الدرس الثاني والعشرون

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3606 24
الدرس الثاني والعشرون

المحرر في الحديث (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأُرحبُ بمعالي الشَّيخ الدكتور: سعد بن ناصر الشثري، فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
الله يحيِّيك، وأُرحبُ بكَ، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكِرَام، وأسألُ الله -جَلَّ وعَلَا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{نبتدئ في هذه الحلقة -بإذن الله- من باب " اللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ " من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رحمه الله: (بَابُ اللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ
عَنْ زَيدِ بنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَالَ: «اعْرِفْ عِفَاصَها وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَ» قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ فَقَالَ: «هِيَ لَكَ، أَو لأَخِيكَ، أَوْ للذِّئْبِ» قَالَ: فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ: «مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤُها وحِذَاؤُها تَرِدُ المَاءَ وتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَلمسْلمٍ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ آوَى ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ مَا لَمْ يُعَرِّفْهَ».
وَعَنْ عِيَاضِ بن حِمَارٍ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلْيَحْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ لَا يَكْتُمْ وَلَا يُغَيِّبْ، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ مَالُ اللهِ يُؤْتْيِهِ مَنْ يَشَاءُ». رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفْظُهُ- وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
وَعَنْ عَبدِ الرَّحْمَن بنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهى عَنِ لُقَطَةِ الحَاجِّ. رَوَاهُ مُسْلمٌ.
وَعنْ عَمرِو بنِ مُسْلمٍ، عَنْ عِكْرِمِةَ قَالَ: أَحْسِبُهُ عَنْ أَبي هُريرةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ضالَّةُ الْإِبِلِ المَكْتُومَةُ غَرَامَتُهَا وَمِثْلُهَا مَعَهَ».
وَعَنِ المِقْدَامِ بنِ مَعْدِي كَرِبَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَلا لَا يَحِلُّ ذُو نَابٍ منَ السِّبَاعِ، وَلَا الْحِمَارُ الأَهْلِيُّ، وَلَا اللُّقَطَةُ مِنْ مَالِ مُعَاهَدٍ، إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ ضَافَ قَوْمًا، فَلَمْ يَقْرُوهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعْقِبَهُم بِمِثْلِ قِرَاهُ». رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد.
وَعَنْ أَنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: «لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للبُخَارِيِّ.
وَعَنْ سُنَيْنٍ أَبي جَمِيلَةَ: أَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذًا فِي زمَانِ عُمَرَ بنِ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَخْذِ هَذِه النَّسَمَةِ؟ فَقَالَ: وَجَدْتُهَا ضَائِعَةً فَأَخَذْتُهَا، فَقَالَ لَهُ عَرِيفُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤمنِينَ، إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَقَالَ لَهُ عُمرُ: كَذَلِك؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ عُمرُ: اذْهَبْ فَهُوَ حُرٌّ وَلَكَ وَلَاؤُهُ، وَعَلَيْنا نَفَقَتُهُ. رَوَاهُ مَالكٌ في الـمُوَطَّ)
}.
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسَلين، أمَّا بعدُ:
فأسألُ الله -جَلَّ وعَلَا- أن يستعملنا وإيَّاكم في طَاعته.
قول المؤلف: (بَابُ اللُّقَطَةِ).
المراد باللُّقطَة: المالُ المملوك الذي يَضيع من صاحبه، وسُمِّيَ لُقطةً باعتبارِ مآلهِ، حيث يتمكَّن النَّاس من أخذه والتقاطه.
والأموال على أربعة أنواع:
 مال بيد صاحبه، فهذا معروف مالكه، ولا يجوز لأحدٍ أن يعتديَ عليه فيه.
 ومالٌ غير مملوكٍ، مثل: الأموال التي في البراري، قد يجد الإنسان مالًا نعلم أنَّه غير مملوك، فهذا يجوز أخذه وتملُّكه.
 ومالٌ كان مملوكًا، لكنَّ صاحبه تخلَّى عن تملُّكه، كما تُلقَى بعض الأموال كالأثاث، أو بعض الحاجيَّات، فتُلقَى في البريَّة، أو نحوها، فهذا كان مملوكًا، وتخلَّى عنه صاحبه، وبالتَّالي يجوز لأي أحدٍ من النَّاس أن يأخذَه، ولا حاجة فيه إلى التَّعريف.
 مالٌ مملوك ولا زال على مُلك صاحبه، لكنَّه ضلَّ عن صاحبه، ولم يبقَ بعدُ في مِلك صاحبه، فمثل هذا المال هو الذي يُسمَّى "مال اللُّقطة".
وهذا المال على أربعةِ أنواع:
النَّوع الأوَّل: مال في الحرمين الشَّريفين، خصوصًا حرم مكَّة: فهذا الأفضل ألا يُلتقَط، وأن يُبقَى في مكانه، ومَن التقطه لزِمَه أن يُعرِّفَ به أبدًا، ولكن -كما تقدَّمَ- أنَّ الأفضل ألا يُلتَقط وألا يُؤخّذ، ولذا قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلا تَحِلُّ ضَالَّتُهَا إِلا لِمُنْشِدٍ» ، وفي الحديث الآخر (نهى عن لقطة الحرم) ، وفي لفظ (نَهى عَن لُقَطَةِ الحَاجِّ).
النَّوع الثَّاني: ما كان يمتنع بنفسه عن صِغار السِّباع، مثل: الإبل والبقر؛ فهذه لا يجوز التقاطها، وإذا خِيفَ عليها أُطعِمَت، أو هُيِّئَ لها ما يزولُ به الخوف عليها، ثُمَّ تُترك حتى يَأتيها صاحبها فيأخذها.
النَّوع الثَّالث: ما لا تتعلَّق به همَّة أوساط النَّاس: مثل الشَّيء اليَسير الحَقير الذي لا يبذل النَّاس في طلبه شيئًا من الجُهد، فهذا يحل لملتقطه ولا حرج عليه فيه، كالتَّمرة، والحِفنة اليسيرة من البرِّ، ونحو ذلك.
النَّوع الرَّابع: ما لم يكن من هذه الأموال، فليس في الحَرَمِ، وليس ممَّا يمتنع بنفسه عن صِغَار السِّباع، وليس ممَّا لا تتعلق به همَّة أوساط النَّاس؛ فهذا مَن التقَطه وجبَ عليه أن يُعرِّفَه سنة، فإن جاء أحدٌ يَطلبه وذكر صِفاته سلَّمَ المال له، وإن مَضت مدَّة السَّنة ولم يأتِ أحد يطلبه فإنَّ ملتقطه يتملَّكه ويتصرَّف فيه. فلو قُدِّرَ أنَّه بعد ذلك جاءه مَن يطلبه فحينئذٍ يَرد له المال.
هل يلزمه أن يتصدَّق به؟
نقول: لا يلزمه، ولكن لو تصدَّق به، فحينئذٍ إذا جاءَ صَاحبه بعد السَّنة فإنَّه يُخيَّر بينَ أجرِ الصَّدقة، وبينَ أن يكونَ الأجر لذلك المتلقط ويقوم بضمان تلك العين الملتقطَة.
أورد المؤلِّف في هذا الباب عددًا من الأحاديث: أولها حديث زَيدِ بنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ؟)، مال مملوك ضلَّ عن صاحبه.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعْرِفْ عِفَاصَها وَوِكَاءَهَ».
العِفَاص: هو قطعة القماش التي توضع فيها الأموال.
الوكاء: الحبل الذي يُربَط به.
فكانوا في الزَّمان السَّابق يضعون أموالَهم "دراهم أو دنانير" من ذهبٍ أو فضَّة في قطعة قماش يسمونها عِفاص، تكون من جلدٍ ونحوه، ثم يلفُّونها ويربطونها، وهذا الحبل الذي يربط به يُقال له: الوكاء.
فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعْرِفْ عِفَاصَها وَوِكَاءَهَ»، يعني: الصِّفات التي تُميِّزها، ما لونها؟ ما صفتها؟ ما هيئتها؟
وفي زماننا الحاضر يَختلف باختلاف أنواع الأموال، يعني: لو وجد نقودًا يعرف فئاتها، ويعرف من أي جنسٍ من أموال النَّقد هي، ونحو ذلك.
قال: «ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً».
معنى التَّعريف: أنَّه يُبيِّن للناس أنَّه قد وجد مالًا حتى يتمكَّن النَّاس من سؤاله، والتَّعريف يختلف باختلاف الأعراف، فمرة لا يكفي إلا الصَّوت، ومرَّة يضع لوحةً في المكان الذي يجتمع فيه الناس، ومرة يُبلغ الجهات الرَّسميَّة التي يتوجَّه إليها كل مَن فقدَ ماله ونحو ذلك.
قال: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَ»، فحينئذٍ يُرد له هذا المال.
قال: «وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَ»، أي: يجوز لك أن تستعملها وتستخدمها.
قَالَ: (فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ فَقَالَ: «هِيَ لَكَ، أَو لأَخِيكَ، أَوْ للذِّئْبِ»)، وبالتَّالي فخذها مِن أجلِ ألا يتسلَّط عليها الذِّئب.
قَالَ: (فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ: «مَا لَكَ وَلَهَ»)،أي: لأي شيءٍ تتعرَّض لها؟!
قال: «مَعَهَا سِقَاؤُها وحِذَاؤُه»، لأنَّ الإبل إذا روت ينتقل شَيء من الماء إلى سَنَامها، فيُغنيها مدَّة.
وقوله «وحِذَاؤُه»، أي: معها الخِفاف التي تتمكَّن بها السير.
قال: «تَرِدُ المَاءَ وتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَ»، أي: اتركها حتى يلقاها صاحبها ولا تتعرض لها.
وهذا الصِّنف ممَّا يمتنع من صِغار السِّباع، وبالتَّالي لا يجوز التقاطه.
قال: (وَلمسْلمٍ عَنْهُ)، يعني عن زيد بن خالد.
قال: (عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ آوَى ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ مَا لَمْ يُعَرِّفْهَ»)، فالضَّالة التي ممَّا تكون ممَّا لا يمتنع عن صِغار السِّباع لا يجوز إيواؤها ما لم يعرفها.
وقوله: «آوَى»، أي: جعلها تأوي إليه وإلى بيته، أو إلى حوشه، أو نحو ذلك. وفي هذا: تحريم إيواء الضَّوال.
ثم روى عَنْ عِيَاضِ بن حِمَارٍ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ»، أي: يُشهد عليها من أجل ألا يُضيعها.
قال: «وَلْيَحْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ لَا يَكْتُمْ»، أي: يُبلِّغ ويُخبر.
قال: «وَلَا يُغَيِّبْ»، يعني: لا يُخفي أمرها.
قال: «فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ مَالُ اللهِ يُؤْتْيِهِ مَنْ يَشَاءُ».
الإشكال في هذا اللفظ في قوله: «فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ»، فهل يجب الإشهاد أو لا يجب؟
هذا مِن مواطن الخلافِ بين العلماء، وكثيرٌ منهم أحاله إلى الاختلاف بين الرُّواة في هذا الخبر:
- فمرَّة يُروَى من حديث عياض.
- ومرة يُروى من حديث أبي هريرة.
ولعلَّ الظاهر أنَّه صحيحُ الإسناد، وأنَّ أكثر الرُّواة يروونه مِن حديث عياض بن حمار، ولكن لا يدلُّ هذا على وجوب الإشهاد، لأنَّ الإشهاد كانَ مُحتاجًا لذكرهِ في حديث زيد بن خالد، وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وبالتَّالي قلنا إنَّ هذا الإشهاد يُحمَل على الاستحباب، لا على الوجوب.
ثم روى من حديث عَبدِ الرَّحْمَن بنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (نَهى عَنْ لُقَطَةِ الحَاجِّ)، يعني عن التقاطها من أجل أن تُملَك.
ثم روى من حديث عَمرِو بنِ مُسْلمٍ، عَنْ عِكْرِمِةَ قَالَ: (أَحْسِبُهُ عَنْ أَبي هُريرةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)، عمرو بن مسلم ضعيف، ولذلك ضعَّفَ كثير من أهل العلم هذا الخبر.
قال: (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ضالَّةُ الْإِبِلِ المَكْتُومَةُ غَرَامَتُهَا وَمِثْلُهَا مَعَهَ»)، يعني: مَن آوى ناقة أو بعيرًا وكتمها وجبَ عليه أن يغرَمَها، وأن يغَرَم مثلها، ولكن هذا الخبر -كما تقدم- ضعيف الإسناد.
ثم روى من حديث المِقْدَامِ بنِ مَعْدِي كَرِبَ، وهذا الخبر مِن رواية راوٍ يُقال له مروان رؤبة، وهو مجهول، وإن كانَ قد سانده إسنادٌ آخر ذكر أهل العلم أنَّه جيد، فقد رواه يزيد بن هارون عن حُريز عن عبد الرحمن بن عوف عن المقدام، ولذلك صحَّح إسناده كثير من أهل العلم.
قال رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَلا لَا يَحِلُّ ذُو نَابٍ منَ السِّبَاعِ»، المراد بالنَّاب: السِّنّ الكبير الذي يُصاد به، فكل ذي نابٍ من السِّباع ممنوع منه.
قال: «وَلَا الْحِمَارُ الأَهْلِيُّ»، فهذا لا يجوز أكله، وليس ممَّا يُباح.
قال: «وَلَا اللُّقَطَةُ مِنْ مَالِ مُعَاهَدٍ، إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَ»، أي: لا يجوز تملُّك اللُّقَطَة التي كانت مملوكة لشخصٍ معاهدٍ يُعلَم أنَّه مالكٌ لها، وذلك أنَّ المعاهد معصوم المال، وبالتَّالي فإنَّه لا يجوز أخذ أمواله.
والكفَّار الذين يكونون في ديار الإسلام على أنواع:
النَّوع الأوَّل: أهل الذِّمَّة: وهم الذين يسكنون في بلاد الإسلام مستوطنين.
النَّوع الثَّاني: المعاهَد: وهو الذي بينه وبين المسلمين عهدٌ، مثل: التُّجار الذين يدخلون لوقتٍ مؤقَّت.
النَّوع الثَّالث: المستأمَن: الذي يدخل بأمان.
فهؤلاء لا يجوز الاعتداء عليهم ولا على أموالهم، ومن ذلك اللقطة التي تسقط منهم.
قال: «إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَ»، يعني: إذا تركها رغبةً عنها وزهدًا فيها، فلا بأس من أخذ ذلك المال.
ثم قال: «وَأَيُّمَا رَجُلٍ ضَافَ قَوْمً»، أي: طلبَ منهم الضِّيافة. «فَلَمْ يَقْرُوهُ»، أي: لم يُقدِّموا له الضِّيافة «فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعْقِبَهُم بِمِثْلِ قِرَاهُ»، أي: يُطالبهم بعوضٍ عمَّا وجب عليهم من دفعِ القِرَى.
وفي هذا دليل لمذهب أحمد على أنَّ الضِّيافة واجبة، والجمهور يقولون بعدمِ وجوبها.

ثم أورد المؤلِّف من حديث أَنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: (مَرَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: «لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)، في هذا دليل على أنَّ التَّمرة السَّاقطة يجوز التقَاطُها وتملُّكها في الحال، وذلك لأنَّها من القسم الذي لا تتعلَّق به همَّة أوساط الناس، فيجوز أن يُتملَّك ما وُجِدَ لُقطةً في الأرض.
وفيه أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يأكل من الصَّدقة، وفيه تحرُّز الإنسان من الأموال التي تَعرض له، فلا يجوز له أن يأخذ منها شيئًا حتى يعلم حقيقتها وحكمها في الشَّرع.
ثم أورد عَنْ سُنَيْنٍ أَبي جَمِيلَةَ: (أَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذً)، أي: طفلًا صغيرًا لقيطًا، سُمِّيَ بذلك لأنَّه نُبذَ وطُرِحَ.
قال: (وَجَدَ مَنْبُوذًا فِي زمَانِ عُمَرَ بنِ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ إِلَى عُمَرَ)، فكأنه سأله فَقَالَ: (مَا حَمَلَكَ عَلَى أَخْذِ هَذِه النَّسَمَةِ؟)، أي: هذه الرُّوح وهذا الطفل.
فَقَالَ: (وَجَدْتُهَا ضَائِعَةً)، أي: لو تركتها لأدَّى ذلكَ إلى هلاكها، فَأَخَذْتُهَا.
قوله: (فَقَالَ لَهُ عَرِيفُهُ)، يعني كل قبيلة -أو منطقة- يوجد مَن يُعرِّف بها ويُعرِّف بساكنيها.
فقال العريف لعمر: (يَا أَمِيرَ الْمُؤمنِينَ، إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ)، يقصد سُنَيْن.
فَقَالَ لَهُ عُمرُ: (كَذَلِك؟)، يعني هل أنت رجلٌ صالح؟
قال: (قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ عُمرُ: اذْهَبْ)، كأنَّه يقول: خذه معك.
قوله: (فَهُوَ حُرٌّ)، لأنَّ الأصل أنَّه حرٌّ، ولا يُحكَم عليه بالعبوديَّة والمِلك إلا بدليل.
قال: (وَلَكَ وَلَاؤُهُ)، أي: أنت الذي تَلِيه، وأنت الذي تقومُ بالقيام بحوائجه وأموره، وأنت أولى الناس بمتابعته.
قال: (وَعَلَيْنا نَفَقَتُهُ)، يعني أنَّ نفقتَه واجبةٌ من بيتِ مال المسلمين، وذلك أنَّ هذا الرَّجل كفى بيت المال تربيته والقيام بشؤونه، فتكون رعايته على بيت المال.
{قال -رحمه الله: (بَابُ الْوَقْفِ
عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنهُ عملُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». رَوَاهُ مُسْلمٌ.
وَعَنِ ابْن عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَستَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرضًا بِخَيْبَرَ لمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأَمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَ» قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُبْتَاعُ، وَلَا تُورَثُ، وَلَا تُوهَبُ، قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، والضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ، قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الحَدِيثِ مُحَمَّدًا، فَلَمَّا بَلغْتُ هَذَا الْمَكَانَ (غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ)، قَالَ مُحَمَّدٌ: (غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالً)، قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: وأَنْبَأَنِي مَنْ قَرَأَ هَذَا الْكِتابَ أَنَّ فِيهِ: غَيرَ مُتأثِّلٍ مَالًا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ، ولِلبُخاريِّ مِنْ رِوَايَة صَخْرِ بنِ جُوَيْرِيةَ، عَنْ نَافِعٍ... فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ»، فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ.... الحَدِيث، وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا المالَ كَانَ نَخْلً)
}.
المراد بالوقف: مالٌ يُتصدَّق بغلَّته وثمرته مع بقاء ذلك المال محبوسًا عن التَّصرُّف، كأن يضع عمارة تؤجَّر، فيُنفَق إيجارها في مَصرف الوقف، ويبقى أصل المِلك غير مؤثِّرٍ فيه.
وقد أورد المؤلِّف هنا حديث الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنهُ عملُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ»، أي: يستمر أجرها وثابها.
قال: «أَو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ»، أي: لا زالَ النَّاس يستفيدون منه ويعملون به.
قال: «أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»، وفي هذا دَلالةٌ على أنَّ الأصلَ هو انقطاع عمل الإنسان بموته، إلا ما يكون ناتجًا عن فعلِه، ومِن ذلك الصَّدقة الجارية، ومِن أنواع الصَّدقة الجارية: الأوقاف، فإنَّ مال الإنسان ينتقل مِن مِلكه إلى مِلك ورثته بموته، وحينئذٍ لا يُمكن أن يُتصدَّق بعد ذلك إلا الصَّدقة التي أجراها في حياته فهي تستمر.
ومِن أمثلة ذلك: لو وضع ماءً يستسقي النَّاس منه، فهذه صَدقةٌ جاريةٌ ما دام البئر قائمًا فإن الأجر مستمر.
وهكذا مِن أنواع الصَّدقة الجارية: الوقف. والمؤلِّف أورد هذا الخبر للاستدلال به على مشروعيَّة الأوقاف.
قال: «أَو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ»، لأنَّ أجره يبقى مستمرًا.
قال: «أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»، واستدلَّ بهذا على أنَّ الأصلَ لا ينتفع بما يُهدَى إليه من ثواب الأعمال إلا ما وردَ له أصل في الشَّرع يدلُّ على جواز هبةِ ذلك الثَّواب للميِّت كما هو مذهب المالكيَّة والحنفيَّة، خلافًا للحنابلة ومَن وافقهم.
ثم أورد المؤلِّف من حديث ابْنِ عُمرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: (أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ)، يعني أُعطيَت له من الغنائم.
قال: (فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَستَأْمِرُهُ فِيهَ)، لما قَسَم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا الجزء من أجزاء خيبر كانَ نصيب عمر هذه الأرض، فأتى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يطلب أمره فيها وماذا يفعل بها.
فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرضًا بِخَيْبَرَ لمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ)، يعني أنني لم أتملَّك فيما مضى نخلًا يُماثل هذا النَّخل في كونه غاليًا عندي وثمينًا وله مكانته.
قال: (فَمَا تَأَمُرُنِي بِهِ؟)، أي: ماذا أفعل به؟
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ»، يعني: منعت التَّصرف في أصلِ المال، أي أصل مِلك تلكَ الأرض.
قال: «أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَ»، أي: تصدَّقت بثمرتها وغلَّتها.
ففعل عمر ذلك وتصدَّق بغلتها، وأبقى أصلها.
قال: (وَلَا يُبْتَاعُ)، أي: لا تُباع. وفي بعض الرِّوايات لم تُذكَر هذه اللفظة.
قال: (وَلَا تُورَثُ)، أي: بموتِه لا تنتقل إلى مِلك الورثة.
قال: (وَلَا تُوهَبُ)، أي: لا تُعطَى لأحدٍ مِن الأشخَاص مهما كانَ، فأصلها باقٍ.
قَالَ: (فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ)، أي: أنَّ ثمرتها وغلَّتها تكون للفقراء.
قال: (وَفِي الْقُرْبَى)، أي: قرابة عمر.
قال: (وَفِي الرِّقَابِ)، أي: المماليك الذين كاتبوا أسيادهم.
قال: (وَفِي سَبِيلِ اللهِ)، أي: الجهاد.
قال: (وَابْنِ السَّبِيلِ)، أي: التَّائه الضَّائع في سفره.
قال: (والضَّيْفِ)، أي: يُطعَم منها الضَّيف.
ثم قال: (لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ)، أي لا جَنَاح على مَن قام بإصلاحها وترتيبِ أمورِها أن يأكلَ منها بما يتعارَف النَّاس على إعطائه لمن كان كذلك. وفي هذا جواز الاستناد إلى الأعراف فيما لم يأتِ دليل من الشَّرعِ بتحديده.
قال: (أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقً)، يجوز للواقف أنْ يشترط أنَّ للنَّاظر هذه الأفعال.
قال: (غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ)، المراد بذلك أنَّه لا يملك مالًا بسببِ هذه الثَّمرة، فهو جعلها في الفقراء -وهم الذين لا يجدون كفايتهم- وفي القُربى، وفي الرقاب -وهم المماليك الذين كاتبوا أسيادهم-، وفي سبيل الله -أي الجهاد-، وابن السبيل، والضَّيف.
ثم قَالَ ابن عون: (فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الحَدِيثِ مُحَمَّدً)، أي محمد بن سيرين. قال: (فَلَمَّا بَلغْتُ هَذَا الْمَكَانَ «غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ»، قَالَ مُحَمَّدٌ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالً)، متأثِّل: يعني غير جامع للأموال، وغير متموِّل: يعني لا يتَّخذ منه مالًا. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: (وأَنْبَأَنِي مَنْ قَرَأَ هَذَا الْكِتابَ أَنَّ فِيهِ: غَيرَ مُتأثِّلٍ مَالً).
قال المؤلف : (ولِلبُخاريِّ مِنْ رِوَايَة صَخْرِ بنِ جُوَيْرِيةَ، عَنْ نَافِعٍ... فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ»)، يعني اجعله لله.
قال: («لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ»، فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ.... الحَدِيث، وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا المالَ كَانَ نَخْلً).
{قال -رحمه الله: (بَابُ الْهِبَةِ
عَنِ النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَبَاهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْني هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟» فَقَالَ: لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَارْجِعْهُ».
وَفِي لَفْظٍ، قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَانْطَلَقَ أَبي إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِم؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «اتَّقُوا اللهَ واعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُم» فَرَجَعَ أَبي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ.
وَفِي لفظٍ لَهُ: فَقَالَ: «أَكُلَّ بَنِيْكَ قَدْ نَحَلْتَهُ مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ؟» قالَ: لَا، قَالَ: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» ثُمَّ قَالَ: «أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟» قَالَ: بلَى، قَالَ: «فَلَا إِذً».
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ، يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، ولِلبُخاريِّ عَنْ عِكْرِمَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ».
وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ طَاوُسٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَر، وَابْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يُحَدِّثانِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُعْطِيَ الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الَّذِي يَرْجِعُ فِي عَطِيَّتِهِ كَمَثَلِ الْكَلْبِ أَكَلَ حَتَّى إِذا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ رَجَعَ فِي قَيْئِهِ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو يعْلى الْمَوْصِلِيِّ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَقَدْ رُويَ مُرْسَلًا.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيْبُ عَلَيْهَا. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: وَهَبَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَاقَةً، فَأَثَابَهُ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «رَضِيتَ؟» قَالَ: لَا، فَزَادَهُ، فَقَالَ: «رَضِيْتَ؟» قَالَ: لَا، فَزَادَهُ، فَقَالَ: «رَضِيتَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أَتَّهِبَ هِبَةً إِلَّا مِنْ أَنْصَارِيٍّ، أَو قُرَشِيٍّ، أَو ثَقَفِيٍّ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ، وَقَدْ رُوِيَ نَحوهُ مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ.
وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «العُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَلمسْلمٍ عَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُم أَمْوَالَكُم وَلَا تُفْسِدُوها، فَإِنَّ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذي أُعْمِرَهَا حَيَّا وَمَيِّتًا وَلِعَقِبِهِ».
وَلَهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَأَمَّا إِذا قَالَ: هِيَ لَك مَا عِشْتَ، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا. قَالَ مَعْمَرٌ: وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يُفْتِي بِهِ.
وَعنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تُرْقِبُوا وَلَا تُعْمِرُوا، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا أَو أُعْمِرَ شَيْئًا، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ-، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ)
}.
قول المؤلف -رحمه الله: (بَابُ الْهِبَةِ).
المراد بالهبة: العطيَّة، وهي التَّصرف بالمال لتمليك الآخرين في الحياة بلا مقابل.
والهبة عمل صَالح يؤجر العبدُ عليه، وقد وردَ في الحديث أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «تَهَادَوْا تَحَابُّو» ، وجاء في الحديث الآخر أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ» ، والبَذل يكونُ بالهبة والعطيَّة. وقد كان النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُرسل الهدايا والهبات.
وقد أوردَ المؤلِّف في الباب عددًا من الأحاديث:
أولها يتعلق بالعطية للأولاد، وهو ما ورد في حديث النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أَنَّ أباه وهب له غلامًا، فبعدَ مدَّة استرجع الأبُ ذلك الغلام، فالنُّعمان بن بشير كان عنده زوجة جاءت له بأولادٍ كبار، ثم تزوَّج بعدَ ذلك عمرة بنت رواحة، فجاءت له بالنُّعمان بن بشير، فتقول عمرة: ابني صغير، وأخشى أن تموت ولا يكون له شيء من المال، فخصَّه بشيءٍ من المال، فأعطاه غلامًا، ثم بعدَ مدَّةٍ استرجع بشيرُ بن سعد الغلامَ من ابنه النعمان، فطالبته زوجته عمرة أن يهب له شيئًا، فوهب نخلًا، فقالت: إني أخشى أن تقوم باسترجاع النَّخل كما فعلتَ مع الغلام، فاذهب إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأشهده، من أجل أن توثِّق تلك العطيَّة، فلما جاء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟» فَقَالَ: لَا. «أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟». قَالَ: بلَى، قَالَ: «فَلَا إِذً».
وفي هذا الحديث: يجب على الوالد التَّسوية بين أولاده في العطيَّة.
ونفرق بين العطيَّة وبين النَّفقة:
فإنَّ النَّفقة تكون بحسب الحاجة، والأولاد يختلفون في حوائجهم.
أمَّا العطيَّة والهبة: فهذه لابدَّ من التَّسوية بينهم فيها.
قال النَّعمان: (إِنَّ أَبَاهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْني هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟» فَقَالَ: لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَارْجِعْهُ»)، فيه استرجاع الأب للهِبَة التي وهبها لابنه، وذلك أنَّ الأب يجوز له أن يتملك من مال ابنه ابتداءً؛ فجاز له الرُّجوع في الهبة له.
وقوله: «أَكُلَّ وَلَدِكَ»، الولد يُطلق على الذكر والأنثى، ولذلك استدلَّ بعض العلماء بهذه اللفظة على:
- وجوب التَّساوي بين الولاد والبنات في العطية.
- وقال بعضهم: للذكر مثل حظِّ الأنثيين، كقسمة الميراث، قالوا: أعدلُ القِسَمِ قَسْمُ ربِّ العزَّة والجلال.
قال: (وَفِي لَفْظٍ، قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبي بِبَعْضِ مَالِهِ)، فيه تسمية الهبة باسم الصدقة.
قال: (فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، تريد أن توثِّق لئلَّا يرجع كما يرجع في الهبة الأولى.
قال: (فَانْطَلَقَ أَبي إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفَعَلْتَ هَذَ»)، يعني العطية والهبة «بِوَلَدِكَ كُلِّهِم؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «اتَّقُوا اللهَ واعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُم»، في هذا وجوب العدل بينَ الأولاد في العطيَّة والهبة. قال: (فَرَجَعَ أَبي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ).
قوله: (وَفِي لفظٍ لَهُ: فَقَالَ: «أَكُلَّ بَنِيْكَ قَدْ نَحَلْتَهُ -أي أعطيته- مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ؟» قالَ: لَا، قَالَ: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي»)، يعني هذا العقد وهذه الهبة أشهد عليها غيري.
وفيه دلالة على تورُّع الإنسان عن الشَّهادة بالتَّصرُّفات المخالفة لأمر الشَّرع.
قوله: («أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟» قَالَ: بلَى)، يعني يسرني أن يكونوا لي في البرِّ سواء.
قَالَ: «فَلَا إِذً»، أي: لا تفضلهم في العطيَّة ما دمت ترجو أن يكونوا في البرِّ سواء.
وفي هذا -كما تقدم: وجوب العدل بينَ الأولاد في العطيَّة.
وهذا الخطاب موجَّه للأب أصالةً، ولكن الأم تماثله لأنَّهم أولادها.
وجمهور أهل العلم على أنَّ الجد يُماثلهما، والأظهر أنَّ الأصلَ جواز أن يتصرَّف الإنسان في ماله، وبالتَّالي يُقال: ليس الجد ممَّا يدخل في هذا الخبر.
وبعضهم قال: يدخل الجد في هذا الخبر، بدلالة قوله «أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِم؟»، وولد الولد يعتبر ولدًا كما هو إطلاق أهل اللغة.
ثم أورد المؤلِّف من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ»، يعني: الرَّاجع في عطيَّته «كَالْكَلْبِ، يَقِيءُ»، أي: يُخرج ما في جوفه عن طريق الفم «ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ»، ويُعيده في بطنِهِ مرَّة أخرى.
وذكروا أنَّ الإمامين أحمد والشَّافعي تكلَّموا في هذا الحديث، وذكروا مسألة الرُّجوع في الهبة، فاستدلَّ الإمام أحمد بهذا الخبر، فقال له الإمام الشَّافعي: "ألا ترى أنَّ الكلب لا يحرم عليه العود في القيء؟"، كأنه يقول فإذا كان الكلب لا يحرم عليه فالمُشبَّه -وهو الإنسان- لا يحرُم عليه.
فقال له الإمام أحمد: "لكن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ»"، وفي هذا تحريم العود في الهبة.
وجمهور أهل العلم على أنَّه لا تَلزم الهبة إِلا بقبضها، وأمَّا قبل القبض فإنَّه يجوز الرُّجوع في الهبة.
ثم أورد من حديث طاووس عن ابن عمر وابن عباس: أنَّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُعْطِيَ الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ»، الوالد يجوز له الرجوع، لأنَّه أصلًا يجوز له ابتداء التَّملُّك.
قال: «وَمَثَلُ الَّذِي يَرْجِعُ فِي عَطِيَّتِهِ كَمَثَلِ الْكَلْبِ أَكَلَ حَتَّى إِذا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ رَجَعَ فِي قَيْئِهِ»، هذا الخبر بعضهم رواه عن طاووس عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيكون مرسلًا، وبعضهم ذكر فيه أسماء ابن عمر، وابن عباس؛ ومعناه متقرر فيما قبله.
ثم أورد المؤلِّف من حديث عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أنها قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ)، فيه مشروعيَّة قبول الهدايا.
قالت: (وَيُثِيْبُ عَلَيْهَ)، أي: يُقدِّم الثَّواب والعِوَض عن تلك الهديَّة.
ثم أورد من حديث طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: (وَهَبَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَاقَةً، فَأَثَابَهُ عَلَيْهَ)، يعني أعطاه مقابل عن تلك الهدية.
فَقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لذلك الرجل: «رَضِيتَ؟»، أي: رضيتَ بما أعطيتكَ؟
قَالَ: (لَا، فَزَادَهُ، فَقَالَ: «رَضِيْتَ؟» قَالَ: لَا، فَزَادَهُ، فَقَالَ: «رَضِيتَ؟» قَالَ: نَعَمْ)، في هذا دلالة على أنَّ هبة الثَّواب لها أحكام البيع.
ثم قال: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أَتَّهِبَ هِبَةً إِلَّا مِنْ أَنْصَارِيٍّ، أَو قُرَشِيٍّ، أَو ثَقَفِيٍّ»، لئلا يُحرجوه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بطلب العوِض، ويكون العوض أكثر مِن الهديَّة، أو يكونَ غيرَ قادرٍ على ثوابها.
ثم أورد المؤلِّف من حديث زيدِ بنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: (حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ عَتِيقٍ فِي سَبِيلِ اللهِ)، أي: كان عنده فرس فقدَّمها لتكون وقفًا له، وفي هذا دلالة على جواز وقف المنقولات؛ لأنَّ الفرس منقول.
قال: (عَلَى فَرَسٍ عَتِيقٍ)، يعني: قديم.
قال: (فَأَضَاعَهُ صَاحِبُهُ)، قال عمر: هذا وقف للجهادِ على يد فلان، وفلان هذا أضاع الفرس، فوجده رجلٌ فباعه في السُّوق، فوجد عمر الفرس فعرفها، ولكن ليس له عليه بيِّنة.
قال: (فَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ)؛ لأنَّ مَن أخذها ليسَ صاحبها، فظنَّ أنَّه سيبيعها بأقل من ثمنها الحقيقي.
قال: (فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ؟)، هل يجوز لي أن أشتري هذه الفرس وأنا قد أوقفتها؟
فَقَالَ: «لَا تَبْتَعْهُ»، أي: لا تشتريه.
قال: «وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ»، وفي هذا تحريم الرُّجوع في الصَّدقات، وفيه أنَّه لا يجوز للإنسان أن يشتري صَدقَتَه التي تصدَّقَ بها. قال: «فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ».
ثم أورد المؤلف من حديث وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «العُمْرَى».
العُمرَى: أن يهب الإنسانُ دارًا لغيره مُدَّة عُمره، مرة مدَّة عمر الواهب، ومرة مدَّة عمر الموهوب له.
فقضى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ العُمرى تكون لمن وُهبَت له.
وفي لفظٍ قال: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُم أَمْوَالَكُم وَلَا تُفْسِدُوه»، أي: لا تقطعوا صِلَتكم بها بأن تقطعوا ملككم لها.
قال: «فَإِنَّ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى»، أي: من قال لصاحبه اسكن في الدَّار عمرك. قال: «فَهِيَ لِلَّذي أُعْمِرَهَ»، أي: للسَّاكن «حَيَّا وَمَيِّتًا وَلِعَقِبِهِ».
ثم أورد عند مسلمٍ قَالَ: (إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يعني صحَّحَ التَّعامل بها (أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ)، فإذا قال "هي لكَ عمرك ولعقبك"؛ فحينئذٍ تنتقل ملكيتها لمن أُعمِرَ.
قوله: (فَأَمَّا إِذا قَالَ: هِيَ لَك مَا عِشْتَ، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا. قَالَ مَعْمَرٌ: وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يُفْتِي بِهِ)، أي كان الزهري يُفرِّق بين أن يقول "هي لك ولعقبك" وبين أن يقول "هي لك ما عشتَ" أو "لك مدة عمرك".
ثم أورد من حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تُرْقِبُو»، أي: لا تقل: "هذه رُقبى" أو "هي لك ولرقبتك ما دمت حيًّا".
قوله: «وَلَا تُعْمِرُو»، كأن يقول "هي لك عمرك".
قال: «فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئً»، أي: أُعطي شيئًا أَو أُعْمِرَ شَيْئًا، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ، كأنه يقول: انتقل المُلك، وأصبحت لمن وُهبَت له.
وهناك خلاف فقهي وتفصيلات كثيرة، وكلها منطلقة من بعض ألفاظ هذا الخبر.
أسأل الله -جَلَّ وعَلَا- أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يوفق المشاهدين الكرام، كما أسأله -جَلَّ وعَلَا- أن يصلح أحوالنا جميعًا، وأن يردَّنا إلى دينه الحميد، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{في الختام نشكُركم معالي الشَّيخ على ما تقدمونه، أسألُ الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر.
إلى أن نلقاكم في الحلقة القادمة؛ إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك