الدرس الثامن

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3621 24
الدرس الثامن

المحرر في الحديث (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حَلقات البناء العلمي، وأُرَحِبَ بكم معالي في هذه الحلقة الجديدة}.
حيَّاكَ الله وأهلًا وسهلًا، وأسألُ الله لك ولإخواني المُشاهدين التَّوفيق.

{شرعنا في الدَّرسِ الماضي مِن كتاب الْمُحَرِّر في كتاب الأطعمة، وأنهينا حديث جابر، وسنشرع في حديث ابن عمر.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- -وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ- عَن أَكْلِ الضَّبِّ؟ فَقَالَ: «لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَلم يَقُلْ البُخَارِيُّ: عَلَى الْمِنْبَر)}.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياءِ والمرسَلِينَ.
قال ابن عمر -رضي الله عنهما: (سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ)، يعني: كأنه يخطب.
قال: (عَن أَكْلِ الضَّبِّ؟ فَقَالَ: «لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ»)، أي: إنَّني لا أتناوله في الطَّعام، ولكنَّي لا أُحَرِّمه، فإذا نَفَى التَّحريم دَلَّ ذَلِكَ على الحِلِّ والإباحة.
وقد جاء في حديث ابن عباس أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- أُكِلَ الضَّبُّ على مَائدته، قال ابن عباس: "لو كان حرامًا لَنَهى عنه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ" .
وجاء في الحديث الآخر أنَّهم جاؤوا بِضِباب -جمع ضبٍّ- فَقَدَّمُوه للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فمدَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- يَده، فقالت امرأة: "اذكروا لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- نوع طعامكم، فأخبروه أنه لحم ضبٍّ؛ فكفَّ يده. فقيل: يا رسول الله أحرامٌ هو؟ لِمَ لمْ تأكله؟ فقال: «وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» ، فَبَيَّنَ السَّبَبَ الذي يجعله يمتنع من أَكلِ الضَّبِّ.
وجماهير أهل العِلم على جواز أكل الضَّبِّ، والضَّبُّ: دُويبة صحراويَّة تعيش في الصَّحراء، وبعضها كبير، وبعضها صغار، وتشتهر بأنَّها تُقلُّ مِن شُرب الماء. فهذا الخبر فيه دلالة على إباحة أكل الضَّبِّ.

{(وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- سَبْعَ غَزَواتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ)}.
الجراد: حشرة صغيرة تطير، وتشتهر بأكل النباتات، والجراد يعتبرون له قيمة غذائية ودوائية في السَّابق.
وقول ابن أبي أوفى: (غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- سَبْعَ غَزَواتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ)، فيه حلّ وإباحة الجراد، والجراد لا يُذكَّى، فَدَلَّ هذا على أنَّ الجراد لا تُشترط تذكيته، وفي هذا دلالة على أنه يُمكن أن يكتفي الإنسان بأكل الجراد، لقوله: (نَأْكُلُ الْجَرَادَ)، كأنَّهم يكتفون به.
وطريقة أكله: أنَّهم يضعونه في قدرٍ فيه ماء فيطبخونه، وبالتَّالي يأكلونه.

{(وَعَن أَنسِ بنِ مَالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: مَرَرْنَا فَاسْتَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَوْا عَلَيْهِ فَلَغِبُوا، قَالَ: فَسَعَيْتُ عَلَيْهَا حَتَّى أَدْرَكْتُها، فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ، فَذَبَحَها، فَبَعَثَ بِوَرِكِها وَفَخِذَيْها إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فَأَتَيْتُ بِهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فَقَبِلَهُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
قال: (مَرَرْنَ)، يعني: سِرنا في شيءٍ مِن أسفارنا.
قوله: (فَاسْتَنْفَجْنَا أَرْنَبً)، يعني: أخرجناه مِن جُحرهِ.
قوله: (بِمَرِّ الظَّهْرَانِ)، مكان ومنطقة.
قال: (فَسَعَوْا عَلَيْهِ)، أي: ذهبوا يتبعونه مِن أجلِ أن يأخذوه.
قوله: (فَلَغِبُو)، أي: عجزوا عن إمساكه، وكان أنس بن مالك شابًا قويًّا فقَالَ: (فَسَعَيْتُ عَلَيْهَا حَتَّى أَدْرَكْتُه)، أي: تمكَّنتُ من الإمساكِ بهذا الأرنب.
قال: (فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ)، أبو طلحة زوج والدة أنس بن مالك -أُمُّ سُلَيم.
قال: (فَذَبَحَه)، أي: ذبحها أبو طلحة، وهذا يدلُّ على أنَّ الأرنب لابد مِن ذكاته، وفيه حِل أكل الأرنب، وبذلك قال أئمة المذاهب الأربعة.

قال أنس: (فَبَعَثَ بِوَرِكِها وَفَخِذَيْها إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ)، والوَرِك أَعلى من الفخذ، كأنَّه بعث أًنسًا بذلك.
قال أنس: (فَأَتَيْتُ بِهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فَقَبِلَهُ)، أي: قَبِلَ الأرنب، ولم يَقْبَله إلا لكونه حَلالًا مُباحًا، فَدلَّ هذا على جواز أكل الأرانب.
{(وَعَنِ ابْنِ أَبي عَمَّارٍ قَالَ: قُلْتُ لجَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ: الضَّبْعُ أَصَيْدٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: آكُلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: قَالَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو يَعْلَى -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ- وَابْن مَاجَه وَابْن حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ البُخَارِيُّ أَيْضً)}.
قال ابْن أَبي عَمَّارٍ لجَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ: (الضَّبْعُ أَصَيْدٌ هِيَ؟)، وبالتالي إِذَا قَتَلَها المُحرم أو مَن في الحرم وجب عليه الجزاء؟ أو ليست مِن الصَّيد، وبالتالي لا جزاء فيها عند قتلها؟
فقَالَ جابر: (نَعَمْ)، يعني: هي صَيدٌ، فَكَأنَّ ابن أبي عمَّار عنده شيء مِن الاعتراض على هذا الحكم. فقال: (آكُلُهَا؟)، يعني: كيف تحكمون بأنها صيد يجب فيه الجزاء، ومع ذلك النفوس تشأم من أكلها؟!
قَالَ جابر: (نَعَمْ)، يعني: كُلْ من الضبع.
قوله: (قُلْتُ: قَالَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ). الضبع حيوان مفترس، وهو من السِّباع، ولذلك رأى جماهير أهل العلم أنَّ الضَّبع حرام لا يجوز أكله، استنادًا للحديثِ السَّابق أنَّ الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- (نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ) ، وذهب الإمام أحمد إلى أنَّ الضبع يجوز أكله، واستند على هذا الخبر، وقال: إنَّ افتراسه ليس بنابه، ولذلك قال: إنَّه مُستثنًى مِن الخبر السَّابق.
{(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ عَن قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةِ، والنَّحْلَةِ، والهُدْهُدِ، والصُّرَدِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْن مَاجَه وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيِّ)}.
في هذا الحديث تحريم هذه الأنواع الأربعة، فلا يجوز أكلها:
أولها: النَّملة.
ثانيها: النَّحلة.
ثالثها: الهدهد، وهو طائر.
رابعها: الصرد، وهو نوع من أنواع الطيور، له ألوان معلومة.
وفي هذا تحريم أكل هذه الأنواع الأربعة.

{(وَعَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- عَنْ أَكْلِ الجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ- وَقَدْ رُوِيَ مُرْسَلً)}.
هذا الخبر رواه مجاهد عن ابن عمر بذكر الصَّحابي، وفي بعض الألفاظ رواه مجاهد عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- بدون ذكر ابن عمر -الصَّحابي- ولذا رجَّح بعض الفُقَهاء الرواية المرسلة، وقالوا: هي أرجح وأقوى، حيث قد رواها سفيان الثَّوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مرسلًا. وسفيان الثَّوري إمام في الحديث.
بينما الرواية المتصلة قد رواها ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وابن إسحاق صاحب السِّيرة صدوق، وبالتَّالي روايته أقل -لقلة الضَّبطِ- مِن رواية الثَّوري، ولذا رجَّح كثيرٌ مِن أَهلِ العِلم أنَّ هذا الخبر مرسل.
وقد ورد في النَّهي عن أكل الجلالة أحاديث مُتعددة تُعضد هذا الخبر.
قال: (نَهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- عَنْ أَكْلِ الجَلَّالَةِ)، الجلَّالة: هي البهيمة التي تأكل النَّجاسات، كما لو كانت تأكل الجيَف، أو تأكل العَذرات، أو كان الدجاج يوضع في طعامه الدم؛ فهذه جلَّالة؛ لأنها تعتمد في طعامها على النَّجاسات، وبالتالي يُنهى عَن أكلها على الصَّحيح حتى يتطهر بَدَنُها.
وهكذا يُنهى عن لَبَنِ الجلَّالة، فإذا كان هُناك ناقة تأكل النَّجاسات، أو شاة، أو بقرة؛ فحينئذٍ لا يجوز شُرب ألبانها؛ لأنَّها قد خرجت مِن ذَلك البدن الذي تنجَّسَ بأكل هذه النَّجاسات، واستُدِلَّ بهذا على أنَّ وصف النَّجاسة قد يكون أصليًّا كما في الكلب، وقد يكون طارئًا كما في الجلَّالة

{(وَعَنْ عِيسَى بنِ نُمَيْلَةَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَسُئِلَ عَن أَكْلِ الْقُنْفُذِ، فَتَلَى هَذِه الْآيَةِ: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِيْمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ [الانعام:145] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ شَيْخٌ عِنْده: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فَقَالَ: «خَبِيثَةٌ مِنَ الْخَبَائِثِ» فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قَالَهُ، فَهُوَ كَمَا قَالَ. رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لم يُرْوَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ)}.
هذا الحديث فيه عيسى بن نميلة وقد رواه عن أبيه، وهما مجهولانِ، ولذلك هذا الحديث لا يصح الاعتماد عليه، ولا يُبنى عليه الحكم.
قال: (كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَسُئِلَ عَن أَكْلِ الْقُنْفُذِ)، القنفذ: دويبة صغيرة، إِذَا جَاءها مَا تَخَافُه أَدْخَلَت رَأسَها، وَجَعَلت بَدَنَها شَوكًا لا يَستطيع أحدٌ أن يأكلها، والقنفذ مشهور بأكل الحيَّات، فهو يأكل الثَّعابين، يمسكها قليلًا قليلًا حتى يأكلها، ولذلك مَنَعَ كثيرٌ من أهل العلم مِن أَكْلِهَا، لا لهذا الخبر؛ وإنما لكونها تأكل الحيَّات.
في هذا الخبر: (فَتَلَى هَذِه الْآيَةِ: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِيْمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ [الانعام:145] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ)، كأنَّه يرى أنَّ الأصل فيها الإباحة.

قوله: (فَقَالَ شَيْخٌ عِنْده: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فَقَالَ: «خَبِيثَةٌ مِنَ الْخَبَائِثِ»)، وهذا يَقتضي المنع منها، وكما تقدَّمَ أنَّ هذا الخبر فيه راويان مجهولان، وأنَّ المعوَّل عليه هو التَّعليل الذي ذكره أكثر أهل العلم مِن كونها تأكل النَّجاسات والميتات ومنها الثَّعابين.

{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (كِتَابُ النَّذْرِ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: أَنَّهُ نهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: «إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيْلِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)
}.
المراد بالنَّذر: إلزام الإنسان نفسه بواجبٍ لم يجب عليه بأصل الشَّرع، كما لو أوجب على نفسه سُنَّة الظُّهر أو سُنَّة الضُّحى؛ فهذا يُقال له نذر.
والأصل في النذر: أنه غَير مُستحبٍّ في الشَّرع، ولذا وَرَدَ في حديث ابن عُمر أنَّه نَهَى عَن النَّذر، والمعنى في هذا ثلاثة أشياء:
الأول: أنَّ بعضَ النَّاس قد يُنْذِر ثُمَّ لا يَفعل مَا أَوجَبَ على نَفْسِه فِعْلُه، وبالتَّالي يَقَع في مَعصية، ويكون قَد أَوقَع نَفْسَه في وَرْطَةٍ مِنَ الوَرَطَات.
الثاني: أنَّ بعضَ النَّاس يَظُنُّ أنَّ النَّذر سببٌ مِن أَسبَابِ وُرُود الخير عليه، فينذر إن شفاه الله أن يتصدق بكذا، فيظن أنَّ شفاء الله له على سَبيل المجازاة والمقاضاة، وهذا مخالف لما أَمَرَ به الشَّرع مَن إحسانِ الظَّنِّ بِربِّ العِزة والجلال.
الثالث: أنَّ بعض الناس لا يفعل الخير إلا بالنَّذر، وأراد الشَّرع أن يُعوِّد نفوس النَّاس أن تُقْدِم على الطَّاعات ولو لم يكن هُناك نَذْرٌ يُلزمها بفعل هذه الطَّاعة.
ولذا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- في تعليل النَّهي عن النَّذر: «إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ»، يعني: ليس سبب ورود الخيرات على النَّاس هو هذه النذور.
قال: «وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيْلِ» البخيل يظنُّ أنَّه لن يَصِلَ إليه الخير إلا بهذه النُّذور، ولا يَلزم مِن هَذا عَدم الثَّناء على مَن أوفى بالنَّذر؛ لأنَّ بَعضَ النَّاس يقول: هذا الحديث مُقابل لما ورد في قوله تعالى في سورة الإنسان في وصف أهل الإيمان أنهم: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ [الإنسان: 7]، فنقول: الوفاء بالنَّذر هَذا مُستحب؛ بل قد يكون واجبًا، ولكن الابتداء بالنَّذر ليس مُستحبًّا ولا مُرغَّبًا فيه.
والنَّهي عن النَّذر هنا ليس على سَبيل التَّحريم، وذلك أنَّ عددًا مِن الصَّحابة في عَهدِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- نذروا، فلم يُعاتبهم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ.

{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَال رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ، فلا يَعْصِهِ». رَوَاهُ البُخَارِيِّ)}.
في هذا حُكم الوفاء بالنَّذر، والوفاء بالنَّذر على نوعين:
النَّوع الأوَّل: نذر الطَّاعة: فهذا يجب الوفاء به، ونذر الطاعة يشمل الواجبات والمُستحبات، فالمستحب ينتقل من كونه مُستحبًّا إلى كونه واجبًا بواسطة النَّذر، فيجب الوفاء به؟
النَّوع الثَّاني: نذر المعصية، فمن ألزم نفسه بفعل مَعصية فحينئذٍ لا يجوز له الوفاء بذلك النَّذر.
ولكن هل يجب عليه كفارة، بحيث يقوم بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، أو عتق رقبة، أو لا يجب عليه ذلك؟
قولان لأهل العلم، ولعله -إن شاء الله- ما يشعر بأنه تجب فيه كفارة يمين، وسيأتي -إن شاء الله- من حديث عقبة بن عامر، ونترك البحث فيه إلى عرضه.
وأمَّا نذر المباح، فَمَنْ نَذَرَ المُباح فحينئذٍ ما حكمه؟
الصَّواب: أنَّه لا يَجِبُ عليه الوفاء؛ بل يُستحب له، وإذا أَرَادَ الخروج مِن النَّذر فَعَلَ كفارة اليمين وهي أن يُطعم عشرة مساكين؛ لأنَّ إطعام العشرة مساكين أو كسوتهم أحب إلى الله -عزَّ وجلَّ- من الالتزام بِفِعل المُباح.
{(وَعَنْ عُقْبَةَ بنَ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قَالَ: «كَفَّارةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ اليَمِيْنِ». رَوَاه مُسْلمٌ)}.
كما تقدَّم أنَّ النَّذر إذا أَمْكَنَ الوَفَاء بِه، وَكَانَ نَذْرُ طاعة؛ وَجَبَ الوَفَاء بالنَّذر، لكن إِذَا عَجزَ الإنسانُ عن الوفاء بنذر الطَّاعة؛ فحينئذٍ ينتقل إلى أن يأتي بكفارة اليمين، وهكذا إذا نذر معصية فإنَّه يجب عليه كفار اليمين على ظاهر هذا اللفظ؛ لأنَّه قال: «كَفَّارةُ النَّذْرِ»، وهذه لفظة تُفيد العموم، نَذْر الطَّاعة ونذر المعصية، إِلَّا ما استثنيَ مِن الحديثِ السَّابق من إيجاب الوفاء بنذر الطَّاعة.
وكفارة اليمين مذكورة في قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: 89].
{(وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ, وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لا يُطِيْقُهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَذَكَرَ أَنَّ وَكِيعًا وَغَيرَهُ رَوَوْهُ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَصَحُّ، قَالَهُ أَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ)}.
يعني أنَّ وكيع رواه من كلام ابن عباس ليس مَرفوعًا إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- بينما رواه آخرون مَرفوعًا، فبالتالي قال بعضهم: نرجِّح. فرأوا أنَّ رواية الوقف أرجح وأقوى.
وبعضهم قال: هذه زيادة ثقة، فتكون مَقبولة، إذ لا يَبعد مِن ابن عباس أن يُحدِّث بالخبرِ مرةً مَرفوعًا، ومرة مَوقوفًا عليه.
عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ»، كما لو قال: لله عليَّ نذر إن شَفَى مريضي؛ فحينئذٍ لم يُسمِّ النَّذر، فيجب عليه كفارة يمين.
وَمِثْلُه مَنْ نَذَرَ نَذْرَ معصية فقال: لله عليَّ أن أشرب الدَّخَّان إن شفى الله مريضي، فحينئذٍ نقول: هذا نَذْرُ معصية لا يجوز الوفاء به، والأظهر من قولي أهل العلم أنَّ فيه كفَّارة يمين.
ومثله مَن نَذَرَ نَذْرًا لا يُطيقه، ففي هذه الحال يجب عليه كفارة اليمين، فلو نَذَرَ إنسانٌ أن يَصومَ الدَّهر، يقول: إذا شفاني الله مِن مَرَضي فلله عليَّ نذر أن أصوم الدَّهر. نقول حينئذٍ: صيام الدَّهر مَنْهِيٌ عنه، فهو مَعصية، وبالتالي نأمره بكفارة اليَمين -على الصَّحيح.
{(وَعَنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللهِ حَافِيَةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فاسْتَفْتَيْتُهُ؟ فَقَالَ: «لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَلم يَقُلِ البُخَارِيُّ: حَافِيَةً.
وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ أُخْتَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ؟ فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، مُرْهَا فَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَرْكَبْ، وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ -وَهَذَا لَفْظُهُ- وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ)
}.
قوله في هذا الخبر: (وَعَنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللهِ)، المشي إلى بيت الله هذا طاعة ومشروع، فمن نذره وَجَبَ عليه الوَفَاءَ بِه، إِلَّا أَنَّه قال: (حَافِيَةً)، المشي المراد به: الذهاب، ولكن لا يعني: ترك الركوب، وترك الركوب ليس بطاعة لله -عزَّ وجلَّ- وبالتالي لا يَلزم الوفاء به.
قال: (نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللهِ حَافِيَةً)، أي: لا تلبس أحذية ولا نعالًا ولا خفافًا، فحينئذٍ أَمَرَت أَخَاهَا أن يَستفتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي هذا جواز العمل بالفتوى المنقولة إذا كانت خاصة بالمستفتي.
فقال النَّبي -صلى الله عليه وسلم: «لِتَمْشِ»، أي: لتذهب، أو لتسير على أقدامها وقتًا. قال: «وَلْتَرْكَبْ»، أي: على الدَّوابِّ.
قال: (وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ أُخْتَهُ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ)، أي: غير مُغطية لوجهها، الخمار مأخوذ من لفظ "خَمَرَ" بمعنى غَطَّى، ولذلك قيل عن "الخمر" هذا الاسم؛ لأنَّه يُغطي العَقل.
قال عقبه: (فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، مُرْهَا فَلْتَخْتَمِرْ»)، أي: لتغطِّ وجهها، وفي هذا دلالة على مَشروعيَّة تغطية المرأة لوجهها.
قال: «وَلْتَرْكَبْ»، فيه أنَّ نَذْرَ المشي إلى الحَرَمِ لَيس مُوجبًا للمشي، وذلك لأن المشي من المباحات.
قال: «وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ»؛ لأنَّه رَأَى أَنَّها غَير قَادرة على الإطعام والكسوة والعتق لأنها فقيرة، فحينئذٍ تنتقل إلى صيام ثلاثة أيام في خِصَال الكفَّارة.
وفي هذا دلالة على أنَّ مَن نَذَرَ المُباح أو نَذَرَ المعصية فلم يلتزم بذلك النَّذْر؛ فإنه يُكَفِّر كفَّارة يمين -كما تقدَّم.

{(وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: اسْتَفْتَى سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «فَاقْضِهِ عَنْهَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
هذا الحديث يدلُّ على أنَّ البرَّ بالوالدة لا يَقتصر على حياةِ الوالدة؛ بل يكون بعد وفاتها.
وفيه جواز قضاء النَّذر عِندَ مَوتِ النَّاذر من قِبَلِ غيره.
وظاهر هذا الخبر أنَّ هذا النَّذر صَدَقَة، وقيل: إنه صيام، وفي هذا دخول النِّيابة في هذه الأعمال المذكورة في الخبر.
وفيه أنَّ الصِّيام الواجبَ بالنَّذرِ إذا مات النَّاذر شُرِعَ لورثته أن يصوموا عنه، وقد جاء في الخبر: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» ، كما تقدم، حيث ذكرنا الخلاف هناك.


{(وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- يَخْطُبُ إِذْ هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فِي الشَّمْسِ، فَسَأَلَ عَـنْـهُ؟ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
قوله هنا: (عن ابن عباس قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- يَخْطُبُ إِذْ هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فِي الشَّمْسِ, فَسَأَلَ عَـنْـهُ؟) فيه سؤال الخطيب عن أحوال مَن أمامه من أسباب أفعالهم.
قوله: (فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ)، هذه الأعمال التي نَذَرَها مِنهَا ما هو ممنوع منه، وَمنها مَا هُو مُباح، ومِنهَا مَا هُو طاعة لله -عزَّ وجلَّ- فقال له: أوفِ بالنذر المتعلق بالطاعة، ولا يلزمك الوفاء بنذر المعصية، فالقيام في الشمس هذا مُضرٌّ بالبدن، ولذلك نهاه النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوفاء بهذا الفعل، ولهذا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «وَلْيَسْتَظِلَّ»، ونذر ألا يتكلم، وعدم الكلام ليس طاعة، ولذا أمره النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بالكلام فقال: «مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ»، ونذر أَلَّا يقعد فيبقى واقفًا، وهذا ليس طاعة لله -عزَّ وجلَّ- فحينئذٍ أمره أَلَّا يَفي بهذا النَّذر فقال: «وَلْيَقْعُدْ»، وكان مِن نَذْرِه أن يصومَ، والصَّوم طاعة، ولذا أمره النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بالوَفَاءِ بهذا النَّذر وهو نَذْرُ الصِّيام.
وبعض أهل العِلم قال: لم يذكر هنا كفارة اليمين، فأخذوا مِن هذا الخبر أنَّ مَن نَذَرَ المعصية فلم يَفعلها فإنه لا يجب عليه كفار يمين، ولكن هذا الخبر مُقيدٌ بالأحاديث والأخبار التي وردت قَبْلَه مما يدلُّ على أنَّ ناذر المعصية لا يجوز له الوفاء بنذره ويجب عليه كفارة يمين.
{(وَعَن ثَابِتِ بنِ الضَّحَّاكِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- أَنْ يَنْحَرَ إبِلًا بِبُوَانَةَ فَأَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إبِلًا بِبُوانَةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «هَل ْكَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «هَل كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِم؟» قَالَ: لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ, فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا فِي قَطِيْعَةِ رَحِمٍ، وَلَا فِي مَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدمَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيُّ -وَهَذَا لَفْظُهُ- وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ)}.
قوله في هذا الخبر: (نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ)، أي: ألزم نفسه وأوجب عليها.
قال: (أَنْ يَنْحَرَ إبِلً)، مجموعة من الجمال.
(بِبُوَانَةَ)، منطقة من المناطق.
قوله: (فَأَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إبِلًا بِبُوانَةَ؟)، النَّحر يكون في أسفل الرقبة، والذَّبح يكون في أعلى الرَّقبة، والنَّحر يكون للإبل، والذَّبح يكون للغنم والبقر، فلمَّا قال: (أَنْحَر) فَهِمَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنها إبلًا؛ لأنَّ النَّحر لا يكون إلا للإبل.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «هَل ْكَانَ فِيهَ»، أي: في ذلك المكان «وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟» قَالَ: لَا. فيه دلالة على أنَّ مَن نذَرَ طَاعة في مكانٍ فيه وثنٍ لا يجوز له الوفاء بذلك؛ لأنه حينئذٍ يقوم بتعظيم مكان المعصية والشرك.
قَالَ: «هَل كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِم؟»، يعني: من أعياد الجاهلية، والعيد: هو الموسم الذي يتكرر، فالمواسم قد تكون مواسم مكانيَّة ومواسم زمانيَّة، فأعياد الجاهلية لا يجوز للإنسان أن يُشارك فيها، وهي كل ما اتُّخِذَ ممَّا يتكرَّر موسمه.
قَالَ الرجل: (لَ)، أي: ليس هناك عيد من أعيادهم.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ»؛ لأنَّه حينئذٍ نَذَرَ طاعة، فوجب الوفاء به.
ثم قال -صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ»، فيه دلالةٌ على تحريم الوفاء بالنَّذرِ الذي فيه مَعصية لله، ومنه النَّذر في مكانٍ يُعبَد فيه غير الله، والنَّذر في مكانٍ هو من أعياد أهل الجاهلية.
قال: «وَلَا فِي قَطِيْعَةِ رَحِمٍ»، أي: أنَّ النَّذر الذي يكون في قطيعة رحمٍ لا يجوز الوفاء به. بعض الناس يقول: لله عليَّ نذر ألا أزور فلانًا، أو أن أقطع فلانًا، أو ألا أقدم مَعروفًا لأحدٍ من قرابتي، فهذا نَذْر فيه قطيعة رحمٍ، فلا يجوز الوفاء به.
قال: «وَلَا فِي مَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدمَ»، أي: أنَّ العَبدَ إِذَا نَذَرَ شَيئًا لا يَملكه، ويملكه غيره؛ فحينئذٍ لا يجوز الوفاء به، فلو قال: لله عليَّ أن أتصدق بسيارة فلان. نقول: هذا النَّذر لا يجوز الوفاء به، فلا يجوز له أن يغصب مال غيره.
واستدل بعضهم بهذا على أنَّ مَن نَذَرَ المعصية فَلا كفارةَ عليه؛ لأنَّه قال: «فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ»، كأنه قال: لا ينعقد النذر، ولكن النَّفي هُنا ليس للنذر، فلم يَقل: "لا نذر في معصية الله"، وإنما نفى الوفاء، مما يدل على أنَّ مَن نَذَرَ المعصية وجبت عليه كفارة اليمين.
{(وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ: «صَلِّ هَاهُنَ»، فَسَأَلَهُ. فَقَالَ: «صَلِّ هَاهُنَ»، فَسَأَلَهُ. فَقَالَ: «شَأْنَكَ إِذً». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَهَذَا لَفْظُهُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيْحِ)}.
قوله: (أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ)، يعني: يوم فتح مكة، وكان ذلك في رمضان في السَّنة الثَّامنة.
قال: (يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ)، الصَّلاة طاعة، فَنَذْرُها يجب الوفاء به.
قال: (فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ)، بيت المقدس يجوز شد الرحال إليه، ولكنَّ الصَّلاة في مكة وفي المدينة أعظم أجرًا، فإذا نَذَرَ الإنسان الأقل جَاز له أن يَفي بما هو أكثر مِنه طاعةً لله -جل وعلا.
ومن هنا قَالَ له النبي -صلى الله عليه وسلم: «صَلِّ هَاهُنَ»، يعني: في مكَّة؛ لأنَّ الصَّلاة في مَكة أعظم مِنَ الصَّلاة في بيت المقدس.
قوله: (فَسَأَلَهُ)، أي: سأله مرة أخرى: إنِّي نَذَرتُ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ فكأنَّه لم يَقْنَع بجواب النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: «شَأْنَكَ إِذً»؛ لأنَّ صلاته في مكة أعظم أجرًا فهي أفضل، ولكن صلاته في بيت المقدس ليس ممنوعًا منها، فلمَّا أكَّد على طلبه في الصَّلاة في بيت المقدس قال له النَّبي -صلى الله عليه وسلم: «شَأْنَكَ إِذً»، يعني: يحق لك أن تذهب إلى بيت المقدس لتصلي فيها.

{(وَعَن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَام، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
قوله: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ»، أي: لا يُسافر الإنسان من أجل بقعةٍ لذاتِ البقعةِ.
قال: «إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَام، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي»، وحينئذٍ لا يجوز للإنسان أن يشد الرحل من أجل قبر من القبور، او من أجل موطن من مواطن الأنبياء على جهة القُربَة والعبادة لله -عزَّ وجلَّ.
وحينئذٍ مَن شَدَّ الرِّحال من أجل أن يتقرب لله بصعود جبل النُّور، أو الوصول إلى غار حراء، أو غار ثور؛ نقول له: هذا الحديث يمنعك من ذلك.
وهكذا مَن أراد أن يذهب إلى المدينة، نقول له: اقصد بذهابك إلى المدينة وسفرك إليها أن تشدَّ الرِّحال إلى المسجد النبوي، لا إلى القبر النبوي، وهكذا أيضًا المواطن المعظَّمة، والمواطن الفاضلة لا يجوز أن يُشدَّ إليها الرِّحال لذاتها، ولذلك من قال: أنا سأزور الطور -موطن موسى عليه السلام- قلنا له: لا يجوز لك ذلك، لأن هذا من شدِّ الرِّحال إلى بقةٍ.
أمَّا إذا شدَّ الإنسان الرِّحال لعبادة غير مرتبطة بالبقعة، كما لو شَدَّ لطلبِ العلم، أو شدَّ لصلة الرَّحم، أو شدَّ لصلاة على جنازة، أو نحو ذلك؛ فلا حرج؛ لأنَّه لم يسافر مِن أَجلِ البُقعة، وإنما سافر مِن أَجلِ أداء هذا العمل.
وبهذا نكون قد انتهينا من أحاديث كتاب النَّذر، ولعلنا أن نترك كتاب الجهاد والسير ليوم آخر.
بارك الله فيك، وجزاك الله خيرًا، وأشكرك على حسن ترتيبك وقراءتك، كما أسأله -جل وعلا- لإخواني المشاهدين التوفيق لكل خير، وأن يجعلهم من الهُداة المهتدين، وأسأله -جل وعلا- صلاحًا لأحوال الأمة، واستقامة لأمورها، وتآلفًا بين قلوب أبنائها، كما أسأله -جل وعلا- أن ينشر الأمن والاستقرار في جميع البُقع، وأن يجعلنا مِن أهلِ الطَّاعات.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

{ثمة مسألة يا شيخ..
بعض من يُكثر الحلف، ويقول إنَّ عليه كفارات كثيرة. كيف يُكفر؟}.
هذا في باب الأيمان، ولعلنا نتركه عند دراسة كتاب الأيمان.
{جزاك الله خيرًا.
وفي الختام نشكركم معالي الشيخ على ما أجدتم به وأفدتم، ولا أنسى أن أشكركم أنتم أيها المشاهدون على حسن إنصاتكم واستماعكم، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك