الدرس الثالث والعشرون

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3042 23
الدرس الثالث والعشرون

المحرر في الحديث (4)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني وزملائي وأحبتي ممن يشاهدوننا في هذا اللقاء، وأسأل الله -جلَّ وعلا- لهم التوفيق لكل خيرٍ، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب الطِّبِّ.
قال المؤلف -رحمه الله: (كِتَابُ الطِّبِّ
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ دَاءٍ إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَن جَابرٍ عَن رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذا أُصِيْبَ دَوَاءُ الدَّاءِ، بَرِأَ بِإِذْنِ اللهِ». رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ أُسَامَةَ بنِ شَرِيكٍ قَالَ: قَالَتِ الْأَعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَتَدَاوَى؟ قَالَ: «نَعَمْ يَا عِبَادَ اللهِ، تَدَاوَوا، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، إِلَّا دَاءٌ وَاحِدٌ» قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: «الْهَرَمُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ-وَصَحَّحَهُ أَيْضًا.
وَعَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَدَاوَوا بِمُحَرَّمٍ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بنِ عَيَّاشٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بنِ مُسْلِمٍ الْخَثْعَمِيِّ الشَّامِيِّ، عَنْ أَبي عِمْرَانَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاء عَنْهُ، و(إِسْمَاعِيلٌ) فِيهِ كَلَامٌ، و(ثَعْلَبَةٌ) لَيْسَ بِذَاكَ الْمَشْهُورِ، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو عِمْرَانَ صَالحُ الحَدِيثِ، قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ.
وَعَنْ عَلْقَمَةَ بنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ وَائِلِ الْحَضْرَمِيِّ، أَنَّ طَارقَ بنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْخَمْرِ؟ فَنَهَاهُ، أَو كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا للدَّواءِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلكِنَّهُ دَاءٌ». رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي السَّكَرِ: إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُم فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُم. ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعً)
}.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فلا زال عُلماء الإسلام يعقدون بابًا يتحدَّثونَ فيه عن الأحكامِ الفقهيَّةِ المتعلِّقة بالطِّبِّ، وبابُ الطِّبِّ ليس مِن بابِ العباداتِ بحيث يُبحث فيه عن دليلٍ شرعيٍّ لكلِّ علاجٍ يستخدمه النَّاس، وإنَّما هو من أبوابِ العادات المعروفة بالتَّجارب والخبرات، ولذلك فلا نحتاج إلى دليلٍ شرعيِّ في كلِّ أمرٍ طبِّيٍّ.
والأمور الواردة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الطب على أنواع:
- فمنها ما ورد على جهةِ الفعل، فهذا يعتريه أشياء كثيرة، منها: أنه يحتمل أن يكون خاصًّا بأهل المدينة ومَن جاورهم، ومنها: ما يكون خاصًّا بالبلدان الحارَّة، وقد يكون خاصًّا بذلك الشخص الذي عالجه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- وهناك ألفاظ عامَّة قوليَّة، فهذه تبقى على عُمومها، ويُقرُّ بما جاء فيها، وقد يخفى وجه كون ذلك الأمر من أنواع العلاجات على ما سيأتي في بعض الأمور، وبالتَّالي فإنَّ العلاج قد يُعرَف من طريقين: من طريق الدَّليل الشَّرعيِّ، ومن طريق التَّجربة والخبرة.
- وقد يكون ما ورد فيه دليل بكونه علاجًا إنَّما يكون علاجًا باستعماله على طريقةٍ مُعيَّنةٍ، فمتى استعمل بغير تلك الطريقة قد لا يكون مُؤديًا للشِّفاء والعلاج -بإذن الله- ومن المعلوم أن أمر الشِّفاء والعلاج هو نعمة من الله، وهو قدرٌ من أقدار الله -عزَّ وجَلَّ- وقد يكون عند الإنسان من الموانع أو من فَقدِ الشُّروط ما يجعل الدواء غَير مُؤثِّرٍ فيه.
وأوردَ المؤلف عددًا من الأحاديث، أولها حديث أبي هريرة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ دَاءٍ إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً».
في هذا الحديث:
- فضل الله على العباد.
- إثبات أنَّ العلاج يَشفي، ولكنَّ شفاءه بأمر الله -سبحانه وتعالى- خلافًا لبعض الطَّوائف التي تقول: لا علاقة بين الدواء وبين الشِّفاء؛ فهذا الحديث ينقض مذهبهم.
- إثبات أن الأمراض والأدواء قدرٌ من أقدار الله -جلَّ وعَلا.
ثم أورد حديث جابر مرفوعًا: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذا أُصِيْبَ دَوَاءُ الدَّاءِ، بَرِأَ بِإِذْنِ اللهِ».
في هذا الحديث: إثبات أنَّ العلاج له تأثيرٌ في الشِّفاء، ولكنَّ ذلك التَّأثير مرتبط بقضاء الله -جلَّ وعَلا- وقدره.
ثم أورد حديث أُسَامَةَ بنِ شَرِيكٍ قَالَ: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَتَدَاوَى؟)، يعني: هل نبذل الأسباب في التَّداوي؟
لأنَّهم جاءهم وهمٌ بأنَّ أقدار الله جارية، فظنُّوا أنَّ الدَّواء لا يُؤثِّر ما دام أنَّ كلَّ شيءٍ مكتوب، ومن ذلك حال العلاج وحال الشِّفاء وحال المرض؛ فوردَ لهم هذا السؤال، ولذا قالوا: (أَنَتَدَاوَى؟)، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ يَا عِبَادَ اللهِ، تَدَاوَو»، وفي هذا دليلٌ على جواز التَّداوي.
والعلماء لهم أقوالٌ مَشهورةٌ في أحكام التَّداوي:
- فمنهم من يقول بكراهية التَّداوي، وقد ورد ذلك عن بعض فُقهاء الحنابلة، ولكن هذا القول محجوجٌ بمثل هذه الرِّواية، وليس من الاتِّكال على الله ترك التَّداوي؛ بل إنَّ التَّداوي سببٌ من الأسباب، وبالتَّالي فإنَّ فعله يُعدُّ من أسباب العلاج، وبالتَّالي لا يصح هذا القول.
- وقال طائفة: إنَّ التَّداوي واجبٌ؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في هذا الحديث: «تَدَاوَو»، والأصل في الأوامر أن تكون للوجوب.
- وقال آخرون: إنَّ التَّداوي مُستحبٌّ، ورأوا أنَّ لفظ «تَدَاوَو» هنا مَصروفةٌ عن الوجوب؛ لأنَّ الأمر هنا وردَ بعدَ توهُّم عدمِ جواز التَّداوي، فلم يكن للوجوبِ.
وممَّا يدل على ردِّ مَن قال باستحباب ترك التَّداوي أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تداوى واستعمل العلاج، فبعد غزوة أحد استعمل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العلاج لِمَا أصابه من شجاج وجراحٍ في ذلك اليوم، وهكذا تَنَاوَل العلاج في عددٍ من الوقائع.
والقول بوجوبه يُعارضه ما ورد في الخبر من أنَّ الصَّحابة -رضوان الله عليهم- (أعطوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دواءً، فنهاهم عن أن يُعطوه فَلَدُّوه)، أي: غصبوه على الدَّواء، (فعاقبهم بأن لدَّهم كما لدُّوه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وفي هذا أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترك التَّداوي مما يدل على عدم وجوبه.
ثم قال: «فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، إِلَّا دَاءٌ وَاحِدٌ» قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: «الْهَرَمُ».
هذا الحديث قد أخرجه أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وهو حديثٌ جيد الإسناد.
ثم أوردَ من حديث أبي الدرداء بإسنادٍ لأهل العلم فيه كلام؛ لأنَّه من رواية مجهول، فهو من رواية إسماعيل بن عياش، وهو إذا روى عن غير الشاميين فإنَّه يُضعَّف.
قال: رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَدَاوَوا بِمُحَرَّمٍ».
في هذا الحديث: النَّهي عن التَّداوي بالمحرمات، وظاهر هذا أنَّ المحرَّم قد يحصل به التَّداوي، ولكن جاء في الحديث الآخر أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلكِنَّهُ دَاءٌ»، وقال: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَ»، فَدَلَّ ذلك على أنَّ المحرمات لا شفاء فيها.
ولكن ينبغي أن نفرق بين ما كان للعلاج وما كان للغذاء، فما كان يُعيد البدن إلى قوَّته ونشاطه فهذا ينقسم إلى قسمين:
- ما كان مُوقيًا للبدن فهو طعام.
- وما كان مُعالجًا لحالة اختلال في البدن فهو دواء.
فيُفرَّق بينهما؛ فيجوز للإنسان أن يتناول المحرم من الطعام عند الاضطرار إلى ذلك المحرم، كما قال تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ [الأنعام:119]، بخلاف ما كان على جهةِ التَّداوي.
وأشير إلى شيءٍ؛ وهو أنَّه في مرَّاتٍ يستعمل في الدواء أمرٌ محرَّم لا للتَّداوي به، وإنَّما لمقصدٍ آخر، كما قد تستعمل بعض الأشياء التي توضع في الدَّواء من أجل حفظه وعدم تلفه، لا يُراد التَّداوي بتلك المادَّة، وإنما يُراد بها حفظ الدواء بالمادة الموضوعة فيه.
ومن هذا مثلًا: بعض أجزاء البدن إذا اختلَّت فقد يضعون أجزاء حيوانات محرَّمة، مثل خنزير أو كلب أو نحوه؛ فهذا من باب التَّداوي، لأنَّه تعويض نقصٍ حاصلٍ في البدنِ، وليس من باب معالجة اعتلال في البدن وإعادته إلى حالته الطَّبيعيَّة، وقد يكون ذلك في الصَّمَّامات أو بعض الأوعية حاجة إلى استعمال هذه الأشياء المحرَّمة، فاستعمالها ليس على جهة التَّداوي؛ لأنَّه لا يُعيد البدن من حال الاعتلال إلى حال الصِّحَّة، وإنَّما هو من باب تغذية البدن وتقويته، فيكون له أحكام الطَّعام.
ثم أورد المؤلف حديثًا أخرجه الإمام مسلم عن عَلْقَمَةَ بنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ وَائِلِ الْحَضْرَمِيِّ، (أَنَّ طَارقَ بنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْخَمْرِ؟)، والخمر قد وردت النُّصوص بتحريمها، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة/90].
قال: (فَنَهَاهُ، أَو كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ طارق: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا للدَّواءِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلكِنَّهُ دَاءٌ»)، فهذا فيه دليلٌ لِمَا قد ذكرناه من كون المحرمات لا يجوز التَّداوي بها، وأنها ليست بدواء في نفسها.
قال: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي السَّكَرِ: إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُم فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُم)، وفي الحديث: «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليه».
{قال -رحمه الله: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الكَيِّ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أُبيِّ بنِ كَعْبٍ طَبِـيْـبًا، فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا، ثُمَّ كَواهُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ سَعيدِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ الجُمَحِيِّ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشَرَةَ وتِسْعَ عَشَرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرينَ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي تَوْبَةَ بنِ الرَّبِيعِ بنِ نَافِعٍ عَنْهُ، وَقَدْ رَوَى مُسلمٌ ل(سَعِيدٍ)، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : "يَهِمُ فِي الشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ"، وَقَدْ سُئِلَ أَحْمدُ عَنْ هَذَا الحَدِيثِ فَقَالَ: "لَيْسَ ذَا بِشَيْءٍ".
وَعَنِ الْمُغيرَةِ بنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْن مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ)
}.
هذه الأحاديث تتكلَّم عن أنواع ما يَستعمله العرب في علاجات فيما بينهم، وكما تقدَّم أنَّ العلاج مرجعه إلى التَّجربةِ والتَّكرار، فما ثبت نجاحه بطريق التَّجربة فإنَّه دواءٌ يصح الاستناد عليه بإذن الله -جلَّ وعَلا.
وقد أورد المؤلف في هذا حديث ابن عباس مرفوعًا، قال: «الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الكَيِّ»، وفي هذا دليل على جواز التَّداوي بهذه الطَّرائق الثَّلاث، وكما تقدَّمَ أنَّ العلاج لا يتعيَّن بطريق واحد، ولذلك نقول: إنَّ أصل العلاج مُستحبٌّ وقد يجب، ولكن طريقة العلاج ليست من الواجبات؛ لأنَّ هناك طرائق مُتعددة توصل إلى نفس النتيجة -بإذن الله جل وعلا.
وخصوصًا أنَّ التَّداوي مما ترغبه النُّفوس، وبالتَّالي لم يكن مِن طرائقه أن يُشترط فيه الحكم الشَّرعي، فإنَّ ما ترغبه النُّفوس أوكله الشَّارع إلى النفوس، ولم يؤكد الطلب فيه.
أمَّا الأول: فهو الحجامة، وكانت العرب تستعملها، واستعملها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولازال الناس يستعملونها، وهي -كما تقدم- على الإباحة.
وأمَّا الثَّاني: شربة العسل، وهي نوع من أنواع العلاج، وقد قال تعالى: ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ [النحل:69].
وأمَّا الثالث: فكيَّةٌ بنارٍ، والكيُّ علاج يعرفه المختصون به، ولكن إذا دخل فيه من لا يعرفه فإنَّه حينئذٍ لن يُحصِّل له نتيجة، فإنَّ العلاج بالكي له طرائق معيَّنة، وله مواضع محدَّدة، وله أحجام مخصَّصة، وبالتَّالي ليس كل واحد من الناس يعرف العلاج بالكي.
قال: «وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الكَيِّ»، يعني: أنا لا أرغبهم فيه، وإلَّا فقد ثبتَ أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كوى وأمر بالكيِّ كما في حديث جابر بعده، قال: (بَعَثَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أُبيِّ بنِ كَعْبٍ طَبِـيْـبً)، فهذا دليل على مشروعيَّة التَّدواي، وأنَّه لا يكون من الأحاديث الواردة أنَّ هناك مَن يدخلون الجنَّة بغير حسابٍ ولا عذاب، فقد وردَ في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «يدخل من أمتي الجنة بغير حساب ولا عذاب سبعون ألفً»، ثم بيَّنهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: «هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون»، فقوله «لا يسترقون»، يعني: أنهم لا يطلبون الرقية، وليس المراد أنهم لا يفعلون الرقية، بل هم يرقون غيرهم، وإذا رقاهُم غيرهم مِن غيرِ طلب لم يُمانعوا من ذلك.
والمقصود هنا: أنَّ التَّداوي من الأمور الجائزة المباحة، ومن أنواع التَّداوي: قطع العروق متى رأى الطَّبيب أنَّ ذلك من طرائق العلاج جازَ استعماله، ومثله أيضًا الكي -على ما تقدَّم.
ثم أوردَ المؤلف حديثًا من رواية سَعيدِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ الجُمَحِيِّ، وسعيد هذا قد تُكلِّمَ فيه وأنَّ عنده أوهام.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشَرَةَ وتِسْعَ عَشَرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرينَ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ»، كما تقدَّم أنَّ هذا الخبر فيه ضعفٌ كبيرٌ، وبالتَّالي لا يثبت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم أورد حديث الْمُغيرَةِ بنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ»، هذا الخبر لأهل العلم فيه كلام من جهةِ صحة إسناده.
وقوله: «مَنِ اكْتَوَى»، أي: استعمل الكي في العلاج.
قوله: «أَوِ اسْتَرْقَى»، أي: طلب الرُّقية، وليس فيه النَّهي عن رقية الآخرين، وليس فيه الامتناع من أن يرقيه الآخرون؛ إنَّما الممنوع طلب الرُّقية.
قوله: «فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ»، أي: برئ من أعلى درجات التَّوكُّل، والتَّوكُّل هو: تفويض الأمور إلى الله -جلَّ وعَلا- وليس من معنى التَّوكُّل ترك بذل الأسباب.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامُ». والسَّامُ: الْمَوْت. والحَبَّةُ السَّوْدَاءُ: الشُّونِيزُ.
وَعَنْ أُمِّ قَيسٍ بِنْتِ مِـحْصَنٍ أُخْتِ عُكَّاشَةَ قَالَتْ: دَخَلْتُ بِابْنٍ لي عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ فَبَالَ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَّهُ، قَالَتْ: وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ بِابْنٍ لي قَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُذْرَةِ، فَقَالَ: «عَلَامَهْ تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بِهَذَا العِلاقِ؟ عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا: ذَاتُ الْجَنْبِ يُسْعَطُ مِنَ الْعُذْرَةِ ويُلَدُّ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ».
وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الْـخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْقِهِ عَسَلً»، فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلًا، فَلم يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ لَهُ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلً»، فَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ اللهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ»، فَسَقَاهُ فَبَرَأَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهَا، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)
}.
هذه ثلاثة أحاديث في طرائق علاج الأمراض.
أولها: ما يتعلَّق بالحبَّة السَّوداء، وهي ثمرة نبات صغيرة الحجم، وأصلها خضراء ثم تسودُّ إذا بقيَت، ولذلك يُسميها بعضهم الخضيراء، وبعضهم يُسميها الشُّونيز، وبعض الأطباء قال: إنَّها تزيدُ في مناعة البدنِ، وبالتَّالي تتمكَّن من تقوية البدن، بحيث لا تتمكَّن الأمراض من دخوله.
والإكثار من الحبة السوداء قد يكون له أثرٌ سيء على البدن، ولذلك ما يؤتَى منه إلَّا بنسبٍ قليلةٍ جدًّا.
ثم أورد المؤلف حديث أُمِّ قَيسٍ بِنْتِ مِـحْصَنٍ أُخْتِ عُكَّاشَةَ الذي قال فيه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سبقك بها عكاشة».
قَالَتْ: (دَخَلْتُ بِابْنٍ لي عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ)، أي: صغير.
قالت: (فَبَالَ عَلَيْهِ)، وضعته في حجر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فبال عليه.
قالت: (فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَّهُ)، فيه أنَّ بول الصبي الذَّكر الذي لم يأكل الطَّعام ليست نجاسته نجاسة مُغلظة؛ بل نجاسته نجاسة مخففة يكفي فيه النَّضح والرَّش.
قَالَتْ: (وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ بِابْنٍ لي قَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُذْرَةِ)، العَذِرة: هي النجاسة الخارجة من البدن؛ لكن العُذَرة مرض وغالبًا ما يُصيب الصبيان، ويكون وجعٌ في الحلق وهناك ورم، وبالتَّالي يعلقون عليه شيء من أجل أن يزول هذا الورم، ومرة يُدخلن أصابعهن من أجل إزالة هذا الورم.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَامَهْ تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بِهَذَا العِلاقِ؟»، يعني: ما السبب الذي جعلكن تضعن هذا الشيء الذي يُدخل في البدن من أجل أن تُرفع هذه العذرة؟
هم يُريدون أن يقف الدم الذي يخرج من هذا الورم، ويظنون أنَّ المرأة إذا وضعت أصبعها فرفعت هذه العذرة، فإنه حينئذٍ يُشفَى بإذن الله، فأرشدهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى دواءٍ آخر، فقال: «عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا: ذَاتُ الْجَنْبِ»، ذات الجنب مرض يصيب الرئة، بحيث تعلق الرئة بعظام الصَّدر، وبالتَّالي يستعملون العود الهندي من أجل أن يكون سببًا من أسباب انفكاك الرئة عن عظام الصدر.
قال: «ذَاتُ الْجَنْبِ، يُسْعَطُ مِنَ الْعُذْرَةِ»، أي: أنَّ هذا علاج ثانٍ، فالعود الهندي يُستخدم لعلاج ذات الجنب، وكذلك أيضًا يستخدم في العذرة التي جاءت أم قيس بولدها مريضًا به.
والسَّعوط: ما يوضع في الأنف، فيجعلون الصبيان يشمونه وبالتَّالي لا يُصاب به.
قال: «ويُلَدُّ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ»، أي: أنَّ مريض ذات الجنب يُسقى بالعود الهندي لدودًا.
ثم أورد حديث أَبي سَعِيدٍ الْـخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ؟)، أي: كان عنده إسهالٌ كثير.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْقِهِ عَسَلً»، لعلَّ كان في بطنه شيء من الغَشش، وأراد أن يطهر ما في بطنه بالعسل.
قال: (فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلًا، فَلم يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ لَهُ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْقِهِ عَسَلً»، فَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ اللهُ»)، أي: عندما قال عن العسل: ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ [النحل:69].
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ»، أي: أنَّ هناك أشياء في البطن جعلته لم يستجب لهذا العلاج.
قال: (فَسَقَاهُ فَبَرَ)، بفضل الله -عزَّ وجَلَّ.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ، والحُمَةِ، والنَّمْلَةِ. رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْتَرْقِيَ مِنَ الْعَيْنِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَو كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرِ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذا استُغْسِلْتُم فَاغْسِلُو». رَوَاهُ مُسْلِمٌ)
}.
هذه الأحاديث تتعلق بالعين وما ماثلها.
أولها: حديث أنس، قال: (رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، والتَّرخيص: هو الإباحة.
قال: (فِي الرُّقْيَةِ)، الرُّقية: قراءة وتعاويذ تُقال على المريض، والأصل فيها أن تكون بنفثٍ، وقد يكون هناك طرائق أخرى للرقية، وكما قلنا سابقًا: إنَّ طرائق العلاج لا يجب أن تكون منصوصة في الأدلَّة الشَّرعيَّة، وإنَّما تُعرف بطرائق التَّجربة، وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرقية ما لم تكن شركً».
قوله: (مِنَ الْعَيْنِ)، العين: أن يُصابَ شخصٌ بسببِ إعجاب غيره بما عنده من نعمٍ في بدنه أو في ماله بحيث يتعلَّق قلبه بذلك، ومَن كان مِن أهل العين فإنَّه يوصَى بأن يُكثر من ذكر الله -جلَّ وعَلا.
والرُّقية تنفع في علاج العين، وفي علاج الحمة، وهي لدغات الحيونات المسمومة، سواء العقارب، أو الحيَّات.
قال: «والنَّمْلَةِ»، وهو مرضٌ يكون فيه قروح تخرج من جنب الإنسان، فمثل هذا تنفع فيه الرقية.
ثم أورد حديث عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْتَرْقِيَ مِنَ الْعَيْنِ)، هذا الحديث استدلَّ به بعضهم على أنَّ طلب الرقية لا شيء فيه، والجمهور على أنَّ طلب الرقية ليس الحالة العليا.
والمعنى في هذا: أنَّ الشَّارع يتطلَّع إلى ألَّا يُطالب أهلُه الآخرين بشيء، فكلَّما حاولت أن تستغني بالله عن خلقه فهو أعلى لشأنك.
ثم أورد حديث ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- في صحيح مسلم، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ»، أي: أنَّ إصابة النَّاس في أبدانهم أو أموالهم بسبب هذه العين من الأمور الحقَّة الصَّادقة التي لا تشكيك فيها.
قال: «وَلَو كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرِ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ»، يعني: لو قُدِّرَ أنَّ هناك أشياء تسبق القدر لسبقته العين.
والظاهر أنَّ العين نوعٌ من أنواع القدر، ولو كانت مُغيِّرة للقدر، كما أنَّ الزَّواج من القدر وإن كان سيؤدي إلى وجود الولد.
قال: «وَإِذا استُغْسِلْتُم فَاغْسِلُو»، أي: إذا طلب الآخرون منكم أن تقدِّموا لهم غِسالةً تكون بعدَ وضوئكم ونحوه؛ فأعطوا أثر هذا الغَسل لمَن طلب الغسل منكم.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ ثَابتٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ اشتَكَيْتُ، فَقَالَ أَنَس: أَلا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: بلَى، قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، مُذْهِبَ الْبَأْسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَشْتَكَيْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ». فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيْكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَينِ حَاسِدٍ، اللهُ يُشْفِيكَ، بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ.
وَعَنْ عُثْمَانَ بنِ أَبي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ: أَنَّهُ شَكَى إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَألَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِسِمِ اللهِ -ثَلَاثًا- وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدْ وَأُحَاذِرُ». رَوَاهُمَا مُسلمٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بالـمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدَيَّ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)
}.
هذه أحاديث فيها شيء من طرائق التَّعامل مع المرضي، وليُعلَم أولًا أنَّ عيادة المرضى عبادة وعمل صالح، وقد ورد في الخبر أنَّ «الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ» ، يعني: في ثمارها.
وقد جاء في الحديث أنَّ الله -عزَّ وجَلَّ- يقول للعبد يوم القيامة: «مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي. الَ : أَيْ رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قال: يَقُولُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ وَجَدْتَنِي عِنْدَهُ» ، وكان النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحرص على عِيادة المرضى.
قال ثَابت: (قلتُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ)، وهو أنس بن مالك.
قوله: (اشتَكَيْتُ)، أي: مرضتُ.
فَقَالَ أَنَس: (أَلا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: بلَى)، هنا أنس قام بالرقية ابتداءً.
قَالَ: «اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ»، يا الله يا مُنظِّمًا لأحوال النَّاس وقائمًا بشؤونهم.
قال: «مُذْهِبَ الْبَأْسِ»، أي: مُزيل جميع أنواع البأس من مرضٍ ونحوه.
قال: «اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي»، أي: أَنزل الشِّفاء.
قوله: «لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمً»، فيه إثبات أنَّ العلاج لا يُؤثِّر بنفسه، فهو له تأثير ولكن بإذن الله -جلَّ وعَلا.
ثم أورد حديث أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَشْتَكَيْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»)، فيه جواز إخبار الإنسان عن بدنه وما فيه من الأمراض والشَّكوى، ولكن لا يُقال ذلك إلَّا لمَن يُرجَى أن يكون له أثرٌ في تخفيف ذلك، أو في إزالته، وأمَّا التَّكلُّم بالمصائب والشَّكوى أمام النَّاس فليس من الأمور المستحسنة.
فَقَالَ جبريل: «بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيْكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَينِ حَاسِدٍ، اللهُ يُشْفِيكَ، بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ»، الرُّقية -كما تقدم- نوعٌ من القراءةِ والنَّفثِ على المريض.
وقوله: «مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَينِ حَاسِدٍ، اللهُ يُشْفِيكَ، بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ»، مع طولِ هذه المدَّة احتاج إلى أن يدعو بمثل هذا الدُّعاء.
قال المؤلف: (وَعَنْ عُثْمَانَ بنِ أَبي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ: أَنَّهُ شَكَى إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَعْ يَدَكَ»)، هنا لم يُفرِّق بينَ اليُمنى واليُسرَى، والأولى أن يضع اليد اليُمنَى.
قال: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَألَّمَ مِنْ جَسَدِكَ»، أي: يوجد فيه ألم.
قال: «وَقُلْ: بِسِمِ اللهِ -ثَلَاثًا- وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدْ وَأُحَاذِرُ»، وقد وردَ عند النَّسائي أنَّ مَن قال ذلك لكان ذلك من أسباب علاجه.
والمعنى: ألتجئ إلى الله وقدرته من المرض.
ثم أورد حديث عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا- قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ)، أي: أصابه شيءٌ من الأمراض.
قالت: (نَفَثَ عَلَيْهِ بالـمُعَوِّذَاتِ)، أي: قرأ عليه المعوذات، وهي سورة الإخلاص والفلق والنَّاس؛ لأنَّه جمعها، والجمعُ يصدقُ على الثَّلاث، وفيه أنَّ من أولى ما يُقرأ المعوذات.
قالت: (فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ)، هنا لم يطلب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها أن تقرأ عليه، وإنما ابتدأت عائشة بذلك. قالت: (وأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدَيَّ).
وهذا أواخر ما يتعلَّق بكتاب "المحرَّر" للحافظ العلامة أبي عبد الله محمد بن عبد الهادي المقدسي، المتوفى سنة سبعمائة وأربعٍ وأربعين من الهجرة، أسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يُوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يجعلنا وإياكم من الهُداة المهتدين، كما أسأله -جلَّ وعَلا- صلاحًا لنيَّاتنا، ورفعةً لشأننا، وعلوًّا لمنازلنا، وقضاءً لحوائجنا، وكما أسأله -جلَّ وعَلا- ألَّا يحرمكم الأجر والثواب فيما سمعتموه، وفيما قرأتموه، وفيما كتبتموه، بارك الله فيكم جميعًا.
كما أشكر أخي فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن أحمد العمر، بارك الله فيه على حسن تقديمه في هذا اللقاء، وفي اللقاءات السابقة، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يهبه العلم النَّافع، والعمل الصالح، كما أشكر إخواني ممن يرتب هذه اللقاءات من خلفِ هذه الشاشات، وفي مُقدمتهم الدكتور راشد والأخ سعيد وبقية الإخوة؛ جزاهم الله خيرًا وبارك فيهم، وأسبغَ عليهم نِعمه.
كما أسأل الله -جلَّ وعَلا- لجميع المسلمين اجتماعًا لكلمتهم، وتآلفًا بينَ قلوبهم، ورغدًا في عيشهم، وصلاحًا في أحوالهم، وأسأله -جلَّ وعَلا- لولاة أمور المسلمين التَّوفيق لكل خير، وأن يكونوا من أسباب الهُدَى والتُّقَى والصَّلاح والسَّعادة، كما أسأله -جلَّ وعَلا- أن يوفِّق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لكل خير، وأن يجعلهم من أسباب الهدى والتَّقى، وأن يجزيهم على ما يقومون به من أعمالٍ صالحةٍ في عمارة الحرمين، وفي خدمة ضيوف الرحمن، وفي نشر دين الإسلام، وفي الوقوف مع قضايا المسلمين، جزاهم الله خير الجزاء، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي ختامِ هذا الفصل المبارك أشكركم معالي الشيخ على ما تُقدِّمونه، أسأل الله أن يجعله في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك