الدرس السادس

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3617 24
الدرس السادس

المحرر في الحديث (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حَلقات البناء العلمي، وكما لا أنسى أن أُرَحِبَ باسمي وباسمكم بمعالي الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
الله يحييك، أرحب بك، وأرحب بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يَرزقنا وإيَّاهم عِلمًا نافعًا وعملًا صالحًا.

{قال المؤلف -رحمه الله: (بَابُ الْفَوَاتِ والإِحْصَارِ
عَنْ سَالمٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يَقُول: أَلَيْسَ حَسْبَكُم سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُم عَنِ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا والـمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابلِا فيُهْدِيَ، أَو يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أُحْصِرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَحَلَقَ، وجَامَعَ نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِـلًا. رَوَاهُمَا البُخَارِيُّ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبيرِ بنِ عَبدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَأَنا شَاكِيَةٌ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُجِّي واشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي»، وَفِي رِوَايَةٍ: وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ.
وَعَنْ سَالمٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ الِاشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ وَيَقُولُ: أَلَيْسَ حَسْبَكُم سُنَّةُ نَبِيِّكُم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ.
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: مَنْ حُبِسَ دُونَ الْبَيْتِ بِمَرَضٍ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَبَينَ الصَّفَا. رَوَاهُ مَالك فِي "الْمُوَطَّأ".
وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بنِ عَمْرو الْأنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلِيهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ»، قَالَ: فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبا هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَا: صَدَقَ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ, وَقد رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عبدِ اللهِ بنِ رَافعٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ، وَهُوَ أَصَحُّ، قَالَهُ البُخَارِيُّ)
}.
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى أَفضلِ الأنبياءِ والمُرسلين، أمَّا بعد:
قول المؤلف: (بَابُ الْفَوَاتِ)، أي: إِذا فَاتَ الحج على الإنسان ماذا يفعل؟
ذهب إلى الحج وأَحرَمَ مِنَ المِيقَات ولم يصل إلى المَواطن والمَشَاهد إلَّا في اليوم الحادي عشر، أي: فاته الحج، فماذا يفعل؟
نقول: يتحلل بعمرة.
وقوله: (والإِحْصَارِ)، الإحصار: هو المنع من الحج وأداء النُّسك، مرة يُمنع مِنَ الذِّهَاب إلى البيت، وَمَرة يُمنع مِنَ الذِّهابِ إِلى عَرَفَة.
فإذا أُحصِر عَنِ الذِّهاب إلى عرفة فإنه يذهب إلى البيت ويتحلل بعمرة، وإذا أُحصر عن الحج، فهذا محل البحث والخلاف.

في سَنَةٍ مِنَ السَّنوات كانت هناك فتنة وزمن اقتتال، فابن عمر أراد أن يحج وخاف أن يُصد عن البيت بسبب الفتنة، فتردد ابن عمر، ثم قال: إنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قد أُحصر، يعني: يَوم الحديبية، ذهب وأصحابه وكانوا مُحرِمِين، فلمَّا جاؤوا إلى الحديبية مُنعوا من دخول مكة، فهنا حُصِرَ، فلمَّا اتفق مع أهل مكة عَقَدَ مَعَهُم صُلحَ الحديبية؛ فَتَحَلل مِن عُمرَته، فذبح هَديَه وَحَلَقَ شَعره.
قوله: (كَانَ ابْنُ عُمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يَقُول: أَلَيْسَ حَسْبَكُم)، يعني: ألا يكفيكم (سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟)، فلمَّا أَرَادَ أَن يَذْهبَ إلى الحج في زمن الفتنة جاءه أبناؤه، فقالوا: يا أبانا كيف تذهب وهناك فتنة وهناك اقتتال؟ نخشى عليك!
فقال: (أَلَيْسَ حَسْبَكُم سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُم)، يعني: لو قُدِّرَ أنَّ أَحَدَكُم مُنع من إتمام مَنَاسِك الحج؛ فحينئذٍ يَذهب إلى البيت، (طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا والـمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابلِاً فيُهْدِيَ)، أي: يذبح هَديًا (أَو يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيً)، أي: يصوم عشرة أيام.
ثم أورد من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: (أُحْصِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أُحصر في السَّنَةِ السَّادسة في صُلح الحديبية.
قال: (فَحَلَقَ، وجَامَعَ نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِـلً)، فهذا فيه دلالة على أنَّ المحصر يجوز له أن يتحلل.

هل يجب على منْ أُحصِرَ أن يقضيَ عُمرته أو حجه الذي أُحصر منه؟
هذا ظاهر كلام ابن عباس، أنَّه يجب عليه، وهو أحد القولين في المسألة.
قال: (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبيرِ بنِ عَبدِ الْمُطَّلِبِ)، وهي ابنة عَمِّه الزُّبير بن عبد المطلب، وهي عمَّة أبناء الزُّبير.
قال: (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَأَنا شَاكِيَةٌ؟)، يعني: أريد أن أَحُجَّ مَعَكَ ولكني مريضة.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُجِّي واشْتَرِطِي»، يعني: ضعي شرطًا أنَّ لَكِ التَّحلل إِذَا عَجَزتِ، أَو صَعُبَ عليكِ إكمال الحج، فاذهبي معنا واشترطي «أَنَّ مَحِلِّي»، أي: أنه يجوز لي أن أتحلل من إحرامي حيث حبستني، وهذا فيه مشروعية الاشتراط في الحج.
والعلماء لهم ثلاثة أقوال في الاشتراط:
 منهم من يقول: الاشتراط لا قيمة له، ولا أثر له، وهذا مذهب مالك وأبو حنيفة.
 ومنهم من يقول: الاشتراط مُؤثر، فمن اشترطَ جَازَ له أن يتحلل إذا حُبس.
 ومنهم من يقول: المريض أو الذي يخشى على نَفْسِه يَتَحَلَّل، وأمَّا الأصل فإنه لا يَشترط.
ولعل القول بمشروعية الاشتراط وجوازه هو الأولى؛ لأنَّ اللفظ عام، قال: «واشْتَرِطِي»، وفي بعض الألفاظ: "فإنَّ لك ما اشترَطْتَ، ولله عليك ما اشتَرَطْتَ" ، وبالتالي إذا حُبس تحلل وليس عليه شيء.
أمَّا إِذا لم يَشترط، فإنَّه إِذا حُبس تحلل، لكن يذبح هَديَه كما هو فعل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في يوم صُلح الحديبية.

هل يلزمه أن يحج؟
إن اشتَرَطَ لم يلزمه، وإذا لم يَشتَرِط فللعلماء فيه قولان:
 بعضهم قال: يتحلل.
 والجمهور على أنَّه يجب عليه أن يأتي بِنُسكٍ آَخَر يُماثل نُسُكَه مِنَ العَامِ المُقبِل.
ثم رَوَى عَن ابنِ عُمَر أنَّه كان يُنكر الاشتراط، فكان يَشترط كُلَّمَا اعتمر، وَيَقُولُ: (أَلَيْسَ حَسْبَكُم سُنَّةُ نَبِيِّكُم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟).
ثم روى عن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ حُبِسَ دُونَ الْبَيْتِ بِمَرَضٍ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ)، أي: يبقى على إحرامه (حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَبَينَ الصَّفَا والمروة).
إذن ابن عمر يرى أنَّه لا يُشرع الاشتراط، وأنَّ الاشتراط غَيرِ مُؤثر، وقوله في بعض النُّسخ (كَانَ يُكثِر الاشتراط) أي: يُكثر الرَّدَّ عليه ويقول: (أَلَيْسَ حَسْبَكُم سُنَّةُ نَبِيِّكُم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟)؛ لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لم يَشترط، وهذا هو مَذهب ابن عمر، ومَذهب مالك وأبي حنيفة، خلافًا لمذهب الشَّافعي وأحمد أنَّ الاشتراط نافع.
ثُمَّ رَوَى مِن حديث عِكْرِمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بنِ عَمْرو الْأنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ»)، أي: يجوز له أن يتحلل. «وَعَلِيهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ».
قَالَ: (فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبا هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَا: صَدَقَ)، أي: في مقالته، وبالتالي فالأظهر أنَّ مَن مُنع مِنَ الحَجِّ أو العُمرة عَليه أن يَأتي بِهَذا النُّسُك بعد سَنة، ومثل هذا مَن كُسِرَ، أو حصل له حادث في الطرقات، وبالتالي لا يستطع إكمال عُمرته، فإن كان قد اشترط فحينئذٍ يتحلل ولا حرج عليه، وإن لم يشترط ذَبَحَ هَديه وتحلل، ويحج مِن قَابل، أو متى استطاع.

ومثل هذا مَن مُنِعَ، يأتي إنسانٌ حاج، ويكون بينه وبين غَيرهِ مُشاغبة ومضاربة، فيدخل السِّجن مثلًا، فهذا حُبِسَ، أو بعض أهل غير هذه البلاد يُخالف شيئًا مِن الأنظمة فقد يأتي أَمَر بترحليه، فَهذَا محصر يعجز عن إكمال نُسُكَه، فإن كان اشترط يتحلل ولا إشكال عليه، وإذا لم يشترط فإنَّه يَذبح هديه، ثم بعد ذلك يجوز له أن يتحلل.
فهذه أحكام مما يتعلق بالفوات والإحصار.

{قال-رحمه الله تعالى: (بَابُ الْهَدْيِ وَالْأَضَاحِي
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلائِدَ بُدْنِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدَيَّ ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْتِ، وَأقَامَ بِالمدِينَةِ فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلًّا.
وَعَنْ عَليِّ بنِ أَبي طَالبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا: لُحُومَها، وَجُلُودَها، وجِلَالَها فِي الْمَسَاكِينِ، وَلَا يُعْطِيَ فِي جِزَارَتِها مِنْهَا شَيْئًا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ .
وَعَنْ أَبي الزُّبيرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بنَ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَسْأَلُ عَن رُكوبِ الْهَدْي؟ فَقَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إِذا أُلجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرً» .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ ذُؤَيْبًا أَبَا قَبِيْصَةَ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَبْعَثُ مَعَهُ بِالْبُدْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: «إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتًا فَانْحَرْهَا، ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا، وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ رُفْقَتِكَ». رَوَاهُمَا مُسلمٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَهْدَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّةً غَنَمًا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الظُّهْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ، ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ، فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْـمَنِ، وسَلَتَ الدَّمَ، وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ على البَيْداءِ، أَهَلَّ بِالحَجِّ. رواهُ مسْلمٌ، وأَبو دَاوُدَ, وزاد: ثُمَّ سَلَتَ الدَّمَ بِيَدِهِ، وَفِي لفظٍ: بِأُصْبُعِهِ.
وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ. رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ جُنْدُبِ بنِ سُفْيَانَ قَالَ: شَهِدْتُ الْأَضْحَى مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ بِالنَّاسِ نَظَرَ إِلَى غَنَمٍ قَدْ ذُبِحَتْ فَقَالَ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ النَّحْرِ بِالمدِينَةِ، فَتَقَدَّمَ رِجَالٌ فَنَحَرُوا -وَظَنُّوا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ نَحَرَ- فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ كَانَ نَحَرَ قَبْلَهُ أَنْ يُعِيدَ بِنَحْرٍ آخَرَ، وَلَا يَنْحَروا حَتَّى ينْحَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً إِلَّا أَنْ يُعْسَرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ» رَوَاهُمَا مُسلمٌ .
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ضَحَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ, فَإِذا أُهِلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّىَ». رَوَاهُ مُسلمٌ، وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا .
وَعَنْ عُبَيدِ بنِ فَيْرُوزٍ قَالَ: سَأَلْتُ الْبَراءَ بنَ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قُلْتُ: حَدِّثْنِي مَا نهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منَ الْأَضَاحِي، أَو مَا يَكْرَهُ؟ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِهِ، فَقَالَ: «أَرْبَعٌ لَا تُجْزِئُ: العَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُها، والمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، والعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، والكَسِيرُ الَّتِي لَا تُنْقِي» قُلْتُ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَكونَ فِي السِّنِّ نَقْصٌ، وَفِي الْأُذُنِ نَقْصٌ، وَفِي الْقَرْنِ نَقْصٌ، فَقَالَ: «مَا كَرِهْتَ فَدَعْهُ، وَلَا تُحَرِّمْهُ عَلَى أَحَدٍ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّان وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- .
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَم يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانً». رَوَاهُ أَحْمدُ -وَاللَّفْظُ لَهُ- وَابْنُ مَاجَهْ, وَصَحَّحَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيرُهُ وَقْفَهُ)
}.
قول المؤلف: (بَابُ الْهَدْيِ وَالْأَضَاحِي).
الهدي: يُذبح في مكة، ولابد أن يكون في حدود الحرم، أمَّا الأضاحي فتذبح في كُلِّ مَكان.
الْهَدْيِ: يختص به الإنسان، وما يَهديه إِلَّا عَن نفسه، بينما الأضاحي تكون عن الإنسان وعن أهل بيته.
الْهَدْيِ: يكون واجبًا للحاج المتمتع والقارن، بينما الأضاحي: لا تجب إلا عند نذرها أو تعيُّنيها.
إذن الأضاحي: يضحي كل أهل بلد في بلدانهم.

ثم أورد حديث عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَتْ: (فَتَلْتُ قَلائِدَ بُدْنِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدَيَّ)، القلائد: حبال مصفوفة توضع على رقبة البعير، وفي مرات توضع في نهاياتها شيء يُبين أنها هَدي، كأن يضعون أحذية أو غير ذلك.
قالت عائشة: قلائد هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أنا الذي فتلته بيدي وصنعته.
قالت: (فَتَلْتُ قَلائِدَ بُدْنِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدَيَّ ثُمَّ أَشْعَرَهَ)، الإشعار: أن تُمر السكينة أو نحوها على السَّنام بحيث يقتر شيء من الدم، وذلك لمعرفة أنه هدي، وبالتالي لا يتعرض له أحد.
والقول بمشروعية الإشعار هو قول الجمهور خلافًا لأبي حنيفة.
قالت: (وَقَلَّدَهَ)، أي: وضع عليها القلائد، وفيه مشروعية وضع القلائد.
قالت: (ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْتِ)، في هذا جواز ذبح الهدي من غير الحجَّاج، فهو في المدينة، فَبَعَثَ هَديه إلى البيت. وَأقَامَ بِالمدِينَةِ.
قالت: (فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلًّ)؛ لأنَّ بعض العُلماء قال: مَن دفع هديه إلى مكة يمتنع عن محظورات الإحرام، فلا يَقُصَّ ظفرًا، ولا يأخذ شعرًا، ولا يفعل شيئًا من محظورات الإحرام حتى يُذبح هديه، ولكن عائشة ترد على هؤلاء فتقول: إنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ هديه ومع ذلك لم يكن يمتنع عن شيءٍ من محظورات الإحرام.

قالت: (ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْتِ فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلًّ).
ثم أورد من حديث عَليِّ بنِ أَبي طَالبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ)، أي: أن يُشرف على البدن، النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجَّته أتى بالمدينة ببعض البدن، وأكملها علي -رضي الله عنه- فلما جاء علي أَمَرَه النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجمع ما جيئ به من المدينة، وما جيئ به من اليمن ليكون معه.
قال: (وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَ بُدْنَهُ كُلَّهَ)، أي: يُوزعها على المحاويج. (لُحُومَها، وَجُلُودَها، وجِلَالَها فِي الْمَسَاكِينِ)، اللحوم واضحة، والجلود واضحة، أمَّا الجلال: هي الأقمشة التي توضع على الهدي ليُعرف أنه هدي.
قال: (وَلَا يُعْطِيَ فِي جِزَارَتِها مِنْهَا شَيْئً)؛ لأنَّ الجزار يستحق أجرة، فإذا أعطتيه بعض الهدي معناه أنك جعلت بعض الهدي قُدِّم قربة لله عوضًا عن عمل، وبالتالي فالجزار لا يُعطى مِن لُحوم الهدي، ولا جلودها، ولا جلالها، لئلا يُحسب ذلك على أنه قيمةً لِعَمَلِهِ في الجزارة.

قال: (وَعَنْ أَبي الزُّبيرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بنَ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَسْأَلُ عَن رُكوبِ الْهَدْي)، الهدي مقدم لله، هل يجوز أن يُركَب إذا سيق من خارج مكة؟
فَقَالَ: (سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ»)، أي: بما لا يلحق بها ضررًا، فلا تكثر في عدد من يركبها، ولا تكثر في عدد الحوائج والأغراض التي تجعلها عليها، ولا يُسرع بها سرعة تضرها.
قال: «ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إِذا أُلجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرً»، أي: جملًا تتمكن من ركوبه.
ثم أورد من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ ذُؤَيْبًا أَبَا قَبِيْصَةَ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَبْعَثُ مَعَهُ بِالْبُدْنِ)، أي: يسوق البدن.

ثُمَّ يَقُولُ: «إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ»، أي: إذا جاء شيء من الهزال أو المرض أو التعب لشيء من هذه الإبل فلم يمكنها مِنَ السَّير مع صويحباتها.
قال: (فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتًا فَانْحَرْهَ)، أي: انحر هذا الهدي.
هل يجب عليه حينئذٍ التعويض؟
قال الجمهور: لا يجب.
قال: «ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَ»، لتُعرَف أنها هدي، وبالتالي تؤكل.
قال: «ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَ»، أي: يجعل النَّعل في الدَّم ثم يضرب به الصفحة لتكون علامة على أنَّ هذا الهدي يجوز أكله.

قال: «وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ رُفْقَتِكَ»؛ لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- خشي أن يقصروا في حفظها، فيذهبون بالهدي ويُقصِّرون في رعاية بعضها ليهزل فيحتاجوا إلى ذبحه، فيذبحونه ويأكلونه، فقال: «وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ رُفْقَتِكَ»، لِئلا تفرطوا في القيام عليها.
قال: (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَهْدَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّةً غَنَمًا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)، يعني أهدى إلى البيت، وفيه أنه يجوز أن يكون الهدي من الغَنم.
ثم أورد من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قَالَ: (صَلَّى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الظُّهْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ)، وذلك في ذهابه للحج.
قال: (ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ)، أي: التي يريد أن يذبحها.
قال: (فَأَشْعَرَهَ)، أي: جرح طرف سنامها.
قال: (فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْـمَنِ)، من أجل أن تُعرَف أَنَّها هدي.
قال: (وسَلَتَ الدَّمَ)، أي: مَسَحَ الدَّم الظَّاهر.
قال: (وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ)، أي: وضع على رقبتها حبلًا قد رُبط بنعلين ليُعرف أنها هَدي فلا يتعرض لها أحد؛ لأنَّها لله.

قال: (ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ على البَيْداءِ، أَهَلَّ بِالحَجِّ)، هكذا كلام ابن عباس، وتقدم معنا أنَّه أهلَّ بالحج بعد أداء الفريضة، وبعد قيامه، وبعد ركوبه -كما ورد معنا سابقًا.
قال: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ) كان هذا سنة ستٍّ يوم حُصِرَ.
قال: (الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ)، أي: النَّاقة. قال: (وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ)، فتُجزئ الناقة والبقرة عن سبعة، وهذا في الهَدي.
قال: (وَعَنْ جُنْدُبِ بنِ سُفْيَانَ قَالَ: شَهِدْتُ الْأَضْحَى مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، عيد الأضحى، اليوم العاشر من شهر ذي الحجة.
قال: (فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ بِالنَّاسِ نَظَرَ إِلَى غَنَمٍ قَدْ ذُبِحَتْ)، معناه أنَّ هذا هَدي قد ذُبِحَ قبل صلاة العيد، وبالتالي لا يُجزئ.
فَقَالَ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَ»، فيه دلالة على أنَّ ذَبحَ الأَضَاحي قبل صلاة العيد لا يُجزئ، واستدل به الحَنَفية على وجوب الأضحية، والجمهور لا يُوجبون الأضحية.
قال الأحناف: لأنه قال: «فَلْيَذْبَحْ»، هذا أمر، والأصل في الأوامر أن تكون للوجوب.
ولكن هذا الأمر بعد نهيٍ، والأمر بعد النَّهي يُعيد الأمر على ما كان عليه.
قال: «فَلْيَذْبَحْ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وفيه دلالة على أنَّ وقت ذبح الأضاحي إنما يكون بعد صلاة العيد.

قال: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ النَّحْرِ بِالمدِينَةِ، فَتَقَدَّمَ رِجَالٌ فَنَحَرُو)، يعني: بكَّروا.
قال: (وَظَنُّوا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ نَحَرَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ كَانَ نَحَرَ قَبْلَهُ أَنْ يُعِيدَ بِنَحْرٍ آخَرَ)، استدل به مَن يرى أن يشترط في صحة ذبح الأضاحي أن يكون بعد ذبح الإمام.
قال: (وَلَا يَنْحَروا حَتَّى ينْحَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، والجمهور على أنَّ الحكم مُقيد بالصَّلاةِ للحديث السَّابق «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَ».
ثم روى من حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً»، هذا يتعلق بالسِّنِّ، فهناك سن محدد لما يجوز ذبحه في الأضاحي:
 من الإبل: خمس سنوات.
 من البقر: سنتان -مُسنة- أما التبيعة فلا تجزئ.
 من الغنم: ستة أشهر.
 من الماعز: سنة كاملة.
قال: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً إِلَّا أَنْ يُعْسَرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ»، الجذعة هي ما لها ستة أشهر.
قال: (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: ضَحَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ)، يعني: قد أخذ قرناهما.
قال: (ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى)، يعني: عند بداية الذَّبح كان يُسمي وَيُكَبِّر.
قال: (وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَ)، يعني: على صفاح الشاتين.
قال المؤلف: (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ، فَإِذا أُهِلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّىَ»)، فيه دلالةٌ عَلى أنَّ الأُضحية لَيسَت بواجبة؛ لأنَّ في بعض الألفاظ قال: «إِذَا دَخَلَتْ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئً» ، فعلق الحكم بالإرادة، فدل هذا على عدم وجوبه.
الحَنَفية يَرون وُجُوب الأُضحية، وَلَعَلَّ يأتي شيء من أدلتهم.
وفي هذا دليل على أنَّ مَن أَرَادَ الأُضحية فَيَجِب عليه أَن يُمسكَ عَن أَخذِ شَعره وَظُفره حَتَّى يُضحي، سواء ضَحَّى عَن نَفسِه أَو عَن غَيرهِ، وهكذا مَن أَرادَ أَن يُضحي عَن غَيرهِ لَزِمَه أَن يُمسك.

قال المؤلف: (وَعَنْ عُبَيدِ بنِ فَيْرُوزٍ قَالَ: سَأَلْتُ الْبَراءَ بنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قُلْتُ: حَدِّثْنِي مَا نهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منَ الْأَضَاحِيأَو مَا يَكْرَهُ؟)، أي: ما هي الصفات التي مَنَعَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مِنَ التَّضحية بها؟
فقال البراء: (قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه مشروعية الخُطبة لبيان الأحكام الشَّرعية.
قال: (وَيدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِهِ- فَقَالَ: «أَرْبَعٌ لَا تُجْزِئُ»، أي: لا تُجزئ بسبب صفاتها).
 الأولى: «العَوْرَاءُ»، وهي التي انخسفت عينها، وقوله: (الْبَيِّنُ عَوَرُه)، قال الفقهاء: لأنها تذهب إلى ناحية وتترك ناحية في المرعى.
أمَّا العمياء، فبعض الفقهاء قالوا: تُمنع من باب أولى.
والآخرون قالوا: العمياء لم يُنه عنها، بل لم يُنه إِلَّا عَن العوراء، ولم نعلم المعنى في النَّهي عن العوراء.
 الثانية: «المَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَ»، فهذه لا تُجزئ في الأضاحي.
 الثالثة: «والعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَ»، أي: التي فيها عَرَج، والتي تتمايل عِندَ مِشيتها.
 الرَّابعة: «والكَسِيرُ الَّتِي لَا تُنْقِي»، أي: فيها كسر بحيث أنَّ هذا الكسر لا يكون المخ في عظامه.
قال الرَّاوي عبيد بن فيروز: (إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَكونَ فِي السِّنِّ نَقْصٌ، وَفِي الْأُذُنِ نَقْصٌ، وَفِي الْقَرْنِ نَقْصٌ)، فَقَالَ الصَّحابي الجليل البراء بن عازب: «مَا كَرِهْتَ فَدَعْهُ»، يعني: هذا الشيء بينك وبين الله، إن كنت كرهته فاتركه، لكن انتبه ألا تَنْسِبَ إِلى شَرعِ اللهِ-عز وجل- مَا كَرِهتَه، قال: (وَلَا تُحَرِّمْهُ عَلَى أَحَدٍ).
قال المؤلف: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَم يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانً»)، هذا مِن أَدلة الحَنَفية على وجوب الأضحية.
والجمهور يقولون: هذا ليس فيه دلالة على الوجوب، وإنَّما فيه نهي عن قُربان مُصلى العيد، ولذا جاء في بعض الأحاديث أنَّ مَن أَكَلَ ثَومًا أو كُراثًا، قال: «فلا يأتِ مصلان» ، وهذا ليس فيه دليل على أن ترك أكل البطل والكرات من الواجبات.
فالمقصود: أن هذا الحديث ليس فيه دلالة صريحة على مذهب الحنفية في إيجاب الأضحية.

{قال-رحمه الله تعالى: (بَابُ الْعَقِيقَةِ
عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيْقَتِهِ تُذْبَحُ عَنهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، ويُحْلَقُ وَيُسَمَّى». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ -وَقَالَ: لمْ يَسْمَعِ الْحَسَنُ مِنْ سَمُرَةَ إِلَّا حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ.
وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَإِسْنَادُه عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ، لَكِنْ قَدْ رَوَاهُ غَيرُ وَاحِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَهُوَ أَصَحُّ.
وَعَنْ أُمِّ كُرْزٍ الْكَعْبِيَّةِ -رضي الله عنها- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكافَئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ)
}.
قوله: (بَابُ الْعَقِيقَةِ).
المراد بالعقيقة: الذَّبيحة التي تُذبح عند وُجُودِ المولود، فإذِا وُلد المولود شُرِع أَن تُذبح ذبيحة، وقد ورد النَّهي عَن تسميتها بــ "عقيقة"؛ لأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا أُحِبُّ الْعُقُوقَ» ، ولذلك بعضهم يُسميها "التَّميمة"، وبعضهم يسميها بأسماء أخرى.
والعقيقة مِنَ المُستحبات، وليست مِنَ الواجبات.
وقد أوردَ المؤلف من حديث الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو إسناده منقطع، فالحسن لا يروي عن سمرة.
أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «كُلُّ غُلَامٍ»، الغلام: هو الذكر.
قال: «مُرْتَهَنٌ بِعَقِيْقَتِهِ»، أي: موقوف يوم القيامة بسبب عقيقته.
قال: «تُذْبَحُ عَنهُ يَوْمَ سَابِعِهِ»، فيه استحباب أن يكون الذبح للعقيقة في اليوم السَّابع، واليوم السَّابع بحساب يوم الولادة، فإذا ولد يوم الاثنين فهذا معناه أنَّ العقيقة تُستحب أن تكون يوم الأحد الذي يليه.
قال: «كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيْقَتِهِ»، أي: ممسك بعقيقته «تُذْبَحُ عَنهُ يَوْمَ سَابِعِهِ،ويُحْلَقُ»، أي: تُحلق رأسه. «وَيُسَمَّى»، أي: يوضع له الاسم.
لكن الحديث من رواية الحسن عن سمرة، والمؤلف قال: (لمْ يَسْمَعِ الْحَسَنُ مِنْ سَمُرَةَ إِلَّا حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ).
ثم روى من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشً)، استدل به مَن يرى أنَّ العقيقة عن الغلام بكبش واحدٍ، ولكن هذا الحديث لأهل العلم فيه كلام، فقالوا: إنَّ كلمة «كَبْشًا كَبْشً» من الأوهام التي وقعت من بعض رواته، وقد رواه بعضهم موقوفًا على عكرمة.
قال: (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَإِسْنَادُه عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ، لَكِنْ قَدْ رَوَاهُ غَيرُ وَاحِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلً)، فعكرمة يروي عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف: (وَعَنْ أُمِّ كُرْزٍ الْكَعْبِيَّةِ -رضي الله عنها- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكافَئَتَانِ»)، فيه استحباب ذبح شاتين عن الغلام، ولا يشترط أن تكون في يوم واحد ولا وقت واحد.
قال: «شَاتَانِ مُكافَئَتَانِ»، أي: متساويتان في الصفات.
قال: «وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ.
وبهذا نكون انتهينا من الكلام عن الحج وما يقارنه، ولعلنا نترك كتاب الصيد والذَّبائح ليوم آخر، أسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يوفقك، وأن يبارك فيك، وأن يجزيك خير الجزاء، كما أسأله لإخواني ومن يرتب هذا اللقاء، جزاكم الله خيرًا، وأسأله -جلَّ وعَلا- أن يُصلح أحوال الأمة، وأن يردهم إلى دينه مَردًا حميدًا، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

{أحسن الله إليكم معالي الشيخ، وجزاكم الله خيرًا على ما أجدتم به وأفدتم، وفي الختام نشكركم أنتم أيها المشاهدون على حسن إنصاتكم واستماعكم، إلى أن نلقاكم في الحلقة القادمة إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك