الدرس الثاني والعشرون

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3040 23
الدرس الثاني والعشرون

المحرر في الحديث (4)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{اللهم آمين..
في هذه الحلقة -بإذن الله- نشرع في حديث (وَعَنْ هَمَّامٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطاءِ بنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تكْـتُـبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَليَّ -قَالَ هَـمَّامٌ: أَحْسَبُهُ قَالَ:- مُتَعَمِّدًا فَليَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»)}.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ أوَّلُ هذا الحديث فيه النَّهي عن كتابةِ الأحاديثِ النَّبويَّة، وكان ذلك في أوَّلِ الإسلام، وذلك خشيةً من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يختلِطَ القرآنُ بالسُّنَّة، ولكن لَمَّا استقرَّ الأمرُ وحَفِظَ طائفةٌ كثيرةٌ من الصَّحابةِ كتابَ الله -عزَّ وجَلَّ- وارتفعت الخشية مِن اختلاط الكتاب بالسُّنَّة؛ أذن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالكتابةِ، فقال: «اُكْتُبُوا لأَبِي شَاه» ، وكان النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكتب بعض أحاديثه، وقال علي: "ليس عندي غير القرآن إلَّا ما في هذه الصَّحيفة".
وقال أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ" .
وبالتَّالي هذا الحكم أصبح مرفوعًا.
وفي الحديث:
 التَّرغيب في كتابةِ آياتِ القرآنِ.
 التَّرغيب في نَشْرِ المصحفِ مكتوبًا؛ لأنَّه قد فُهِمَ من هذا اللفظ التَّرغيب في الكتابة للقرآن.
 التَّرغيب في نقلِ أحاديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولذا قال: «وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ»، أي: لا إثمَ عليكم، كأنَّه لَمَّا منعَ الكتابة أجاز لهم الحديث بلا كتابةٍ.
ثم حذَّر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أمرٍ آخر؛ ألا وهو الكذب عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبيَّنَ أنَّه من كبائر الذُّنوبِ، فقال: «وَمَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّدًا فَليَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
وإنَّ مِن الأسباب التي تجعلنا نحكمُ على الفعل بأنَّه كبيرة: ورود الوعيد عليه بالنَّار.
ومِن أنواعِ الكذب: أن يُحدِّث الإنسانُ عن الكذَّابين، أو يُحدِّثُ بما يغلب على ظنِّه أنَّه لا تصح نسبته إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأُخِذَ من هذا المنع من التَّحديث بالأحاديثِ الضَّعيفة التي لا شاهدَ لها، خُصوصًا إذا كانَ ذلك على العوام.
وبعضُ النَّاس أجازَ أن يُحدَّثَ بالحديثِ الضَّعيفِ متى كانَ مُرغِّبًا في عملٍ صالحٍ قد ثبتَ بدليلٍ صحيحٍ، فإنَّ روايته إنَّما تحثُّ النَّاسَ على فعل ذلك الأمر الذي ثبتَ حكمه في الدليل الآخر، وأمَّا ما لم تثبت مشروعيَّته من الأعمال فإنَّه لا يجوز أن يُثبَتَ كونه من الطاعات بمجرد الأحاديث الضَّعيفة؛ لأنَّ هذه الأحاديث لم تثبت عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الدَّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «للهِ، ولِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، ولأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وعَامَّتِهِم»)}.
قوله: «الدَّينُ»، هنا مُبتدأٌ معرَّف، والأصل في المبتدأ المعرَّف أنَّه ينحصرُ في الخبرِ، فكأنَّه قال: الدِّين منحصرٌ في النَّصيحة.
وأصلُ كلمة "الدين": الطَّاعة التي تكون لله -جلَّ وعَلا.
وأمَّا قوله: «النَّصِيحَةُ»، فيُقصَدُ به: العملُ الصَّالح الذي لا مُخالطةَ للسُّوءِ فيه، فإذا قدَّمتَ خيرًا لغيرك فقد نصحتَه، وإذا أرشدته على ما ينفعه فقد نصحته.
قوله: (قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟)، أي: لِمَن نُقدِّم هذه النَّصيحة؟
فقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «للهِ»، والنُّصحُ كما قال تعالى: ﴿إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة:91].
والنُّصحُ لله: يكون بتوحيد ربِّ العزَّةِ والجلال، وإخلاصِ الأعماِل له، والرَّغبةِ في رضاه -سبحانه وتعالى- والأمل في فضله -جلَّ وعَلا.
قال: «ولِكِتَابِهِ»، النَّصيحةُ لكتابه تكونُ بصيانتِهِ والدَّعوةِ إليه، ونشرهِ بينَ الناس، والاستجابة لِمَا فيه من الأوامر.
قال: «وَلِرَسُولِهِ»، النَّصيحة لرسولِ الله تتضمَّنُ تصديقَه، وتتضمَّنُ القيام معه، ونصرة دينه.
قال: «ولأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ»، أئمَّة المسلمين: مَن لهم ولاية على المسلمين، والأصل أن تُطلَق على مَن له الولاية العامَّة، وقد تصدُق على مَن يكون أدنى من ذلك.
والنُّصحُ لأئمَّةِ المسلمين يكون بمعاونتهم على الطَّاعةِ، والاستجابةِ لهم فيما يأمرون به من غير المعاصي، وفي القيامِ معهم في تحقيق ما يعودُ بالنَّفعِ على العبادِ والبلادِ.
ومن النَّصيحة لهم: إرشادهم، وتذكيرهم، ولكن بشرط أن يكون على جهةِ السِّرِّ لا على جهةِ العلنِ.
قال: «وعَامَّتِهِم»، النَّصيحةُ لعامَّة المسلمين تكون بتمنِّي الخير لهم، وبإرشادهم ونصحهم، وبالقيام معهم ومعاونتهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلغُرَبَاءِ»)}.
قوله: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبً»، أي: لم يؤمِن به في أوَّلِ وقته إلَّا أفرادٌ قلائل، فكان الإسلام غريبًا في ذلك الزمان، يستغربه النَّاس ولا يتقبلونه.
قال: «وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَ»، أي: سينقُص ويتناقص حتى يكون غريبًا في الناس.
وفي هذا الحديث من الفوائد:
 أنَّ العبرة ليست بالكثرةِ، وإنَّما العبرة بانتهاج نهجِ الحقِّ والسَّيرِ عليه.
 وأنَّ العبدَ لا ينبغي به أن تضعف نفسه متى لم يجد مُعاونًا على الخير.
 وأنَّ الغُربةَ الحقيقيَّة هي ما يكونُ من غُربة الدِّينِ، وليس غُربة الأسفار.
قوله: «فَطُوبَى لِلغُرَبَاءِ»، أي: أنَّ المقام العالي في جنَّاتِ الخُلدِ تحتَ شجرةِ طوبى يكون للغرباء الذين كانوا على الحقِّ، أمَّا مَن كان غريبًا لكنَّه على باطلٍ فهذا مضادٌّ لِمَا أُريدَ بالحديث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»)}.
قوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ»، فيه جواز القَسَم ولو لم يُطلَب من الإنسان القَسَم.
قال: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ»، الأمَّة على نوعين:
 أمَّةُ الإجابة: وهم الذين استجابوا له، وهؤلاء من المسلمين.
 أمَّة الدَّعوة، وتشمل كل مَن وجبَ عليه طاعة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والاستجابة لدعوتِهِ.
قال: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»، فيه فوائد:
 أنَّ اليهوديَّةَ والنَّصرانيَّة أديانٌ مَنسوخة، وأنَّها قد رُفِعَت.
 وأنَّ اليهوديَّ والنَّصرانيَّ إذا سمع بالنَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَزِمَه أن يبحثَ عن حقيقته؛ ليستجيب له.
 وأنَّ مَن لم يسمع بهذه الدَّعوة الكريمة مِنَ اليَهود والنَّصارى فإنَّه لا يُعاقَبُ.
 فضيلةُ الإيمان بالله -جلَّ وعَلَا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِـيْـتَةً جَاهِلِيَّةً»)}.
قوله: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ»، أي: مَن نقَضَ البيعةَ، واعتقدَ أن لا ولاية لصاحب الولاية عليه.
قال: «لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ»، فإنَّ مَن أمرَ الله بطاعتهم حُجَّة على العباد، وفي هذا فوائد:
 وجوب طاعة صاحب الولاية والتَّأكيد على ذلك.
 وأنَّ النَّاس يحتجُّونَ يومَ القيامة، وأمَّا مَن خلعَ الطَّاعة فهذا يأتي يوم القيامة ولا حجَّةَ له.
 وجوب اعتقاد ولاية الأئمَّة، فلا تكفي المصافحة باليد؛ بل لابدَّ من اعتقاد في القلب أنَّ صاحب الولاية تجب طاعته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا بُويِعَ لِخَلِيفَتَينِ فَاقْتُلُوا الآخِرَ مِنْهُمَ»)}.
هذا الحديث فيه: تنظيم أحوال المسلمين، فقوله: «إِذا بُويِعَ لِخَلِيفَتَينِ»، أي: في مكانٍ واحدٍ، أمَّا إذا اختلفت بنيانهم فلكلِّ بلدٍ حكمه.
وفي هذا إطلاق اسم البيعة -وهو اسمٌ شرعيٌّ- على ما لا يُعتبَرُ شرعًا بيعةً.
قوله: «فَاقْتُلُوا الآخِرَ مِنْهُمَ»، أي: المتأخِّر في ادِّعاء الخلافة، وذلك أنَّ النَّاس إذا كان لهم إمامٌ واحدٌ استقرَّت أمورهم وسكُنَت أحوالهم، أمَّا إذا وُجدَ التَّنازُع من أصحابِ الولاية فسينتصر لهذا أشخاص ولذلك أشخاص؛ وبالتَّالي يقع بينهم من الاضطراب الشيء الكثير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»)}.
قوله: «مَنْ رَأَى مِنْكُم»، الأصل في الرؤية أن يُراد بها الرؤية الحقيقيَّة لا الرُّؤية المجازيَّة التي تشمل السَّماع.
وقوله: «مُنْكَرً» نكرة في سياق الشَّرطِ، فتكون عامَّة لجميع المنكرات.
قال: «فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ»، التَّغييرُ باليد إمَّا بإتلاف آلة المعصية، أو بمنعِ العاصي من العصيانِ، ونحو ذلك، والتَّغييرُ باليد إنَّما هو لأصحاب الولايات، مثل: الإمام الأعظم في دولته، ومثل: المدير في مدرسته، ومثل: المدرِّس في فصلِه، ومثل: الوالد في بيته ونحو ذلك.
قال: «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَبِلِسَانِهِ»، يعني: إذا لم يتمكَّن من تغيير المنكرِ بيده فليغيره بلسانه، يُبيِّن للناس أنَّ هذا الفعل منكر، وأنَّه مخالَفَةٌ للشَّرع.
قال: «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ»، أي: إذا لم يستطع التَّغيير لا باليدِ ولا باللسان فحينئذٍ نتوجَّه إلى قلبه، فنقول له: أَنكِر هذه المعصية.
قال: «وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»، أي: أنَّ هذا الإنكار بالقلب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ»)}.
في هذا الحديث:
 التَّرغيب في الدَّعوةِ والدِّلالةِ على الخير.
 وأنَّ جميعَ أنواعِ الخيرِ محمودةٌ ومحمودٌ أصحابها.
 تفضُّل الله -عزَّ وجَلَّ- على العبد الدَّاعي إلى أفعال الخير بأن يكون له مثل أجرِ مَن عمل ذلك الخير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُون وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِن مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»، فَقَالُوا: أَفَلا نُقَاتِلُهُم؟ قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْ»)}.
هذا الحديث بيانُ أنَّه ستكون أمراء في الزَّمان الماضي والزَّمان المستقبَل.
قوله: «فَتَعْرِفُون»، أي: يوجَد منهم أفعال من أفعال المعروف والخير.
قال: «وَتُنْكِرُونَ»، أي: ستجدون منهم أفعالًا أخرى هي محلٌّ للإنكار.
قال: «فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ»، هذه الرُّتبة الأولى، أي: مَن عرفَ أنَّ هذا منكر وكرِهَه بقلبه فقد تبرَّأ من فعل المنكر ومِن فاعله.
قال: «وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ»، هذه الرُّتبة الثَّانية، وهذا في الإقرارات في الغالب، يُقرُّ بشيءٍ ثم بعد ذلك ينكسُ.
قال: «وَلَكِن مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»، هذه الرُّتبة الثَّالثة، أي: إنَّما تكون الشَّرهةُ والعقوبةُ على مَن رضي بالمنكرات التي كانت تُفعَل وتابعها، فهو المؤاخَذ والمعاقب عليه إن لم يفعله.
قال: (فَقَالُوا: أَفَلا نُقَاتِلُهُم؟ قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْ»)، فيه أنَّ الأئمَّة والولاة إن كانوا من أهل الصَّلاة لا يجوز أن يُخرَج عليهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا سَافَرْتُمْ فِي الخِصْبِ فَأَعْطُوا الْإِبِلَ حَظَّهَا مِنَ الأَرْضِ، وَإِذَا سَافَرْتُم فِي السَّنَةِ فَبَادِرُوا بِهَا نِقْيَهَا وَإِذا عَرَّسْتُم فَاجْتَنبُوا الطَّرِيقَ، فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْهَوَامِّ بِالَّليْلِ»)}.
قوله: «إِذا سَافَرْتُمْ فِي الخِصْبِ»، المراد به: الأرض التي يكثُر فيها أنواع النبات.
قال: «فَأَعْطُوا الْإِبِلَ حَظَّهَا مِنَ الأَرْضِ»، أي: مَكِّنُوها من رعي الأرض.
قال: «وَإِذَا سَافَرْتُم فِي السَّنَةِ»، يعني: القحط والجدب.
قال: «فَبَادِرُوا بِهَا نِقْيَهَ»، يعني: أعطوها الطَّعام قبل أن تطلب هي.
قال: «وَإِذا عَرَّسْتُم»، أي: نزلتم آخر الليل.
قال: «فَاجْتَنبُوا الطَّرِيقَ»، أي: لا تجلسوا في الطريق.
قال: «فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْهَوَامِّ بِالَّليْلِ»، يعني: قد تعترض عليكم الدَّواب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا أَكَلَ أَحَدُكُم فَلْيَأْكُل بِيَمِينِهِ، وَإِذا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ»)}.
هذا الحديث فيه النهي عن الأكل بالشِّمال، والشُّرب بالشِّمال، وفيه النَّهي عن التَّشبُّه بالشَّيطان؛ لأنَّ ما ذُكِرَت هذه الأشياء إلَّا لأنَّها من صفات الشَّيطان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِيءَ»)}.
قوله: «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِيءَ»، وردت الأحاديث بالنَّهي عن الشُّربِ قائمًا.
وأوردَ هنا العلَّة في ذلك وهي أنَّ الشُّرب قائمًا من أسباب شيء من الأمراض ونحوها، ولذا أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن يستَسقِيَ الإنسان منه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي غَزْوَةٍ غَزَوْنَاهَا: «اسْتَكْثِرُوا مِنَ النِّعَالِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ»)}.
لُبس الحذاء فيه فوائد من وقاية القدم من هوام الأرض ومن رمضائها ونحو ذلك، فجابر يقول: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي غَزْوَةٍ غَزَوْنَاهَا: «اسْتَكْثِرُوا مِنَ النِّعَالِ»)؛ لأنَّ النِّعال يطرأ عليها أمور تشققها وتفرقها. قال: «فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدَّهُ، فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ طَيِّبُ الرِّيْحِ»)}.
هذه أحاديث فيها شيء مما يحتاج إليه الناس، ومن ذلك ما يتعلق بالهدايا، فالهدايا أمرٌ مرغوبٌ فيه، وينال به الإنسان الأجرَ الكثير، وقد ورد قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تهادوا تحابو»، فهذه الأفعال مرغَّبٌ فيها شرعًا.
قال: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ»، فيه جواز أن تُعرَض الهديَّة للمُهدَى له قبل أن تُهدَى له، فيُنظَر ما رأيه وكيف سيفعل بها. قال: «فَلَا يَرُدَّهُ، فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ طَيِّبُ الرِّيْحِ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَن سُلَيْمَانَ بنِ بُرَيْدَةَ، عَن أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيْرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ»)}.
قوله: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيْرِ»، النَّرْدَشِيْرِ: لعبة قائمة على المصادفة، يستعملون فيها الزَّهرة التي لها ستَّة أوجه، في وجهٍ نقطة واحدة، ووجه نقطتين، وهكذا..
وكانوا في السَّابق يلعبون هذه الألعاب ويضعونها في برنامجهم، ووردَ أنَّ عمر أنكر على النُّعمان بن البشير حينما تعامل مع بعض اليهود فكان يُعطيهم دوابَّه من أجل أن يستوفوا منها متى اغتنوا.
قوله: «فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ»، فيه أنَّ الخنزير نجس، وأنَّ لحمَه ودمَه من النَّجاساتِ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيرةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِـيْـبَـةُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ». أَخْرَجَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مُسلِمٌ)}.
هذا الحديث يشتمل على نوعٍ من أنواع الأدب الإسلامي الرَّفيع الذي جاء به ديننا القويم، ألا وهو: النَّهي عن ذكر معايب الآخرين، سواءٌ بحضرتهم أو لم يكن كذلك، وذلك أنَّه لا فائدة من مقابلة الآخرين بمثل هذا المُنقِص لحقوقهم.
قال: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِـيْـبَـةُ؟»، أي: هل تعرفون ما هي؟ وهل تعرفون الطَّريق الموصل إليها؟
قال: (قَالُوا: اللهُ وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ)، فردُّوا العلم إلى الله -جلَّ وعلا.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ»، أي: أمرٍ يكرهه، فإنَّه عندما يجلس عندك أو عندما تجلس معه تتذكَّر المنافع الكثيرة التي حصلت منه.
قال: (قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ»)؛ لأنَّ هذه حقيقة الغِيبَة.
قال: «وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ»، أخرجه مسلم.
أسأل الله -جلَّ وعلا- أن يوفقنا وإيَّاكم لكل خير، وأن يجعلنا وإيَّاكم من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك