الدرس السادس

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

5598 24
الدرس السادس

المحرر في الحديث (1)

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعد، فهذا هو اللقاء السادس مِن لِقاءاتنا في شرح كتاب "المحرر" للعلامة الحافظ بن عبد الهادي -رحمه الله تعالى.
وكنَّا -فيما مضى- قد توقفنا عند "ثنايا باب فروض الوضوء"، وكنَّا توقفنا عند حديث جَعفر بن محمد عَن أبيه، عَن جابر رضي الله عنه فذكر الحديث في حَجَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (فَلَمَّا دَنا مِنَ الصَّفَ)، بعد أنَّ أَتمَّ الطواف ذهب إلى المسعى قَالَ:  فلما دنا من الصفا، قرأ ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 158] ثم قال:  «فأبْدَؤو» فعل أمر «بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» استُدل بهذا الحديث على وجوب الترتيب في الوضوء، فلابد مِن تَقديم غَسل الوجه ثمَّ غَسل اليدين ثمَّ مَسح الرأس ثمَّ غسل القدمين. وأخذوا هذا مِن هذا الحديث، وجاء في بعض هذه الرواية «ابدؤو» بصيغة الأمر، وهي رواية النسائي، بينما رواه مسلم بصيغة الخبر، بلفظ: «أَبد»، أو «نبد»، وهو خبر صحيح.
وقد استدلَّ الجمهور أيضًا على وجوب الترتيب؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قد أدخل ممسوحًا بين مغسولات، فدلَّ هذا على أنَّ المقصود هو الترتيب، وإلا لجاء بالمغسولات في سياق واحد.
ومِن فروض الوضوء التي وقع الاختلاف فيها: الموالاة، هل يجب الموالاة في غسل أعضاء الوضوء أو لا؟
والموالاة أن يأتي بها متتابعة، وأن لا يجعل بينها فاصلًا، وهذا الفاصل قدَّره بعضهم بأن ينشف العضو الأول قبل غسل العضو الثاني.
فَمن ذَهب إلى أنَّ الموالاة فَرض مِن فُروض الوضوء، استدل بحديث (خَالِدِ بنِ مَعْدانَ، عَنْ بعضِ أَصْحَابِ النَّبي صلى الله عليه وسلم: أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لَمْعَةٌ -أَوْ لُمْعَةٌ- قَدْرَ الدِّرْهَمِ لمْ يُصِبْهَا المَاءُ) معناه أنَّه لم يَكمُل وضوؤه، وفي هذا دلالة على أنَّه لابد مِن غسل القدمين جميعًا، (فَأَمَرَهُ النَّبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعِيدَ الْوضُوءَ وَالصَّلاة) ولو كانت الموالاة غير واجبة، لاكتفى بأن يأمره بغسل تلك اللمعة فقط، لكن لما أمره بإعادة الوضوء كاملًا، دلَّ على أنَّ وضوءه الأول لم يصح، وحينئذ لابد مِن الموالاة في غسل الأعضاء.
(رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد، وَلَيْسَ عِنْد أَحْمدَ ذِكْرُ الأمر بإعادة الصَّلاة. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: هَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ؟ قَالَ: نَعم).
ثم أوردَ المؤلف مِن حديث أنس بن مالك، قال: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ) والمد: ربع الصَّاع، وهو ملء الكفين المعتدلتين، (وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاع) الصَّاع: أربعة أمداد، قال: (إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ) لأن الصَّاع أربعة أمداد، فمرات يزيد في ماء الغسل إلى خمسة أمداد، وهذا يدل على أنَّ المشروع هو الاقتصار في الماء عند الوضوء، وأنَّه لا يُستحبُّ الزيادة على هذا المقدار، ولاشكَّ أنَّ الإسراف منهي عنه، وقد قال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُو﴾ [الأعراف: 31].
ثم أورد المؤلف مِن حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْكُم مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ -أَو فَيُسْبِغُ- الوضُوءَ» فيه استحباب إسباغ الوضوء، («ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأشْهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» رَوَاهُ مُسلمٌ)، هذا الحديث فيه مشروعيَّة هذا الذكر بالشهادتين بعد الوضوء.
قال: (وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِيْنَ واجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ») هذه الزيادة رواها الترمذي، لكن إسنادها ضعيف، وبالتالي فإنَّ الصواب عدم مشروعيَّة قول هذا الذكر بعد الوضوء.
(وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأبي دَاوُدَ: فَأحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمُّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ)، يعني: بعد الوضوء، لكن هذه الرواية أيضًا ضعيفة الإسناد، وبالتالي فإنَّ الصواب عدم استحباب رفع البصر بعد الوضوء، وعدم استحباب قول: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِيْنَ واجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ».
وقد وردَ في بعض الأحاديث أنَّه قال: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ نَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ نَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ».
ثم قال المؤلف: (وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ، عَنْ قَبيصَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زيدِ بنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطاءِ بنِ يسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً) أي: بغسلة غسلة. (وَنَضَحَ)، النضح: هو إلقاء الماء بدون غسل، فهذه اللفظة يحتمل فيها احتمالان:
-       أنَّ المراد الاكتفاء بالنضح بدون أن يكون هناك غسل.
-       أو أنَّ المراد به أن يكون هناك غسل مرة، وزيادة النضح.
إلا أن كلمة (وَنَضَحَ) قد اختلف الرواة فيها، فبعض الرواة لم يروها، فانفرد قبيصة شيخ الدارمي بها، ولذا قال المؤلف: (وَهَؤُلَاءِ رِجالُ الصَّحِيحِ. وَرَوَاهُ عَنْ أبي عَاصِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، وَلمْ يَقلْ: ونَضَحَ)، ولذلك قال بعض أهل العلم: إنَّ هذه الزيادة شاذَّة، والمراد بالشاذ: هو ما خالف فيه الثِّقة مَن هُو أوثق منه، وأهل العلم لا يقبلونها ولا يبنون عليها الأحكام.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، اللهم اغفر لشيخنا، والمستمعين والمشاهدين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ بُرَيْدَةَ بنِ الْحُصَيبِ رضي الله عنه قَالَ: أَصْبحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا بِلَالًا فَقَالَ: «يَا بِلَالُ، بِمَ سَبَقْتَنِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ فَمَا دَخَلْتُ الْجنَّةَ قَطُّ إِلَّا وَسَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي، دَخَلْتُ البارِحَةَ الجنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي، فَأَتَيْتُ عَلَى قَصْرٍ مُرَبَّعٍ مُشْرِفٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِرَجُلٍ عَرَبِيٍّ، فَقُلْتُ: أَنا عَرَبِيٌّ، لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقُلْتُ: أَنا قُرَشِيٌّ، لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، فَقلْتُ: أَنا مُحَمَّدٌ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا لِعُمرَ بنِ الْخطَّابِ رضي الله عنه»، فَقَالَ بِلَالٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَذَّنْتُ قُطُّ إِلَّا صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، وَمَا أَصابَنِي حَدَثٌ قَطٌّ إِلَّا تَوَضَّأْتُ عِنْدَهَا، وَرَأَيْتُ أَنَّ للهِ عَلَيَّ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بِهِمَ» رَوَاهُ أَحْمدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَهَذَا لَفظُهُ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ).
نعم، هذا الحديث فيه عدد من الفوائد:
-       منها فضيلة بلال وعمر -رضي الله عنهما.
-       وفيه أيضًا أنَّ بعض أهل الجنة يُخَصَّون بمنازل وقصور لا تكون لغيرهم.
-       وفيها جواز سؤال الإنسان عن ما يواجهه من الأعمال أو من البيوت، أو من الأملاك، «لِمَنْ هَذَا؟» ويَستقصي في السؤال عنه.
-       وفي هذا أيضًا استحباب أداء ركعتين بعد كل أذان، وفي هذا دلالة على استحباب ركعتين بعد أذان المغرب، كما قال الجمهور خلافًا للإمام أبي حنيفة، وأمَّا استحباب ركعتين في ما عدا هذا الوقت، فهو محل اتِّفاق بين العلماء.
-       وفي الحديث استحباب ركعتي الوضوء، وأنها مشروعة؛ لأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قد أَقَرَّ بلالًا عليهما.
-       وفيه أيضًا ما استدل به طوائف كالشافعية، على أنَّ ذوات الأسباب ومنها سنة الوضوء تُفعل في أوقات النهي، والصواب: أنها تُفعل في أوقات النهي المُوسَّع، أما وقت النهي المضيَّق، فينتظر حتى ينتهي الوقت، وتُفعل سنة الوضوء.
-       وفي هذا أن الأعمال سبب لدخول الجنة، وإن لم يكن ذلك على سبيل الجزاء والمقابلة.
أوردَ المؤلف بعد ذلك بابًا في المسح على الخفين، وقد تواترت الأحاديث عَن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه مَسَح على خُفيه بعد نزول آية الوضوء.
ولكن ما هو الأفضل؟ المسح على الخفين؟ أو عدم المسح؟
نقول: الأفضل أن يَفعل الإنسان مَا يُوافق هيئته، فإنَّ كان لابسًا على الخف مَسَحَ، وإن كان غير لابسٍ للخفِّ، فلا يلبس الخفَّ مِن أجل المسح عليه، والخفُّ يُصنع مِن الجلد، ويغطي القدمين وجزءًا من الساق، ويُلحق بالخفين الجواربُ التي تصنع من القطن ونحوه؛ لأنها في حكمه، ولعلنا نأخذ أحاديث هذا الباب.
{قال المصنف -رحمه الله تعالى: (بَابُ المَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
عَنْ صَفْوَانَ بنِ عَسَّالٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إِذا كُنَّا سَفْرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ وَقَالَ: حَدِيثٌ حسنٌ صَحِيحٌ- وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحَيْهِمَ)
}.
قال: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَ) هذا الأمر ليس للوجوب، لماذا لم نحمله على أصله من الوجوب؟ لأن الصَّحابة كانوا يعتقدون عدم مشروعيَّة المسح على الخفين، فالأمر الذي يأتي لرفع توهم عدم المشروعيَّة، لا يدل على الوجوب.
قال: (يَأْمُرُنَا إِذا كُنَّا سَفْرً) أي: مسافرين، (أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ) يعني ونمسح عليهن، وفيه أنَّ المسافر يمسح ثلاثة أيام بلياليهنَّ.
وقد اختلف العُلماء في كيفية الحساب، والصواب: أنَّ المسحَ يُحسب بعد الحدث، فالابتداء يكون بأول مسحٍ بعد الحدث.
وقوله: (إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ) فيه دلالةٌ على أنَّ الجنابة يجب فيها الاغتسال الذي يجب معه نزع الخفاف، لتُغسل القدمان.
قال: (وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ) فيه أنَّ الغائط لا يُوجب الاغتسال، وإنما يَنقض الوضوء، وأنَّ الإنسان إذا توضأ بسبب الغائط وعليه خفاف لبسهما في وضوء، كفاه أن يمسح عليهما، وفي الحديث: أنَّ البول من نواقض الوضوء، وفيه أنَّ النوم من نواقض الوضوء، والنوم المستغرق يُعد ناقضًا مِن نواقض الوضوء باتفاق، ولكن الاختلاف في النوم اليسير.
قال الإمام مالك: "كل نوم يسير على أي هيئة، فإنه لا ينقض الوضوء"، وقوله أرجح الأقوال في المسألة.
قال الإمام أبو حنيفة: "مَن نَامَ نومًا يسيرًا على هيئة مِن هيئات الصَّلاة، لم يُنتقض وُضوؤه، وإن كان نومه على غير هيئة الصَّلاة انتُقِضَ وُضوؤه".
وقال أحمد: "يُنتقض الوضوء بيسير النَّوم، إلا مِن الرَّاكع والسَّاجد".
وقال آخرون: يُنتقض إلا مِن راكع وحده.
وعلى كل فظاهر الأحاديث يدل على رجحان مذهب الإمام مالك، بالتفريق بين النَّوم اليسير، فإنَّه لا ينقض الوضوء على أي هيئة كان، وقد وَرَدَ أنَّهم كانوا يضجعون فينامون يسيرًا، ولم يكونوا يؤمرون بإعادة الوضوء.
{(وَعَنِ الْمُغيرَةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: كنْتُ مَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لأَنْزِعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ: «دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ» فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
في هذا الحديث مشروعيَّة المسح على الخفين، وفيه مشروعيَّة إعانة الغير على التهيُّؤ للوضوء، كما أراد المغيرة بن شعبة أن يفعل.
وقوله: «فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ» استُدل به على أنه يُشترط في المسح على الخفين أن يكون الإنسان متوضئًا وضوءًا كاملًا، ومتطهرًا طهارة كاملة، لو غسلت قدمًا في الوضوء، فلبست الخف، ثم غسلت الأخرى، فلبست الخف، فإنك لا تمسح حتى تنزع الخف الأول، وذلك لأنك لم تدخلهما طاهرتين، فإنَّك قبل غسل الرجل اليسرى، لم تكن الرجل اليمنى طاهرة، إنما تطهرُ بإتمام الوضوء، وهو لم يتم هنا، خلافًا لبعض الظاهرية.
{(وَعَنْ جريرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانَ يَعْجِبُهُمْ هَذَا الحَدِيثُ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيْرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، مُتَّفقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
هذا الحديث فيه أنَّ البول مِن نواقض الوضوء، وفيه مشروعيَّة المسح على الخفين.
وهناك خلاف بين الأصوليين، إذا كان الخبر الخاصُّ متقدمًا، ثم جاء بعده الدليل العام، فهل نقول: الدليل العام يَنسخ الدليل الخاص المتقدم كما قال الحنفية؟ أو نقول إنَّ الخاص يُعمل به في خصوصه، والعام يُعمل به في ما عدا ذلك، كما قال الجمهور؟
 مذهب الجمهور أرجح؛ لأننا بذلك نُعمل الدليلين، والقاعدة: إذا تعارض دليلان، وأمكن الجمع بينهما، فإننا نجمع بينهما. ومن أوجه الجمع التخصيص.
فنقول حينئذ: لا أثر لكونه متقدمًا أو متأخرًا، لكن مع ذلك من أجل أن لا نفتح مجالًا للمخالف، قام الدليل على أن المسح على الخف كان بعد نزول آية الوضوء التي فيها الأمر بغسل الرجلين، ولذا قال إبراهيم النخعي -وهو مِن علماء الكوفة، الذين يأخذ عنهم الحنفية: (كَانَ يَعْجِبُهُمْ هَذَا الحَدِيثُ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيْرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ) المائدة التي فيها آية الوضوء.
{(وَعَنْ شُرَيْحِ بنِ هَانِئ، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَسْأَلُها عَنِ المسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتْ: عَلَيْكَ بِابْنِ أَبي طَالبٍ فَسَلْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ. رَوَاهُ مُسلمٌ، وَقَالَ أَبُو عُمر بنُ عَبدِ الْبَرِّ: "وَاخْتَلَفَتِ الرُّوَاةُ فِي رفعِ هَذَا الحَدِيثِ وَوَقْفهِ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: وَمَنْ رَفَعَهُ أَحْفَظُ وأَضْبَطُ")}.
نعم، هذا الحديث فيه مشروعيَّة مراجعة أهل العلم وسؤالهم، وفيه أنَّ الفقيه قد لا يكون مُستحضرًا لأحكام باب من الأبواب، فأم المؤمنين عائشة فقيهة، ومع ذلك لما سُئلت عن مسألة في المسح على الخفين أرشدت إلى غيرها، ففيه دلالة على جواز تجزؤ الاجتهاد، وفي هذا مشروعيَّة الأخذ من أفعال النَّبي صلى الله عليه وسلم، خصوصًا في العبادات.
وقوله: (جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ) هذا مذهب الجمهور، أنَّ المسافر يجوز له المسح لثلاثة أيام، وذهب المالكية في أحد القولين عندهم إلى أنه لا يتحدد مسح المسافر بوقت، والأحاديث التي جاءت بالتحديد كثيرة متعددة، فمذهب الجمهور أقوى.
قال: (وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ) فيه أنَّ المقيم إنَّما يمسح يومًا وليلة.
وكما تقدَّم، عندنا ثلاثة أوقات:
- وقت لبس الخفين.
- ووقت الحدث الذي يكون بعد لُبس الخفين.
- ووقت المسح بعد الحدث.
وكل واحد من هذه الأوقات الثلاثة، قال بعض الفقهاء إنه بداية المسح.
والأظهر هو القول الأخير؛ لأن التحديد للمسح وليس لوقت جواز المسح، فاللبس والحدث، هذه أوقات متعلقة بجواز المسح، والقاعدة: إذا تعارض تفسيران، أحدهما يعتمد على ذات اللفظ، والآخر يعتمد على تأويلِه ومعناه، فالأرجح أن يكون في اللفظ المعتمد على ذات اللفظ.
{(وَعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً فَأَصَابَهُمْ الْبَرْدُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُم أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى العَصَائِبِ والتَّسَاخِينِ. رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَأَبُو يَعْلى الـمَوْصِلِي وَالرُّويَانِيُّ وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: "عَلَى شَرطِ مُسلمٍ"-، وَفِي قَوْله نَظَرٌ، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ثَوْرِ بنِ يزِيدَ، عَنْ رَاشدِ بنِ سَعدٍ، عَنْ ثَوْبَان، وثَوْرٌ لَمْ يَرْوِ لَهُ مُسلمٌ، بلِ انْفَرَدَ بِهِ البُخَارِيُّ، وَرَاشِدُ بنُ سَعْدٍ [عَنْ ثَوبَانٍ وَثَور] لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ، وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمدُ: "لَا يَنْبَغِي أَنْ يكونَ رَاشدٌ سَمِعَ مِنْ ثَوْبَانَ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ قَدِيمًا".
وَفِي هَذَا القَوْلِ نَظَرٌ: فَإِنَّهُم قَالُوا: إِنَّ راشِدًا شَهِدَ مَعَ مُعَاوِيَةَ صِفِّينَ، وَثَوْبانُ مَاتَ سنة أَربعٍ وَخمسينَ، وَمَاتَ رَاشدٌ سنة ثَمَان وَمِائَة، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِم وَالْعِجْلِيُّ وَيَعْقُوبُ بنُ شَيبَةَ وَالنَّسَائِيُّ، وَخَالَفَهُم ابْنُ حَزْمٍ فَضَعَّفَهُ-وَالْحَقُّ مَعَهم-، والعَصَائِبُ: العَمَائِمُ، والتَّساخِينُ: الْخِفافُ)
}.
أورد المؤلف هنا هذا الحديث عن طريق ثوبان، (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً فَأَصَابَهُمْ الْبَرْدُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُم أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى العَصَائِبِ والتَّسَاخِينِ) كأنَّه قال: إذا تعرضتم مرة أخرى لمثل هذه الحادثة، وجاءكم برد، فعليكم حينئذ أن تمسحوا على العصائب والتساخين.
العصائب: العمائم التي تكون على الرأس.
التساخين: الخفاف التي تكون على القدمين، ففيه مشروعيَّة المسح على الخفاف، ومحل اتفاق بالجملة، ومشروعيَّة المسح على العمامة.
وأورد المؤلف خلافًا في إسناد هذا الخبر اتصالًا وانقطاعًا، ورجَّح اتصال الخبر وصحته.
{(وَعَنْ زُبَيْدِ بنِ الصَّلْتِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمرَ بنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: إِذا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، فَلْيَمْسَحْ عَلَيْهِما، وَلْيُصَلِّ فِيْهِمَا، وَلَا يَخْلَعْهُمَا إِنْ شَاءَ، إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَسَدِ بنِ مُوسَى، وَفِيهِ قَالَ: وَحَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ عُبيدِ اللهِ بنِ أَبي بكرٍ وثابتٍ، عَنْ أَنسٍ عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، و"أَسدُ بنُ مُوسَى"، وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَزَّارُ، وَخَالَفَهُمُ ابْنُ حَزْمٍ، فَقَالَ: "هُوَ مُنكرُ الحَدِيثِ"، وَالصَّوَابُ مَعَ الْجَمَاعَة، وَقَالَ الْحَاكِم فِي "الْمُسْتَدْرك" -بَعْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ عُقبَةَ بنِ عَامرٍ- "خَرَجْتُ مِنَ الشَّامِ": "وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنسٍ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، رُوَاتُه عَنْ آخِرِهم ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ شَاذٌّ بــمَرَّةٍ"، ثُمَّ أَخْرَجَ حَدِيثَ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمَ، وَقَالَ فِيهِ: "عَلَى شَرْطِ مُسلمٍ")}.
ذكر المؤلف هنا حديث زبيد، قال: (سَمِعْتُ عُمرَ بنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: إِذا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ) يعني: بعد الوضوء، (فَلْيَمْسَحْ عَلَيْهِما، وَلْيُصَلِّ فِيْهِمَ) لا حرج عليه في المسح، وفي هذا مشروعيَّة المسح على الخفين، قال: (وَلَا يَخْلَعْهُمَا إِنْ شَاءَ) يعني: الأمر معلق بالمشيئة، وبالتالي لا يكون الأمر هنا على الوجوب، فقوله: (فَلْيَمْسَحْ عَلَيْهِما، وَلْيُصَلِّ فِيْهِمَ) فالأمر ليس للوجوب؛ لأنه علَّقه بالمشيئة.
وقوله: (إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ) فمن أصابته الجنابة باحتلام أو بجماع؛ فإنَّه يجب عليه خَلع الخِفاف، ولا يجوز له المسح عليهما.
وأَشَارَ المؤلف إلى اختلافٍ في إسناده، ولكنه قال: إنَّ هناك من حكم عليه بالشذوذ، أو النكارة، لوجود بعض الاختلاف في ألفاظه.
{(بَابُ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ وَمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ)}.
نواقض الوضوء: هي أفعالٌ تكون عِللًا للحكم، بأن الإنسان محدثٌ حدثًا أصغرًا، والحدث هذا وصف حُكمي، ليس وصفًا حسيًّا، وإنما هو حكم مِن قِبَل الشَّارع، فإنَّ المُحدث وغير المُحدث سَواء في أبدانهم أو أوصافهم الحسية، ولكن الكلام في الأوصاف المعنوية.
هل نقض الوضوء وصف حسي أو معنوي؟
وصف حكمي. ولا يُقال عن شيء إنَّه من نواقض الوضوء إلا إذا وردَ الدليل على أنَّ الوضوء يُنتقض به، وقد اختُلِفَ في كثير من نواقض الوضوء.
{(عَنْ أنسِ بنِ مَالكٍ رضي الله عنه قَالَ: أُقِيمَتْ صَلَاةُ العِشَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ: ِليْ حَاجَةٌ فَقَامَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يُنَاجِيهِ حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ -أَوْ بَعْضُ الْقَوْمِ- ثمَّ صَلَّوْا. رَوَاهُ مُسلمٌ، وَفِي لفظٍ لَهُ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنامُونَ ثُمَّ يُصَلُّوْنَ وَلَا يَتَوَضَّؤونَ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَلَفظُهُ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حَتَّى تَخْفِقَ رُؤوسُهُم، ثُمَّ يُصَلُّوْنَ وَلَا يَتَوَضَّؤونَ. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ -وَصَحَّحَهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ: لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يُوقَظُونَ للصَّلَاةِ حَتَّى إِنِّي لأَسْمعُ لأَحَدِهِمْ غَطِيطًَا، ثُمَّ يَقُومُونَ فَيُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّوؤنَ، قَالَ ابْنُ الْمُبَارك: هَذَا عِندَنَا وَهُمْ جُلُوسٌ، وَقدْ رُوِيَ فِي الحَدِيثِ زِيَادَةٌ تَمْنَعُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارك، إِنْ ثَبَتَتْ، رَوَاهَا يَحْيَى الْقَطَّانُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْتَظِرونَ الصَّلاة فَيَضَعُونَ جُنُوبَهُم، فَمِنْهُمْ مَنْ يَنَامُ ثُمَّ يَقُومُ إِلَى الصَّلاة. قَالَ قَاسمُ بنُ أَصبَغَ: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بنُ عبدِ السَّلام الْخُشَنِيُّ، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بنُ بشَّارٍ، حَدَّثنَا يَحْيَى بنُ سعيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ- فَذَكَرَهُ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّان: وَهُوَ كَمَا تَرَى صَحِيحٌ مِنْ رِوَايَةِ إِمَامٍ عَنْ شُعْبَةَ فَاعْلَمْهُ. وَقدْ سُئِلَ أَحْمدُ بنُ حَنْبَل رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضْطَجِعُونَ؟ قَالَ: مَا قَالَ هَذَا شُعْبَةُ قَطُّ، وَقَالَ: حَدِيثُ شُعْبَةَ: كَانُوا يَنَامُونَ، وَلَيْسَ فِيهِ يَضْطَجِعُونَ. وَقَالَ هِشَامٌ: كَانُوا يَنْعُسُون. وَقدِ اخْتلفُوا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَقدْ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الـمَوْصِلِي مِنْ رِوَايَةِ سعيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَلَفظُهُ: يَضَعُونَ جُنُوبَهُمْ فَيَنَامُونَ، مِنْهُم مَنْ يَتَوَضَّأُ، وَمِنْهُم مَنْ لَا يَتَوَضَّ)
}.
تقدَّم معنا أن زوال العقل بالنوم في الجملة ناقضٌ للوضوء بالاتفاق، وقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «الوكاء عين السَّه، فمن نام فليتوض»[23]، ومرَّ معنا في حديث صفوان بن عسال: «وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ» فدلَّ هذا على أنَّ النَّوم مِن نواقض الوضوء، إلا أنهم استَثْنَوا من ذلك يَسير النَّوم.
فقال مالك: "أيُّ نومٍ يسير فإنَّه لا يَنتقض الوضوء به".
وقال أبو حنيفة: إنَّ النَّوم اليَسير الذي يَنقض ما كان على هيئة مِن هَيئات الصَّلاة، "ركوع أو سجود، أو جلوس، أو قيام"، أمَّا الاضطجاع فَينقض الوضوء عنده ولو كان يسيرًا، وتقدَّم معنا ذكر مذهب أحمد والشافعي في استثناء بعض أحوال أو أركان الصَّلاة.
والظاهر مِن الأحاديث أنَّ النَّوم اليسير على أي صفة لا يَنتقض به الوضوء، كما قال الإمام مالك، ويدل عليه هذه الروايات التي فيها أنَّ بعض الصَّحابة قد نام نومًا يسيرًا على هيئاتٍ مختلفة، ومع ذلك لم يتوضئوا ولم يكونوا يؤمرون بالوضوء.
أورد المؤلف في هذا حديث أنس بن مالك: قال: (عَنْ أنسِ بنِ مَالكٍ رضي الله عنه قَالَ: أُقِيمَتْ صَلَاةُ العِشَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ لِيْ حَاجَةٌ) يقول للنبي صلى الله عليه وسلم أنا أريد أن أحدثك في حاجة، (فَقَامَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يُنَاجِيهِ) يتكلم معه بالكلام السري (حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ -أَوْ بَعْضُ الْقَوْمِ- ثمَّ صَلَّوْ) ظاهره أنهم لم يتوضئوا، فمعناه أنَّ النَّوم اليسير لم ينتقض به الوضوء (رَوَاهُ مُسلمٌ).
قال: (وَفِي لفظٍ لَهُ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنامُونَ ثُمَّ يُصَلُّوْنَ وَلَا يَتَوَضَّؤونَ).
ظاهر هذا أنَّ المراد به النَّوم اليسير؛ لأنَّه هو الذي يكون في انتظار الصَّلاة.
وفي حديث أبي داود (كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حَتَّى تَخْفِقَ رُؤوسُهُم، ثُمَّ يُصَلُّوْنَ وَلَا يَتَوَضَّؤونَ) فيه أنَّ النَّوم اليسير مِن الجالس لا يُنتقض به الوضوء.
قال: (عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ: لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يُوقَظُونَ للصَّلَاةِ حَتَّى إِنِّي لأَسْمعُ لأَحَدِهِمْ غَطِيطً) أي: صوت، (ثُمَّ يَقُومُونَ فَيُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّوؤنَ، قَالَ ابْنُ الْمُبَارك: هَذَا عِندَنَا وَهُمْ جُلُوسٌ) وقوله (هذا عندن)، يعني تفسيرنا لهذا اللفظ: (وَهُمْ جُلُوسٌ) فابن المبارك يَرَى أنَّ النَّوم اليسير الذي لا ينتقض به الوضوء، ما كان على هيئة الجلوس فقط، أمَّا مَن نَامَ نومًا يسيرًا وهو مضطجع، فعند ابن المبارك أنَّه ينتقض وضوؤه.
قال: (وَقدْ رُوِيَ فِي الحَدِيثِ زِيَادَةٌ تَمْنَعُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارك، إِنْ ثَبَتَتْ، رَوَاهَا يَحْيَى الْقَطَّانُ) وهو إمام (عَنْ شُعْبَةَ) وهو إمام (عَنْ قَتَادَةَ) وهو إمام (عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْتَظِرونَ الصَّلاة فَيَضَعُونَ جُنُوبَهُم) معناه أنهم اضطجعوا، وهذا خلاف مذهب الجمهور، قال: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَنَامُ ثُمَّ يَقُومُ إِلَى الصَّلاة. قَالَ قَاسمُ بنُ أَصبَغَ) وهو من محدِّثي المغرب (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بنُ عبدِ السَّلام الْخُشَنِيُّ، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بنُ بشَّارٍ، حَدَّثنَا يَحْيَى بنُ سعيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ- فَذَكَرَهُ- قَالَ ابْنُ الْقَطَّان: وَهُوَ كَمَا تَرَى صَحِيحٌ مِنْ رِوَايَةِ إِمَامٍ عَنْ شُعْبَةَ) الإمام هو يحيى القطان (فَاعْلَمْهُ).
ولكن الإمام أحمد قال: إنَّ شعبة لم يَقل هذا قط، قال: إنَّ رواية شعبة للحديث فيها: (كَانُوا يَنَامُونَ) وأنَّ لفظة (يَضْطَجِعُونَ) هذه وَهْمٌ ممن رَوَى الخبر، (وَقَالَ هِشَامٌ: كَانُوا يَنْعَسُون. وَقدِ اخْتلفُوا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَقدْ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الـمَوْصِلِي مِنْ رِوَايَةِ سعيدٍ) ابن أبي عروبة (عَنْ قَتَادَةَ، وَلَفظُهُ: يَضَعُونَ جُنُوبَهُمْ فَيَنَامُونَ، مِنْهُم مَنْ يَتَوَضَّأُ، وَمِنْهُم مَنْ لَا يَتَوَضَّ).
إذن، الاختلاف في النوم اليسير مِن المُضطجِع.
{(وَعَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاة؟ فَقَالَ: «لَا، إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِيْ الصَّلاة، وَإِذا أَدْبَرَتْ، فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّيْ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ البُخَارِيُّ: وَقَالَ أَبي -يَعْنِي عُرْوَة: «ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ»، وَرَوَى النَّسَائِيُّ الْأَمْرَ بِالْوضُوءِ مَرْفُوعًَا مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامٍ، وَقَالَ: لَا أعلَمُ أحَدًا ذَكَرَ فِي هَذَا الحَدِيثِ: «وَتَوَضَّئِي»، غَيْرُ حَمَّادِ بنِ زيدٍ، وَقَالَ مُسلِمٌ: "فِي حَدِيثِ حَمَّادِ بنِ زيد زِيَادَةُ حَرْفٍ تَرَكْنَا ذِكْرَهُ"، وَقَدْ تَابَعَ حَمَّادًا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَغَيرُهُ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيرُهُ ذِكْرَ الْوُضُوءِ مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ)}.
هذا الحديث فيمن كان حَدَثُه دائمًا، أي: مستمرًا، فماذا يفعل؟
يَخرجُ مِنه دم في كل وقت، أو عنده سلس بول، فلا يتوقف معه البول، أو معه استمرار الريح، فلا يتوقف الريح أبدًا، فماذا يفعل؟
جاءنا حديث فيه ذكر الدم (جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ) أي: يَستمر خروج الدَّم معي، حتى بعد أن ينتهي وقت الحيض.
(فَلَا أَطْهُرُ) في هذا دلالة على أنَّ الدَّم نجس، ودلالة على أنَّ خروج الدَّم من الفرج من نواقض الوضوء.
(أَفَأَدَعُ الصَّلاة؟) يعني: هل أترك الصَّلاة حينئذ؟ أم ماذا أفعل بالنسبة للوضوء؟  فَقَالَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم: «لَ» أي: لا تَدَعِي الصَّلاة.
«إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ» أي: دم جرح، «وَلَيْسَ بِحَيْضٍ» فالذي تُترك له الصَّلاة دَمُ الحيض، وأمَّا دم الجروح فهذا لا تتُرك له الصَّلاة.
قال: «فَإِذا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ» هناك تفريق بين دم الحيض، ودم الاستحاضة.
الاستحاضة يُصلى فيها ويُصام، والحيض لا يُصام معه ولا يُصلَّى.
والتفريق بينهما: إمَّا أنَّ يكون للمرأة عادةٌ سابقة، فتستمر على عادتها، وإمَّا أن تعرف الفرق بينهما بحسب الصفات، فدم الحيض أسود، ودم الاستحاضة أحمر، دم الحيض ثقيل ثخين، ودم الاستحاضة خفيف، ودم الحيض فيه رائحة، ودم الاستحاضة ليس كذلك.
«فَإِذا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ» أي: أيام العادة «فَدَعِيْ الصَّلاة، وَإِذا أَدْبَرَتْ» وجاء وقت الاستحاضة «فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ» هذا وقت الاستحاضة، تغسل الدم، «ثُمَّ صَلِّيْ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
قال: «ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» فيه أنَّ مَن حَدَثُه دائم، فإنَّه يَتوضأ في أول وقت الصَّلاة ويكفيه إلى أوَّل وقت الصَّلاة الذي يليه.
مثال ذلك: إذا توضأ للفجر، فإنه يكفيه إلى أذان الظهر. لماذا؟ لأن هذا الوقت الذي يليه.
هل هذه اللفظة: «ثُمَّ تَوَضَّئِي»، وأكثر أهل العلم على أنَّها ثابتة بهذا اللفظ.
{(وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ أَنْ يَسْأَلَ النَّبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «فِيهِ الوُضُوءُ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ. وَفِي لفظٍ لِمُسلمٍ: «تَوَضَّأْ وانْضَحْ فَرْجَكَ»)}.
هذا الحديث فيه جواز تكليف الإنسان لغيره بالسؤال عن مسائله ليعطيه الحكم، خصوصًا إذا كان هناك سببٌ يَقتضي ذلك، فإنَّ عَليًّا رضي الله عنه كان قد تزوج بنت النَّبي صلى الله عليه وسلم فهو صِهرُهُ، فلم يُناسب أن يَسأله مِثَل هذا السؤال، ولذا أَمَرَ عليٌّ رضي الله عنه المقدادَ أن يَسأل.
فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم عَن المذي: «فِيهِ الوُضُوءُ»، ففيه أن خروج المَذي مِن نَواقض الوضوء، وفي لفظ قال: «تَوَضَّأْ وانْضَحْ فَرْجَكَ». النضح: الرش بالماء حتى يبتل، وفي هذا زيادةُ حُكمٍ وهو نضح الفرج، وظاهره أنَّه يشمل الفرج مِن أَعلاه إلى أَسفله.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تُصَلِّيْ الْمُسْتَحَاضَةُ وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ والإسماعيليُّ، وَرِجَالُهُ رِجالُ الصَّحِيح)}.
إذن يدل هذا على أنَّ الاستحاضة لا يُمنع مِن الصَّلاة معها، فهي ليست كالحيض. وقوله: «وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ» فيه دلالة: أنَّ كثرة دم الاستحاضة لا تمنع من الصَّلاة.
واستَدَلَّ بعضهم بذلك على أنَّ الدم ليس بنجس، وقد حُكي إجماع الأوائل على نجاسة الدم، ولعله يأتي لذلك مزيد بحث -إن شاء الله تعالى.
{(وَعَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبيرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاة وَلَمْ يتَوَضَّأ. كَذَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ، وَرِجَالُهُ مُخَرَّجٌ لَهُم فِي الصَّحِيحِ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُه)}.
حديث عُروةَ عَن عَائشة فيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ يمسُّ بعض نسائه ويخرج إلى الصَّلاة بدون أن يتوضأ، هذا في الصحيح، لكن عند الإمام أحمد، أنه قال: قبَّل بعض نسائه، فاستدل بهذا الحنفية على أنَّ مَسَّ المرأة بشهوة لا يَنقض الوضوء، بينما قال الشافعي: إِنَّ مَسَّ المرأة ينقض الوضوء بشهوة أو بدون شهوة.
وقال أحمد ومالك: إنَّه إِذا مَسَّ المرأة بشهوة انتقض الوضوء، وإذا مَسَّها بدون شهوة لم يُنتقض الوضوء، وقالوا: إنَّ الرواية الصحيحة: «كانَ يَمس بعض أهله» فهذا بدون شهوة، أمَّا رواية "قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ" فإنَّهم لم يكونوا يُثبتونها، بل كانوا يضعفونها، ويتكلمون فيها.
{(وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخْرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيْحً» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
في هذا الحديث: أنَّ نواقض الوضوء لابد أن نتيقَّنها أو أن يَغلب على ظننا، أمَّا مجرد الاحتمال، أو الأوهام التي ترد في النفوس، فإنَّه لا يُلتفت إليها، ولذلك مَن خُيِّلَ إليه أنَّه خرج منه الريح فلا ينصرف، حتى يجد برهان ذلك، إمَّا بصوت أو بريح، وفي هذا دليل للقاعدة التي يذكرها العلماء، قاعدة: "اليقين لا يزول بالشك".
{(وَعَنْ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَابْنُ حِبَّان فِي "صَحِيحهِ"، وَقَالَ البُخَارِيُّ: أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ بُسْرَة)}.
ظاهر هذا الحديث: أنَّ مَسَّ الذَّكرِ مِن نَواقض الوضوء، وبذلك قال الجمهور خلافًا للحنفية، وقالوا عن حديث الباب: إنَّه خبر واحد في ما تَعم به البلوى فلا يُقبل، والصواب: أنَّ الأحاديث النبويَّة، ولو كانت آحادًا تُقبل، ولو فيما تعمُّ به البلوى، ولا يمتنع أن يكون النَّبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر جماعة، فاكتفوا بنقل أحدِهم لذلك الخبر.
وَيُؤخذُ مِن هذا أنَّ مَن مَسَّ ذَكَرَ غيره انتقض وضوؤه، حتى ولو كان صغيرًا، خلافًا لمالك في الصغير، وفيه أيضًا أنَّ مَسَّ فَرْجَ المرأة يَنقض، فلو مَست المرأة فرجها انتقض وضوؤها.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذا أَفْضَى أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ إِلَى فَرْجِهِ لَيْسَ دُونَهَا حِجابٌ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَالطَّبَرَانِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ حِبَّان وَالْحَاكِمُ -وَصَحَّحَهُ-)}.
فيه دلالة لمذهب الجمهور على أنَّ مَسَّ الذكر يَنقض الوضوء، وفيه أنَّ مَن مَسَّ الذكر مِن وَراء حائل لم ينتقض وضوؤه بذلك.
{(وَعَنْ قَيْسِ بنِ طَلْقٍ الْحَنَفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَجُلٌ: مَسَسْتُ ذَكَرِي، أَوْ الرَّجلُ يَمَسُّ ذَكَرَهُ فِي الصَّلاة عَلَيْهِ وُضُوءٌ؟ قَالَ: «لَا، إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ» رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَابْنُ حِبَّان وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: "هَذَا الحَدِيثُ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ"، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: "هُوَ مُسْتَقِيمُ الْإِسْنَادِ"، وَجَعَلَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ أَحْسنَ مِنْ حَدِيثِ بُسْرَة، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَغَيرُهم، وَأَخْطَأَ مَنْ حَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَى ضَعْفِهِ.
وَقدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ وَصَحَّحهُ عَنْ قَيسِ بنِ طَلْقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّ» وَإِسْنَادُهُ لَا يَثْبُتُ)
}.
هذه الأحاديث في مسِّ الذكر، وقد تقدَّم الكلام فيها، وهذا الحديث من أدلَّة الحنفية في أنَّ مَسَّ الذكر لا يَنقض الوضوء، ولكن هذا الحديث قد جاء في بعض رواياته أنَّه كان بعد الهجرة، فلذلك قيل إِنَّ حديث بُسرة، ومثله حديث أبي هريرة هي أحاديث متأخِّرة، فتكون ناسخة لهذا الخبر، كما قال آخرون: إِنَّ هذا الخبر فيه التصريح بأن مَسَّ الذكر كان أثناء الصَّلاة، فيظهر مِن هذا أنَّ مَسَّ الذَّكر كان مِن وراء حائل، ومن وراء حجاب، فلا يدخل في مسألة الاختلاف.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَصَابَهُ قَيءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأ، ثُمَّ لْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَضَعَّفَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحمدُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيرُهم)}.
هذا الحديث فيه مسألة الخارج النَّجس من غير السَّبيلين. هل ينقض الوضوء؟ مثل ما لو خرج قيء، أو دم، أو رعاف، أو نحو ذلك، فهل ينتقض الوضوء بذلك أو لا؟
هناك ثلاثة مذاهب:
-       هناك مَن يَرَى أنَّ الخارج من النَّجاسات من البدن، من غير السبيلين ينتقض الوضوء به قليلًا كان أو كثيرًا.
-       ومنهم من قال: إن كان الخارج كثيرًا انتقض الوضوء به، وإن كان الخارج قليلًا لم ينتقض الوضوء به. وهذا مذهب أحمد، وجماعة من أهل العلم.
-       وهناك من يقول: لا ينتقض الوضوء بخروج النَّجاسات مِن غَير السبيلين، سواءً كان قليلًا أو كان كثيرًا، وهذا أرجح المذاهب. لماذا؟
لأنَّ الأحاديث التي أثبتت وجوب الوضوء أحاديث ضعيفة، ومنها حديث الباب، ولذلك ضعَّفه الشافعي، وأحمد، والدارقطني، وغيرهم.
ومن ثَمَّ فإنَّه يُقال: إنَّ الأرجح هو عدم انتقاض الوضوء لخروج النَّجاسات، ولو كانت كثيرة إذا كان ذلك من غير السبيلين.
ذهب الجمهور إلى أنَّ مَن أحدث أثناء الصَّلاة، بطلت صلاته، بينما ذهب الحنفية إلى إعادة وضوئه ومن ثم إكمال صلاته، ومذهب الجمهور أقوى، وحديث الباب هذا ضعيف الإسناد.
بارك الله فيكم، ووفقكم الله لكل خير، ووفق الله المشاهدين الكرام لما يحب ويرضى، واستعملنا وإياهم في كل عمل صالح، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------
[23] صححه الألباني في صحيح ابن ماجة عن علي رضي الله عنه، ولفظه: "العينُ وِكَاءُ السَّهِ فمَن نامَ فلْيتوضأْ"

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك