الدرس الحادي والعشرون

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3556 24
الدرس الحادي والعشرون

المحرر في الحديث (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأُرحبُ بمعالي الشَّيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري، فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاك الله، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جَلَّ وعَلَا- أن يجعل هذا اللقاء نافعًا مُباركًا.
{نبدأ في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي من كتاب "الغَصْب والشفعة".
قال -رحمه الله: (بَابُ الغَصْبِ وَالشُّفْعَةِ
عَنْ سَعِيدِ بنِ زَيدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ ظُلْمَاً طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرْضِينَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ.
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤمنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ، فَضَمَّهَا وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ وَقَالَ: «كُلُو» وَحَبَسَ الرَّسُولَ الْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
ولِلتِّرمذيِّ: أَهْدَتْ بَعْضُ أَزوَاجِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَعَامًا فِي قَصْعَةٍ فَضَرَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بِيَدِهَا الْقَصْعَةَ فَأَلْقَتْ مَا فِيهَا, فَقَالَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَعَامٌ بِطَعَامٍ وإناءٌ بِإِنَاءٍ» وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ رَافعِ بن خَدِيْجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحسَّنَهُ, وحُكِيَ عَنِ البُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَسَنٌ, وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنِ البُخَارِيِّ أَنَّهُ ضَعَّفَهُ، فَاللهُ أَعْلَمُ)
}.
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلين، أمَّا بعد: فأسأل الله -جَلَّ وعَلَا- أن يَستعملنا وإيَّاكم في طاعته، وبعد:
قول المؤلف -رحمه الله تعالى: (بَابُ الغَصْبِ).
المراد بالغَصْب: الاستيلاء على أموالِ الآخرين بغير حقٍّ، أو التَّصرُّف فيها.
والغَصْب من المحرمات، وقد جاءت النُّصوص بالنَّهيِ عنه، قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]، وجاءت النُّصوص بتحريم الظُّلم وبيان سوء عَاقبته، ومن أوجه الظُّلم: الغَصْب. قال تعالى: ﴿فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ [فاطر: 37]، وقال تعالى: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: 227].

والواجب في الغَصْب: أن تُردَّ الأموالُ إلى أصحابها، وقد ورد في الخبر: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ» .
وكذلك يجب ضمان التَّالف من الأموال المغصوبة، ويجب ضمان النَّقص الذي يحصل فيها، وكل تفويت لمنفعة في العين المغصوبة يجب على الغاصب أن يقوم بردِّها، ويد الغاصب ليست يدَ أمانة؛ بل هي يد جناية، وبالتَّالي فعلى الغاصب الضمان مُطلقًا.
وقد أوردَ المؤلف في هذا الباب عددًا من الأحاديث، أوَّلها: حديث سَعِيدِ بنِ زَيدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ ظُلْمَاً طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرْضِينَ».
سعيد بن زيد قد حدثت له قصَّة: وذلك أنَّ امرأة داعته في أرضٍ له، وادَّعت أنَّ الأرضَ ملكها، فقال لها: كيف آخذ شيئًا من الأرض وقد قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ ظُلْمَاً طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرْضِينَ»، فدعا إن كانت كاذبة أن تقع في أرضها، فعميَت ووقعت في بئرٍ في أرضها فماتت في ذلك البئر.
وقوله: «مَنِ اقْتَطَعَ»، أي: مَن أخذَ قطعةً من غير أرضه.
قوله: «شِبْر»، الشبر هو: مساحة اليد عند مدِّها وبسطها.
قوله: «مِنَ الأَرْضِ ظُلْمَ»، أي: بغير وجهٍ شرعيٍّ.
قوله: «طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ»، أي: جعله طوقًا في عُنقه.
قوله: «يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرْضِينَ»، قيل: إنَّه يُخسَف به في هذه الأرضين حتى تكون طوقًا في عُنقه، وقيل: إنَّها تُطوَّق ولو لم يكن هناك خسف.
وعلى كلٍّ فهذا دليلٌ على تحريم الغَصْب وسوء عاقبته، خُصوصًا إذا كان في الأراضي، وبعض الناس قد يَستهين بأراضي غيره، ويمدَّ أسوار أرضه، أو أسوار بيته، وعلامات مُلكِهِ، وهذا شأنه عظيم، وعقوبته شنيعة يوم القيامة.
وهكذا بعض الناس قد يأتي إلى الأموال العامة، سواء من الحدائق أو من الطُّرقات فيقوم بمدِّ علامة مُلكِهِ عليها.
وكذلك من أنواع الظلم في هذا الباب: أن يضع إنسانٌ مرافق خاصَّة به في الممتلكات العامَّة، سواء وضعَ درَجَ البيتِ في الشَّارع أو الطَّريق، أو وضع مَظلَّةً، أو وضعَ مجلسًا في الطَّريق العام، فهذا نوعٌ من أنواع الاقتطاع، وبالتَّالي لا يُفسَّر الاقتطاع بأنَّه التَّملُّك؛ بل كلُّ اختصاص يجعل هذا الظَّالم يختص بذلك المُلك -سواء كان مُلكًا خاصًّا أو مُلكًا عامًّا- فإنَّه يُعدُّ من الظُّلم الذي يُخشَى على صاحبه من هذه العقوبة الشَّديدة.
ثُمَّ أوردَ المؤلفُ حديث أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وفيه أَنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ)، وقد ورد أنَّه كان عند عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها.
قال: (فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤمنِينَ) قيل: إنَّها زينب -رَضِيَ اللهُ عَنْها.
قال: (مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ)، القصعة: نوع من أنواع الأواني، يُصنع غالبًا من الخشب، وكانت القصعة فيها طعام، وفيه إهداء الزَّوجة لزوجها في غيرِ بيتها، وفيه أيضًا إهداء الطَّعام.
قال: (فَضَرَبَتْ بِيَدِهَ)، يعني: أنَّ مَن كان النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندها ضَربَت تلك القصعة التي فيها طعام بيدها.
قال: (فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ، فَضَمَّهَ)، أي: أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألحق أحد طرفيها بالآخر. وفيه حفظ الأموال ما أمكن، وخصوصًا الأطعمة.
قال: (وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ)، أي: ردَّ الطَّعام في هذه القصعة المضمومة.
قال: (وَقَالَ: «كُلُو» وَحَبَسَ الرَّسُولَ)، يعني: حبس الخادم الذي أرسلته صاحبتها.
قال: (وَحَبَسَ الْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ)، أي: أعطَى القصعة الصحيحة إلى الخادم، وفي هذا دلالة على أنَّ المتلفَات يجبُ على مُتلفها ضمانها لمالكها.
واستدلَّ بهذا على أنَّ الأصل في ضمان المتلفات أن يكونَ بالمثل، وبعض الفقهاء جعل المثليات في المكيلات والموزونات، وبعضهم توسَّع وجعل المزروعات، ولكنَّ القصعة ليست من هذه الأصناف، فبعض الفقهاء قال بهذا الحديث، وقال: إنَّ كلَّ ما أمكنَ أن يُضمَن متلفُه بمثله فإنَّه يجب الضَّمان بالمثل، لأنه أجراه على العدل.
وبعضهم قال: غير المكيلات والموزونات تُضمَن بالقيمَة.
وحديث الباب دليل لأصحاب القول الأوَّل.
قال: (ولِلتِّرمذيِّ: أَهْدَتْ بَعْضُ أَزوَاجِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَعَاماً فِي قَصْعَةٍ)، فيه إهداء المرأة بدون أن تستأذن زوجها، وفيه جواز وضع الأواني من الأخشاب.
قال: (فَضَرَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بِيَدِهَا الْقَصْعَةَ)، وذلك مِن غيرتها -رَضِيَ اللهُ عَنْها.
قال: (فَأَلْقَتْ مَا فِيهَ)، هذا التَّصرف ترتَّبَ عليه هذا التَّلف.
فَقَالَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَعَامٌ بِطَعَامٍ»، أي: يُضمَن الطعام بطعام مثله.
وقوله: «وإناءٌ بِإِنَاءٍ»، أي: يُضمَن الإناء بإناءٍ يُماثله.
قال: (وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)، أي: قاله الترمذي.
الحديث الآخر: حديث رَافع بن خَدِيْجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ»، وقد أشار المؤلف إلى شيءٍ من الاختلاف في تصحيح هذا الخبر، فإنَّ هذا الخبر قد ورد من طريق شَريك عن أبي إسحاق السُّبيعي عن عطاء عن رافع، ولبعض أهل العلم كلام في شريك، والصَّواب أنَّه صدوق، وحديث حسن، وطُعِنَ فيه بعلَّة أخرى وهي أنَّ عطاءً لم يسمع من رافع كما قرَّرهُ عدد من أهلِ العلم، ولذلك وقع الاختلاف فيه تصحيحًا وتضعيفًا.
وعلى كلٍّ فإنَّ هذا الحديث فيه إشارة إلى غصبِ الأرضٍ، فمَن غصبَ أرضًا واستعملها؛ فحينئذٍ إن كان غير مُعتدٍ، مثل ما لو زرعها يظنها أرضه؛ ففي هذه الحال للعلماء فيها قولان:
 الأول: يُعطى أجرَة مثله.
 الثاني: يُحسَب على أنه مُزارعة، وينظَر إلى بقيَّة العقود المتماثلة، فيُعطَى هو مثلها.
فهذان قولان متى لم يكن يعلم.
أمَّا إذا كان يعلم؛ فحينئذٍ فيه قولان:
 القول الأوَّل: يُعطَى نفقته، يعني: يُنظَر كم أنفق في شراء الحَبِّ واستئجار العُمَّال، أمَّا جُهدَه فلا قيمة له عندهم.
 القول الثَّاني: لا يُعطَى شيئًا، لما وردَ في الحديث أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» .
ولكن القول الأول أقرب إلى طريقة الشَّريعة، فإنَّ هذا الغاصب وإن كان غاصبًا إِلَّا أنَّه قد دفَعَ قيمة البذر، واستأجر العامل والحاصد؛ فبالتالي يُعطَى ما يُقابل نفقته، وأمَّا جهده فإنه لا يُعطَى عنه شيئًا، وذلك لأنه زرع في أرضِ غيره بدونِ استئذانٍ.
وفي هذا وجوب أن يستأذن الإنسان غيره عند إرادته لاستعمال شيءٍ من أمواله.

{قال -رحمه الله: (وَعَنْ جَابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَم، فَإِذا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قالَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ، فِي أَرْضٍ، أَوْ رَيعٍ، أَوْ حَائِطٍ، لَا يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ، فَيَأْخُذَ أَوْ يَدَعَ، فَإِنْ أَبَى، فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤْذِنَهُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ يُنْتَظَرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِباً، إِذا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدً». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ شُعْبَةُ وَغَيرُهُ بِلَا حُجَّةٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَرُوَاتُهُ أَثْبَاتٌ، وَعَنْهُ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.رَوَاهُ الطَحاوِيُّ, وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ, وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ والطَّحَاوِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقدْ أُعِلَّ)
}.
هذه الأحاديث في الشُّفعَة.
والمراد بالشُّفعَة: استحقاق الشَّريك نصيب شَريكه عند بيعه له.
مثال ذلك: أن يكون هناك أرض بينَ اثنين شراكة، بدون تحديد ما لكلِّ واحدٍ منهما من أقسام الأرض، فهما يملكانها مُناصفةً، مُلكًا مُشاعًا، ولا يُعلَم عينُ مُلكِ كلِّ واحدٍ منهما من الأرض، فقام أحد الشَّريكين ببيعِ نصيبه، ففي هذه الحال يجوز للشَّريك أن يمتلك هذه الحصَّة المباعة بقيمتها، فيدفع للمشتري قيمة هذه الحصَّة المباعة.

وقد أورد المؤلف في هذا الباب عددًا من الأحاديث: أولها: حديث جَابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (قَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالشُّفْعَةِ)، هذا دليل على إثبات مشروعيَّة الشُّفعة، وفيه أنَّ الشَّريك يحق له أن يشفع.
قال: (فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَم)، في هذا دليل على إثباتِ الشُّفعة في المُلك المُشَاع.
ولكن هل هذا دليل على إلغاء الشُّفعَة في غير المشاع من الأملاك؟
قد يدل عليه وقوله: (فَإِذا وَقَعَتِ الْحُدُودُ)، أي: وُضِعَت هذه الحدود وبُيِّنَت ورَتِّبَت.
قال:(وصُرِفَتِ الطُّرُقُ)، أي: وُضِعَت الطُّرق الفاصلة بينَ الأملاك.
قال: (فَلَا شُفْعَةَ)، يعني: لا يحق له حينئذٍ أن يشفع عندما يبيع جاره مُلكه.
وهنا مسألة: هل تثبت الشُّفعة عن بيع الجار لمِلكه؟
هناك جاران وقام أحدهما ببيع ملكه؛ فهل تثبت الشفعة حينئذٍ؟
قال الجمهور: إنَّ الشُّفعة لا تثبت هنا، واستدلوا عليه بهذا الخبر، لقوله: (فَإِذا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ).
وذهب الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- وأصحابُه إلى إثبات الشُّفعة حال الجوار، واستدلوا عليه بحديث جابر: «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ يُنْتَظَرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِباً، إِذا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدً»، واستدلوا عليه بحديث جابر أيضًا: (قَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَيْء)، وفي حديث أنس «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ».
وهناك طائفة ذهبت إلى أنَّه إذا كان هناك منافع مُشتركة بين الجارين فإنَّه يُشرَع حينئذٍ أن يكون هناك شُفعَة.
ومن أمثلة المنافع المشتركة: أن يكون ماؤهما واحدًا، أو يكون بينهما طريق خاصٌّ، أو يكون هناك جدار بينهما بحيث لا يختص كلٌّ واحدٍ منهما بجدارٍ يخصُّه.
والقول الثَّالث يقول: إن كان هناك منافع مُشتركة مثل هذه المنافع؛ فإنَّ الشُّفعة تثبت للجار، وأمَّا إذا لم يكن هناك مَنافع مُشتركة؛ فإنَّ الشُّفعة لا تثبت.
ولعل هذا القول هو أرجح الأقوال، وذلك مُراعاة للمعنى الذي مِن أجله شُرِعَت الشُّفعة، فإنَّها إنما شُرعت من أجل نفي الضَّرر عن ذلك الشَّريك، سواء كان شريكًا في مُلكٍ مُشاعٍ، أو كان شَريكًا في مَنافع تكون بينهما.
ثُمَّ أوردَ حديث جابر أيضًا، أنَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ»، أي: المشاركة.
قال: «فِي أَرْضٍ، أَوْ رَيعٍ»، الربع: هو البُنيان الذي يُمكن تأجيره.
قال: «أَوْ حَائِطٍ»، أي: نخل أو بستان.
قال: «لَا يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ»، أي: المالك «حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ»، وهذا فيه منع أن يبيع الشَّريك نصيبه بدون إذن شريكه، ولكنه لا يُؤدي إلى إلغاء البيع مع المشتري الجديد، وذلك لأنَّ الشرع أثبت الشُّفعة فيه، وإثبات الشُّفعة دليلٌ على صحَّة العقد.
قال: «فَيَأْخُذَ أَوْ يَدَعَ»، أي: يأخذ الشريك أو يدع.
قال: «فَإِنْ أَبَى»، يعني: إن أبى الشريك أن يُعرض على شريكه وأبى الرجوع إليه؛ فحينئذٍ «فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤْذِنَهُ»، يعني: شريكه أحق بذلك الملك حتى يقوم باستئذانه وبإخباره.
ثُمَّ أورد من حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ»، وهذا دليل الحنفية. قال: «يُنْتَظَرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِبً»، فيه أن الشُّفعة يُنتَظر بها الجار وإن كان غائبًا، ولكنه إذا علم بالبيع فحينئذٍ فله أن يشفع عاجلًا، وأمَّا إذا سكتَ فإنَّ حقه يُلغى في الشُّفعة.
قال: «إِذا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدً»، فإذا كان طريقهما واحدًا فحينئذٍ كانت بينهما منافع مُشتركة، فهذا دليل القول الثالث في مسألة شُفعة الجوار.
هذا الخبر قد طعن فيه الإمام شُعبة بن الحجَّاج بأنه من رواية عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطاء عن جابر به، وقدح فيه بسبب روايته لهذا الخبر، ولكن سبب قدح شعبة في هذا الخبر أنَّه لم يتمكَّن من الجمع بين الأحاديث، فنسب الخطأ فيها للراوي، وغير شعبة تبع شعبة في هذا الطَّعن، بينما عبد الملك بن سليمان هو من رواة الإمام مسلم في صحيحه، وبالتَّالي هناك مَن روى هذا الخبر من قول عطاء كأنَّه رأي له، ولكن الصَّواب أنَّ هذا الخبر مَرفوع إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعبد الملك هذا من أهل الحديث، وقد أثنى عليه طوائف كثيرة من أهل العلم.
ثُمَّ أورد المؤلف حديث أنس أنَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ»، فهذا دليل الحنفية على إثبات الشُّفعَة بالجوار، ولكن هذا الخبر قد اختُلف فيه اختلافًا كثيرًا:
 فمرَّةً يُروَى من حديث أنس.
 ومرة يُروَى من حديث الحسن عن سمُرَة، وقد تُكلِّم فيه.
 ومرَّة يُروَى مُتَّصلًا.
 ومرَّةً يُروَى مُرسلًا.
ولذلك تَكلَّم فيه جماعة من أهل الحديث، وقد أشار المؤلف إلى اختلاف النقل في هذا الخبر، ولذا قال: (وَقدْ أُعِلَّ)، أي: أنَّه ذُكر فيه علَّة، والصَّواب أنَّ الخبر من حديث قتادة عن الحسن عن سَمُرَة، وبالتَّالي تكلَّموا في هذه الرواية، وأكثر الرواة يروونه على هذا الإسناد الذي ذكرته لك.
فالمقصود: أنَّ الاختلاف في تصحيح هذا الخبر وتضعيفه هو من أسباب الاختلاف في مسألة إثبات الشُّفعة للجار.
{قال -رحمه الله: (بَابُ السَّبْقِ
عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَابَقَ بَينَ الْخَيلِ الَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ مِنَ الحَفْيَاءِ وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ، وسَابَقَ بَينَ الْخَيلِ الَّتِي لمْ تُضْمَرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ، إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ بِهَا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لـمُسلمٍ. زَادَ البُخَارِيُّ: قَالَ سُفْيَانُ: مِنَ الحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَو سِتَّةٌ، وَبَينَ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَني زُرَيْقٍ مِيلٌ.
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَابَقَ بَينَ الْخَيلِ، وفَضَّلَ القُرَّحَ فِي الْغَايَةِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَو حَافِرٍ، أَو نَصْلٍ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ.
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَينَ فَرَسَيْنِ، وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ». رَوَاهُ أَحْمدُ -وَاللَّفظُ لَهُ- وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَله عِلَّةٌ مُؤَثِّرَة ذَكَرَهَا غيرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ)
}.
قوله: (بَابُ السَّبْقِ)، المراد بالسَّبق: المجاراة بين اثنين فأكثر ليُعرَف مَن هو الأقدر منهما في ذلك الباب.
والسَّبق استعمله النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد ذكر المؤلف عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حديث نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (سَابَقَ بَينَ الْخَيلِ)، فيه دلالة على جواز وضع المسابقات بينَ الخيل.
قال: (الَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ)، أي: التي جُوِّعَت ولم تُعطَ العلف الكثير، وكانوا يقومون بإعطاء الخيل العلف الكثير حتى تَسمن وتكون قويَّة، ثُمَّ بعد ذلك يُقلِّلون علفها، فلا يعطونها إلا الشيء اليسير بقدرِ ما تقتاته، وذلك من أجل أن يَقوى لحمها ويشتدَّ، وتتمكَّن مِنَ السِّباق والجري، فهذه الخيل التي أُضمرَت قد أجرى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها سباقًا (مِنَ الحَفْيَاءِ)، وهو مكان في المدينة (وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ)، وهو مكان بالمدينة يقع في جهة الشَّمال. وفي هذا دليل على جواز المسابقة بين الخيل، وفيه دليل على جواز تضمير الخيل وتجويعها مِن أَجل السِّباق، وفيه أيضًا أن السِّباق لابد أن يُحدد مبدأه ومُنتهاه.
قال: (وسَابَقَ بَينَ الْخَيلِ الَّتِي لمْ تُضْمَرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ، إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ)، فيه دلالة على جواز تسمية المسجد بمَن يسكن حوله، أو بمن قام ببنائه، أو بمن يُصلي فيه.
قال: (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ بِهَ)، أي: مَن سابق بالخيل.
قال: (مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لـمُسلمٍ. زَادَ البُخَارِيُّ: قَالَ سُفْيَانُ: مِنَ الحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَو سِتَّةٌ، وَبَينَ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَني زُرَيْقٍ مِيلٌ).
قال: (وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)، يعني: عن ابن عمر.
قال: (أَنَّ نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَابَقَ بَينَ الْخَيلِ)، يعني: وضع مسابقة.
قال: (وفَضَّلَ القُرَّحَ)، القُرَّح: نوع من أنواع الخيل بلغت سنًّا معيًّنًا -أظنُّه الخامسة فما زاد.
قال: (فِي الْغَايَةِ)، يعني: جعل الغاية أبعد وأكثر من الخيل التي غيرها. وفي هذا دلالة على مشروعيَّة تقسيم أنواع الخيول، بحيث يُسابق كل خيل ما يُماثله، ومثل هذا في باب الإبل، وغيرها من أنواع الدَّواب ما يحصل به المسابقات.
ثُمَّ أورد المؤلف من حديث أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا سَبَقَ»، المراد بالسبق: الجائزة التي تُجعَل لفائز في السباق.
قال: «إِلَّا فِي خُفٍّ أَو حَافِرٍ، أَو نَصْلٍ».
 الخف: كناية عن الإبل.
 الحافر: كناية عن الخيل.
 النَّصل: كناية عن السَّهم.
وفي هذا: جواز بذل عوض المسابقة في هذه الأنواع الثلاثة: مسابقة الإبل، ومسابقة الخيل، ومسابقة الرِّماية.
وبعض أهل العلم قال: هذا حاصرٌ لمجالات السِّباق الجائزة التي تُبذَل فيها الجوائز.
وبعضهم قال: إنما أراد التَّمثيل، وأراد بيان المعنى الذي من أجله جازت المسابقة، ألا وهو القوَّة والانتصار على العدو.
ولعل القول الأول أظهر، فإنَّه قد ورد عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه أجاز بذل العوض في عددٍ من المُسابقات غير هذه الأمور الثَّلاثة، كما ورد أنَّه أجاز بذل العِوض في المصارعة، وأجاز بذل العوض في المسابقات العِلميَّة.
ولذلك قسَّم العلماء المسابقات إلى أنواع:
النَّوع الأول: نوع محرم لا يجوز أن يُفعل: ومن ذلك المسابقات التي فيها إضرار بالمتسابقين، مثل:
- الملاكمَة إذا كانت كذلك.
- ومنها ما يكون مبينيًّا على المصادفة، كما ورد أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن النُّرد، وقال: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ، وما ذاك إِلَّا أنَّها قائمة على المصادفة، وبالتَّالي فكل ما يقوم على الندبات التي تُقرَع بين النَّاس، فهذا قائم على المُصادفة، فيُمنع من استعماله لا بعوض ولا بدون عوض.
النَّوع الثَّاني من أنواع المسابقات: ما يكون غير قائم على المصادفة، ولكنه لا يُعين الناس في قوة أبدانهم، فمثل هذا تجوز المسابقة فيه، ولكن لا يجوز بذل العوض عليه.
النَّوع الثَّالث: ما كان مُعينًا على قوَّة البدن، فمثل هذا تجوز المسابقة فيه، أو كان مُعينًا على مجاهدة العدو؛ فمثل هذا يجوز بذل العوض فيه.

ثُمَّ أورد المؤلف من حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أيضًا أنَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَا بَأْسَ بِهِ».
بذل العوض على أربعة أنواع:
 الأول: قد يكون بذل العوض من قِبَل صاحب الولاية: فهذا جائز ولا حرج فيه.
 الثاني: قد يكون مِن غير المتسابقين، ولكنه ليس من أصحاب الولاية، فهذا وردَ عن الإمام مالك أنَّه يمنع منه.
 الثالث: بذل العوض من بعض المتسابقين دون بعضهم الآخر: فهذا يُجيزه الجماهير، خلافًا لقولٍ قويٍّ في مذهب الإمام مالك.
 الرابع: أن يكون بذل العوض من جميع المتسابقين: فجماهير أهل العلم رأوا المنع من ذلك، واستدلوا عليه بحديث الباب هذا، فقالوا: إنَّه دليلٌ على أنَّه إذا لم يوجد مع المتسابقين من يبذل العوض فإنَّ السِّباق غير جائز، ولذا قال: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ»، يعني: متسابقين كل واحدٍ منهما دفع.
قال: «وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ»، يعني: الثالث الذي لم يدفع يُمكن أن يكون سابقًا لهم، فحينئذٍ لا بأس به، ومَن أدخل فرسًا بين فرسين وقد أمنَ أن يسبق فحينئذٍ وجوده كعدمه، ومن ثَمَّ حكموا عليه بأنَّه قمار.
هذه الصورة الأخيرة جماهير أهل العلم يمنعونها، وهي: إذا كان بذل العوض من جميع المتسابقين، وذلك أنَّ هذا الفرس الجديد الذي معهم لا يأمن أن يسبق، وبالتالي فوجوده كعدمه.
قد الحديث قد اختُلف في إسناده، ومنشأ الاختلاف: أنَّ من رواته راوٍ يُقال له سفيان بن حسين، وهذا ثقة إِلَّا في حديثه عن الزُّهري، وسفيان بن حسين هنا رواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولذا قال طائفة كثيرة: إنَّ الخبر ضعيف الإسناد؛ لأن سفيان بن حسين ضعيف عندما يروي عندما يروي عن الزهري -رحمه الله تعالى.
ثُمَّ إنَّ هذا الخبر قد ورد موقوفًا عن سعيد بن المسيب -رحمه الله تعالى- ومن ثَمَّ فالظَّاهر أنَّ هذا الخبر من كلامه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وليس مرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإذا كان الأمر كذلك وكان الخبر ضعيفًا لم يصح التعويل عليه، وبالتَّالي فلا بأس أن يكون بذل العوض من جميع المتسابقين.
{قال -رحمه الله: (بَابُ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ
عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، عَنِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَ». قَالَ عُرْوَةُ: قَضَى بِهِ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ الصَّعْبَ بنَ جَثَّامَةَ قالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا حِمَى إِلَّا للهِ وَلِرَسُولِهِ». رَوَاهُمَا البُخَارِيُّ.
وَعَنْ سَعِيدِ بنِ زيدٍ أَنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ رُوِيَ مُرْسلًا.
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَل». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيرِ عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ, أَنَّهُ حَدَّثهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيرَ عِنْدَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شِراجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخلَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سَرِّحِ الماءَ يَمُرُّ, فَأَبَى عَلَيْهِ، فاخْتَصَمَا إِلَى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للزُّبيرِ: «اسْقِ يَا زُبَيرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ المَاءَ إِلَى جَارِكَ» فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: «اسْقِ يَا زُبيرُ ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حَتَّى يَرجِعَ إِلَى الْجَدْرِ» فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللهِ إِنِّي لأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم﴾ [النساء:65]. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا إِضْرَارَ، وللرَّجُلِ أَنْ يَضَعَ خَشَبَةً فِي حَائِطِ جَارِهِ، وَإِذا اخْتَلَفْتُم فِي الطَّرِيقِ فَاجْعَلُوهُ سَبْعَ أَذْرُعٍ». رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمدُ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ غِيرِ قَويٍّ)
}.
قوله: (بَابُ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ).
الموات: ما لا يكون مملوكًا ولا مختصًّا به أحد دون غيره، فالموات: الأرض التي انفكَّت عن المِلك والاختصاص.
وإحياؤها: يكون بعمارتها، بحسب نوع تلك الأرض.
وقد أورد المؤلف عددًا من الأحاديث، منها حديث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، عَنِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لأَحَدٍ»، أي: مَن قام بتهيئتها وترتيبها بحسبِ ما يعتاد الناس عليه، سواء بالبناء، أو بالزراعة أو نحو ذلك.
قال: «لَيْسَتْ لأَحَدٍ»، هذا شرط في إحياء الموات، أَلَّا تكون الأرض مملوكة لأحد.
قال: «فَهُوَ أَحَقُّ بِهَ»، يعني مَن قام بها أحقُّ به من غيره. قَالَ عُرْوَةُ: (قَضَى بِهِ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ).
فأمَّا ما كانَ مِلكًا لمالكٍ فهذا لا يُملك بإحياء الموات.
وقوله هنا: «فَهُوَ أَحَقُّ بِهَ»، فيه دليلٌ على أنَّ الأراضي تُملك بإحيائها إذا كانت مَواتًا، واستدل به الجمهور على أنَّه لا يُشترط إذن صاحب الولاية، وبالتَّالي فالمسائل على ثلاثة أنواع:
 النَّوع الأول: ممَّا مَنَعَ وليُّ الأمر من إحيائِه، فهذا لا يجوز لأحدٍ أن يُحييه، ولو أحياه لم يتملَّكه؛ لأنَّه ظالم.
 النَّوع الثَّاني: الأرض التي تكون مملوكة للغير.
إذن عندنا:
- أرض مَنَعَ صاحبُ الولاية من إحيائها.
- وعندنا أرض أَذِنَ صاحب الولاية بإحيائها، فهذه يجوز تملكها بالاتفاق لمَن أحياها.
 النَّوع الثَّالث: إذا سكت ولي الأمر عن إقرار الملك بالإحياء؛ فحينئذٍ هل يملك بالإحياء أو لا يملك؟
قال الحنفية: لا يملك، لابدَّ أن يأذن صاحب الولاية.
وقال الجمهور، ومنهم الأئمة الثَّلاثة: إنَّه يملك؛ لأنَّ قول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ»، وهو حديث عامٌّ، وقد ورد عن جمعٍ من الصَّحابة -رضوان الله عليهم.
وإحياء الموات يكون بعمل ما تحيا به الأرض بحسب أعراف النَّاس.
ثُمَّ أورد المؤلف حديث ابن عباس عن الصَّعْبَ بنَ جَثَّامَةَ قالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا حِمَى إِلَّا للهِ وَلِرَسُولِهِ»، كانوا في الجاهلية يحمون الأرض، يُرسل حصاة فما وقعت عليه قال: هذا حماي، لا أسمح لأحدٍ أن ينتفع به، فيقع في ذلك من النِّزاع والشِّجار والخصومات الشيء الكثير، فجعل النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الملك إنَّما هو بالإحياء، لا بالحِمَى، وبالتَّالي قصر الحمى بأن يكون لله -عَزَّ وَجَلَّ- ولرسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي: ما يُحمَى لينتفع به دواب الإمارة، سواء ما كان مهيًّا ومجهَّزًا للقتال ونحو ذلك، فهذا فيه دلالة على أنَّ صاحب الولاية يجوز له أن يحميَ الأرض.
ثُمَّ أورد من حديث سعيد بن زيد أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً»، "مَن" هنا عامَّة تشمل الصغير والكبير، والذَّكَرَ والأُنثى.
قال: «فَهِيَ لَهُ»، وهذا دليل للجمهور بأنَّه يملك ولو لم يأذن السُّلطان له في التَّملُّك.
قال: «وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ»، أي: العرق الظالم الذي أحيا أرضًا مملوكة لغيره لا يُسوِّغه ويُمكِّنه من تلك الأرض.
ومن هذا: أن يعتدي الإنسان على إحياء غيره، يُحيي شخصٌ أرضًا ثُمَّ يأتي آخر بعد ذلك فيقوم بإحيائها وترتيبها، فهذا من أنواع الظلم.
وقوله: «وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» جاءت في بعض الروايات «وَلَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ»، والمراد بها: أن يغرس الإنسان أو يزرع في ملك غيره من أجل أن يتملك ذلك المِلك.
ثُمَّ أورد المؤلف من حديث أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَل»، في هذا: المنع من تحريم منع الزائد من الماء، فإذا كان عندك ماء زائد شُرِعَ لك أن تقوم بإعطائه لمن احتاج إليه.
وفي هذا بيان أنَّ الكلأ ملك عام، والمراد به: الكلأ الذي ينبت في غير مِلكِ الآخرين، أمَّا إذا نبتَ في ملكِ الإنسان فهو أحق به من غيره، ولكن إذا لم يكن ينتفع به وجبَ عليه أن يبذله لغيره كما هو ظاهر هذا الخبر.
وهذا أيضًا فيه دلالة على أنَّ مَن حفر بئرًا فإنه قد أحيا ما حولها فيتملكه، وبالتالي يكون هذا من أسباب اختصاصه بالكلأ النَّابت هُناك.
ثُمَّ أورد من حديث عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيرِ عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ (أَنَّهُ حَدَّثهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيرَ عِنْدَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، الزبير بن العوام والد عبد الله وعروة، وهو زوج أسماء بنت أبي بكر.
قال: (خَاصَمَ الزُّبَيرَ عِنْدَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شِراجِ الْحَرَّةِ)، الشِّراج: هي مواطن نزول السيل منها. والحرة: أرض في المدينة لها حجارة سوداء صعب المشي فيها.
قال: (الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخلَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سَرِّحِ الماءَ يَمُرُّ, فَأَبَى عَلَيْهِ)، يعني: أنَّ الزُّبير أمسك الماء.
فقال الأنصاري: دع الماء يمشي من عندكَ، فأطلقه ليتمكَّن من الوصول إلى أرضي؛ لأنَّ أرض الزبير مرتفعة، وأرض ذلك الأنصاري نازلة، فهو يحبس عنه الماء، فأبى الزبير أن يُطلق الماء.
قال: (فاخْتَصَمَا إِلَى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للزُّبيرِ: «اسْقِ يَا زُبَيرُ» )، أي: اسقِ نخلك أولًا.
قال: «ثُمَّ أَرْسِلِ المَاءَ إِلَى جَارِكَ»، وفي رواية أنَّه أمره أن يسقيَ إلى موطن قدمه -كعبه- فالأنصاري ظنَّ أنَّ هناكَ ممالأة من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للزبير، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: (أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟)، أي: أن هذا الحكم من أجل أنه ابن عمَّتك؟
قال: (فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، كيف يتَّهمه في حكمه؟ ويذكر عنه أنه اتبع الهوى في الحكم لابن عمَّته.
ثُمَّ قَالَ: «اسْقِ يَا زُبيرُ»، أي: اسق نخلك أولًا
قال: «ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حَتَّى يَرجِعَ إِلَى الْجَدْرِ»، أي: يصل إلى أصول النَّخل والشَّجر، بحيث تأخذ حقها؛ لأنَّ الجذر هو أصل النَّخلة، وذلك إنَّما في الحُكم الأول إنَّما أعطى الزُّبير حُكم على سبيل التورُّع والكرم، فلمَّا تَشَدَّد الأنصاري حَكَمَ حينئذٍ بالحُكْمِ الشَّرعي الفاصل.
فَقَالَ الزُّبَيْرُ: (وَاللهِ إِنِّي لأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم ثمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾ [النساء:65]).
ثُمَّ أورد المؤلف من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ضَرَرَ»، وهو الابتداء بالضُّر.
قال: «وَلَا إِضْرَارَ»، يعني: أنَّ الضَّرر لا يُقابل بضرر أكثر منه.
ثُمَّ قال: «وللرَّجُلِ أَنْ يَضَعَ خَشَبَه فِي حَائِطِ جَارِهِ»، وفي رواية: «خشَبَةً»، وفي هذا دليلٌ على جواز وضع الخشب على الحائط، وكانوا سابقًا يقومون بسقف الغُرف والبيوت بالأخشاب، ويضعونها على الجدارن لتمسكها، ففي جهة الجار هل يلزم وضع جدار جديد من أجل أخشابه؟ أو يكفيه أن يضعه على جدار جاره؟
إن كان الجدار قويًّا فالصَّواب من أقوال أهل العلم -كما هو مذهب أحمد- أنه يجوز وضع الأخشاب عليها.
والجمهور يمنعون من ذلك، ومذهب أحمد أقوى لهذا الخبر.
ثُمَّ قال: «وَإِذا اخْتَلَفْتُم فِي الطَّرِيقِ فَاجْعَلُوهُ سَبْعَ أَذْرُعٍ»، الرواية الأولى واردة في الصحيح، ولكن هذه اللفظة «فَاجْعَلُوهُ سَبْعَ أَذْرُعٍ»، هذه رواية ضعيفة؛ لأنها من رواية جابر الجُعفي، وقد ضعَّفه جماعة من أهل الحديث.
بارك الله فيك، ووفقك الله لكل خير، وجعلنا الله وإيَّاكم مِنَ الهُداةِ المهتدين، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ اللهَ أن يجعلَ ذلك في موازينِ حَسَناتِكُم، هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر.
إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمةٍ، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك