الدرس السادس عشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3608 24
الدرس السادس عشر

المحرر في الحديث (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرحب بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاءِ في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البِناءِ العِلمي، وأرحب بمعالي الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري، فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ}.
الله يحييك، وأرحب بك، وأرحب بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جَلَّ وَعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مُباركًا.
{بإذن الله نبدأ في هذه الحلقة من باب "الخيار في البيع".
قال المُؤلِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ الْخِيَارِ فِي البَيْعِ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «إِذا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا، أَو يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ. وَإِن تَفَرَّقَا بَعْدَ أَن تَبَايَعا وَلم يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا البَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ)
.
وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «البَائِعُ والمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتقِيلَهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
وللدَّارَقُطْنيِّ: «حَتَّى يَتَفَرَّقَا مِنْ مَكانِهِم»)}.
الحمد لله رَبِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياءِ والمُرسلين، أمَّا بعد:
فالمُراد بالخيار: أحقيَّة أَحَدِ المُتَبايِعَين في إلغاءِ العَقدِ بِدون رِضَا الآخر.
والأصلُ في العقودِ أن تكون لازمة، خصوصًا عقود البيع، بحيث إذا تَمَّ العقد فإنَّه ينتقل المِلك بين البائع والمُشتري، ولا يحق لأحدهما إلغاء العقد إِلا برضا الآخر مِن خلال الإقالة، وقد ورد في الحديث أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مِنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ، أَقَاله اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، إِلَّا أنَّ هذه القاعدة التي تتضمن لُزوم آثار عقدِ البيعِ وعدم أحقيَّة أحدهما بالفسخ دون رضا الآخر يُستثنى مِنها مُستثنيات، تسمى عند العلماء بـ "الخيار".
المراد بالخيار: أحقيَّة أحد المُتَعَاقِدَين في إلغاءِ العَقد بدون أن يكون هناك رضا مِن الآخر في العقود اللازمة، ومن العقود اللازمة: عقد البيع.
وللخيار أسباب مُتعددة، منه مَا أشير إليه في حديث عائشة المتقدِّم الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ، وذلك أنَّ رَجُلاً اشترى غُلامًا مِن آَخر، ثُمَّ بعد مُدَّة اكتشف فيه عيبًا، فَذَهَبَ إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَضَى بِرَدِّ العبدِ وإلغاء العقد.
فقال البائع: يا رسول الله، إنَّه قد اشتغلَّ عبدي مُدَّةً، فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ»، بمعنى: أنَّه لو هَلَكَ العبدُ في تلك المدَّة لَوَجَبَ على المُشتري ضَمَانه، فيتلف في ماله، فإذا كان الضمان عليه كان الخراج له مِن غلَّةٍ أو مَنفعةٍ، أو نحو ذلك.
ففي هذا إثبات خيار العيب.
وهكذا هناك أنواعٌ مِن أنواع الخيارات الأخرى، منها: خيار المجلس.
وخيار المجلس المراد به: أنَّ المُتَبايعين ما داما في مجلس عقدِ البيعِ فيجوز لكل واحدٍ مِنهُمَا على الإنفراد أن يُلغيَ العقدَ كما هو مَذهب الإمامين الشَّافعي وأحمد، لهذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف، مِنْهَا قول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَ» ، وقال هنا في اللفظ: «إِذا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ»، أحدهما بائعٌ والآخر مُشترٍ، فكل واحدٍ مِنْهُما بالخيار، فيجوز له إلغاء العَقد مَا لَمْ يَتَفَرَّقا.
ومَذهب الشَّافعي وأحمد على أنَّ التَّفرُّق المراد به: التَّفرُّق بالأبدان، أي: ما دامت أبدانهما في مجلسِ العقدِ فلهما خيار المجلس.
ولفظة «مَا لمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعً» دالةٌ على مَذهبِ الشَّافعي وأحمد.
وقال أبو حنيفة ومالك: إنَّ التَّفرق يكون بالأقوالِ، أي بإنهاء عقد البيع.
واستعمال لفظة "التَّفرق" في التَّفرق بالأقوال هَذا استعمالٌ مجازيٌ؛ لأنَّ الأصلَ في حقيقةِ الكلامِ أنَّ التَّفرقَ يُرادُ به التَّفرق بالأبدانِ، ولا يَصِحُّ أن نترك المعنى الحقيقي لمعنى مجازي إِلَّا بدليل.
قال: «أَو يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ»، بمعنى أنَّه يُلغي أحدهما خيار نفسه، فيقول: ليس لي خيار مجلس في هذا العقد، وخيار المجلس لك وحدك؛ فحينئذٍ يَسقط حَقَّه مِن الخِيارِ؛ لأنَّ الخيارَ جَعَلَه الشَّارع حقًّا له، ويجوز له أن يُسقط حُقُوقَه.
قال: «فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ»، أي: أصبح لازمًا وعقدًا ثابتًا.
قال: «وَإِن تَفَرَّقَا بَعْدَ أَن تَبَايَعا وَلم يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا البَيْعَ»، أي: لم يُلغِ أحدهما البيع، ولم يستعمل خيار المجلس؛ فحينئذٍ وجب البيع، ففي هذا دلالة لمذهب الشَّافعي وأحمد في إثبات خيار المجلس.
وفي الحديث أيضًا: أنَّ خِيارَ المجلس مَرهُونٌ ببقاءِ أبدانهما في مجلس العقد، فإن كانا في غُرفة واحدةٍ فيثبت العقد بخروج أحدهما مِن هذا المكان، وإن كانا في سفينة فبصعود أحدهما إلى علو السَّفينة إن كانت السَّفينة غَير مُقسَّمة، وفي آلات التَّواصل الحديثة مثل: الهاتف ونحوه فبإغلاق خط الاتصال بين البائع والمشتري يَنتهي حينئذٍ خِيار المجلس.
وهذا الحديث قَد رواه الإمام مالك عن نافع عن ابن عمر، ولذلك تَعَجَّب كثيرٌ مِن العُلَماء من مالك كيف لم يأخذ بهذا الحديث، ولعلَّ مالكًا -رحمه الله- تأوَّل هذا الحديث ففسَّر التَّفرُّق بالتَّفرُّق بالألفاظ، ولم يُفَسِّره بالمعنى الحقيقي وهو التَّفرق بالأبدان.
ثُمَّ أوردَ المؤلفُ مِن حديثِ عمرو بن شُعيبٍ عَن أبيه عَن جَدِّه، وهذا إسنادٌ حسنٌ، أبوه شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص صدوق، وقد رواه عن عمرو بن شعيب بن عجلان، وابن عجلان صدوق، فالحديث حسن الإسناد، قال: (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «البَائِعُ والمُبْتَاعُ»)، أي: المشتري. «بِالْخِيَارِ»، أي: لهما حق الخيار «حَتَّى يَتَفَرَّقَ»، وتقدَّم معنا أنَّ مالكًا وأبا حنيفة قالا: المراد التَّفرُّق بالأقوال، وأنَّ الشَّافعي وأحمد قالا: المراد التَّفرُّق بالأبدان، وهو المعنى الحقيقي، ولذلك فقولهما أرجح مِن قول مَن سبقهما.
قال: «إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ»، قيل: إنَّ المراد بها: أن يقول له: لا خيار لك، أو اختر من الآن؛ فتكون صفقة خيار.
والصفقة: هي العقد، وسميت بذلك؛ لأَنَّهم كانوا يُصفقون أيديهم ببعضها عند وجود البيع.
قال: «وَلَا يَحِلُّ لَهُ»، أي: لا يجوز له.
«أَنْ يُفَارِقَهُ»، أي: لا يجوز لأحد المتعاقدين أن يُفارق المتعاقد الآخر وينتقل من مكان العقد.
«خَشْيَةَ أَنْ يَسْتقِيلَهُ»، أي: خشية أن يطلب إلغاء العقد وفسخه، فإنه حينئذٍ يكون قد ناقد المقصود مما ابتدأ به من إثبات خيار المجلس للمتعاقدين بعقد البيع.

{قال -رحمه الله: (بَابُ الرِّبا
عَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لعَنَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آكِلَ الرِّبا وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ وشَاهِدَيْهِ وَقَالَ: «هُمْ سَوَاءٌ». رَوَاهُ مُسلمٌ)
}.
قوله: (بَابُ الرِّب).
المُرَاد بالرِّبا في اللغة: الزِّيادة.
وأمَّا في اصطلاح الشَّرع، فالمراد به: زيادة أحد مَحلي عقدي البيع على الآخر بتأجيلٍ أو بعدمه.
والرِّبا ثلاثة أنواع:
أولها: ربا الفضل: وهو بيع سلعة رِبويَّة بسلعة رِبويَّة مِن جِنسها، أحدهما أكثر من الآخر.
المراد بالسلعة الربوية: ما وُجد فيها عِلَّة الرِّبا.
والأظهر من أقوال أهل العلم: أنَّ علة الرِّبا هي: الطُّعمُ والكيل، فكل سلعة فيها طُعمٌ وكيل فهي مِن أَصنافِ الرِّبا.
إذن هذا هو النوع الأول من أنواع الرِّبا، ويسمى "رِبَا الْفَضْل"، بيع ربوي بربوي من جِنسه أحدهما متفاضل.
والمراد بالربويِّ: كل سلعة مكيلة مَطعومة، أو مَوزونة مَطعومة، أو كانت ثمنًا للأشياء.
من أمثلة ذلك: الأزر، والبُرّ، فهذه سلع ربوية، فإذا بعتَ الأرز فلا يجوز أن تجعل أرزًا مُقابل أرزٍ أحدهما مُتفاضلًا.
ولا تبع تمرًا بتمرٍ أحدهما أكثر من الآخر في حَجمه.
ولا يجوز أن تبيع تسعة ريالات بعشرة ريالات؛ لأنَّ الرِّيالات ثمن للأشياء، فهي سلع رِبَوية.
الثاني: رِبَا النَّسِيئَة، والمراد به: بيعٌ ربويٌ بربويٍ يُشاركه في العِلَّةِ، أَحدهما مُؤجَّل.
من أمثلة ذلك: أن تبيع تمرًا بِبُرٍّ أحدهما مُؤجَّل؛ لأنَّ التَّمرَ والبُرَّ كلاهما رِبوي، وَعِلَّتَه واحدة وهي الكيل والطُّعمُ، وبالتالي لم يَجُز بيع أحدهما بالآخر نساءةً أو مؤجَّلًا.
ومثله لو بعتَ عشرة ريالات بثلاثة جنيهات مؤجَّلة، فهذا أيضًا لا يجوز؛ لأنَّه بيع ربوي بربوي يَشتركان في عِلَّةٍ واحدةٍ وهي الثَّمنيَّة، فلم يجز التَّأخير فيه.
الثالث: ربا القروض، يُعطيه ألفًا على أن يَردَّ ألفًا ومائة، فهذا الرِّبا قد جَمَعَ رِبَا الفَضْلِ وَرِبَا النَّسِيئة؛ لأنَّه بيعٌ ربويٌ بجنسه مُتفاضلًا، وهو في نفس الوقت بيعٌ ربويٌ بربويٍ أحدهما مُؤجَّل، فكان إِثْمُهُ أشنع.
والرِّبا كبيرةٌ من كبائرِ الذُّنوب، وقد جاءت النُّصوص بالتحذيرِ منه، يقول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجتَنبوا السَّبعَ الموبقاتِ» ، وذكر منها «آَكِلُ الرِّبَ»، وقال الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 278- 279].
وهكذا مِنَ الأَدلة على عِظَم إِثْمِ الرِّبَا هذا الحديث الذي ذكره المؤلف، أنَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لعَنَ)، أي: حَكَمَ بِإِبعَادِ مَن يأتي بالرِّبَا.
قال: (آكِلَ الرِّب)، أي: من يأخذ الرِّبا.
قال: (وَمُوكِلَهُ)، أي: مَن يَقُوم بِإِعطاءِ الرِّبَا.
قال: (وَكَاتِبَهُ)، أي: مَن يُوَثِّق عُقود الرِّبا.
قال: (وشَاهِدَيْهِ)، أي: مَن يَشْهَدُ في عُقود الرِّبَا.
قَالَ: «هُمْ سَوَاءٌ»، أي: جميعهم مُستَحِقُّون لهذا اللعن.
وفي هذا دلالةٌ على تحريمِ الرِّبا، وتحريمِ أَخْذ الرِّبا وإعطائه، وكذلك تحريم كِتابة عُقُودِه، وتحريم الشَّهادة عليه.
ويدخل في هذا ما لو كان الرِّبا بِنسبٍ يَسيرة؛ فإنَّه حينئذٍ يكون قد كتبَ عَقدًا مُشتملًا على الرِّبا، على الصَّحيحِ مِن أقوالِ أَهلِ العِلم، وهكذا لا يقوم بأكله، ويستهين بمقداره، فإن الرِّبا مُحَارَبَةٌ لله -جل وعلا- وبالتَّالي لا يَصِحُّ من الإنسان أن يأكل الرِّبا ولو ادَّعى أنَّ نسبته قليلة.
{(وَعَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عبدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الرِّبا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابً». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ -وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهِمَا- وَزَادَ: «إِنَّ أَيْسَرَها مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَا الرِّبا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ»)}.
هذا الحديث كثيرٌ مِن أَهلِ العِلمِ يَقُول: إنَّه معلولٌ، وفيه عِلَّةٌ أوجبت تَرْكَه وَرَدَّه وَعَدَم القَبول به.
قوله: «الرِّبا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابً»؛ لأنَّه أنواعٌ مُتعددةٌ، وقد ذكرتُ لك أصولها فيما تقدَّم.
وقوله: «إِنَّ أَيْسَرَها مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ»، هذا فيه تعظيم إثم الرِّبا.
قال: «وَإِنَّ أَرْبَا الرِّبا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ»، أي: الكلام بالغيبة والقدح وذكر مَعَايب الآخرين، فكأنَّه جعله مِن أَشْنَع أَنْوَاعِ الرِّبا. والخبر -كما تقدم- معلول.

{(وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيْعُوا الوَرِقَ بِالوَرِقِ, إِلِّا مِثْلًا بِمِثْلٍ, وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلى بَعْضٍ, وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا مِنْهُمَا بِنَاجِزٍ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قوله: «لَا تَبِيعُو»، هنا نهيٌ، والنَّهي يَقتضي التَّحريم، ويقتضي فساد العقدِ.
والبيع: هو المبادلة بين السِّلع.
قال: «الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ»، الذَّهبُ مِن الرِّبويَّات، وذلك لأنَّه ثمنٌ مِن الأثمانِ، ومن ثَمَّ لا يجوزُ أن تبيعَ ذهبًا بذهبٍ إلا بشرطِ التَّماثلِ؛ لأنَّهما إذا لم يتماثَلا فحينئذٍ يكون ربا فضلٍ.
قال: «إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ»، أي: متساوية في المقدارِ الشَّرعيِّ وهو الميزان.
قال: «وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ»، المراد بذلك: أن تزيدوا بعضها على بعضها الآخر، بحيث يكون أحدها أفضل من الثَّاني.
قال: «وَلَا تَبِيْعُوا الوَرِقَ بِالوَرِقِ، إِلِّا مِثْلًا بِمِثْلٍ»، يعني الفضَّة؛ لأنَّ الفضَّةَ يدخلها الرِّبا لكونها من الأثمان.
قال: «وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلى بَعْضٍ»، أي: لا تزيدوا بعضَها على بعضِها الآخرِ.
قال: «وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا مِنْهُمَا بِنَاجِزٍ»؛ لأنَّه حينئذٍ يكون هناك ربا نسيئةٍ، فهو بيعٌ ربويٌّ بربويٍّ يشاركه في العلَّة، لكنَّ أحدَهما مؤجَّلٌ، فهذا مِن رِبا النَّسيئة.
{(وَعَنْ أَبي الْأَشْعَثِ، عَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيفَ شِئْتُم، إِذا كَانَ يدًا بِيَدٍ». رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
هذا الحديث رواه عبادة بن الصَّامت، وأخرجه مسلم، أنَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ»، الذَّهبُ من السَّلع الرَّبويَّة، لأنَّه ثمنٌ، وبالتَّالي إذا بيع الذَّهبُ بالذَّهبِ فلابدَّ من التَّماثلِ لئلَّا يحصل ربا الفضلِ.
قال: «وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ»، الفضَّة من الرِّبويَّات لكونها ثمنًا للأشياءِ، وبالتَّالي فإن الرِّبا يجري فيها.
قال: «وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ»، وهو القمح، فإذا بعتَ قمحًا بقمحٍ فلابدَّ من التَّساوي، ولابدَّ من التَّقابُضِ، وفيه جريان الرِّبا في البُرِّ، والعلَّة فيه أنَّه مطعومٌ مكيلٌ.
قال: «وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ»، أيضًا فيه جريان الرِّبا في الشَّعيرِ، وعلَّته أنَّه مطعومٌ مكيلٌ.
قال: «وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثلًا بِمِثْلٍ»، فهذه السِّلع يجري فيها الرِّبا لكونها مشتمِلَةٌ على المعنى الموجود في غيرها من الطُّعمِ والكيلِ.
قال: « مِثلًا بِمِثْلٍ»، فلابدَّ من التَّماثلِ في المثليَّة.
قال: «سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ»، يعني مُسلَّمًا يدًا بيدٍ.
قال: «فَإِذا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ»، يعني الأصناف السَّابقة؛ فحينئذٍ لا يوجد ربا فضلٍ، ولذا قال: «فَبِيعُوا كَيفَ شِئْتُم، إِذا كَانَ يدًا بِيَدٍ»، لأنَّ الرِّبويَّ بالرِّبويِّ سواءً مِن جنسِهِ أو مِن غيره فالأصلُ فيه أن يكونَ حاضرًا.
{(وَلهُ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَو اسْتَزَادَ فَهُوَ رِبً»)}.
قوله: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ»، فيه أنَّ الذَّهبَ من السِّلع الرِّبويَّة، وقد تقدَّم معنا أنَّ هناك مَن يرى أن العلَّة في الذَّهبِ هي الثَّمنيَّة، وبعضهم قال: العلَّة في الذَّهبِ كونه موزونًا، ولعلَّ القولَ الأوَّل أظهر، وأمَّا الاستدلالُ بهذا الخبر بقوله: «وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ»، فهذا فيه جريانِ الرِّبا في هذه السِّلع، وأنَّ المعيارَ في تحديدِ المساواةِ وعدمِها هو الوزنُ، وليسَ فيه أنَّ العلَّة في جريانِ الرِّبا في كونِه موزونًا.
قال: «مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَو اسْتَزَادَ فَهُوَ رِبً»، لأنَّه قد زادَ.
{(وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيْبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟» فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بالصَّاعَيْنِ، والصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاث, فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَفْعَلْ بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيْبً» وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ, وَلمسْلمٍ: «وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قال: (عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ)، فيه استعمالُ الرِّجالِ على المدنِ والولاياتِ.
قال: (فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيْبٍ)، التَّمرُ الجَنِيبُ هو نوعٌ جيٌد مِن أنواعِ التُّمورِ، وفيه أنَّ التُّمورَ ليست على درجةٍ واحدةٍ في الرَّغبةِ فيها وفي انتقائها.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سائلًا له: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟»، يعني أنَّه جَنيبٌ وأنَّه تمرٌ جيد؟
فَقَالَ: (لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ)، ليس ثمرها جيدًا كهذا كله.
فقال: (إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بالصَّاعَيْنِ)، ندفع صاعين مِن بقيَّة أنواعِ التُّمورِ لنأخذَ صاعًا واحدًا، فهنا بيعُ تمرٍ بتمرٍ، والتَّمرُ سِلعةٌ ربويَّةٌ لكونِه مكيلًا مَطعومًا، ولم يحدث التَّساوي والتَّماثل، ولذا حَكَمَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليه بالمنعِ، وفي بعضِ ألفاظه أنَّه قال: «حرام».
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَفْعَلْ»، أي: هذه الطريقة التي تفعلها غير جائزة في الشَّرعِ.
قال: «بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ»، أي: بِعْ نوعَ التَّمرِ الجمْعِ بواسطةِ الدَّراهمِ، فإذا قبضت الدَّراهمَ فاشترِ بالدَّراهمِ مِن أمثالِهِ.
قوله: (وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ)، أي: لابدَّ من التَّساوي بين الموزونات.
هذا ما يتعلَّق بهذا الخبر، أسألُ الله -جَلَّ وَعَلا- أن يوفِّقنا وإيَّاكم لكلِّ خيرٍ، وأن يجعلنا وإيَّاكم مِن الهداة المهتدينَ، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

{وفي الختام نشكركم مَعالي الشَّيخ على ما تُقدمونه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم، هذه تحيَّة طيِّبة مِن فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدِّثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمةٍ، إلى ذلكم الحين نَستودعكم الله الذي لا تَضيعُ ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك