الدرس الثالث والعشرون

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3607 24
الدرس الثالث والعشرون

المحرر في الحديث (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأُرحبُ بمعالي الشَّيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري، فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم معالي الشَّيخ}.
الله يحييك، أرحبُ بك، وأرحب بإخواني المشاهدين الكرام، وأسألُ اللهَ -جَلَّ وعَلَا- أن يَرزقهم العِلم النَّافِع، والعمل الصَّالح، والنيَّة الخالصة.
{نبتدئ في هذا الدرس -بإذن الله- من باب "الوصية" من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رحمه الله: (عَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ، يَبِيْتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسلمٍ، وَزَادَ: وَقَالَ: عَبدُ اللهِ بنُ عمرَ: مَا مَرَّتْ عَليَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ ذَلِكَ إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي.
وَعَنْ عَامرِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: عَادَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنَ الوَجَعِ وَأَنا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنةٌ لي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لَ».
قلتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: «لَا، الثُّلُثُ، وَالثُلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَدعُ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُم عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَلَسْتَ مُنْفِقَاً نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلَّا أُجِرْتَ بهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلُ عَمَلاً تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ»، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُم عَلَى أَعْقَابِهِم، لَكِنِ البَائِسُ سَعْدُ بنُ خَوْلَةَ». رَثَى لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَن تُوفِّيَ بِمَكَّةَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَلم تُوصِ، وأَظنُّها لَو تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقتْ أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ أَيْضَاً، وَلم يَقُلِ البُخَارِيُّ: وَلمْ تُوصِ.
وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ بنِ عَيَّاشٍ، عَنْ شُرَحْبِيلِ بنِ مُسْلمٍ الْخَولَانِيِّ، عَنْ أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، ولِلعَاهِرِ الْحَجَرُ وحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ، وَمَنِ ادَّعَى إِلَى غَيرِ أَبِيهِ أَو انْتَمَى إِلَى غَيرِ مَوَالِيْهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ التَّابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا تُنْفِقُ امْرَأَةٌ منْ بَيتِ زَوْجِهَا إِلَّا بِإِذْنِ زَوجِهَ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَلَا الطَّعَامَ؟ قَالَ: «ذَاكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَ»، وَقَالَ: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ، والمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ، وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ، والزَّعِيمُ غَارِمٌ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ وَحَسَّنهُ- وَبَعْضُهُمْ اخْتَصَرَهُ. وشُرَحْبِيلُ مِنْ ثِقَاتِ الشَّامِيين، قَالَهُ الإِمَامُ أَحْمدُ، وَضَعَّفَهُ يَحْيَى بنُ مَعِينٍ)
}.
الحمدُ لله ربِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعدُ:
فالمراد بالوصيَّة: هي التَّصرفات التي يَأمُرُ الإنسانُ أن تُفعل بعدَ مماته.
والوصية على نوعين:
 النَّوع الأول: وصيةٌ في الأموالِ.
 النَّوع الثَّاني: وصيةٌ في التَّصرفات غَير الماليَّة، ومن ذلك مثلًا: أن يُوصِّي على تربية أبنائه، فيوصي فُلانًا أن يُربيهم، أو يُوصي فُلانًا أن يُزوِّج بناته، ونحو ذلك.
وفي الغالب يذكر في هذا الباب الوصية الماليَّة، وإن كانت بعض ألفاظ الأحاديث الوارد فيه تشمل شيئًا من الوصايا غير الماليَّة.
وقد أورد المؤلف فيه عددًا من الأحاديث، أوَّلها: حديث ابن عمر-رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- وهو حديث متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ»، أي: من الأحوط والأحزم للإنسان أن يفعل هذا.
وبعضهم قال: «مَا حَقُّ امْرِئٍ»، يعني: من الواجب على الإنسان أن يُوصي بوصيَّة إذا كان في ماله حُقوق يجب عليه تنفيذها ولم يَقم بها بعدُ.
وقيل: إنَّ الوصية واجبة، وقيل: إنَّ الوجوب إنما يكون عندما يكون في ذمَّة الإنسان حقوق وواجبات يخشى أَلَّا يتمكَّن من القيام بها.
وقوله: «مَا حَقُّ امْرِئٍمُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ»، أي: له شيءٌ يجب عليه أن يُوصي فيه، فاستعمل «يُريد»، بمعنى: الوجوب.
وبعضهم قال: إنَّ هذا الحديث على وجهه، ويُراد به: كل ما يكون على رغبة الموصِي.
ويقولون: إنَّ قوله: «مَا حَقُّ»، ليست على الوجوب، وإنَّما على الاستحباب.
وقوله: «يَبِيْتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»، من أجل أن يتمكَّن من حفظِ هذا الحق.
وزاد عند مسلم أن ابن عَبدُ اللهِ بنُ عمرَ قال: (مَا مَرَّتْ عَليَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ ذَلِكَ إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي)، فهذا تنفيذ من الصَّحابة وتطبيق للأحاديث النبويَّة التي وصلت إليهم.
ثُمَّ أورد المؤلف من حديث عَامرِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، وهو حديث صحيح مُتفق عليه، قَالَ: (عَادَنِي)، يعني: زاره في مرضٍ أُصيب به، وفي هذا استحباب عِيادة المرضى.
قال: (عَادَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ)، فيه أنَّ الْمُحْرِمَ يَعودُ المرضى، وحجَّة الوداع وقعت في السَّنة العاشرة قبل وفاة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بوقتٍ قليلٍ، قُرابة الثَّلاثة أشهر، وفيه أنَّ الإمام الأعظم يَزور المرضى، خُصوصًا ممَّن يكون له مكانة ومنزلة.
قال: (عَادَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ)، أي: بسببِ وجع، وهو الألم.
قال: (أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ)، يعني: أصابه إصابةً شديدة حتى ظنَّ أنَّه سَيهلك بسبب ذلك المرض.
فلما زار النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سعدَ بن أبي وقَّاص، قال له: (يَا رَسُولَ اللهِ، بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنَ الوَجَعِ)، يعني: أنَّه قَد أُصيبَ في مَرَضِه إِصابةً شديدةً.
قال: (وَأَنا ذُو مَالٍ)، فيه أنَّه ليس مِنَ الزُّهد تَركُ المال، وإنَّما الزَّهدُ هو: استعمالُ المال في مَراضي الله.
قال: (وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنةٌ لي وَاحِدَةٌ)، يعني: لم يكن من الورثة في ذلك الزَّمان إِلَّا هذه الابنة.
ويظهر لي: أنَّ مُراده: لا يوجد لي من الأولاد من يكون وارثًا لي إِلَّا ابنة، وبالتَّالي قد يكون عنده زوجة، ويدلُّ عليه ما ورد في الحديث من قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ»، وقد يكون أيضًا له قَرابة من الإخوة أو الأعمام، أو نحو ذلك، وبالتالي قوله: (وَلَا يَرِثُنِي)، يعني: لا يوجد مَن يرثني على سبيل الفرضِ أو التَّعصيبِ من الأولاد.
ثُمَّ سأله فقال: (أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟)، يريد بذلك أن يُوصيَ به بعد وفاته.
فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَ»، أي: لا تُوصي بذلك.
قال: (أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟)، يعني: بالنِّصفِ، وفيه الوصية بنصف المال.
فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَ»، يعني: لا يجوز لك أن تَصَدَّقَ بالنِّصف.
ثم قال: «الثُّلُثُ»، يعني: يجوز لك أن تتصدق بالثُّلثِ. قال: «وَالثُلُثُ كَثِيرٌ».
قوله: «إِنَّكَ إِنْ»، بالكسر، وتكون في تقدير جملة، وفي رواية «إِنَّكَ أَنْ»، بالفتح بتقدير مُفرد، تكون خبر "إنَّ". وهذا حرف من حروف الشَّرط.
قال: «إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ»، الورثة: مَن يَرِثُون سواء بالفرضِ أو التَّعصيب.
قوله: «تَذَرَ»، أي: تترك أولادك وقرابتك.
قوله: «وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ»، يعني: يتمكَّنون من القيام بحوائجهم.
قال: «خَيرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُم عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»، عالة: أي مُستندين في أمورهم الماليَّة على غيرهم.
يتكففون الناس: أي يسألون النَّاس بأكفِّهم؛ ليضعوا فيها مالًا ينتفعون به.
قال: «وَلَسْتَ مُنْفِقً»، أي: أنَّك إذا أنفقت أيَّ نفقة.
قال: «وَلَسْتَ مُنْفِقًا نَفَقَةً»، النَّفقة قد تكون صدقة، وقد تكون النَّفقة على الأولاد، وقد تكون هديَّة؛ كل هذه تُسمى نفقة.
قال: «تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ»، أي: تنوي بها رضا رَبِّ العِزَّة والجلال، وتنوي رِفعَة الدَّرجة عنده «إِلَّا أُجِرْتَ بهَ»، وفي هذا فضيلة أن ينوي الإنسان بجميع أعماله طاعة الله.
قال: «حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ»، قيل: إنَّ المراد به وضع الطَّعام أمام الزَّوجة لتأكل منه، وهذا فيه النَّفقة على الأهل.
وقيل: إنَّ المراد بذلك أنَّه يضعُ الأكل حقيقةً في فَمِهَا؛ لتتمكَّنَ مِنْ مَضغه.
والقول الأول يَشهد له السِّياق في قوله: «وَلَسْتَ مُنْفِقَاً نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلَّا أُجِرْتَ بهَ».
ثُمَّ قال: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟)، يعني: هل سيأتيني الموت في مَرضي هذا أو سأبقى بعد هذا المرض ويُعافيني الله-عَزَّ وَجَلَّ- منه؟
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلُ عَمَلاً تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً»، في هذا علامة من علامات النُّبوة، أنَّ سعد بن أبي وقاص سيبقى.
هنا في قوله: «إِنَّكَ إِنْ تَذر وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ»، وُلِدَ لسعد بعد هذه الابنة عدد من الأبناء، منهم عامر بن سعد الذي روى هذا الحديث، ومنهم قيس بن سعد بن أبي وقاص-رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
قال: «إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ»، أي: لو قُدِّرَ أنَّك تُخلَّف وتَبقى «فَتَعْمَلُ عَمَلاً تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ»، أي: تريد رضاه «إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً»، أي: يُعليكَ الله منازلًا، ويكون عندك رصيد في الدَّرجات.
قال: «وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفَ»، كأنَّ هذا عِلم النُّبوة، فأخبر أنَّه سيبقى، ولن يكون ذلك آخر عهده بالدُّنيا.
قال: «وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ»، هذه علامة أخرى من علامات النُّبوة، فإنَّ سعد بن أبي وقاص انتفع منه أقوام بعد ذلك، وتضرر به آخرون، فانتفع به أهل الجهاد، وأهل الطاعة، وضُرَّ به المجوس وأهل فارس في ذلك الزَّمان.
ثُمَّ قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ»، أي: اكتب أجرها لهم، وأبقها في ثوابِ حسناتهم.
قال: «وَلَا تَرُدَّهُم عَلَى أَعْقَابِهِم»، أي: لا تُقَدِّر عليهم الموت في مكة، وبالتَّالي يكونون قد عادوا وَرُدُّوا على أعقابهم إلى مكة فماتوا فيها.
قال: «لَكِنِ البَائِسُ سَعْدُ بنُ خَوْلَةَ»، سعد بن خولة مات في مكَّة، وبالتَّالي كأنَّ هذا نقض للهجرة التي هاجرها، ولذا قال: (رَثَى لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَن تُوفِّيَ بِمَكَّةَ).
وسعد بن أبي وقاص بقي بعد هذا الخبر أكثر من أربعين سنة، وفتح الله على يديه القادسيَّة، وكان أميرًا على العراق في وقت عمر-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقد أسلم على يديه كثير من الناس، وبالتالي انتفع به أقوام كُثُر، فهذا من علامات النبوة.
ثُمَّ أورد المؤلف من حديث عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: (أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي: حضر إليه.
قالت: (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَ)، أي: أصابها الموت فجأة.
قال: (وَلم تُوصِ)، لم تكتب وصية، ولم تتكلم بالوصية.
قال: (وأَظنُّها لَو تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقتْ)، أي: أظنُّها لو تمكنَّنت من الكلام لتكلمت بالوصية.
قال: (أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ»)، أي: لها أجر.
ثُمَّ أورد المؤلف من حديث إِسْمَاعِيلَ بنِ عَيَّاشٍ، وإِسْمَاعِيلَ بنِ عَيَّاشٍ من عُلماء الشَّام، ولكنه إذا روى عن غير أهل البلد كان في حديثه شيء من الاضطراب، وإذا روى عن أهل البلد -بلده الشام- لم يكن في حديثه اضطراب، ولذلك هذا الخبر عن إسماعيل بن عياش عن شُرَحْبِيلِ بنِ مُسْلمٍ الْخَولَانِيِّ، وشرحبيل هذا من أهل الشَّام، فيكون هذا الحديث حسن الإسناد.
عَنْ أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: (سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ)، حجَّة الوداع كانت في السَّنة العاشرة، وقد خطب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطبة عامَّة، يُسمِع النَّاس فيها جميعًا، وكان من خطبته أن قال: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ»، يعني: في الفرائض والمواريث، فكل وارث مَعروف نصيبه.
ثُمَّ قال: «فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، يعني: لا يجوز للإنسان أن يُوصي لوارث.
وهنا مسألة، وهي: إذا أجاز الورثة الوصية للوارث؛ فهل إجازة الورثة إمضاء لتصرف سابق؟ أو هي استحداث لتصرف لاحق؟
مثال ذلك: قال: أُوصي لزيدٍ من أبنائي بألف ريال، أو بعمارة. ثُمَّ تُوفي المُوصي، فبعد وفاته جاءهم أجرة لتلك العمارة، ثُمَّ إنَّ الورثة أقروا هذه الوصية، فهل هذا الإقرار يعدُّ إنفاذًا للوصية التي تبدأ من الموت، أو هي وصية تبدأ من وقت إمضاء وإجازة الورثة؟ وبالتالي الغلَّة التي حصلت تكون لمن؟
قال: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ»، يعني: نسب الولد ثابت، يُنسَب إلى مالك الفِراش.
والمراد بفراش المرأة: زوجها.
وفراش الأمة: سَيدها.
وبالتَّالي أثبت الولد للفراش، فإذا كانت المرأة زوجة لرجلٍ أو أَمَة لرجلٍ؛ فحينئذٍ يثبت النَّسب؛ لأنَّ الولد للفراش، وهذا الرجل له فراش.
قال: «ولِلعَاهِرِ الْحَجَرُ»، العاهر: الزَّانية أو الزَّاني.
الْحَجَرُ: يعني أن يُرمَى، وذلك لأنَّه لا نصيب له في الولد.
قال: «وحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ»، أي: يؤاخذهم الله بذلك، ويقررهم على أعمالهم.
قال: «وَمَنِ ادَّعَى إِلَى غَيرِ أَبِيهِ»، أي: انتسب إلى غير أبيه.
قال: «أَو انْتَمَى إِلَى غَيرِ مَوَالِيْهِ»، يعني: إذا أُعتق، ثم جاء وقال: ليس لآل فلان ولاية عَلَيَّ، أوليائي آل فلان! نقول: هذا لا يُقبل.
قال: «فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ التَّابِعَةُ»، أي: المستمرة المتجددة إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ثم قال: «لَا تُنْفِقُ امْرَأَةٌ منْ بَيتِ زَوْجِهَا إِلَّا بِإِذْنِ زَوجِهَ»؛ وذلك لأنَّه مال الزَّوج، إِلَّا إذا كان هناك إذن عُرفي؛ فحينئذٍ يُؤخذ بهذا العُرف.
قال: (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَلَا الطَّعَامَ؟)، أي: إنَّ المرأة لا تتصدق بمال زوجها ولو كان طعامًا؟
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَ»؛ لأنَّهم في المدينة كانت أحوالهم ليست بذاك.
قال: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ»، أي: يلزم المُستعير أن يقوم بأدائها.
قال: «والمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ»، المِنْحَةُ: هي الشَّاة يُعطيها الرَّجل للآخر من أجل أن يَحلبها، أو ينتفع بها.
قال: «وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ»، يعني: أنَّ صاحب الولاية قد يتمكَّن مِن سَداد مثل ذلك الدَّين.
قال: «والزَّعِيمُ غَارِمٌ»، الزَّعِيمُ: هو الضَّامنُ والكفيلُ، فهؤلاء غَارِمُون، يَغرمون الحق الذي قاموا بكفالته، وعليهم التَّكفُّل بتسديده.

{قال -رحمه الله: (كِتابُ الفَرَائِضِ وَالوَلَاءِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ».
وَعَنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا.
وَعَنْ أَبي قَيسٍ قال: سَمِعتُ هُزَيلَ بنَ شُرَحْبِيلَ يَقُولُ: سُئِلَ أَبُو مُوسَى عَنْ ابْنَةٍ، وَابْنَةِ ابْنٍ، وَأُخْتٍ؟ فَقَالَ: للبِنْتِ النِّصْفُ، وَللْأُخْتِ النِّصْفُ، وائتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِي، فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ؟ وأُخْبِرَ بِقَولِ أَبي مُوسَى فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنا مِنَ الـمُهْتَدِينَ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: للابْنَةِ النِّصْفُ، ولإِبْنَةِ الابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ. فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرنَاهُ بقولِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الحَبْرُ فِيكُم. رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَقَالَ ابْنُ دَاوُد: "وَهُوَ خَبرٌ فِي تَثْبِيتِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ أَبَا قَيسٍ مَجْهُولٌ لم تَثْـبُتْ عَدَالَتُهُ، وهُزَيلٌ قَريبٌ مِنْهُ" كَذَا قَالَ: وَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ)
}.
قوله: (كِتابُ الفَرَائِضِ).
يُراد بالفرائض مَعنايان:
- أحدهما: توزيع التركة على ورثة الميت.
- الثَّاني: أن يُراد به أصحاب الأنصبَة المعلومة.
وبالتَّالي يكون هناك ثلاثة أنواع من الميراث:
- فرائض.
- وتعصيب.
- وميراث ذوي الأرحام.
قال: (وَالوَلَاءِ)، المراد بالولاء: عقد حكمي تفضَّل به مُلَّاك المماليك عندما أعتقوهم مجَّانًا قُربةً لله، ولذلك احتاجوا إلى إدراجهم في كتاب الفرائض، لأن الولاء سبب من أسباب الإرث، لأن الإرث قد يكون بسبب القرابة، وقد يكون بسبب المصاهرة، وقد يكون بسبب الولاء.
ثم أورد المؤلف حديث ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ».
قوله: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَ»، أي: أَعطوا الفروض المقدرَّة لأصحابها، حسب ما أعطى به رب العزة والجلال.
قال: «فَمَا بَقِيَ»، يعني: بعد الفرائض «فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»؛ وذلك لأن مَسائل الميراث ثلاثة أنواع:
من هذه الأنواع: مسألة تكون أسهم الورثة أقل مِنَ الترَّكة، وبالتَّالي يكون هناك زيادة، ومن أمثلة ذلك: ما لو مات عن بنت وأم، فالبنت لها النصف، والأم لها السُّدس لوجود البنت.
وبالتَّالي تكون هذه المسألة فيها الفرائض أقل من التركة، فما بقي فهو لأولى رجلٍ ذَكر.
إذن قوله: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَ»، هذا نوعٌ مِن أَنواع الميراث، وهو: مِيراث الفرائض.
وقوله: «فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»، هذا مِيراث أَهلُ التَّعصيب، وفيه أنَّ أهلَ التَّعصيب يَسقطون إذا استكملت الفروض جميع التركة.
ثُمَّ أورد من حديث أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ»، هذا فيه نفي الميراث عند اختلاف الدِّين، فمن موانع الميراث: اختلاف الدين.
وهل يرث الكافر من الكافر؟
ستأتي هذه المسألة -إن شاء الله.
ثُمَّ أورد من حديث أَبي قَيسٍ، وأبو قيس هذا من علماء التَّابعين، واسمه عبد الرحمن بن ثروان الأودي، وهو ثقة مشهور، وأثنى عليه طائفة من أهل العلم.
قال: (سَمِعتُ هُزَيلَ بنَ شُرَحْبِيلَ يَقُولُ: سُئِلَ أَبُو مُوسَى عَنْ ابْنَةٍ، وَابْنَةِ ابْنٍ، وَأُخْتٍ؟ فَقَالَ: للبِنْتِ النِّصْفُ)، لقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ [النساء:11].
قال: (وَللْأُخْتِ النِّصْفُ).
بَقِيَ هُنَا بنتُ الابن، وهي تَرِثُ السُّدُس تكملة الثُّلُثَين، وبالتَّالي لا يكون للأخت إِلَّا البَاقِي وهو مقداره الثالث.
قال أبو موسى لهذيل: (وائتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِي)، أي: سيوافقني ويكون معي.
قال: (فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ؟ وأُخْبِرَ بِقَولِ أَبي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنا مِنَ الـمُهْتَدِينَ)، كلامه وفتواه يَرى أَنَّها مُخَالِفة، وبالتَّالي قال: (لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذ)، يعني: عندما أوافقه، وَمَا أَنا مِنَ الـمُهْتَدِينَ.
قال: (أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه وجوب الاحتجاج بقضايا النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسنَّته.
قال: (للابْنَةِ النِّصْفُ، ولإِبْنَةِ الابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ)، عُصبة بالغير.
قال: (فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرنَاهُ بقولِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي)؛ لأنَّي أنا قد يقع مِنَّي ما يقع.
قال: (لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الحَبْرُ فِيكُم)، يُريد ابن مسعود.
قال المؤلف: (رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَقَالَ ابْنُ دَاوُد: "وَهُوَ خَبرٌ فِي تَثْبِيتِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ أَبَا قَيسٍ مَجْهُولٌ")، وتقدم أنَّ عبد الرحمن بن ثروان من عُلماء التَّابعين. قال: ("لم تَثْـبُتْ عَدَالَتُهُ، وهُزَيلٌ قَريبٌ مِنْهُ"، كَذَا قَالَ: وَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ)، والصواب تقويتهما، وتقوية روايتهما.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَوارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ ابْنُ عبد البَرِّ بعدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الحَدِيثَ بِإِسْنَادِ أَبي دَاوُدَ: "هَذَا إِسْنَادٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ"، وَضَعَّفَهُ فِي مَكَانٍ آخَرَ)}.
عمرو بن شعيب يَروي عن أبيه شُعيب، وشُعيب يَروي عَن جَده -عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَوارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى»، فكل مِلَّة لها مِيراثُها، ولا تتداخل المواريث عندنا في هذا، وبالتَّالي نعلم أنَّ الأصل أنَّ كل مِلَّة تَستقل بالميراث، ولا تقول هؤلاء مسلمون وهؤلاء يُقابلونهم! لا؛ بل كل مِلَّة لها وزنها في هذا الباب.
قال: «لَا يَتَوارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى».
لو مات ميتهم، وقريبه في ملة أخرى، لكنه دخل في ملته بعد الوفاة وقبل توزيع التركة؟
فالصَّواب أنَّه يُحكم له بعد استحقاق الترَّكة.
{قال -رحمه الله: (وَعَنِ الْحسَنِ، عَنْ عِمرَانَ بنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ ابْني مَاتَ، فَمَالِي مِنْ مِيرَاثِهِ؟ قَالَ: «لَكَ السُّدُسُ».
فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: «لَكَ سُدُسٌ آخرُ»، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: «إِنَّ السُّدُسَ الآخَرَ طُعْمَةٌ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيرُهُ: "الْحسَنُ لمْ يَسْمَعْ منْ عِمرَانَ"، وَقَالَ ابْنُ دَاوُدَ: "هَذَا خَبَرٌ فِي تَـثْبِـيتِهِ نَظَـرٌ")
}.
أورد المؤلف هُنا حديث عِمرَانَ بنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ ابْني مَاتَ، فَمَالِي مِنْ مِيرَاثِهِ؟)، يعني: ماذا أستحق من ميراث ابني؟
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكَ السُّدُسُ»، كأنَّ هذا الميت له أولاد وبنات، وبالتَّالي لا يكون للأب إِلَّا السُّدس.
قال: (فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: «لَكَ سُدُسٌ آخرُ» )، متى أخذ السُّدُس الآخر؟
إذا كان للميت بنات، يعني: ترك ثلاث بنات وترك الجد، ففي هذه الحالة يرث الجد السُّدُسُ فرضًا، والسُّدُسُ الثَّاني يَرثه تَعصيبًا؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بأهلها، فما بَقِيَ فهو لأَوْلَى رجل ذَكَرٍ» ، وأولى رجل ذكر هُنا هُو الأب.
وبهذا نعلم أنَّ الأب له أحوال في الميراث:
 الحال الأولى: إذا كان للميت أولاد ذكور جمع، فيكون له السُّدُسُ.
 الحال الثَّانية: إذا كان للميت بنات؛ فحينئذٍ نعطي الأب السُّدُسُ فرضًا، والباقي تعصيبًا.
 الحال الثَّالثة: إذا لم يَكن للميتِ أولادٌ "لا ذكور ولا إناث"؛ فالواجب أن يكون المال كُله للأب.
إذا لم يكن هناك أب وَوَرِثَ الجَدُّ:
 إذا لم يكن له إخوة: فأحواله مثل أحوال الأب.
- إن كان للميت أولاد ذكور: كان له السُّدُسُ.
- إن كان للميت بنات فقط: فله السُّدُسُ والبقي تعصيبًا.
- وإذا لم يكن أولاد لا ذكور ولا إناث: فحينئذٍ يرثه تعصيبًا.
 - لو كان عنده إخوة، فورث الإخوة مع الجد:
- أبو حنيفة يقول: الجدُّ يحجب الإخوة، وهو مَذهب أبي بكر وجماعة.
- وقال آخرون: لا يَحجبه، وبالتَّالي يُقدَّر لهم نَصيبهم، ويُجعل للجدِّ مثل نصيبهم، لئلا يزيد عليه.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ أَبي الْمُنِيبِ الْعَتَكِيِّ -واسْمُهُ عُبيْدُ اللهِ بنُ عبدِ اللهِ- عَنْ أَبي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلجَدَّةِ السُّدُسَ إِذَا لمْ يَكُنْ دُونَهَا أمٌّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وأَبُو الْمُنِيبِ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَتكَلَّمَ فِيهِ البُخَارِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ بَعْدَ أَنْ رَوَى لَهُ هَذَا الحَدِيثَ: وَهُوَ عِنْدِي لَا بَأْسَ بِهِ)}.
قوله هنا: (عَنْ أَبي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلجَدَّةِ السُّدُسَ إِذَا لمْ يَكُنْ دُونَهَا أمٌّ).
متى ترث الجدة؟
ترث إذا لم يكن هناك أم، فإذا كان هناك أم فالجدة لا ترث، فهذا هو شرط ميراث الجدة.
كم تأخذ الجدة؟
تأخذ نصيب الأم، إن كان هناك استكمال للتركة: فتأخذ السُّدُس.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ أَبي أُمَامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ قَالَ: كَتَبَ مَعِي عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبي عُبَيْدَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "حَدِيثٌ حَسَنٌ".
وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ: «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» غيرُ وَاحِدٍ، مِنْهُم: الْمِقْدَامُ بنُ مَعْدِي كَرِبَ، وَقَدْ حَسَّنَ أَبُو زُرْعَةَ حَدِيثَهُ)
}.
حديث أبي أُمَامة فيه راوٍ يُقال له عبد الرحمن بن حارث بن عيَّاش، وقد اختُلِف فيه اختلافًا كثيرًا.
قال: (عَنْ أَبي أُمَامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ قَالَ: كَتَبَ مَعِي عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبي عُبَيْدَةَ)، أي: يسأله، أو أنه يريد أن يُقرر هذا الحكم، ويجعل أبا عُبيدة يحكم به، وهذا ليس تدخل في القضاء، وإنَّما هو بيان مستند القضاء، وللإمام أن يقوم بتذكير القاضي بما خفي عليه من الأدلة، لا أن يدَّعي أنَّها له.
قال: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ»)، يعني: أنَّ من مات وليس له وارث؛ فإنَّ ماله يذهب إلى بيت المال.
قال: «وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ». الخال: هو أخو الأم.
متى يرث الخال؟
إذا لم يكن هناك أحد من العصبة، فإذا كان هناك أحد من العصبة فإنَّه محجوب.
{قال رحمه الله: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وُرِّثَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ)}.
قوله: «إِذا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ»، الاستهلال: هو رفع الصوت، فإذا وُلد المولود فإنَّه يَبْكِي ويَصِيح، وهذا دَلِيلٌ على أنَّه حيٌ، ولو كانَ مَيتًا لم يَفعل ذلك.
والمولود يَرث، ولكن مَتى نَعلمُ أنَّه حَي؟
إذا خرجَ صائحًا، وحينئذٍ يُعدُّ من أهل الحياة، وبالتَّالي يَرِث.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ للْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَوَّاهُ ابْنُ عبدِ الْبَرِّ، وَذَكَرَ لَهُ النَّسَائِيُّ عِلَّةً مُؤَثِرَةً)}.
لعلنا نقف على هذا الخبر، وإن شاء الله نكمل ما بقي في لقائنا القَادم -بإذنِ الله عَزَّ وَجَلَّ.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يُوفقك لما يُحب ويرضى، وأن يجعل أعمالك خالصةً لوجهه، وهذا لجميع من مشاهدينا الكرام، ولجميع المسلمين.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبهِ أجمعين.
{وفي الختام نشكركم معالي الشيخ على ما تُقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أَنَا مُحَدِّثُكم عبد الرحمن بن أحمد العمر.
إلى أن نلقاكم في الفصل القادم -بإذن الله- إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك