الدرس الثالث

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3039 23
الدرس الثالث

المحرر في الحديث (4)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور: سعد بن ناصر. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ}.
الله يحييك، أرحب بك، وأرحب بأحبتي من المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وَعَلَا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{اللهم آمين..
نستفتح هذه الحلقة -بإذن الله- من قول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (بَابُ الْخِيَارِ فِي النِّكاح وَذِكْرِ نِكَاحِ الْكُفَّارِ.
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ: خُيِّرَتْ عَلَى زَوجِهَا حِيْنَ عَتَقَتَ، وأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالبُرْمَةُ عَلَى النَّارِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأَدَمٍ مِنْ أَدَمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: «أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً عَلَى النَّارِ فِيهَا لَحْمٌ؟» فَقَالُوا: بلَى يَا رَسُولَ اللهِ, ذَلِك لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ، فَقَالَ: «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ»، وَقَالَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَلهُ عَنْ يزِيدَ بنِ رُومَانٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ زوجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا.
وَعَنْ الْأَسودِ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ زوجُ بَرِيرَةَ حُرًّا فَخَيَّرَها رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفْظُهُ وَقَالَ: "حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ"، قَالَ إِبْرَاهِيمُ بنُ أَبي طَالبٍ: "خَالَفَ الْأسْوَدُ بنُ يزِيدَ النَّاسَ فِي زَوجِ بَرِيرَةَ قَالَ: إِنَّهُ حُرٌّ، وَقَالَ النَّاسُ: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا".
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، فَلَمَّا أَعْتَقَتُهَا, قَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اخْتَارِي، فَإِنْ شِئْتِ أَنْ تَمْكُثِي تَحْتَ هَذَا العَبْدِ، وَإِنْ شِئْتِ أَنْ تُفَارِقِيْهِ»)
}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعد: فيقول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (بَابُ الْخِيَارِ فِي النِّكاح)، يعني: ما هي المسائل التي يُعطَى للمرأة حق فسخ النِّكاح فيها، فهذا هو المراد بالخيار في النِّكاح.
وأما قوله: (وَذِكْرِ نِكَاحِ الْكُفَّارِ)، أي: هل عقود أنكحتهم عقودٌ صحيحة يجوز البقاء عليها، أم لابدَّ من تجديدها؟
وقد ذكر المؤلف ثلاثة أحاديث في أوائل هذا الباب تتعلق بحديث بريرة، وكلها من رواية عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها:
أولها: حديث متفقٌ عليه، (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ)، بريرة هي امرأة كانت في زمن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حدثت لها قصص مُتعددة، وكانت في أول أمرها مملوكة، فزُوِّجَت برجلٍ يُقال له: مغيث، ثم عتُقَت بريرة، فخُيَّرَت بينَ البقاء مع زوجها، وبين مُفارقته؛ فاختارت مفارقة الزوج، فأخذ العلماء من ذلك أنَّ مَن أُعتقت فإنَّه يكون لها الخيار في إمضاء النِّكاح وإبقائه، أو في فسخ عقد النِّكاح.
وإذا كان الزوج مملوكًا فهذا بالاتفاق، وأما إذا كان حرًّا ففيه خلاف بين أهل العلم نتيجة الاختلاف بين الرواة في حال مغيث هذا؛ هل كان عبدًا أو كان حرًّا.
بعد ذلك جاء إليها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليشفع عندها في أن تعود إليه، فإنَّه كان يمشي في الأسواق يبكي من محبته لها، فقالت: "يا رسول الله أتأمرني؟" قال: «لا، إنما أنا شافع». فقالت له -رَضِيَ اللهُ عَنْها: "إذن لا حاجة لي فيه".
قال عائشة: (كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ)، أي: ثلاث أحكام منسوبة إلى سنة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليس المراد بالسنن هنا المستحبات، وإنما المراد: الأحكام المنسوبة إلى سُنة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الحكم الأول: (خُيِّرَتْ عَلَى زَوجِهَا حِيْنَ عَتَقَتَ)، فكانت مملوكة، وكانت مُتزوجة، فلمَّا عتقت خُيِّرَت بين فسخ النِّكاح وإبقائه وإمضائه؛ فاختارت الفسخ.
فالمقصود أنَّ السُّنَّة الأولى: أنَّ المملوكة إذا عُتقَت فإنَّها تُخيَّر في بعض الأحوال أو في جميعها.
السُّنة الثانية: قالت: (وأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ)، أي: أُهدِيَ لبريرة لحم، وفي هذا إطلاق لفظ الهدية على الصَّدقة، وفيه شُحًا كان عليه حال النُّبوَّة في بيت النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قالت عائشة: (فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، عائشة هي التي أعتقت بريرة، فبقيت عندها.
قولها: (وَالبُرْمَةُ عَلَى النَّارِ)، البرمة: القِدر الذي يُصنع من الحجارة، وكانوا في الزَّمان الأول يَطبخون فيه، وفي هذا جواز طبخ الطعام داخل البيوت.
قالت عائشة: (فَدَعَا بِطَعَامٍ)، أي: دعا النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بطعام، وفيه خدمة المرأة لزوجها، فإنَّ عائشة كان تخدم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولذلك كان يَطلب منها الطعام.
وفيه: أمر الزَّوج لزوجته فيما يتعلق بشأن أهل البيت.
والعلماء لهم ثلاثة أقوال في حُكم طاعة المرأة لزوجها:
- منهم من يقول بوجوب ذلك، لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرً﴾ [النساء: 34]، ولظواهر الأحاديث الواردة في السُّنَّة من كون النِّساء يُطعنَ أزواجهنَّ ويقمنَ بخدمتهم، ومنها هذا الخبر.
- وهناك من قال: إنَّ مرجع الأمر على أعراف النَّاس، فإن تعَارف النَّاس على خِدمةِ المرأة لزوجها وطاعتها له لزمها؛ لأنَّ هذا مبنيٌّ على أنَّ مَن ما كان مَعروفًا في أعراف النَّاس كانَ بمثابةِ المشروط فِي عَقدِ النِّكاح.
والقول الأول هو قول كثيرٍ من أهل العلم، والقول الثَّاني هو قول الإمام مالك.
- وهناك مَن رأى أنَّ طاعة الزَّوج ليست واجبة، ولكنه يُخالف ظواهر هذه الأخبار.
وليُعلم أنَّه في مُقابل هذا يجب على الزَّوج أن يُنفق على زوجته، ولا يعني الأمر إساءة العِشرة أو مُعاملة المرأة بالسوء؛ بل يكون ذلك برفقٍ ولينٍ وبمودَّةٍ وأُلفةٍ.
قالت عائشة: (فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأَدَمٍ مِنْ أَدَمِ الْبَيْتِ)، الخبز: معروف، يُصنع من القمح -البر.
والأدم: يكون من الزيت، ونحوه.
فالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى لحمًا يُطبَخ، والآن لَمَّا طلبَ الطَّعام أُتيَ له بالخبزِ والأدم، وفي هذا جواز إطلاق اسم الطعام على ذلك.
فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً عَلَى النَّارِ فِيهَا لَحْمٌ؟»، فيه مُناقشة الرَّجل لأهل بيته فيما يتعلق بحوائجه ونفقاته.
فَقَالُوا: (بلَى يَا رَسُولَ اللهِ)، يعني: كان هناك لحم، ثُمَّ اعتذروا فقالوا: (ذَلِك لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ)، وذلك أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أخبر بأنَّ الصَّدقة لا تحل له ولا لأهل بيته، ولذلك تحرَّجوا من أن يُعطوه من هذا اللحم وهو لحمِ صدقةٍ.
قالوا: (فَكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ»)، وفي هذا أنَّ المال لا يكون له حُكمٌ في ذَاته، وإنما يتبدَّل حُكمه بتبدُّلِ سبب تملُّكه، ومن هنا كان هذا المال في أول الأمر صدقة لَمَّا كان عند بريرة، فلمَّا أهدته أصبح هدية وليس صدقة فحلَّ لآل محمد.
والأموال على ثلاثةِ أنواعٍ:
النوع الأول: أموالٌ محرمة لعينها ولذاتها، فلا تَحِل بأي وجه، مثل: الخنزير والخمر.
النوع الثاني: أموالٌ تتعلق حرمتها لتعلق حقوق الآخرين بها، كالمغصوب والمسروق، ونحو ذلك؛ فهذه يَلزم إرجاعها لأهلها، ويحرم للإنسان أن ينتفع بها، ولا يجوز لإنسان أن يَشتريها، ولا يجوز له أن يتصرف فيها بعد الشراء؛ بل يجب إعادتها لأهلها.
النَّوع الثَّالِثُ: ما كان ممنوعًا منه لكسبه: ومن ذلك الصدقة هنا.
فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»، وهذه هي السنَّة الثالثة في بريرة، وذلك أنَّ مُلَّاكها اشترطوا على عائشة لما أرادت شراءها أن يكون الولاء لهم، بحيث تتبعهم، ويكون لهم بها علاقة، ولو قُدر موتها لورثوها، فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعائشة: «اشتريها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق».
 وفي هذا دليل على أن الشروط الفاسدة لا تفسد العقد كما قال الحنابلة.
 وفي هذا إنما تفسد الشروط في ذاتها.
 وفي هذا لُحُوق أمر الولاء بِأَمر الإِعْتَاق، فمن أعتق فهو صاحب الحق في الولاء.
 وفي هذا أن الولاء يكون لمن أعتق.
وقد أشار المؤلف إلى رواية أخرى: (كَانَ زوجُ بَرِيرَةَ عَبْدً)، أي: مملوكًا.
بينما قال الْأَسودِ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (كَانَ زوجُ بَرِيرَةَ حُرًّ)، وهذا الحديث عند أهل السُّنن، لكن أهل العلم قالوا: إنَّ لفظة (كَانَ زوجُ بَرِيرَةَ حُرًّ)، هذا من إدراج أسود النَّخعي لهذه اللفظة في هذا الحديث، ولذلك رأوا عدم تصحيح هذه اللفظة، ومن هنا كان الجماهير يرون أنَّ زوج بريرة كان عبدًا مملوكًا وليس بِحُرٍّ.
قالوا: "أخطأ الأسود في هذه الرواية".
قوله: (فَخَيَّرَها رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه دلالة على إثبات التَّخيير في هذه الحال.
قال الترمذي: (حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)، ولكن -كما تقدم- أنَّ فيه علة الإدراج، وهذا من الأمثلة على الإدراج الذي يكون في أول الخبر.
قال: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ بنُ أَبي طَالبٍ: "خَالَفَ الْأسْوَدُ بنُ يزِيدَ النَّاسَ فِي زَوجِ بَرِيرَةَ قَالَ: إِنَّهُ حُرٌّ، وَقَالَ النَّاسُ: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا")، وبالتَّالي تكون روايته شاذَّة، حيث خالف مَن هو أوثق منه.
ثم أورد المؤلف خبرًا ثالثًا بإسنادٍ جيد، وهذا الحديث من رواية أسامة بن زيد الليثي، وهو صدوق، فيكون الخبر حسن الإسناد. قال: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ).
إذن رواية القاسم ورواية عُروة؛ كلهم يقولون: إنه كان عبدًا، وخالفهم الأسود فقال: "كان حرًّا"؛ فتُقدَّم رواية الأكثر.
قال: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، فَلَمَّا أَعْتَقَتُهَ)؛ لأنَّ عائشة اشترت بريرة مَن القوم.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لبريرة: «اخْتَارِي»، أي: اختاري بين البقاء مع زوجك المملوك، أو فسخ النِّكاح.
قال: «فَإِنْ شِئْتِ أَنْ تَمْكُثِي تَحْتَ هَذَا العَبْدِ، وَإِنْ شِئْتِ أَنْ تُفَارِقِيْهِ»، فيه دلالة على أنَّ هذا الحق في الخيار إنما هو لحق المملوكة التي أُعتقَت، وبالتالي لها الخيار بين إمضاء عقد النِّكاح وبين إلغائه.
وبعض أهل العلم قَصَر ذلك على ما لو كان الزوج مملوكًا، وآخرون رأوا عموم النَّص فشملوا به ما لو كان حرًّا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلمَةَ الثَّقَفِيُّ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَسْلَمْنَ فَأَمَرَهُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا. رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ البُخَارِيُّ: "هُوَ حَدِيثٌ غَيرُ مَحْفُوظٍ"، وَتَكَلَّمَ فِيهِ أَبُو زرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَغَيرُهُمَا.
وَعَنِ الضَّحَّاكِ بنِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ- وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ البُخَارِيُّ، وَفِي لَفظِ التِّرْمِذِيِّ: «اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ»)
}.
أورد المؤلف هنا حديثًا فيمن تزوَّج مَن لا يحل له، ومَن تزوج من لا يحل له فأسلم لا يخلو:
- إما أن تكون محرمة لعينها: كما لو تزوج أخته، أو تزوج عمته، أو خالته؛ فإن بعض الأديان كالمجوسيَّة تُجيز ذلك، فمثل هذا يجب عليه المفارقة، ولا يجوز له البقاء.
- أو تكون محرَّمة من أجل الجمع أو تجاوز العدد: ففي هذه الحال: هل يطلق النساء جميعًا؟ أو لا يفارق إلا من تزوجها أخيرًا؟ أو أنه يختار بينهنَّ؟
أورد فيه حديث ابن عمر، وفيه علَّة، وهوي أنه من رواية معمر بن راشد الصنعاني، ومعمر لما ذهب إلى العراق لم يذهب بكتابه، فحصلت أغاليط في رواياته في العراق، ولذلك تكلم بعض أهل العلم في روايته، خصوصًا أن معمرًا هنا رواه عن الزهري عن سالم عن ابن عمر -متَّصلًا- بينما كان ما يُحدِّث به من حديث الزهري مرسلًا، ومراسيل الزُّهري ضعيفة؛ لأنَّه يُسقط حتى الضعفاء، ولذلك حَكَمَ كثير من أهل العلم على هذا الخبر بأنَّه معلول، وأن الصواب فيه أنَّه مرسل.
قال: (أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلمَةَ الثَّقَفِيُّ)، من قبيلة ثقيف، وهي قبيلة عربية في الطائف، ولازالت مشهورة إلى يومنا هذا.
قال: (أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلمَةَ الثَّقَفِيُّ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ)، الحد المشروع هو أربع لقوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: 3].
قال: (فَأَسْلَمْنَ)، أي العشر نسوة أسلمنَ معه.
قال: (فَأَمَرَهُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْهُنَّ أَرْبَعً)، معنى هذا: أن يفارق سائرهنَّ.
وظاهر هذا الخبر أنَّه يختار أيّهما شاء، سواء تزوجها أولًا أو تزوجها أخيرًا، وأشار المؤلف إلى بعض الضعف في هذا الحديث.
الحنفية يقولون: يجب عليه الإبقاء على الأربع الأول، وما بعدهن فإنه يفارقهنَّ.
وهذا مخالف لظواهر الأخبار الواردة في هذا الباب، وظاهر هذا الخبر الذي معنا أنَّه اختار أربعًا منهنَّ وفارق سائرهن.
ثم أورد حديث الضَّحَّاكِ بنِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ، وهذا الحديث تكلم فيه أهل العلم من جهة جهالة طبقة رواته، وبالتالي يحتمل أن يكون موقوفًا.
يقول الإمام البخاري: "لا يُعرف سماع بعضهم من بعض".
قال: (عن الضَّحَّاكِ بنِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ؟)، من الملعوم انه لا يجوز المع بين الأختين لقوله تعالى: ﴿وَان تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: 23].
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ»، لذلك فإنَّ الجمهور يرون أنَّ مَن أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، أو أسلم وعنده أخوات؛ فإنَّه يُقال له: تخيَّر من التي تريدها أن تبقى معك وفارق البقيَّة. وهذا مذهب الجمهور.
أما الحنفية فيقولون: النِّكاح الأول هو الصحيح، وما عداه فإنَّه لا يكون صحيحًا.
قوله هنا: «طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ»، هل المفارقة تحتاج إلى تطليق؟
قال طائفة: تحتاج إلى تطليق.
وقال الجمهور: لا تحتاج إلى تطليق، وذلك أنه إذا اختار كان ذلك بمثابة الفسخ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: رَدَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ بعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكاح الأَوَّلِ وَلم يُحْدِثْ نِكَاحًا. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ وَقَالَ: "لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ" وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَكَذَلِكَ صَحَّحَهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَغَيرُ وَاحِدٍ.
وَعَنْهُ قَالَ: أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَزَوَّجَتْ، فجَاءَ زَوجُهَا إِلَى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَسْلَمْتُ وَعَلِمَتْ بِإِسْلَامِي؟ فانْتَزَعَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ زَوجِهَا الآخَرِ وردَّهَا إِلَى زَوجِهَا الأَوَّلِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ)
}.
هذان حديثان وردَ في تفسيرهما وشرحهما كلام كثير لأهل العلم؛ يقولون: كيف يُراجعها بعد ست سنين ولم يُحدث نكاحًا جديدًا؟
هذا الحديث هو من رواية داود بن الحصين عن عكرمة، ورواية داود عن عكرمة لأهل العلم فيها كلام.
قال: (رَدَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ)، أبو العاص بن الربيع هو زوج زينب في الجاهلية.
قوله: (بعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكاح الأَوَّلِ وَلم يُحْدِثْ نِكَاحً)، يعني: لم يُحدث نكاحًا جديدًا.
وبالتالي استشكل أهل العلم يُفارقها ست سنين، ثم بعد ذلك لا يحتاج إلى نكاح؟
فنقول في مثل هذا: إنَّ تحريم بقاء المرأة المسلمة مع الرجل الكافر إنما جاء في أواخر السنة السادسة، ومجيء أبي العاص إليهم كان في بداية السنة السابعة، فتبدأ عدتها بنزول الحكم بمفارقة المسلمة للكافر، فلمَّا نزلت الحكم نوت الفِراق وفارقته وبدأت تعتد، فلمَّا جاء بداية السَّنة السَّابعة وعدتها لم تنتهِ بعد جاء أبو العاص مرة أخرى؛ فأرجع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زينب إليه بالنِّكاح الأول، لأنها لازالت في مدة العدة.
ولذلك نقول: لو ارتدَّ الزَّوج فإنَّنا لا نحكم بقطع العلاقة بينها وبينه حتى نُراعي مُدَّة العدَّة.
ونقول: إذا أسلمت الزوجة، والزوج لم يُسلم؛ فإننا نفرق بينهما ونقول: العقد مراعى؛ فإن أسلم الزوج والزوجة لازالت في العدة رجعت إليه، وإن لم يُسلم إلا بعد انتهاء العدة فحينئذٍ لا ترجع إليه إلا بعقدٍ جديد ومهر جديد.
ثم أورد من حديث ابن عباس أيضًا، قال: (أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَزَوَّجَتْ)، كانت متزوجة وعندها زوج، فلمَّا جاءت إلى المدينة أسلمت، فتزوَّجت من أحد الصحابة.
قال: (فجَاءَ زَوجُهَا إِلَى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَسْلَمْتُ وَعَلِمَتْ بِإِسْلَامِي؟)، فكيف تتزوج برجلٍ ثانٍ وأنا قد أسلمتُ.
قال: (فانْتَزَعَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ زَوجِهَا الآخَرِ وردَّهَا إِلَى زَوجِهَا الأَوَّلِ).
إذن عندنا أوجه:
- إذا أسلمت المرأة والزوج باقٍ على كفره: ننتظر مدَّة العدَّة، إن انتهت العدة انفسخ النِّكاح، فما دامت في العدَّة فإن أحكام الانتظار باقية في حقِّها.
- أمَّا إذا أسلم الزَّوج والزَّوجة لم تسلم؛ فلا يخلو:
* إن كانت كتابية: جاز له الاستمرار معها بلا إشكال.
* إن لم تكن كتابية: إن كان قبل الدخول فُرِّق بينهما، وإن كان بعد الدخول انتظرنا مدَّة العدة.
وهذا الخبر من رواية سماك بن حرب، وهو صدوق، ولكن روايته عن عكرمة لأهل العلم فيها كلام.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الصَّدَاقِ
عَنْ أَبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً ونَشًّا. قَالَتْ: أَتَدْرِي مَا النَّشُّ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ، فَتِلكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَزْوَاجِهِ. رَوَاهُ مُسلمٌ)
}.
المراد بالصَّداق: المهر الذي يدفعه الزوج للزوجة بسبب عقد الزوجيَّة.
والصواب أنَّ الصَّداق أثرٌ من آثار عقد النِّكاح، فليس شرطًا فيه ولا ركنًا، خلافًا لكثيرٍ من الفقهاء.
إذا سُمِّيَ الصَّداق فحينئذٍ يلزم ذلك الصداق المسمى بالدخول أو بالخلوة أو بالوفاة، وإذا لم يُسمَّ الصَّاق؛ فننظر إلى أمثالها كم مقدار ما يُدفَع في مهورهنَّ، وذلك إذا كان بعد الدخول.
قال: (عَنْ أَبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟)، يعني كم دفع لأزواجه.
قَالَتْ: (كَانَ صَدَاقُهُ لأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً ونَشًّ).
الأوقية: مقدار وزن معيَّن.
والنش: نصف أوقيَّة.
وفي هذا دلالة على جواز مشاركة الناس في أفراحهم وزواجاتهم.
وفيه استحباب التَّخفيف في المهور.
قَالَتْ عائشة لأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: (أَتَدْرِي مَا النَّشُّ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا, قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ، فَتِلكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأزواجه).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أعتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقهَا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ لَمَّا تَزوَّجَ عَليٌّ فَاطِمَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْطِهَا شَيْئً»، قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ, قَالَ: «فَأَيْنَ دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةُ؟» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو يعْلى الـمَوْصِلِيِّ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ)
}.
قال المؤلف: (وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أعتَقَ صَفِيَّةَ)، هي صفية بنت حيي، وكانت أُسرَت في يوم خيبر، فوقعت في نصيب بعض الصَّحابة، فجاء مَن جاء إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "يا رسول الله، امرأة من النساء لا تصلح لأحد سواك"، فطلبها ممن هي في نصيبه، فأعطيت له -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكانت من نصيب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبعد ذلك أعتق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صفية، وجعل عتقها صداقها، فالعتق كأنه بمثابة مالٍ يُدفَع، فجعله جزءًا من الصَّداق.
وبعض أهل العلم منع من أن يكون ذلك صداقًا صحيحًا، فقال: لابدَّ من مسمَّى، ولكن ظاهر الخبر جواز الاكتفاء بذلك كما قال الحنابلة خلافًا لغيرهم.
ثم أورد المؤلف من حديث أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: (لَمَّا تَزوَّجَ عَليٌّ فَاطِمَةَ)، فيه الزواج ببنات الأنبياء.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْطِهَا شَيْئً»، "أعطِ" فعل أمر، وهذا يدل على أنَّ المهر والصداق من الواجبات.
قال: (مَا عِنْدِي شَيْءٌ)، يعني لا يوجد شيء أقوم بدفعه إليك كمهرٍ لفاطمة.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَيْنَ دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةُ؟»، كان قد أخذها في معركةٍ سابقةٍ، وبالتَّالي يُذكره النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتلك الأموال.
هذا الحديث قد رواه عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس به، وظاهر هذا الخبر يدل على الصِّحَّة، وعبدة بن سليمان سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل أن يختلط، ولكن روى حمَّاد بن سلمة ما يُخالف هذا الخبر، فرواه من طريق أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عن علي، فجعله من حديث علي.
وقوله: «أَعْطِهَا شَيْئً»، "شيئًا" هنا نكرة في سياق الإثبات؛ فيدل على أنَّ ( شيء ) يُجزئ كما قال الشَّافعي وأحمد.
بينما قال مالك: لابدَّ أن يكون المال أكثر من ربع دينار.
وقال الإمام أبو حنيفة: لابدَّ أن يكون عشرة دراهم فما زاد.
قال: (مَا عِنْدِي شَيْءٌ)، أي: ما عندي مال أتمكن به من دفعه لفاطمة.
فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَيْنَ دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةُ؟»، سُمِّيَت بهذا الاسم لأن السيوف تتكسر عند هذه الدرع.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ عَلَى صَدَاقٍ أَو حِبَاءٍ أَو عِدَّةٍ قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكاح فَهُوَ لَهَا، وَمَا كَانَ بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكاح فَهُوَ لِمَنْ أُعْطِيَهُ، وأَحَقُّ مَا أُكْرِمَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ ابْنَتُهُ أَو أُخْتُهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه)}.
عبد الملك بن جريج من رواة الأحاديث ولكنه يُدلس، فلا يُقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع، وهنا لم يأتِ تصريح بالسَّماع، ولكن ورد عند النسائي هذا الخبر وقد صرَّح فيه بالتحديث، فنكون حينئذٍ قد أمِنَّا التدليس.
وعمرو بن شعيب ثقة، لكن أباه صدوق حسن الحديث، وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص؛ ومن ثَّم يكون هذا الحديث حسن الإسناد.
قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ عَلَى صَدَاقٍ أَو حِبَاءٍ أَو عِدَّةٍ قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكاح فَهُوَ لَهَ»:
الصداق: يعني ما يُدفع للمرأة من صداق من المهر
الحباء: الهدايا.
العدة: ما يوعد به الإنسان، ثم يُعطَى بعد ذلك.
حكم هذه الأموال: أنها للمرأة.
قال: «وَمَا كَانَ بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكاح فَهُوَ لِمَنْ أُعْطِيَهُ»، يعني يقول مثلًا: هذه ألف لأبيها، وهذه ألف ريال لعمِّها، وهذه ألف ريال لولد عمها؛ فهو ما أعطى والدها أو عمها إلا من أجلها؛ يُريد أن يُكرمها بإكرامهم، فالظاهر أن يكون المال لها. وهذا أحد المذاهب في هذا الباب.
وقال الإمام مالك: جميع المال للمرأة، وليس للأب شيء.
وقال الإمام أحمد: المال المسمى للأب؛ لأنَّه هو الذي من أجله أُعطي، ولا يكون لغيره من الأولياء.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ إِبْرَاهِيم, عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّه سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلم يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلم يَدْخُلْ بهَا حَتَّى مَاتَ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا العِدَّةُ، وَلها الْمِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ امْرَأَةً مِنَّا مِثْلَ مَا قَضَيْتَ، فَفَرِحَ بهَا ابْنُ مَسْعُودٍ. رَوَاهُ أَحْمدُ وأَبُو دَاود وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ وَهَذَا لَفْظُهُ-، وَكَذَلِكَ صَحَّحَهُ غَيرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَتَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِي صِحَّتِهِ)}.
هذا الحديث رواه ابن مسعود، والإمام الشافعي قال فيه: "إن كان قد ثبت هذا الخبر فهو أولى الأمور، ولا حجة لأحدٍ بعد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإن كثروا، ولا في قياس، فلا شيء في قوله إلا طاعة الله بالتَّسليم له".
ولذلك بعض أهل العلم شكَّكَ فيه، وأهل الحديث يقولون: هذا حديث ثابت صحيح عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّه سُئِلَ)، ابن مسعود أصبح من مفتي الصحابة في العراق.
قال: (عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلم يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقً)، يعني: لم يُسمِّ الصَّداق، وذلك أن النساء على أربعة أحوال:
الحالة الأولى: أن تكون مدخول بها قد سُمِّي لها الصداق فهذه واضحة، فالصداق مسمى وقد دخلت بيته؛ فتأخذ المهر كاملًا.
الحالة الثانية: امرأة مسمى لها الصداق، ولكن الزوج لم يدخل بها، ثم حصلت فُرقَة من قبله؛ فحينئذٍ يكون للمرأة نصف المهر.
الحالة الثالثة: امرأة لم يذكر لها مهرًا وتزوجها، فيصح العقد ولكن يجب مهر المثل، فيُبحث عن مثلها من النساء ونوجب لها مهر مثلها.
الحالة الرابعة: لم يفرض لها مهرًا وطلقها قبل الدخول بها؛ فهذه ليس لها مهر، لا المسمى كاملًا ولا نصف المسمى ولا مهر المثل؛ وإنما يجب لها المتعة.
قال: (سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلم يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلم يَدْخُلْ بهَا حَتَّى مَاتَ؟).
هنا ترثه المرأة، ويجب عليها العدَّة، ويجب لها مهر المثل.
فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَ)، أي: مهر المثل.
قال: (لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ)، أي: لا نقص ولا جور.
قال: (وَعَلَيْهَا العِدَّةُ)، عدَّة الوفاة -أربعة أشهر وعشرة أيام.
قال: (وَلها الْمِيرَاثُ).
فهناك ثلاثة أحوال يثبت بها المهر كاملًا:
- الدخول.
- الخلوة الكاملة.
- الوفاة.
فلو عقد على امرأة ومات؛ فحينئذٍ يجب لها المهر تامًّا.
قال: (فَقَامَ مَعْقِلُ بنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ)، هو رجل من العرب.
فَقَالَ: (قَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ امْرَأَةً مِنَّا مِثْلَ مَا قَضَيْتَ)، فوافق اجتهاد ابن مسعود الرواية الواردة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (فَفَرِحَ بهَا ابْنُ مَسْعُودٍ)، فرح بها ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لموافقة اجتهاده لسنة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
بارك الله فيك، وجزاك الله خيرًا، ووفق لكل خير، وجعلنا الله وإياك من الهداة المهتدين، كما نسأله -جلَّ وَعَلَا- أن يصلح أحوال الأمة، وأن يردهم إلى دينه ردًّا حميدًا، وأن يوفق ولاة أمورهم لكل خير، وأن يجزي خادم الحرمين الشريفين وولي عهده كل خير، وأن يجعلهم من أسباب الهدى والتقى والصلاح والسعادة، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك