الدرس الرابع عشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3608 24
الدرس الرابع عشر

المحرر في الحديث (3)

بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرَحِّبُ بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاءِ في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البِناءِ العِلمي، وأرحب بمعالي الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري، فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ}.
الله يحييك، أرحب بك، وأرحب بإخواني المُشاهدين، وأسأل الله -جَلَّ وَعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءًا نافعًا مُباركًا.
{سنبتدأ -بإذن الله- في هذه الحلقة مِن حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها، قَالَتْ: (جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعِينِيني، فَقلْتُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدُّهَا لَهُم وَيَكُونُ وَلاؤُكِ لي؟ فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُم فَأَبَوا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِم -وَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَالسٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِم فَأَبَوا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُم، فَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «خُذِيها واشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ».
فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتِابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفظُ البُخَارِيِّ.
وَعندَ مُسْلمٍ: فَقَالَ لي: «اشْتَرِيها وأَعْتِقِيها واشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلَاءَ»)
}.
نحمد الله -جلَّ وَعَلَا- ونشكره ونُثني عليه.
حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- فيه عددٌ مِن الأحكامِ والسُّنن، قالت: (جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ)، بَرِيرَةُ: أَمَة مملوكة، وهي امرأة مملوكة لبعض الأنصار.
فَقَالَتْ بَرِيرَةُ لعائشة: (كَاتَبْتُ أَهلِي).
المراد بالكتابة: أن يَعقد المملوك مع سَيِّدِهِ بحيث يُسدد له أقساطًا وأنجُمًا يكون بعدها حُرًّا، هذا يُقال له: عقد الكتابة، وهو وجه من أوجه تَشوُّف الشَّريعة لعتق المماليك؛ لأنَّ الشَّريعة جاءت بالتَّرغيب في عِتقِ المماليك سواءً مِن خِلالِ ترتيب الأُجور العَظيمة على العِتقِ، أو مِن خلالِ تقرير مَبدأ التَّدبير الذي يُعتق به المملوك بعد وفاةِ سَيِّده، أو بِمَشرُوعيةِ الكِتَابة، وقد قال تعالى: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرً﴾ [النور:33].
قالت: (كَاتَبْتُ أَهلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ)، جاء في بعض الأحاديث أنَّها أواقٍ مِن فضَّةٍ، وأوقيَّة الفضة قُرابة الأربعة والنصف جرام، بحيث تُدفع لهم أوقيَّة في كل سنة، فطلبت من عائشة أن تُعينها.
وفي هذا مَن كان عليه دين جاز له السؤال إِذَا عَجز عَن سَدَادِ الدَّيْن.
فقالت عائشة لها: (إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدُّهَا لَهُم)، أي: أن أُسَلِّمَها لَهُم في الحال.
(وَيَكُونُ وَلاؤُكِ لي؟ فَعَلْتُ)، المراد بالولاء: الرَّابطة التي تكون بين المملوك الذي حُرِّرَ وبين مَن تَفَضَّل بِعِتقه، فتكون بينهما رابطة يترتب عليها أنَّ هُناك ولاء ونُصرَة لهم، ويترتب عليه أنَّه لو لم يُوجد لهذا المولى أَحَدٌ يَرثه فإنَّ المُعتق هُو الذي يَرِثُه.
قال: (فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا، فَقَالَتْ لَهُم:)، في هذا جواز اشتراط ما يكون مِن مُقتضى العقد؛ لأنَّ اشتراط أن يكون لها الولاء؛ فهذا الولاء ثابت لمن اشترى المملوك متى أعتقه، فهذا أمر مُقرَّر سابقًا، فهذا شَرط أمرٍ مِن مُقْتَضَى العَقد.
قال: (فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُم فَأَبَوا عَلَيْهَ)، أي: لم يرضوا بذلك.
قال: (فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِم -وَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَالسٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِم)، أي: عَرَضْتُ أن تَشتري عائشةُ بَرِيرَة ويكون الولاء لها فَأَبَوا، أي: رفضوا هذا العقد.
قال: (فأبوا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُم، فَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «خُذِيها واشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ»)، شَرط الولاءِ َشرطٌ يُناقضُ ِمُقْتَضَى العقد؛ لأنَّ ِمُقْتَضَى العقد أن يكون المُشتري له كُلُّ مَا يتعلق بالسلعة المُشتراة، ومن ذلك الولاء، إذن هذا شرط يناقض ِمُقْتَضَى العقد.
مَا حُكم الشُّروط المُنَاقِضة لِمُقْتَضى العقد؟
قال الجماهير: هي شُروطٌ بَاطلةٌ تُبْطِلُ العقدَ؛ لأنَّ البَائِعَ لم يَرْضَ بالبيعِ إِلَّا بِوُجُود هذا الشَّرط، وهذا الشَّرطُ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى العقدِ.
وقال الحنابلة: يَصِحُّ العقدَ وَيَبْطُل الشَّرط، واستدلوا عليه بهذا الحديث، فإنه قال: «واشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ» هَذا شَرطٌ بَاطِلٌ، ومع ذلك صَحح النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العقدَ وأبطلَ الشَّرط، وقول الحنابلة في هذا أرجح من قَولِ غَيرهم.
قال: «خُذِيه»، أي: اشتريها. «واشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ»، وبالتَّالي يكون شَرطًا باطلًا، ولا يُنفَّذ هذا الشَّرط، ففعلت عائشة واشترت بَرِيرَةُ.
قال: (ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ)، فيه مَشروعيَّة إِلقاءِ المواعظ والخُطَب في ما يستعمله النَّاس مِن أُمور مُحرَّمة، وفيه مَشروعية بَداءة الخطبة بحمد الله والثَّناءِ عليه -سبحانه وتعالى.
ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ»، فيه مَشروعية قول هذا اللفظ في الخُطبة، ومعناه: مَهْمَا يَكُن مِن شَيءٍ بعدُ فإنَّ الأمر كذا..
قال: «أَمَّا بَعْدُ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ»، قوله: «مَا بَالُ رِجَالٍ»، يعني: أفرادًا؛ لأنَّ هذا الحديث يشمل النِّساءَ أيضًا، ولم يذكرهم بأعيانهم، وفيه دلالة على أنَّ إنكار المُنْكَر في المجامع العَامَّة يكون بدون أن يُنسَب لفاعلٍ.
فيقال مثلا: الرِّبا حَرَام، الزِّنا حَرام، الغيبة حرام...، ولا يقل: فلانٌ يتكلم بالغِيبة...؛ لأنَّ هذا نوعٌ مِن أنواعِ التَّشهيرِ والقَدحِ والسبِّ، وهو مَنهيٌّ عَنه في الشَّرعِ.
وهكذا لا يَقُل: هناك مَن يفعل المُحَرَّم الفُلاني..، فهذا أيضًا مُحَرَّم؛ لأنَّه لا يُستفاد مِنه حُكمُ الشَّرع في ذلك.
قال: «أَمَّا بَعْدُ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ»، المراد بذلك: يَشترطون شُروطًا مُخالفةً لما في كتاب الله.
الجمهور استدلوا بهذا اللفظ على إبطال كل شَرطٍ فِيهِ مَصلحةً للعاقدِ.
والحنابلة قالوا: تَصح الشُّروط التي لمصلحةِ العَاقد لحديث جابرٍ، وحملوا هذا على أنَّ المراد بهِ الشَّرط المُخالف لِمُقتضى العَقد اعتبارًا بسببه، ودلالة السِّياق فيه.
ثم قال: «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتِابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ»، استدل بذلك بعض العُلماء على أنَّ دُيونَ اللهِ مُقدمة على دُيون الخَلْقِ فيما لو تضايق المال عَن سَدادِ جَميعِ الدُّيون.
قوله: «وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ»، فيه أنَّ كل مَا يُخالف دين الله وشرعه؛ فإنَّه باطلٌ ولا يُعتبَر.
قال: «وَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»، أي: رابطة الولاء إنما تكون للمُعْتِق.
قوله: (وَعندَ مُسْلمٍ: فَقَالَ لي: «اشْتَرِيها وأَعْتِقِيها واشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلَاءَ»)، فيه دلالةٌ على أنَّ العِتقَ لا يَكونُ إِلَّا بَعدَ الشِّراء.
قال: «واشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلَاءَ»، فيه أنَّ هذا الشَّرط شرط غُير مُعتبر شرعًا.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ جَابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الماءِ. رَوَاهُ مُسْلمٌ، وَفِي لَفظٍ لَهُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْجَمَلِ وَعَنْ بَيْعِ الماءِ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: نهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ عَسْبِ الفَحْلِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الحَبَلَةِ، وكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ، كانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الجَزُورَ إِلى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتِجُ التي في بَطْنِهَا. مُتَفقٌ عَلِيه، واللفظُ للبُخَارِيَّ.
وَعَنهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ». رَوَاهُمَا مُسْلمٌ)
}.
هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف هُنا هي أحاديثٌ مُتعلقة ببعض البيوعِ المنهي عنها.
أولها: حديث جَابرِ بنِ عَبدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: (نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الماءِ)، المراد بفضل الماء: ما زَادَ عَن حَاجَةِ الإنسان، والماء على نوعين:
 ماء محوز: ما يكون في الأواني، فجمهور أهل العلم رأوا أنَّه مُستثنًى مِن هذا الخبر، وهكذا أيضًا الماء الذي يوجد في نقع البئر فإنهم أجازوه، وإنما منعوا بيع الماء غير المحوز.
 ماء غير محوز.
واستدلوا على ذلك بما ورد في الحديث أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أثنى على عُثمان لَمَّا اشترى بئر رُومة، وقال: «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ» ، وعلى هذا فقد صحح عقد الشِّراء.
قال: (وَفِي لَفظٍ لَهُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْجَمَلِ)، المراد بضراب الجمل: جِمَاعِه للنَّاقَة، وذلك لأنَّه لا يُدرَى هَل تَحمِل النَّاقة مِن هَذا الضِّراب أو لا تحمل!
وبالتَّالي فإنَّه مُشتملٌ على غَررٍ وجهالةٍ، لا يُدرى هل أنزل فيها أو لم يُنزل، ولا يُدرى هل تَحمِل أو لا تَحْمِل.
ضِرَابُ الْجَمَلِ يَدخُل فيه بيع الضِّراب، ويَدخُل فيهِ تَأجيرُ الجَمَل مِن أَجْلِ الضِّراب، يُؤَجَّرَ الجَمَلُ ساعة حَتَّى يَضربَ نُوقَه بمبلغ كذا، فهذا أيضًا لا يجوز.
أمَّا بيع ماء الجمل؛ فالجماهير يمنعونه لهذه الأحاديث، وهناك مَن أجازه وقال: هذا شيء مَعلوم مَشاهد، وإنَّما نُهي عن بيعِ ضِرابِ الفَحلِ لِمَا فيهِ مِن الغَرَرِ والجَهَالَةِ، وهذا لا جَهْلَ فيه.
وورد في الحديث الآخر: «نهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ عَسْبِ الفَحْلِ»، وهو مثل الحديث السَّابق.
ففي حديث ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الحَبَلَةِ)، والمراد به نِتَاج مَا يملكه الإنسان من الإبل، وقد فسَّره، فقال: (وكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ)، أي: قبل الإسلام.
قال: (كانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الجَزُورَ إِلى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتِجُ التي في بَطْنِهَ)، فهذا ولد الولد، وهذا مجهول، ولا يُدرَى أيبقى الجملُ حَتَّى يُنتج له نتاج أو لا، فهذا أمر مجهول، وبالتَّالي مَنَعَ الشَّارِعُ منه.
ثُمَّ أوردَ مِن حديث ابن عمر أيضًا: (أَنَّ رسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ)، والولاء كما تقدم: العلاقة التي تكون بين المُعتق وبين سَيِّده الذي أَعْتَقَه، فلا يجوز بيع الولاء ولا يَصِحُّ.
يقول: مُعتقك فلان الذي أعتقته وولاؤه لك؛ أنا أريد أن أشتري ولاءه، بحيث يكون ولاؤه لي! فهذا أمر غَيرُ جَائزٍ، وهكذا مثله في الهبة، وذلك أنَّه لا يُدرَى ماذا يترتب على الولاء، وَمِن ثَمَّ لم يَصِح العَقد.
ثُمَّ أوردَ المؤلفُ أيضًا من حديث أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ).
بيع الحصاة له صور:
منها: أن يقول له: هذه الحصاة سألقيها على الأرض، فإلى أي درجة وصلت وإلى أي مكان تصل فإني أبيعه لك بالمبلغ الفُلاني.
ومثله: أن يكون عنده في محله سلع كثيرة، فيقول: سألقي هذه الحصاة في المحل، فأي سلعة وقعت عليها الحصاة فهي لك بالمبلغ الفلاني.
لماذا نهي عن بيع الحصاة؟
لما فيه من الغرر والجهالة.
قال: (وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ)، تلاحظ هنا أنه قال: (بَيْعِ الْغَرَرِ)، ولم يقل: "البيع الذي فيه غرر"، فبيع الغرر مَعناه: العقود التي يكون أكثرها مُشتملة على الغرر، أمَّا الغرر التَّابع فإنَّه لا يدخل في هذا اللفظ.
{(وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ»)}.
قوله: «مَنِ اشْتَرَى طَعَامً»، أي: أيُّ واحدٍ مِنكم مِن رَجُلٍ أو امرأةٍ، مِن صغيرٍ أو كبيرٍ؛ اشترى طعامًا، والطَّعام يَشْمَل جميعَ مَا يُطعم، ومن أمثلة ذلك الذُّرة والأَرز والقمح والشَّعير، والفاكهة.
قال: «مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ»، أي: حتى يُجري عليه الكيل، وهذا يدلُّ على أنَّه لا يجوز للإنسان أن يَبِيعَ سلعة حتى يَقْبَضها.
وقد اختلف العلماء في السلع التي يحرم بيعها قبل قبضها على ثلاثة أقوال مشهورة:
القول الأول: الشَّافعية قالوا: جميع السلع لا يجوز بيعها إِلا إذا قبضتها، فإذا اشتريت سلعة فلا يجوز لك أن تبيعها حتى تَقبضها، وقد استدلوا على ذلك بما وَرَدَ مِن حديثِ ابن عباس في هذا الخبر، قال: "ولا أرى كل شيءٍ إلا مثل الطعام" .
القول الثاني: أنَّ المكيلات والموزونات لا يجوز بيعها حتى تُقبَض، وقالوا: إنَّ الحديث فيه «حَتَّى يَكْتَالَهُ»، فَدَلَّ هذا على أنَّ الموزونات والمكيلات لابد مِن قَبضها، وهذا مَذهب أحمد، وهو قريب مِن مذهب أبي حنيفة.
القول الثالث: أنَّ هذا خاص بالطَّعام فقط وهو ظاهر لفظ الحديث «مَنِ اشْتَرَى طَعَامً»، فالحكم في الطَّعام، وهذا قول الإمام مالك -رحمه الله- وَلَعَلَّه أرجح الأقوال في المسألة.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَلأَبي دَاوُدَ: «مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُما أَوِ الرِّبَ».
وَعَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ جمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الحَدِيثِ)
}.
قوله: (عن أبي هريرة أن رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ).
اختلف العلماء في تفسير هذا الحديث على أقوال:
القول الأول: أنهَّ بَيع سلعة بثمنين مُتفاوتين في زَمنين مختلفين، يقول: أبيعك السلعة هذه، إن سدَّدتَّ لي بعد أسبوع فيكون ثمنها ألفًا، وإن لم تسدد لي إِلَّا بعد شهر فيكون ثمنها ألفًا ومائتين؛ فهذا مَنهيٌ عنه ولا يجوز ولا ينعقد، ولا يصح؛ لوجود الجهالة في الثَّمن.
القول الثاني: عقد بيع العِينَة، والمراد بها: أن أبيعكَ سلعة بثمنٍ حاضر، ثم تُعيد بيع السلعة عليَّ بثمنٍ مؤجل أكثر منها.
ومثله بالعكس: لو أنا بعتك سلعة بثمنٍ مُؤجل، ثُمَّ اشتريتها بثمن حاضرٍ أقل مِن الثَّمن الأول؛ فهذا أيضًا مِن الأمور المنهي عنها والمحرمة، فذهب جماهير أهل العلم إلى المنع منها، وهو قول أبي حنيفة ومالك والإمام أحمد -رحمة الله على الجميع- وذلك لما فيه مِن حيلةٍ ربوية على عَقْد الرِّبا.
وذهب الإمام الشَّافعي إلى جوازه، وقال: إنَّ صورته في الظَّاهر صُورة مُطابقة للشَّرع.
والصواب: هو القول بمنعه وتحريمه؛ لأنَّه حِيلة ربوية؛ ولأنَّه خِداعٌ للشَّرع والدِّين؛ ولأنَّ التَّعامل في حقيقته تعامل ربا، وإدخال السلعة إدخالًا لا محلَّ له، وإِلَّا فإنَّ حقيقة البيع أنَّه بَاعَه نُقودًا حاضرةً بنقودٍ أكثر مِنها مُؤجلة، فتعرف أنَّ الأظهرَ هو صِحَّة قول الجمهور.
ومن صور البيعتين في بيعة: ربط عقد بعقدٍ آخرٍ، بحيث يكون جزءًا منه أو شرطًا فيه؛ فهذا ممنوع منه، ولا يجوز للإنسان أن يستعمله.
ومن أمثلة ذلك: ما لو قال له: أُعاقدك عقد إجارة وعقد تمليك، أو عقد إيجارة وعقد شَرِكَة؛ فإنَّه حينئذٍ لا يجوز أن يتوارد العقدان على المحل في وقتٍ واحدٍ؛ لأنَّ كلًّا مِن العقدين له معنًى مُخالف لمعنى العقد الآخر، إِلَّا أن يختلف محل العقد، وبالتَّالي يُصبحان عَقدان مُختلفان.
إذا تقرَّرَ هذا فإنَّه على الإنسان أن يتخلص مِن إِجراء عَقدين في عقدٍ واحدٍ.
قال: «مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُما أَوِ الرِّبَ».
ثُمَّ أوردَ مِن حديث عبد الله بن عمرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ»، أي: لا يحق لك أن تجمع بين هَذين العقدين السلف والبيع، وهذا من صور البيعتين في البيعة.
قال: «وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ»، الجمهور قالوا: المراد بهذه الشُّروط التي لمصلحة العَاقدين.
والصواب -كما تقدم: أنَّ الأصل في الشُّروط التي لمصلحة العَاقد الحل والجواز، وبالتَّالي فإنَّ قوله: «شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ» يُراد به: ثمنان ببيع في زمنين مختلفين.
قال: «وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ»، أي: السلعة التي لا يجب عليك ضمانها لا يجوز لك أن تأخذ من غلَّتها.
قال: «وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»، أي: لا يجوز لك أن تبيع التي لم يجعل لك الشَّرع الحق في بيعها. ومن أمثلة ذلك: السلع التي لا تملكها.
إذا تقرر هذا فإنَّ من المسائل النَّاشئة والتي أُدخلت تحت هذا الخبر: مسألة عقد الإيجار المنتهي بالتمليك؛ فإنَّ هَذَا العَقد ورد في زماننا الحاضر، وقد اختلفت نظرات الفقهاء إليه:
 فمنهم مَن مَنَعَه، وقال: إنَّه مِن البيعتين في بيعة.
والذي يظهر أنَّه ليس كذلك؛ لأنَّ عقد الإيجار المنتهي بالتمليك لم يتوارد العقدان على المحل في وقتٍ واحدٍ، وإنَّما هو عقد إيجار ينتقل إلى أن يكون عقد بيعٍ عند سداد جميع الأجرة، وهذا يُعرَف عند الفُقَهَاء بالعقودِ المُعَلَّقة، أو العقود المُرَاعاة، يُراعى فيها حصول أمرٍ فينتقل إلى عقدٍ آخرٍ، وبالتَّالي هذا ليس مِن البيعتين في بيعة.
 وهناك مَن قال: هذا العقد مقصوده البيع، والمراد منه البيع، وبالتالي هو بيع؛ فنجري عليه أحكام البيع، وهذا فيه نظر! فهما اتفقا على أنه عقد إجارة ورضيا بذلك.
 وبعضهم حمله على ما في مذهب المالكيَّة من قولهم بالوعد الملزم.
 وبعضهم قال: هو عقد إجارة مع الوعد بالبيع.
والكلام في مسائل الوعد لا تصح على مذهب الجمهور، فلا يصح تخريج المسألة على ذلك، والقول بالوعد المُلزِم هو قول مرجوح، وبالتَّالي لا يصح التَّخريج على قولٍ مرجوح.
والذي يظهر أنَّ عقد الإجارة المنتهي بالتَّمليك هو من العقود المُراعاة -على ما تقدم.
قوله: «وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»، قد يُراد به بيع المعدوم؛ لأنَّ المعدوم لا يجوز بيعه إِلَّا في عَقدِ السَّلم.
وقد يُراد به: ما لا تملك حق بيعه، ومن أمثلة ذلك: الوكيل في استخلاص أجرة شيء، لا يحق له أن يبيعه، وهذا من أنواع بيع الفضولي، فيبيع ما لا يملك.
ولا يدخل في هذا بيع الوكيل الموكَّل بالبيع، ولا بيع الولي؛ فإنَّ هؤلاء يبيعون سلعة جعل لهم الشَّرع الحق في بيعها.

{أحسن الله إليكم يا شيخنا.. مِن المسائل المعاصرة في بيع ما ليس عندك: بعضهم يفتح متجر إلكتروني، ولا تكون عنده السلعة أصلًا موجودة، ولكنه يوفرها لمن يطلبها مِنَ الزَّبَائِن، فما حكم ذلك؟}.
عندنا نوعان يُمكن أن يكون كلامك عليهما:
النوع الأول: أن تكون هُناك سِلَعٌ مُصَنَّعة وَمُرَتَّبة ومجهَّزة تكون عند غيره، فيأتيه مَن يأتي ويقول: اشترِ لي السلعة الفلانية، فحينئذٍ إمَّا أن يكون وكيلًا بأجرة، فكأنَّه قال له: أريد أشتري لك هذه السلعة ولي النسبىة الفُلانية مِن قِيمَتها. وإمَّا أن يكون باعَ سلعة بثمنٍ حاضرٍ ويكون مِن نَوع بيع السَّلم.
النوع الثاني: أن تكون السلعة أصلًا لا توجد، فيقول: أنا أصنع لك حاسب آلي بهذه الطريقة وهذا المنوال؛ فمثل هذا هو في الحقيقة عقد إجارة، كأنَّه استأجره على ترتيب هذه السلعة، والمواد مِن المستأجَر، وهذه مسألة أخرى مُغايرة لما نحن فيه، والصَّواب جوازها. وبعضُ العُلماء يُخرجها على قول الحنفية في عقد الاستصناع.
{(وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: ابْتَعْتُ زَيْتًا فِي السُّوقِ، فَلَمَّا اسْتَوجَبْتُه لنَفْسِي، لَقِيَنِي رَجُلٌ فَأَعْطَانِي بِهِ رِبْحًا حَسَنًا فَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى يَدِهِ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي بِذِراعِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذا زَيدُ بنُ ثَابتٍ، فَقَالَ: لَا تَبِعْهُ حَيْثُ ابْتَعْتَهُ، حَتَّى تَحُوزَهُ إِلَى رَحْلِكَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ، حَتَّى يَحُوزَها التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِـهم. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ)}.
قول ابن عمر: (ابْتَعْتُ)، أي: اشتريتُ.
قوله: (زَيْتًا فِي السُّوقِ)، فيه جواز شراء الزيت.
قال: (فَلَمَّا اسْتَوجَبْتُه لنَفْسِي)، أي: لما تمَّ العقد؛ لأنَّ العقد بإيجابٍ وقبول.
قال: (فَلَمَّا اسْتَوجَبْتُه لنَفْسِي)، يعني: اشتريته لنفسي، لستُ وكيلًا.
قال: (لَقِيَنِي رَجُلٌ فَأَعْطَانِي بِهِ رِبْحًا حَسَنًا فَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى يَدِهِ)؛ لأنَّهم كانوا في الجاهلية يَضربون على اليد للدلالة على العقد، ولذلك قال أبو هريرة: "شَغَلَني الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ" ، وفي هذا دلالة لمذهب الحنابلة بجواز بَيع الْمُعَاطَاة، وإن لم يكن هُناك لفظ.
قال: (فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي بِذِراعِي)، أي: أمسكه، فيه النَّصيحة والإرشاد والدلالة، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
قال: (فَالْتَفَتُّ فَإِذا زَيدُ بنُ ثَابتٍ، فَقَالَ: لَا تَبِعْهُ)، أي: لا تَقُم ببيع هذا الزَّيت (حَيْثُ ابْتَعْتَهُ)، أي: في المكان الذي اشتريته فيه.
قال: (حَتَّى تَحُوزَهُ إِلَى رَحْلِكَ)، أي: لابد أن تنقله وأن تقبضه، وفي هذا دلالة على النَّهي عن بيع الطعام قبل قبضه، فإذا اشتريت طعامًا فلا تَبعه قبل أن تقبضه.
قال: (فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ)، أي: في المكان الذي تُشترى فيه.
قوله: (حَتَّى يَحُوزَها التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِـهم)، أي: حتَّى تُقبض إلى رحالهم.
وفي هذا دلالة على أنَّ مَن اشترى طعامًا فلا يجوز له أن يَبِيعَه حتى يَقبضه.
واستدل بهذا على مَسائلِ التورُّق، والمُراد بالتَّورُّق: أن تَشتري سلعة بثمنٍ مُؤجل، ثم تقوم ببيعها على شخص آخر بثمنٍ حاضرٍ أقل من الثَّمن الأول، فهذا التَّورُّق يُشترط فيه عدد من الشروط لجوازه:
 الأول: أن يكونَ البَائِعُ الأول مَالكًا للسلعة أو لَه حَق التَّصرُّف فيها.
 الثَّاني: ألَّا تعود إلى البَائِعِ الأول، فلا تُباع عليه، ولو بيعت عليه لكانت عِينَة، فلا تباع على البائع الأول ولا على وكيله الذي وكَّله في البيع الأول.
 الثَّالث: ألَّا يكونَ هُناك زيادةً في الأقساط عند التَّأخر عَن السَّداد في الوقت المُحدد.
فهذه شُروط عقدُ التَّورُّق، لو أُخِلَّ بواحدٍ منها لم يكن العقد صحيحًا.
قال: (فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ)، أي: حيث تُشتَرى. (حَتَّى يَحُوزَها التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِـهم)، وهذا فيهِ دليلٌ على وجوبِ قبضِ الطَّعام الذي اشتريته قبل أن تَبِيعه.
فهذا ما يتعلق بهذه الأخبار، أسأل الله -جلَّ وَعَلَا- أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يجعلنا وإيَّاكم مِنَ الهُداةِ المُهتدين، كما نسأله -جلَّ وَعَلَا- صلاحًا لقلوبنا، واستقامة لأحوالنا وأمورنا، ونسأله -جلَّ وَعَلَا- أن يرضى عنَّا رضًا لا يسخط بعده أبدًا، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

{وفي الختام نشكركم معالي الشيخ على تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّة عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمةٍ، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك