَاتِ" فَإِنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ)
}.
هذه الأحاديث كلها في الذكر بعد الصَّلاة، وفيها مشروعية دعاء الله -جل وعلا- بعد الفراغ مِنَ الصَّلاة، وفيها دلالة على أنَّ الذكر الذي يكون بعد الصَّلاة المكتوبة يكون مرفوع الصوت؛ لأنَّ هذه الأذكار والأدعية لم تُسمع مِنَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- إلا لكونه كان يرفع صوته بها، فَيُسمِعُها أصحابه.
قوله: (كَانَ ابْنُ الزُّبـُيْـرِ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ) هل هي داخل الصَّلاة أو خارج الصَّلاة؟
على البحث في الدبر على ما يطلق، قال: (فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ حِينَ يُسَلَّمُ) فيه إشارة إلى أن الذكر بعد السَّلام.
قال: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) أي: لا معبود بحق إلا الله (لَا شَريكَ لَهُ) أي: في مُلكه (لَهُ الـمُلْكُ) فهو الذي يتصرف في الملك كيف يشاء (وَلهُ الحَمْدُ) فهو يُثني على ضيوفه (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وقوله: (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) أي: أتبرأ مِن حولي وقوتي لله -جل وعلا.
(لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَلَا نعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ) أي: وحده هو المُسدي للنعم (وَلهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدَّينَ وَلَو كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، ونُقل عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقولها دبر كل صلاة.
ثم أورد حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- (أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ بَـنِـيْـهِ هَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الـمُعَلِّمُ الغِلْمَانَ الكِتَابَةَ) في هذا مشروعية تعليم الأبناء للكتابة، ومثل هذا في بقية الغلمان، وكان يقول: (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يتَعَوَّذُ بِهِنَّ) أي: بالسبع (دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأعُوْذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ, وَأعُوْذُ بِكَ مِن أَنْ أُرَدَّ إِلى أَرْذَلِ العُمُرِ, وَأَعُوْذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا, وَأَعُوْذُ بِكَ مِن عَذَابِ الْقَبْر» وقد رَوَاهُ البُخَارِيُّ).
في صحيح مسلم (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا انْصَرفَ مِنْ صَلَاتِهِ، اسْتغْفرَ ثَلَاث) هذه اللفظة (إِذا انْصَرفَ مِنْ صَلَاتِهِ) تشعر بأن هذا الذكر بعد الصَّلاة مباشرة، قال: (اسْتغْفرَ ثَلَاث) ماذا يقول في الاستغفار؟
استغفر الله، هل يفرقها؟ نقول: نعم، هل يركبها؟ نقول: لا (وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ ومِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الجلَالِ وَالْإِكْرَامِ») فيه فضيلة هذا الذكر بعد الصَّلاة المكتوبة.
ثم روى عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ سَبَّحَ اللهَ» أي: من صلى صلاة النَّافلة «دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ» أي: بعد السَّلام مِن الصَّلاة «مَنْ سَبَّحَ اللهَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ» كل صلاة، يعني: معتبرة في هذا الباب، «ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ» فيه مشروعية الشكر والحمد لله -تعالى-..
قال: «وَكَبَّرَ اللهَ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ» يعني: في جميع صلاته بجميع ركعاتها «فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ» هذا من متمات هذا التسبيح.
قال: «مَنْ سَبَّحَ اللهَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ» هل يجمع بينها أو يفرق؟
الأمر في ذلك واسع، قال: «فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ» أي: ذنوبه «وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» أي: الفقاقيع التي تكون في البحر.
وفي حديث مُعاذ أخذ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بيده، فيه جواز ذلك وفيه إشعار للمحبة في هذا، قال: «وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ» فيه مشروعية إخبار المحبة بمن يحب إذا كان في المحبة لله وفيه -سبحانه، وفيه مشروعية الوصية، وكلما قرب منك الإنسان شرع لك أن توصيك ما استطعت.
قال: «لَا تَدَعَنَّ» أي: لا تتركن «فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ».
هذا دبر كل صلاة قبل السَّلام أم بعد السَّلام؟
الجمهور قالوا: بعد السَّلام كما في الأحاديث السَّابقة، وبعض أهل العلم قال: هذا الدعاء يشرع أن يكون قبل السلام؛ لأنه أرجى للإجابة، ولعل قول الجمهور أقوى.
 وأورد من حديث أبي أمامة أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا الْمَوْتُ» فيه مشروعية قراءة آية الكرسي وسورة الإخلاص في دبر جميع الصلوات المكتوبة، وقد ورد أيضًا ذكر المعوذتين وأنه مشروع قراءتهم في هذا الوقت.
أسأل الله -جل وعلا- أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، هذا -والله أعلم- وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
{وفي الختام نشكر شيخنا معالي الدكتور سعد بن ناصر الشثري، على ما قدمه، ونسأل الله أن يجعله في ميزان حسناته، ونشكر المتابعين على حسن استماعكم.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
---------------------
[105] روى أحمد وابن ماجه عن المغيرة بن شعبة قال: أَمَّنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر فقام فقلنا: سبحان الله، فقال: سبحان الله وأشار يعني قوموا فقمنا، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ثم قال: إذا ذكر أحدكم قبل أن يتم قائمًا فليجلس، وإذا استتم قائمًا فلا يجلس" قال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح بطرقه
[106] مُتَّفقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيّ
[107] صححه الألباني في صحيح الجامع عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "صلُّوا في بُيُوتِكُمْ ولا تَتَّخِذُوها قُبُورًا، ولا تَتَّخِذُوا بَيْتي عِيدًا، وصلُّوا عليَّ وسَلِّمُوا، فإنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حيثُمَّا كنتُمْ".
[108] رواه البخاري (216) ومسلم (292) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك