الدرس الثاني والعشرون

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

5670 24
الدرس الثاني والعشرون

المحرر في الحديث (1)

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلينَ، أمَّا بعد:
فهذا هو اللِّقاءُ الثَّاني والعشرون من لقاءاتنا في شرح كتاب "المحرر" للحافظ ابن عبد الهادي المقدسي -رحمه الله تعالى- كنَّا قد ابتدأنا ببابِ صَلاة التَّطوع، وذكرنا شيئًا من أحكامِ السُّنن الرَّواتب، وأنَّ الصَّوابَ أنَّها ثنتي عشرة ركعة، أربع ركعاتٍ قبلَ الظُّهر، وركعتانِ بعدها، وركعتانِ بعدَ المغربِ، وركعتانِ بعدَ العشاءِ، وركعتانِ قبلَ الفجرِ.
ولعلَّنا نُواصلُ الحديثَ في ذلك، بقراءةِ حديثِ عائشةَ في سُنَّةِ الفجرِ الرَّاتبةِ.
تفضَّل اقرأ يا شيخ.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلينَ نبينا محمد صلَّى الله  عليه وعلى آله وصحبِه وسلَّم.
اللهمَّ اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين والمشاهدين ولجميع المسلمين.
قال المصنِّف -رحمه الله تعالى: (وعَنْهَا قَالَتْ: لم يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ) (لم يَكُنِ النَّبِيُّ) اسم كان (أَشَدَّ) خبر كان.
{(لم يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ  عَلَى رَكْعَتي الْفَجْرِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ.
وَلمسلمٍ: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَ»)
}.
 قولها رضي الله عنها: (لم يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ  عَلَى رَكْعَتي الْفَجْرِ) فيه أنَّ سنَّة الفَجر تكونُ بركعتين، والمرادُ بقوله: (عَلَى رَكْعَتي الْفَجْرِ): سُنَّة الفَجر، أمَّا صلاة الفَجر فهي ليست نافلة، بل هي فريضة.
وفيه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُحافظُ عليها، وقد وردَ أنَّه لم يكن يتركها سفرًا ولا حضرًا، ومَن صلَّى وحده ولم يتمكَّن مِن الصَّلاة مع الجماعةِ، شُرع له أيضًا أن يُصلَّيَ سُنَّة الفجرِ القبليَّة، حتى لو أنَّ الإنسان لم يستيقظ إلا بعدَ طلوعِ الشَّمسِ؛ استُحب له أن يُصليَ سُنَّة الفَجرِ القبليَّة، كما وردَ ذلك عنه صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدلُّنا على أهميَّة هاتين الرَّكعتين، وأنَّ لهما من الخاصيَّة ما ليس لغيرهما، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ» يعني سُنَّة الفجرِ «خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَ» فإذا كان هذا في النَّافلةِ فكيف بالفريضة؟ ولذا يَحسُن بالإنسان أن يَفعلَ جميعَ ما يستطيعُه من الأسبابِ ليحافظَ على صلاةِ الفجرِ في وقتها.
{(وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «منْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيتٌ فِي الجَنَّةِ»، وَفِي رِوَايَة: «تَطَوُّعً» رَوَاهُ مُسلمٌ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَالنَّسَائِيُّ -وَفِيه: «أَرْبعًا قبلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ» -. قَالَ النَّسَائِيُّ: «قَبْلَ الصُّبْحِ» وَذَكَرَ «رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ» بَدَل «رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاء»)}.
أمُّ حبيبة هي ابنة أبي سفيان، وأختُ معاوية -رضوان الله عن الجميع- وهي زوجة من زوجاتِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، تزوَّجها بعدَ وفاةِ زوجها وكانت في الحبشة، ووكَّل النَّبي صلى الله عليه وسلم النَّجاشي ليعقد له.
(قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «منْ صَلَّى» "مَن" تشملُ الذَّكر والأنثى، فتشمل مَن تجب عليه صلاة الجماعة ومَن لا تجبُ عليه، وكذلك تشمل العاجز الذي يعجز عن الذِّهاب إلى المسجد).
 قوله: «اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ» وفي لفظ «تَطَوُّعً» أي: مِن غَير الفريضة «بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيتٌ فِي الجَنَّةِ» وفيه أنَّ فضيلة التَّسابق تكون بقصدِ الجنَّة ومنازلها ونعيمها، ولذلك على الإنسان أن يجعل أمر الآخرة بين عينيه، وقبل أن يُقدِمَ على أيِّ فعلٍ ينظر هل ينتفع به في آخرته أو لا.
قال: (وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَالنَّسَائِيُّ) فيه تسمية السُّنن الرَّواتب، وفيه: أربعٌ قبل الظُّهر -يعني أربعَ ركعاتٍ- وبعضُ العلماء قال: إنَّه يَشبِكُ بينهما ولا يُسلِّم بينهنَّ، والأظهرُ أنَّه يُسلِّم، ولفظة «أَرْبعًا قبلَ الظُّهْرِ» لا تَعني أنَّها بسلامٍ واحدٍ.
قوله: «وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَ» يعني بعدَ الظُّهرِ «وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ» فيه أنَّها مِن السُّننِ الرَّواتبِ «وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ» وفي لفظٍ «رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ» لكنَّ رواية «قَبْلَ الْعَصْرِ» غيرُ محفوظةٍ، وكما تقدَّم أنَّ قبل العصرِ يُستحبُّ فعلُ أربعِ ركعاتٍ، لكنَّها ليست من السُّننِ الرَّواتب، بحيث لو فاتت فإنَّه لا يُشرع قضائها.
قال: «وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ» لاحظوا قال: قبل الصَّلاة، معناه أنَّه قبل دخول الوقت، ولكنَّ النَّسَائِيُّ قال: «وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ» فظاهره أنَّها قبل طُلوع الفجرِ وَذَكَرَ «رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ» بَدَل «رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاء».
{(وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: "حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ")}.
 قال: (وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَافَظَ») أي: استمرَّ وصلَّاها في كلِّ يوم «عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ» الجمهورُ على أنَّه يُسلِّم بعد كلِّ ركعتين، وهناك مَن قال إنَّها بسلامٍ واحدٍ، وتصرُّفاتِ الشَّرع في السُّننِ الرَّواتب والنَّوافل أنَّه يَفصلُ بين كلِّ ركعتين.
قال: يوم «عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ» معطوفة على "أربع" الأولى «بَعْدَهَ» يعني بعد الظُّهر «حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ» فيه فضيلة السُّنَّة الرَّاتبة لصلاة الظُّهر.
{بالنَّسبةِ للمصلَّي، لو نَسِيَ أن يُسلِّم في ركعتين وقام، هل يَسجد سجود السَّهو؟ أو يبني على الرأي الذي يرى أنَّه يجوز له صلاة أربعِ بسلام واحد؟}.
يعني في سُنَّة الظُّهر القبليَّة.
{في سُنَّة الظُّهر القبلية أو البعدية}.
إذا قام للثالثة فالأظهرُ أنَّه يعودُ فيجلس، ومثله أيضًا في صلاة الليل وهو آكد، لماذا قلنا إنَّه يجلس؟ لأنَّ نيَّته أن يُصلِّيها ركعتين، فعمله بنيَّته، وأما صلاة اللَّيل لو صلَّى وقام للثَّالثة وجب عليه أن يرجع، وذلك لقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» كما قال الجمهور خلافًا للإمام الشافعي.
{(وَعَنْ عَاصِمِ بنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي قَبلَ الْعَصْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، يَفْصِلُ بَينهُنَّ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الملَائِكَةِ الـمُـقَرَّبِـيـْنَ، وَمنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحسَّنَهُ-، وعَاصِمٌ وَثَّقَهُ أَحْمدُ وَابْن الْمَدِينِيِّ وَابْنُ خُزَيْـمـَة وَغَيرُهم، وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّة)}.
عَاصِم بن ضَمْرَة اختلف أهلُ العلم فيه، والظَّاهر أنَّه صدوق، وأنَّ روايته مِن قَبيل الحَسَن، وقوله: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) "كان" تفيدُ الدَّوام والتَّكرار والاستمرار (يُصَلِّي قَبلَ الْعَصْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ) فيه استحبابُ التَّنفُّل بأربعِ ركعاتٍ قبل العصر.
قال: (يَفْصِلُ بَينهُنَّ بِالتَّسْلِيمِ) أي: يُصلي ركعتين ثم يُسلِّم، ثم ركعتين (ويسلم عَلَى الملَائِكَةِ الـمُـقَرَّبِـيـْنَ، وَمنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ) فيه مشروعيِّة التَّسليم بين السُّننِ النَّوافل.
{(وَعَن ابْنِ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللهُ امْرَأً صَلَّى أَرْبعًا قَبْلَ الْعَصْرِ»رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي "صَحِيحِه"وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: "حَسَنٌ غَرِيبٌ"، وَوَهَّى أَبُو زُرْعَةَ رَاويه)}.
فيه استحبابُ التَّنفُّل بأربعِ ركعاتٍ قبل العصر، قد ورد شاهدٌ لها من الحديث الذي قبله، وبالتَّالي فالأظهر هو استحباب أربع ركعات قبل الظُّهر، والأظهر أنَّه يفصل بين كلِّ ركعتين بتسليمٍ، وهذه الصَّلاة ليست مِن السُّننِ الرَّواتبِ، وبالتَّالي لو فاتت فإنَّه لا يُشرع قضاؤها، لأنَّها سُنَّةٌ فات محلُّها أو وقتُها.
{(وَعَنْ أَنسِ بنِ مَالك رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ بعد غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقُلْتُ لَهُ: أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهُمَا؟ قَالَ: كَانَ يَرَانَا نُصَلِّيِهِما فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلم يَنْهَنَا. رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
قوله: (كُنَّا نُصَلِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فيه الاستدلال بأحوالِ الصَّحابة وأفعالهم في زمنِ النُّبوَّة، وفيه الاستدلال بالسُّنَّة التَّقريريَّة، حيث أقرَّهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ولم يعترض عليهم.
قوله: (رَكْعَتَيْنِ بعد غُرُوبِ الشَّمْسِ) فيه استحباب ركعتين بين أذانِ المغرب والإقامة، وبهذا قال الجمهور.
وقال الحنفية: لا يُستحبُّ فعلُ هاتين الرَّكعتين، واعتبروه من أوقاتِ النَّهي، ولكن حديث الباب حُجَّة عليهم، وقد ورد في الحديث الآخر «صَلُّوا قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ»، قَالَ فِي الثَّالِثَة: «لِمَنْ شَاءَ»[118].
وقوله: (كَانَ يَرَانَا نُصَلِّيِهِما فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلم يَنْهَنَ) لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقدُم من بيتِه فيصلِّي بالنَّاس، وفيه دلالة على اتِّساع وقتِ المغرب، خلافًا لما ورد عن الإمام الشَّافعي أنَّه لا يجوز أن تُصلى بعد وقت المغرب سبعِ ركعاتٍ من الأذان، وفيه أنَّ وقت المَغربِ لا يَبتدئ إلا بعدَ غروبِ الشَّمس.
{(وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صَلُّوا قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ»، قَالَ فِي الثَّالِثَة: «لِمَنْ شَاءَ» كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَها النَّاسُ سُنَّةً. رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَابْنُ حِبَّان -وَزَادَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى قَبْلَ الـمَغْربِ رَكْعَتَيْنِ)}.
قوله: «صَلُّوا قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ» هذا الأمرُ يُحمَل على الاستحبابِ؛ لأنَّه عَلَّقه بالمشيئةِ، وقوله: «قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ» يعني: بعد غروب الشمس، لأنَّ قبل تمام الغروب وقت نهي.
وقد قال الجمهور باستحباب التَّنفل قبلَ صلاة المغربِ وبعدَ غروب الشَّمس، خلافًا للإمام أبي حنيفة -رحمه الله- حيث رأى أنَّ وقتَ النَّهي يستمر إلى وقتَ فعلِ صلاةِ المغربِ جماعةً.
وقوله: (كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَها النَّاسُ سُنَّةً) أي: أن يعتادوا عليها، وأن يجعلوها سُنَّةً راتبةً يقضونها إذا فاتت.
قال: (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَابْنُ حِبَّان) زَادَ ابْنُ حِبَّان (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى قَبْلَ الـمَغْربِ رَكْعَتَيْنِ) فيه الاقتداء بأفعالِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والاستدلال على مشروعيَّة التَّنفُّل قبلَ صلاةِ المغربِ.
{(وَعَنْ زُرَارَةَ بنِ أَوْفَى: أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا سُئِلَتْ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَوْفِ اللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ، فَيَركَعُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يَأْوي إِلَى فِرَاشِهِ ويَنامُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي سَمَاعِ زُرَارَة مِنْ عَائِشَة نَظَر)}.
ذَكَرَ المؤلِّفُ احتماليَّة الانقطاعِ في سندِ هذا الخبر، الجمهور يرون أنَّه لم يتَّصِلْ إسنادُه، وقوله: (سُئِلَتْ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَوْفِ اللَّيْلِ؟) المراد بجوف الليل: آخره وعمقه الذي يدخل فيه، لذلك يُقال عن الجُرح الذي يصل إلى وسط البدن: جَائِفَة.
(فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ) فيه مَشروعيَّة مُرابطةِ الإنسان للجماعة في الصَّلوات (ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ) يعني بعد صلاةِ العِشاء (فَيَركَعُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ) فيه استحباب أن يتنفَّل بأربعِ ركعاتٍ في أوَّل اللَّيل، وبعضهم قد سماها بأسماء، وبعضهم يجعلها بعد المغرب. قال: (ثُمَّ يَأْوي إِلَى فِرَاشِهِ ويَنامُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد).
{(وعَنها رَضِي اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: هَلْ قَرَأَ بِأُمِّ الكِتَابِ أَمْ لَا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قولها: (كَانَ) معناه أنَّ ذلك على الدَّوام والتَّكرار،(يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ) فيه استحباب تخفيف سُنَّة الفجر، وأنَّ التَّخفيفَ هو المستحبُّ، وفيه دلالة على أنَّ العملَ القليل في سُنَّة خيرٌ من الكثيرِ في غيرها، فإنَّ تخفيفَ سُنَّة الفجر هو السُّنَّة، وتخفيفُ تلك الصَّلاة أفضل وأحبُّ عند الله من تطويلها، مع أنَّه صلى الله عليه وسلم لما سُئلَ عن أفضل الصَّلاة، قال: «طُولُ الْقُنُوتِ» [119]-كما تقدم معنا- ومع ذلك يُرغَّبُ في سُنَّةِ الفجرِ تخفيفُها، لأنَّه فعلُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد أُمرنا بالاقتداء به.
وقوله: (حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: هَلْ قَرَأَ بِأُمِّ الكِتَابِ أَمْ لَ) فيه التَّأكيد على التَّخفيف الشَّديد في سُنَّة الفجر، وأنَّه هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفيه التَّأكيد على قراءة الفاتحة في كلِّ ركعات الصَّلاة، فإنَّها ما نصَّت على هذا إلا أنَّه من المتقرِّر عندهم أنَّ الصَّلاة لا تتمُّ إلا بقراءتها، ولذا كانت تقول: (حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: هَلْ قَرَأَ بِأُمِّ الكِتَابِ أَمْ لَ) أمُّ الكتاب يعني سورة "الفاتحة".
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي رَكْعَتَي الْفَجْرِ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون: 1] وَ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1])}.
هذا الحديثُ قد أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وقوله: (قَرَأَ فِي رَكْعَتَي الْفَجْرِ) يعني سُنَّة الفجر ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ فيه البَراءة مِن الشِّركِ وأهلِه وَ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ فيه تَنزيهُ الله -جلَّ وعلا- عن كلام مَن يَستنقصُه، وفي هذا استحباب قراءة هاتين السُّورتين في سُنَّة الفجر.
{(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَي الْفَجْرِ فِي الأُولَى مِنْهُمَ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَ﴾ [البقرة:136] الْآيَة الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْهُمَا ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:52] رَوَاهُمَا مُسلمٌ)}.
هذا فيه استحباب قراءة هاتين الآيتين في ركعتي الفجر، وفيه جواز القراءة بآيةٍ مِن وسَط السُّورة في الصَّلاة، ولا يلزم أن يَبتدئ القراءة بأوَّلِ السَّورة، وفيه جواز الاكتفاء بالآية الواحدة في الصَّلاة.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذا صَلَّى رَكْعَتي الفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمنِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
هنا فعلٌ نبويٌّ (كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذا صَلَّى رَكْعَتي الفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمنِ) هل يُحمل هذا الفعل على الوجوبِ أو على النَّدبِ أو على الإباحة؟
قالت طائفة: إنَّه يحمل على الوجوب؛ لأنَّه فعلٌ متعلِّقٌ بعبادة والأصل في عباداته أن تكون على الوجوب، بناءً على أحد قولي الأصوليين إنَّ أفعال القُرُبات مِنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم تُحمل على الوجوب.
واستدلوا على ذلك بخبر وارد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: «إِذا صَلَّى أَحَدُكُم الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ؛ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمنِ» فقوله: «فَلْيَضْطَجِعْ» هذا أمر؛ لأنَّه فِعل مضارع مسبوق بلامِ الأمر، فيدلُّ على وجوبِ هذه الضَّجعة.
بينما آخرون قالوا: إنَّ هذا الحديث إنَّما يدلُّ على الاستحباب، وفعلُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الطَّاعات والعبادات يُحمل على الاستحباب، وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أقرَّ أصحابه على تَركِ الاقتداء به في بعض أفعاله، ولو كانت أفعاله على الوجوب لأنكر على أصحابه الذين يتركون التَّأسِّي به في بعض أفعاله.
وقال آخرون: إنَّ حديث الأمر بالاضطجاع خطأ من رَاويه، وصوابه أنَّه فعل وليس بأمر «اضْطَجَعَ» كما هي رواية الصَّحيح، وقالوا: إنَّ الاضطجاع ليس من القُربات والعبادات، وإنَّما هو من الأفعال الجبليَّة العاديَّة، والأفعال الجبليَّة تُحمل على الإباحة، ولعلَّ هذا القول أرجح الأقوال في هذه المسألة، فيكون فعلُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على الإباحة، وأمَّا الأمر فإنَّه كان خطأ من راويه، صوابه أنَّه مِن فِعل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لا من أمره.
{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذا صَلَّى أَحَدُكُم الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ؛ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمنِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: "حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ"-, وَقَدْ تكَلَّمَ أَحْمدُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيرُهمَا فِي هَذَا الحَدِيثِ، وصَحَّحُوا فِعْلَهُ الإضْطِجَاعَ لَا أَمْرَهُ بِهِ)}.
إذن هذا الحديث استدلَّ به الظَّاهريَّة على إيجاب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر وقبل الصَّلاة، والجمهور قالوا: إنَّ هذه الرِّواية خطأ، صوابها أنَّها من الفِعل النَّبويِّ وليس أمرًا.
{(وَعَنِ ابْنِ عمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ؟ , فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوْتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.)}.
قوله: (سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ؟) أي كم مقدارها؟ وما هو المشروع فيها؟ (فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى») فيه أنَّه لا حدَّ لصلاة اللَّيل، واستدلُّوا بذلك على جواز الزِّيادة على ثمانِ ركعاتٍ في صلاة التَّراويح وصلاة اللَّيل.
وقوله: (صَلَاةِ اللَّيْلِ)، (صَلَاةِ) مبتدأ مضاف إلى معرفة، فيكون هذا ظاهره الانحصار، لأنَّ المبتدأ المُعرَّف منحصر في الخبر.
قوله: «مَثْنَى مَثْنَى» ظاهره أنَّه لا تقع صلاة اللَّيل إلا على هذه الصِّفة، بأنَّ تكون بركعتين ركعتين، ولذا قال الجمهور: إنَّ صلاة الليل لا تجوز بأكثر من ركعتين، وذهب الإمام الشَّافعيُّ إلى جواز أن تكون بأربعِ ركعات، واستدلَّ على ذلك بما ورد من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ»[120].
قالوا: فظاهر هذا أنَّه زاد على الرَّكعتين في صلاة اللَّيل، ولكنَّ هذا محتمل، فإنَّه يحتمل أن يكون مرادها أنَّه صلَّى أربعَ ركعاتٍ سلَّم بينهما، وبعد ذلك جلس مدةً، ثمَّ صلى الأربع ركعات الأخرى، وبالتَّالي لا تكون استدلالات الإمام الشَّافعي بهذا الخبر على جهةٍ التَّصريح، وإنَّما هي على جهة الاحتمال، فلا يُترك غيرُ المحتملِ من أجل المحتمل.
قوله: «فَإِذا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً» فيه جوازُ الاقتصار بركعة واحدة في صلاة الوتر، كما قال الجمهور خلافًا للحنفيَّة، وفيه استحبابُ صلاة الوتر، واستدلَّ الحنفيَّة بالحديث على إيجاب الوتر، لكنَّ الحديثَ ليس فيه أمر، وقال آخرون: إنَّ الوتر إنَّما يجبُ على مَن صلَّى باللَّيل.
في الحديث دلالة على أنَّ الوتر ينتهي وقتُه بدخول وقتِ الفجر؛ لأنَّه قال: «فَإِذا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوْتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» وما زاد، لأنَّه بعد الصُّبح لا تُجزئ هذه الرَّكعة.
{(وَعنهُ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّان، وَصَحَّحهُ البُخَارِيُّ، وَقَالَ أَحْمدُ -فِي رِوَايَة الميْمُونِيِّ وَغَيرِه عَنهُ: "إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ"، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: "وَهَذَا الحَدِيثُ عِنْدِي خَطَأ"، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "اخْتَلَفَ أَصْحَابُ شُعْبَةَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَر، فَرَفَعَهُ بَعْضُهُم وَوَقَفَهُ بَعْضُهُم"، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: "الصَّحِيحُ ذِكْرُ صَلَاةِ اللَّيْلِ دُونَ ذِكْرِ النَّهَار")}.
الإشكال هنا في كلمة «وَالنَّهَارِ» هل هي ثابتةٌ بالخبرِ أو ليست بثابتةٍ؟
تقدَّم معنا أنَّ في الصَّحيحين جاء الحديث بلفظِ «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» بدون ذكر لفظة «وَالنَّهَارِ» ولذا وقع الاختلاف في تثبيت هذه اللَّفظة في الحديث، وجمهورُ أهلِ الحديث على التَّضعيف، ولكن بالنَّسبة لصلاة النَّهار، هل يجوز أن تكون بأكثر من ركعتين أو لا؟ هذا من مواطن الخلاف بينهم، ولعلَّي أشرتُ له فيما مضى.
{وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ». رَوَاهُ مُسلمٌ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ منْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ مُرْسَلًا}).
هذا الحديث فيه فضيلة صلاة اللَّيل وعِظَم الأجرِ المرتَّب عليها، قد قال تعالى:﴿كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات: 17] قال سبحانه:﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 17] وفيه نصوصٌ كثيرة تُفضِّل وتُرغِّب في صلاةِ اللَّيل، وفي هذا دلالة على فضيلةِ صلاة اللَّيل وعِظَم الأجر المرتَّب عليها، وفيه أيضًا استحباب شهر محرم، فإنَّه فعلٌ فاضل وهو في المرتبة يقع بعد صيام رمضان.
وقوله: «أَفْضَلُ الصِّيامِ بَعْدَ رَمَضَانَ» هل هو فضيلةٌ مطلقة، بحيث يفضل على صيام عاشوراء ويوم عرفة؟ أو أنَّه فضيلةٌ مقيَّدة لكونه شهرًا تامًا؟ منهاجان للعلماء، الأظهر الثَّاني، لأنَّه قد ورد في صيام عرفة ويوم عاشوراء ما لم يرد في غيره.
{(وَعَنْ زَيْدِ بنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لأَرْمُقَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اللَّيْلَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَينِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، طَوِيلَتَيْنِ، طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وهُما دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وهُما دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وهُما دُون اللَّتَيْنِ قَبْلهمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وهُما دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلهمَا، ثُمَّ أَوْتَرَ، فَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً. رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
قوله: (لأَرْمُقَنَّ) أي لأتابعنَّ، ولأشاهدنَّ، ولأرقبنَّ (صَلَاةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اللَّيْلَةَ) فيه مشروعيَّة الأخذ من أفعال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وقد قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»[121].
وقوله: (اللَّيْلَةَ) يعني في صلاة الليل (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَينِ) فيه استحباب صلاة اللَّيل بركعتين خفيفتين، وقد ورد أمر به ولعله يأتي.
قال: (ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، طَوِيلَتَيْنِ، طَوِيلَتَيْنِ) فيه تَكرار اللَّفظ وتأكيدِه من أجل التَّأكيد على المعنى (ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وهُما دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وهُما دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وهُما دُون اللَّتَيْنِ قَبْلهمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وهُما دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلهمَ) فيه استحباب صلاة ثلاثة عشر ركعة في صلاة اللَّيل، وأنَّه لا يتقيَّد بثمانِ ركعاتٍ، وفي قوله: (ثُمَّ أَوْتَرَ) فيه استحباب صلاة الوِتر.
{(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَّجَدُ، قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيْهِنَّ وَلَكَ الحَمْدُ, لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ, وَلَك الْحَمدُ، [أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ، وَلَكَ الْحَمدُ] ,أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، ولقاؤُكَ حَقُّ، وقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، والنَّبِيُّونَ حَقٌ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌ، والسَّاعَةُ حَقٌ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لي مَا قَدَّمتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَو لَا إِلَهَ غَيْرُكَ»، قَالَ سُفْيَانُ: وَزَادَ عبدُ الكَرِيم أَبُو أُميَّةَ: «وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ للْبُخَارِيِّ، وَفِي لَفْظٍ لَهُما: «أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» بدل: «لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» وفي آخره «أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»، وفي لفظ لمسلم: «أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ», وَللنَّسائيِّ فِي آخِره: «وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه»، وَعند ابْن مَاجَه: «وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ»)}.
هذا الحديث يتعلَّق بصلاة الليل، وفيه استحباب المداومة على صلاة الليل، وقوله:(يَتَهَّجَدُ) التَّهجد المراد به: القيام الذي يكون بعد نومٍ، وهذا مِن دواعي حضور الذِّهن، وقوله: (قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ») ظاهره أنَّه بدعاءِ الاستفتاح، ولذلك فالحديث دليل على مشروعيَّة دعاء الاستفتاح.
وقوله: «أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» أي: القائم بشؤونها، المدبِّر لها، وقوله: «وَلَكَ الْحَمْدُ» لك مُلك السَّموات والأرض، لأنَّ الملك متحمض لله -عز وجل-، قوله: «نُورُ السَّمَوَاتِ » أي مُنوِّر السَّموات والأرض.
قوله: «وَلَكَ الحَمْدُ» أنت الحقُّ، الحمدُ هنا ليس على سبيل الاستغراق، وإنَّما المراد الحمد التَّام الكامل الذي لا يتعريه ذمٌّ ولا نقصٌ.
«أَنْتَ الْحَقُّ» الحق مقابل الباطل، وفيه أيضًا الإيمان بهذه الأمور المذكورة في الخبر.
{(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً، فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ، [مَاذَا أُنزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتْنَةِ؟] مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الخَزَائِنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُراتِ؟ يَا رُبَّ كاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا، عَارِيةٍ يَوْمَ القِيَامَةِ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
هذا فيه التَّأكيد والتَّرغيب في صلاة الليل، وفيه إيقاظ الإنسان لأهل بيته ليصلُّوا صلاة الليل، قوله: (اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً) أي قام في أثنائها (فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ») أي تنزَّه الله «مَاذَا أُنزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتْنَةِ؟» المراد بالفتنة: ادْلهامُّ الأمور وعدم التَّمييز بينِ الحقِّ والباطل فيها، هذا هو وقت الفتن، فإذا ما تبيَّن الحقُّ وعُرف وفُرِّق بينه وبين الباطل؛ فهذا ليس وقت فتنة.
قال: «مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الخَزَائِنِ؟» أي خزائن الثَّواب، «مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُراتِ؟» يريد أزواجه صلى الله عليه وسلم لأنَّهنَّ كنَّ في الحُجَرِ في زاوية المسجد «يَا رُبَّ كاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَ» أي تَلبس الملابس التي تُغطي بدنها «عَارِيةٍ يَوْمَ القِيَامَةِ» وذلك لأنَّها لم تَقدُم بعمل صالح وثواب جزيل.
{(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ لي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبْدَ الله لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ فَتَرَكَ قِيامَ اللَّيْلِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
هذا فيه فضيلة عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- وقوله: «لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ» فيه التَّحذير من الأفعالِ السَّيئةِ، ويؤخَذ مِن هذا استحبابُ عرضِ النَّماذجَ الطَّيبة التي يُقتدَى به بها.
قوله: «لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ فَتَرَكَ قِيامَ اللَّيْلِ» فيه استحبابُ المداومة على أفعالِ النَّوافل، وليس ذلك على سبيلِ الوجوب، وفي هذا أنَّ العملَ القليل اليسير في المداومة عليه يُنال به الإنسان الأجور المضاعفة.
{(وَعَنْ عَاصِمِ بنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بن أَبي طَالبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَهلَ الْقُرْآنِ، أَوْتِرُوا، فَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ ماجه وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي "صَحِيحه" وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: "حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ"-، وعَاصِمٌ مُخْتَلفٌ فِيهِ، وَلَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَوَّى هَذَا الحَدِيثَ بِقولِهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ:وعاصِمٌ يـُخَرِّجُ لَهُ الحاكمُ في "الـمُسْتدركِ"؛ فإنَّه يُخرِّجُ فِيهِ للضَعِيفِ والثِّقَةِ، والـمَتْرُوكِ وَالْمُتَّهَم)}.
قوله: (وَعَنْ عَاصِمِ بنِ ضَمْرَةَ) تقدَّم معنا البحث في حاله، وأنَّ الأظهر أنَّه صدوق وحديثُه مِن قبيل الحسن.
قوله فيه: «يَا أَهلَ الْقُرْآنِ» المراد به مَن يقوم اللَّيل بالقرآن «أَوْتِرُو» أي صلُّوا صلاة الوتر، وقد استدلَّ الإمام أبو حنيفة بهذه اللَّفظة على إيجاب صلاةِ الوِتر، والجمهور قالوا: إنَّها من المستحبات، فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن الواجب من الصَّلوات؟ قال: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ»[122] فدلَّ هذا على عدم وجوب غيرها.
وقوله: «أَوْتِرُو» هنا للتَّأكيد، ولذا قال: «فَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» في هذا استحباب التَّأكيد على صلاةِ الوترِ.
{(وَعَنِ الحَجَّاجِ بنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَمْرو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الله قدْ زَادَكُم صَلَاةً، وَهِي الوِتْرُ» رَوَاهُ أَحْمدُ وحَجَّاجٌ غيرُ مُحْتَجٍّ بِهِ، وَلم يَسْمَعْهُ مِنْ عَمْرو)}.
هذا الحديث استدلَّ به الحنفيَّة على إيجاب صلاةِ الوترِ، والجمهور لا يقولون بوجوبها، وقالوا: إنَّ الحديثَ في قوله: «قدْ زَادَكُم صَلَاةً» يشملُ صلاةَ النَّفل كما يشملُ صلاةَ الفريضة، وبالتَّالي لا يصحُّ أن يُستدلَّ به على أنَّ المراد هو إيجاب صلاة الوتر، والحجَّاج بن أرطاة قد تُكلِّم فيه وبعضهم قال: إنَّه مُدلِّس، فلا يُقبل مِن حديثه إلا ما صرَّح فيه بالسَّماع ولم يُصرِّح هنا بالسَّماع.
{(وَعَنْ أبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ زادَكُم صَلَاةً إِلَى صَلَاتِكُمْ، هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَم، أَلا وَهِي الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةِ الفَجْرِ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرً» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)
}.
هذه كلُّها تابعة لمسألة صلاة الوتر، هل هي واجبة أو لا؟ فالإمام أبو حنيفة يقول إنَّها واجبة، وهو يُفرِّق بين الواجب والفرض، لأنَّ الصَّلوات الخمس عنده فرض، يَكفر مُنكرها وجاحدها، وأمَّا صلاة الوتر فإنَّها واجبة وليست بفرض.
والجمهور على أنَّ صلاة الوتر ليست واجبة وإنَّما هي من المُستحبَّات؛ لأنَّه لما سُئل عن الواجب من الصَّلوات؟ قال: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ»، قال: هل علي غيرها؟ قال: «إِلا أَنْ تَطَوَّعَ»[123] فدل هذا على عدم وجوب صلاة الوتر.
وقوله: «زادَكُم صَلَاةً إِلَى صَلَاتِكُمْ» هذا لا يدلُّ على إيجاب هذه الصَّلاة، ولكنَّه قال: «أَلا وَهِي الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةِ الفَجْرِ» في هذا استحبابٌ وتأكيدٌ على سُنَّة الفجر.
هنا قول ثالث في الوتر يقول: إنَّ الوتر يجب على أهلِ القرآن الذين يُصلُّون باللَّيل، لأنَّه في الحديث السَّابق قال فيه: «يَا أَهلَ الْقُرْآنِ، أَوْتِرُوا، فَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» فوَجَّه الأمر لأهلِ القرآن، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة، والأظهر هو قول الجمهور بعدمِ إيجابِ صلاةِ الوترِ، وأنَّها من المستحبَّات المتأكِّدات وليست من الواجبات.
وقوله: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرً» من أدلَّة الحنفيَّة، الجمهور يقولون: إنَّ هذا الأمر إنَّما جاء على سبيل الإرشاد والتَّوجيه والنَّدب، لا على سبيل الإيجاب، قالوا: لأنَّه لم يجعله أمرًا مطلقًا وإنَّما قيده بجعل آخرِ الصَّلاة بالليل وترًا.
وقوله هنا دليل على استحبابِ أن يكونَ الوترُ آخر الصَّلوات، لكن لو قُدِّر أنَّ الإنسانَ صلَّى في أوَّلِ اللَّيل فأوترَ، ثم قامَ في آخره، فحينئذٍ الأولى أنَّه يُصلِّيها شفعًا بدون وترٍ، لأنَّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» وبالتَّالي يُصلِّي شفعًا بدون وترٍ، وقد ثبت أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى شفعًا بعد الوتر.
{(وَعَنْ أَبي سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي ثَمَانَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يُوتِرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالسٌ، فَإِذا أَرَادَ أَنْ يرْكَع قَامَ فَرَكَعَ، ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَين النِّداءِ وَالْإِقَامَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ. رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: سَبْعٌ، وتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، سِوَى رَكْعَتَي الْفَجْرِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْ طَلْقِ بنِ عَليٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّان وَالتِّرْمِذِيُّ-وَقَالَ: حَدِيثٌ حسنٌ غَرِيبٌ)
}.
هنا فيه عددُ الرَّكعات التي يُصلِّيها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل، فيه أيضًا عددُ ركعات الوتر، أنَّها قد تُصلَّى بإحدى عشر ركعة، وبتسعِ ركعات، وبسبعٍ، وبخمسٍ، وبثلاثٍ، وبواحدةٍ على الصَّحيح كما تقدَّم.
وقوله: (كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي ثَمَانَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يُوتِرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ جَالسٌ) فيه دليلٌ على جوازِ صلاةِ الشَّفعِ بعد صلاةِ الوترِ.
قال: (فَإِذا أَرَادَ أَنْ يرْكَع قَامَ فَرَكَعَ) يعني أنَّه يُصلِّي جالسًا، ثم إذا أراد أن يركع قام ليركع من قيامٍ، وقوله:  (ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) يعني سُنَّة الفجر (بَين النِّداءِ) الذي هو الأذان (وَالْإِقَامَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ).
(وقَالَ مَسْرُوقٍ: سَأَلتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: سَبْعٌ) يعني سبع ركعات (وتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، سِوَى رَكْعَتَي الْفَجْرِ) يعني سُنَّة الفجر، فهي لا تدخل في هذا العدد، وفيه دلالةٌ على جوازِ التَّنويعِ في العدد بين اللَّيالي في صلاةِ اللَّيلِ.
وقوله: «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» فيه دلالة على الاكتفاء بوترٍ واحدٍ، وأنَّ مَن أوترَ في أوَّلِ اللَّيل ثم قامَ في آخره فإنَّه لا يُوتر ويَكتفي بالوترِ السَّابقِ.
لعلَّنا نقفُ على هذا، بارك الله فيكم، ووفَّقكم الله لكلِّ خيرٍ، وجعلكم الله من الهداةِ المهتدين، كما نسأله -جلَّ وعلا- صلاحًا لأحوالِ الأمَّة، واستقامةً لأمورها، ونسألُه أن يُوفق ولاةَ أمورِ المسلمين لكلِّ خيٍر، وأن يجعلهم مِن أسباب الهدى والتُّقى والصَّلاح والسَّعادة والفلاح، كما نسأله -جلَّ وعلا- أن يَرزق الجميع علمًا نافعًا وعملًا صالحًا ونيَّةً خالصةً.
اللهمَّ ارزقهم علمًا بكتابِك وفهمًا له، وعلمًا بسُنَّة نبيك وفهمًا لها، وعملًا بهذين الأصلين العظيمين.
هذا -والله أعلم- وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
-------------------------
[118] البخاري (1183) عن عبدالله المزني، وبوب عليه الإمام البخاري رحمه الله بقوله: باب الصلاة قبل المغرب.
[119] صحيح مسلم (756).
[120] صحيح البخاري (3569).
[121] صححه الألباني في صحيح الجامع (893).
[122] صحيح مسلم (11)
[123] سبق تخريجه في الحديث السابق

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك