الدرس الرابع والعشرون

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3556 24
الدرس الرابع والعشرون

المحرر في الحديث (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأُرحبُ بمعالي الشَّيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري، فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم معالي الشَّيخ}.
الله يحييك، أرحبُ بِكَ، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جَلَّ وعَلَا- أن يرزقهم العلم النافع، والعمل الصَّالح، والنيَّة الخالصة.
{سنبدأ في هذه الحلقة -بإذن الله- من حديث عَمْرو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمْرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قالَ: (قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ للْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَوَّاهُ ابْنُ عبدِ الْبَرِّ، وَذَكَرَ لَهُ النَّسَائِيُّ عِلَّةً مُؤَثِرَةً)}.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعدُ:
آخر حديثٍ أخذناه فيما مضى: حديث أبي هريرة «إِذا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وُرِّثَ»، وقد رواه أبو داوود، وقال المؤلف: (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ)، وهذا الحديث من رواية محمد بن إسحاق صاحب السِّيرة، وقد عَنْعَنَ فيه، وهو مُدلِّس، ولا يُقبَل عنعنته حتى يُصرح بالسَّماع، ولكن وردَ له شاهدٌ من حديثِ جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لكنَّه من طريق أبي الزبير عن جابر، وأبو زبير تكلَّم بعضُ النَّاس في عَنعنتِهِ وقالوا: إنَّها لا تقبل؛ لأنَّه مُدلس.
وعلى كلٍّ؛ فجماهير أهل العلم في هذا الخبر يقولون: إنَّ العبرةَ برفع الصوت، وهذا هو مَذهب الشَّافعي وأحمد وجماعة.
وهناك مَن قال: كل مَن وُلد فإنَّه يَرِث، ولو لم يَسْتَهِل.
ولعلَّ القول الأوَّل أظهر لما سبق.
والاستهلال: هو رفعُ الصَّوت، إمَّا ببكاء، أو بِصُراخ، أو بنحوه.
هل يُلحق بالاستهلال باقي حركات الحياة مثل ما لو كان منه حركة بيديه أو عطاس أو تنفُّس أو نحو ذلك؟
الصَّواب: أنَّه مِن علامات الحياة، وبالتَّالي يكون من أسباب الميراث.
أَوْرَدَ المؤلِّف حديث عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ للْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ».
هذا الحديث قد اختُلفَ في إسنادهِ، فأكثرُ الرُّواة رووهُ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، بينما هناك ثلاثة رواة رووه (عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ أَنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال...)، وبالتَّالي يكون مُرسلًا، ولهذا أشار المؤلِّف إلى أنَّ النَّسائي ذكر له علَّة مُؤثرة، وهي: الاختلاف فيه هل هو مرسل أو متَّصل؟.
وقال الدَّاقطني: " المرسل أولى بالصواب". قال النَّسائي: "وهو الصواب" يعني: المرسل.
وعلى كلٍّ؛ فهذا الحديث يتعلق بميراث القاتل، فلو قتل الابن أباه؛ فهل يرث أو لا؟
هناك ثلاثة أنواع من القتل:
 النَّوعُ الأوَّلُ: قتلُ عمدٍ.
 النَّوعُ الثَّاني: قتلٌ خطأٌ.
 النَّوعُ الثَّالثُ: قتلٌ بحقٍّ.
فالنَّوع الأوَّل: القتل العمد: الجماهير على أنَّ الإنسان لا يرث به. وورد عن بعضهم إثبات الميراث، ولكن يبدو أنَّ اتِّفاق الصَّحابة على خلاف هذا.
النَّوع الثَّاني: القتل الخطأ، وفيه أقوال:
- الجمهور على أنَّ القاتل خطأً لا يَرِث.
- والإمام مالك يقول: إنَّه يَرِث.
- وهيئة كبار العلماء لَمَّا نظرت في الموضوع أثبتت مِيراثه ورجَّحت ذلك القول.
فكأن يكون هناك ابنٌ بارٌّ بوالده وهذا الابن هو الذي يذهب ويأتي به، فيحدث حادث سيَّارة خطأً، فيموت الوالد، فهذا موت خطأ، فهل نقول: إنَّ هذا الابن يُحجَب من الميراث؟
قال مالك: لا يُحجَب من الميراث، والجمهور على خلافه.
النَّوع الثَّالث: القتل بحق:
- يقول الحنفية: إنَّه يمنع من الميراث.
- وقال الجمهور: لا يمنع من الميراث.
ولعلَّ قول الجمهور أقوى في هذه المسألة.

{شيخنا أحسن الله إليكم..
مَا حُكم قتل شبه العمد؟ هل يُلحق بالعمد أو بالخطأ}.
يُلحق بالخطأ؛ لأنَّه لا يثبت به قصاص، وإنَّما تُغلَّظ فيه الدِّيَة.

{قال -رحمه الله: (وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمرَ رَضيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ». رَوَاهُ أَبُو يَعْلى الْموصِلِي وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيرُهُ، وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مَنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمرَ)}.
هذا الحديث في إسناده رجلٌ أكثر أهل العلم يُضعِّفونه، وهو بِشر بن الوليد الكِندي، وهو من الفُقهاء، ولكنَّه أخطأ كثيرًا في رواية الأحاديث، وبالتَّالي ضُعِّفَ حديثه. وفي غير رواية بشر بن الوليد اختلاف على روايته.
قوله في هذا الخبر: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ».
المراد بالولاء: نسبة تثبت بين المُعتِقِ والمُعتَق.
متى يُورَث بالولاء؟
إذا لم يوجد عاصبٌ ولا أصحاب فروض يُردُّ عليهم، ولا مَن يَرِثُ بالرَّحم -ذوي الأرحام- وبالتَّالي نُثبت الولاء.
مثال ذلك: رجلٌ أعتق مملوكًا، فاتَّجرَ المملوك وكسبَ أموالًا كثيرة، ثم مات المملوك، فحينئذٍ ماله يعود إلى مَولاه -سيده الذي أعتقه.
ولا يجوز بيع الولاء، ولذا قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعائشة في الحديث: «واشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ». وهنا قال: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ».

{قال: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عُمرَ بنِ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَا أَحرَزَ الْوَلَدُ أَو الْوَالِدُ فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانَ». رَوَاهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ -وَقَالَ: هُوَ مِنْ صَحِيحِ مَا يُرْوَى عَنْ عُمرو، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ دَاوُدَ وَتَكَلَّمَ فِيهِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَبدِ الْبَرِّ)}.
قوله هنا: «مَا أَحرَزَ الْوَلَدُ أَو الْوَالِدُ فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانَ»، هذا فيه إثبات الميراث للعُصبة فيما يملكونه من المال.

{قال -رحمه الله: (كِتابُ الْعِتْقِ
عَنْ سَعيدِ بنِ مَرْجَانَةَ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرِئٍ أَعْتَقَ امْرًا مُسْلِمًا، اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ» قَالَ: فَانْطَلَقْتُ حِينَ سَمِعْتُ هَذَا الحَدِيثَ مِنْ أَبي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرْتُهُ لِعَلِيِّ بنِ الْحُسَيْنِ، فَأَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ قَدْ أَعْطَاهُ بِهِ عَبدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرَ عَشْرَةَ آلَافٍ أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ .
وَعَنْ أَبي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ، قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيْلِهِ»، قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا، وأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَ»، قَالَ: فَإِنْ لمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: «تُعِينُ صانِعًا أَو تَصْنَعُ لأَخْرَقَ»، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: «تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَّدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)
}.
المراد بالعِتْق: إخراج المملوك من حيِّزِ المِلكِ إلى الحُريَّة، والشَّريعة تتطلَّع إلى عِتقِ المماليك، وقد كان أمرُ المماليك واقعًا في حياة النَّاس في عهدِ النُّبوَّة، فجاءت الشَّريعة بعددٍ كبيرٍ من الوسائل مِن أجلِ تخليصِ هؤلاء العبيد من الرِّقِّ:
الوسيلة الأولى التي جاءت بها الشَّريعة: ترتيب الأجر والثَّواب على العِتق، بحيث يكون هناك أناس يرغبون في الأجر والثَّواب المرتَّب على العتق، ومن هذا حديث أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرِئٍ أَعْتَقَ امْرًا مُسْلِمًا، اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ» ، فهذا فيه دليل على الترغيب في العِتقِ، وترتيب الأجور الكبيرة عليه.
ولذلك ذكر المؤلِّف أنَّه لمَّا سمعَ بعض التَّابعين بهذا الخبر بادروا إلى عِتق مماليكهم، فذكر الحديث لعلي بن الحسين (فَأَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ قَدْ أَعْطَاهُ بِهِ عَبدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرَ عَشْرَةَ آلَافٍ أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ)، يعني: عشرة آلاف درهم، أو ألف دينار؛ لأنَّ الدِّرهم من الفضَّة، وفي كثير من الأحوال يكون الدِّينار الواحد الذي مِن الذَّهب يُساوي عشرة دراهم.
وأيضًا مِن الأحاديث الواردة في التَّرغيب في عتقِ المماليك حديث أبي ذر، قَالَ: (سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ، قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيْلِهِ»، قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟)، يعني: من أجل أن نعتقها.
قَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنً»، وفي لفظٍ: «أَعْلَاهَا ثَمَنً».
قوله: «وأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَ»، يعني: أغلاها.
قَالَ: (فَإِنْ لمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: «تُعِينُ صانِعً»)، أي: مَن يصنع صَنعةً فتقوم بمساعدته تقرُّبًا لله، فتعينه على ذلك، وتكون قد تصدَّقتَ عليه.
قال: «أَو تَصْنَعُ لأَخْرَقَ»، الأخرق: الذي لا يُحسن العمل، فتقوم بكفايته بعضَ أعماله.
قال: (قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: «تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ»)، أي: من شَرِّك.
قال: «فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَّدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ»، في هذا سَعة أبواب الفضيلة، والعمل الصَّالح.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ، قُوِّمَ العَبْدُ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُم وَعَتَقَ عَلَيْهِ العَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» .
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ نَصِيْبًا أَو شَقِيْصًا فِي مَمْلُوكٍ, فَخَلاصُهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ فاستُسْعِيَ بِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)
}.
هذا طريقٌ ثانٍ من طُرق التَّخلُّص من رَقِّ المماليك ممَّا جاءت به الشَّريعة، وهي: إذا كان هناك مملوك يشترك في مِلكه عددٌ من النَّاس، فأعتق أحدُهم نصيبَه؛ لَزِمَه أن يقومَ بشراء بقيَّة الأجزاء مِن هذا المملوك ليتمكَّن من العتق؛ لأنَّه في الحقيقة قد أفسدَ هذا المملوك على أصحابه ومُلَّاكه الباقين، فإنَّه سيوفر جهده ليوم عِتقه.
أورد حديث عبد الله بن عمر وهو متفق عليه، قال: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ»، يعني: جُزءًا مِن عبدٍ، فالعبد المملوك يملكه أكثر من واحد، فقام أحدهم بعتق نصيبه من ذلك العبد.
قال: «فَكَانَ لَهُ»، يعني: إذا كان لهذا السِّيد المُعتِق «مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ»، يعني: بقيَّة الأجزاء الأخرى، فإنَّ العبد يُقوَّم على ذلك السيد قيمة عدل -يعني: قيمته في السُّوق- وحينئذٍ نُطالب هذا الشَّريكَ الذي أعتق أن يُعطيَ شُركاءه حِصَصَهم، وبالتَّالي يَعتق عليه العبد.
وإذا لم يكن لديه مال؛ فاختلف العلماء في ذلك:
 القول الأول: نُثبت له العتق في جزئه الذي يملكه ذلك المعتق، وبالتَّالي قال «فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ»، ويبقى الباقي على المِلك والعبوديَّة.
 القول الثَّاني: نُطالب العبدَ أن يسعَى وأن يعملَ، بحيث يعوِّض الشُّركاء نصيبَهم، ولذا جاء في حديث أبي هريرة: «مَنْ أَعْتَقَ نَصِيْبً»، أي: جُزءًا مِن مِلكيَّة العبد. «أَو شَقِيْصًا فِي مَمْلُوكٍ»، أي: مِلكٌ معروفٌ بالنِّسبةِ.
قال: «فَخَلاصُهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ»، يعني: هذا الذي أعتقَ إن كان عنده مال يتمكَّن به من شِراء بقيَّة العبد؛ فيجب عليه ذلك.
وقوله: «فَخَلاصُهُ عَلَيْهِ»، يعني: على المُعتِق.
وإذا كانَ هذا المعتق فقيرًا، فقال: «وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ فاستُسْعِيَ بِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ»، يعني: قُوِّمَ على العبدِ، وطُلِبَ منه أن يسعَى من أجلِ أن يُسدِّد قيمة بقيَّة أجزاء بدنه الذي لم يحصل عليها عتق.
{قال: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ».
وَعَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلوُكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيرُهُمْ، فَدَعَا بِهِم رَسُولُ اللهِ فَجَزَّأَهُمْ أَثلَاثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُم فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيْدًا. رَوَاهُمَا مُسلمٌ.
وَعَنْ حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: لَا نَعرفُهُ مُسْندًا إِلَّا مِنْ حَدِيثٍ حَمَّادٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي هَذا الحَدِيثِ غَيرُ وَاحِدٍ مِنَ الحُفَّاظِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ قَولِ عُمرَ وَمِنْ قَولِ الْحَسَنِ، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمرَ وَعَائِشَةَ. وَاللهُ أَعْلَمُ)
}.
أورد المؤلِّف هنا أحاديثَ في طَريقةٍ ثالثة مِن طُرق عِتق المماليك، أَلَا وهي: أنَّ مَن اشترى قريبًا له فيعتق عليه بمجرد الشِّراء، فلو اشترى والده يُصبح الوالد حُرًّا بدونِ أن يكون هناك إذن منه أو تصرُّف؛ فَيُعْتَق بمجرد الشِّراء.
أورد المؤلِّف في هذا الباب عددًا من الأحاديث، أولها: حديث أبي هريرة، قال: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ»، يعني: في إحسانه، وفي القيام بحقِّه.
قال: «إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ»، استدلَّ بهذا بعض أهل العلم على أنَّ القريب إذا ملكَ قريبَه فلا يعتق عليه إِلا إِذا أعتقه؛ لأنَّه قال: «فَيُعْتِقَهُ»، بينما رآى آخرون أنَّه يُعتق عليه بمجرد المِلك، ويستدلون بالحديث الآخر «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ». فهذا طريق من طرق إعتاق المماليك في الشَّريعة.
أيضًا من طرق إعتاق المماليك: الوصيَّة بالعتق.
فأجازت الشَّريعة للإنسان أن يُوصي بِعِتقِ بعض مماليكه، بشرطِ أَلَّا يتجاوز الثُّلُث، وأورد المؤلِّف في هذا حديث عِمران بن حصين: (أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلوُكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ)، يعني: في مرض الموت، والهبةُ لا تُنَفَّذَ إِلَّا في الثُّلُثِ عند مرضِ الموت.
قال: (لمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيرُهُمْ)، وبالتَّالي لن يُنَفذ إلا في اثنين.
قال: (فَدَعَا بِهِم رَسُولُ اللهِ فَجَزَّأَهُمْ أَثلَاثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُم فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ)، لأنَّهم الثُّلث.
قال: (وأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيْدً)، وفي هذا جواز الوصيَّة بعتق المماليك، ولكن لابدَّ مِن مُراعاة شَرْطِه الشَّرعي.
أوردَ بعده حديث حمَّاد بن سلمة عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ».
لماذا أورد المؤلف الإسناد هنا؟
ليُبيِّن لك العِلل التي في الخبر:
العلَّة الأولى: حمَّاد بن سلمة، وقد وقع فيه اختلاف، ثُمَّ هو شكَّ في هذا الخبر، وغيره ممَّن هو أوثق منه رواه بغير طريقته، وقد خالفه جماعة، ورووه من كلام الحسن وليس مَرفوعًا للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
العلَّة الثَّانية: أنَّ هذا الخبر مِن رواية قتادة عن الحسن عن سمُرَة، وبعض أهل العلم تكلَّم في رواية قتادة، وبعضهم رواها موقوفًا عليه.
قال: (عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ)، الحسن: هو الحسن البصري، وأكثر أهل العلم يرون أنَّ رواية الحسن عن سمرة منقطعة.
فهذه العِلل هي التي جعلت أهلَ العلم يتكلَّمون في البحثِ في إسناد هذا الحديث.
وهذا الحديث فيه إشارة إلى أنَّ كلَّ مَن ملكَ قريبًا له تثبت له المحرميَّة فإنَّه يُعتق على صاحبه، وهذا مذهب أحمد وأبو حنيفية.
أمَّا الشَّافعي فيقول: يعتق الأولاد -الفروع- والآباء والأمَّهات -الأصول- دون بقيَّة الورثة والقرابة.
وقال الإمام مالك: الآباء والأولاد والإخوة.
ولعلَّ القول الأول أظهر لهذا الخبر.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ سَفِيْنَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكًا لأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ: أُعْتِقُكَ وَأَشْتَرِطُ عَلَيْكَ أَنْ تَخْدُمَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا عِشْتَ؟ فَقُلْتُ: وَإِنْ لَمْ تَشْتَرِطِي عَلَيَّ مَا فَارَقْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا عِشْتُ، فَأَعْتَقَتْنِي واشْتَرَطَتْ عَلَيَّ. رَوَاهُ أَحْمدُ، وَأَبُو دَاوُدَ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ)}.
هذا الحديث رواه سعيد بن جهمان عن سفينة، ولأهل العلم في ابن جهمان هذا كلام، والأكثر على أنَّه حسنٌ.
قال: (كُنْتُ مَمْلُوكًا لأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ: أُعْتِقُكَ وَأَشْتَرِطُ عَلَيْكَ أَنْ تَخْدُمَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا عِشْتَ؟)، في هذا جواز تعليق العِتق بشرطِ عملٍ مُستقبلٍ في أيَّامه، وهذا فتحٌ لبابِ العِتق.
فقال سفينة: (وَإِنْ لَمْ تَشْتَرِطِي عَلَيَّ مَا فَارَقْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا عِشْتُ، فَأَعْتَقَتْنِي واشْتَرَطَتْ عَلَيَّ)، يعني: هذا الشَّرط الذي ذكرناه قبلَ قليل.
{قال -رحمه الله: (بَابُ التَّدْبِيرِ
عَنْ عَمْرِو بنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابرِ بنِ عَبدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَعْتَقَ غُلامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ لمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيرُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟» فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بنُ عَبدِ اللهِ بِثَمانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ.
قَالَ عَمْرو: سَمِعْتُ جَابرَ بنَ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّل. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ، وَفِي لَفْظٍ للْبُخَارِيِّ: أَعْتَقَ غُلامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ فَاحْتَاجَ .
وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَلمَةَ بنِ كُهُيلٍ، عَنْ عَطاءٍ عَنْ جَابرٍ قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، وَكَانَ مُحْتَاجًا، وَكَانَ عَلَيْهِ ديْنٌ، فَبَاعَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِثَمَانِ مائَةِ دِرْهَمٍ فَأعْطَاهُ، فَقَالَ: «اقْضِ دَينَكَ»)
}.
التَّدبير: هو الوصيَّة بعتقِ المملوكِ بعد الوفاة، وهو طريقٌ من طُرق الشَّريعة لتقليلِ الرِّق.
وما حكم هذا المُدبَّر؟
المدبَّرُ مملوكٌ حتى يموت سيده، فإذا ماتَ السَّيدُ فإنَّه حينئذٍ يُصبحُ حرًّا بمجردِ موتِ السَّيد.
أَوْرَدَ حديث جَابرِ بنِ عَبدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَعْتَقَ غُلامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ)، فهذا تدبير، أي: علَّقَ حرَّيَّته بموتِ سيِّده، ولكن هذا السَّيد لم يكن له مالٌ غير هذا العبد.
قال: (فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فقام ببيعِهِ، وفي هذا دلالةٌ على أنَّ المُدبَّر يجوز بيعه.
فَقَالَ: «مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟»، فيه جواز المساومَة على السِّلَع.
قال: (فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بنُ عَبدِ اللهِ بِثَمانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ)، يعني: دفعها إلى الأنصاري.
قال: (قَالَ عَمْرو: سَمِعْتُ جَابرَ بنَ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّل). وَفِي لَفْظٍ للْبُخَارِيِّ: (أَعْتَقَ غُلامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ فَاحْتَاجَ).
قال المؤلف: (وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَلمَةَ بنِ كُهُيلٍ، عَنْ عَطاءٍ عَنْ جَابرٍ قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، وَكَانَ مُحْتَاجًا، وَكَانَ عَلَيْهِ ديْنٌ)، فهل يُفهم من هذا أنَّ بيع المدبَّر لا يكون إِلَّا في وقت الحاجة؟ أو أنَّه يجوز بيعه مُطلقًا؟
قال: (فَبَاعَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِثَمَانِ مائَةِ دِرْهَمٍ فَأعْطَاهُ، فَقَالَ: «اقْضِ دَينَكَ»).

{أحسن الله إليكم..
هل إذا بيع المدبَّر يبطل التدبير؟}.
نعم، يبطل التَّدبير، إِلَّا إذا اشترطَ على المشتري، فقال: أنا أبيعك إيَّاه بشرطِ أن يبقى التَّدبير.
{قال -رحمه الله: (بَابُ الْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ
عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مائَةِ أُوْقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إِلَّا عَشْرَةَ أَوَاقٍ فَهُوَ عَبْدٌ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مائَةِ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا إِلَّا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَبْدٌ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ -وَصَحَّحَهُ- وَرَوَاهُ ابْنُ ماجَه مُخْتَصَرًا .
وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «المُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَـتِـهِ دِرْهَمٌ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَهُوَ منْ رِوَايَة إِسْمَاعِيلَ بنِ عَيَّاشٍ، عَنْ شيخٍ شَاميٍّ ثِقَةٍ .
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ لَنا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا كَانَ لإِحْدَاكُنَّ مُكَاتِبٌ، فَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي, فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ .
وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يُؤَدَّى المُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ دِيَةَ الحُرِّ, وَبِقَدْرِ مَا رَقَّ مِنْهُ دِيَةَ العَبْدِ». قَالَ: وَكَانَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَمَرْوَانُ يَقُولَانِ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأحمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَقَدْ أُعِلَّ .
وَعَنْ عَمْرِو بنِ الْحَارِثِ -خَتَنِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-- أَخِي جُوَيرِةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَ: مَا تَرَكَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا، وَلَا دِينَارًا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً، وَلَا شَيْئًا، إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَسِلاحَهُ، وأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً. رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، عَنْ عَليِّ بنِ الْجَعْدِ, عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عُمرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أمُّ الْوَلَدِ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا وَإِنْ كَانَ سَقْطًا. فِيهِ إرْسَالٌ، وَقَدْ رُويَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمرَ، وَرُوِيَ عَنْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَاللهُ أَعْلَمُ)
}.
هذان طريقان مِن طرائق الشَّريعة لتقليلِ الرِّقِّ وتخفيفه:
الطَّريق الأوَّل: المكاتبة: وهو عقدٌ يكون بينَ السَّيدِ والمملوك، يقوم المملوك بمقتضاه بتَسديدِ أنجُمَ معيَّنة يَعتق بسدادِ جميعها، فهذا طريقٌ من طُرقِ الشَّريعة للتخلُّصِ من الرِّق وتخفيفِهِ.
الطَّريق الثَّاني: ما يتعلَّق بأم الولد.
أم الولد: هي الأمَة المملوكة التي وطئها سيدها فأتت منه بولدٍ ذكرٍ أو أنثى، فتصبح أم ولد.
ما حكم أم الولد؟
لا يجوز بيعها، ولا يجوز التَّصرُّف فيها، وتعتق بموت سيدها، ولا ترث.

أَوْرَدَ المؤلِّف حديث عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مائَةِ أُوْقِيَّةٍ»، فيه جواز المكاتبة.
قال: «فَأَدَّاهَا إِلَّا عَشْرَةَ أَوَاقٍ فَهُوَ عَبْدٌ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مائَةِ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا إِلَّا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَبْدٌ»، كأنَّهم يقولون: المسلمون على شُروطهم، وهذا اشترط أن يدفعَ المال كاملًا.
وهذا الخبر قد ضعَّف إسناده جماعة من أهل العلم، والأكثر على أنَّه حسن الإسناد.
وفيه: أنَّ العبد المملوك المكاتب لا يُعتق إلا بسداد جميع الأنجم لسيده.
وهناك رواية عن أحمد: أنَّه إذا سدَّدَ أكثر تلك الكتابة؛ فحينئذٍ يجوز أن يكون مَعتوقًا، لقوله تعالى: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النور/33].
وأمَّا حديث النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَـتِـهِ دِرْهَمٌ»، يتعلق بالمسألة السَّابقة، وهي: أنَّ الكتابة لا يحصل بها العِتق إِلَّا بِسَدَادِ جميع الدُّيون المُسجَّلة عليه.
وهذا الخبر أيضًا حسن الإسناد، وإسماعيل بن عياش إذا روى عن شاميٍّ فروايته حسنة، وهنا قد رواه عن سليمان بن سليمان الكلبي الشامي، وهو ثقة.
(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ لَنا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا كَانَ لإِحْدَاكُنَّ مُكَاتِبٌ، فَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ-، وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ).
حديثُ أمِّ سلمة هو من رواية نبهان عن أم سلمة، وقد اتُّهِمَ بأنَّه مجهولٌ؛ لأنَّه لم يروِ عنه إلا الزُّهري ومحمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، ولذلك تَكلَّم فيه كثيرٌ مِن أهلِ العلم.
وقوله: «إِذا كَانَ لإِحْدَاكُنَّ مُكَاتِبٌ»، أي: مملوكٌ قد كاتَبَهُ سيدُه.
قال: «فَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي»، يعني: تملَّكَ المالَ الذي يتمكَّن به مِن أداءِ أقساطِ الكتابة.
قال: «فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ»؛ لأنَّه أصبحَ حُرًّا، وبالتَّالي يجبُ الاحتجاب منه.
وفيه أنَّ المملوك لا يجب على سيدته أن تحتجبَ مِنه، وفيه دلالةٌ على أنَّ المرأة يجب عليها أن تحتجبَ من الأجنبي؛ لأنَّه لَمَّا أمرها بالاحتجاب مِن المملوك إذا مَلَكَ ما يُؤدِّيه فالأجنبي يُماثله في الحكم، فالأصلُ في لفظ "الحجاب" أن يكون مُغطِّيًا للوجه لقوله -جَلَّ وعَلَا: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الأحزاب:53]، وما لم يُغطِّ الوجه فلا يُقال له حِجاب.
(وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يُؤَدَّى المُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ دِيَةَ الحُرِّ، وَبِقَدْرِ مَا رَقَّ مِنْهُ دِيَةَ العَبْدِ». قَالَ: وَكَانَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَمَرْوَانُ يَقُولَانِ ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأحمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَقَدْ أُعِلَّ).
قوله هنا: (وَقَدْ أُعِلَّ)، بسبب وجودِ اختلاف في الرُّواة، هل هو من كلام عكرمة، أو هو مرفوع إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قوله: «يُؤَدَّى المُكَاتَبُ»، يعني: لو وُجدَت جِناية على المُكاتَب، فهل نعتبره حُرًّا وتجب فيه دية الحُر مائة ناقة، أو نعتبره مملوكًا وبالتَّالي يجب فيه قيمته في السُّوق؟
فقال: «يُؤَدَّى المُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ دِيَةَ الحُرِّ»، يعني: ننظر كم سدَّد من الأنجم، وننظر إلى ما يُناسب ذلك المقدار ونُثبت فيه ديةَ الحرِّ، وما بقِيَ منه مملوكًا فإننا نحكم عليه بأنَّه مملوك وتجب قيمته عندَ الدِّية.
(وَعَنْ عَمْرِو بنِ الْحَارِثِ -خَتَنِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-- أَخِي جُوَيرِةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَ: مَا تَرَكَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا، وَلَا دِينَارًا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً، وَلَا شَيْئًا، إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَسِلاحَهُ، وأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً. رَوَاهُ البُخَارِيُّ).
ليسَ هذا لأنَّه لم يكتسب -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإنَّما اكتسبها فأنفقها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالفضيلةُ ليست في عدمِ المِلك، إنَّما الفَضيلة في أن تُملَك ثم يُتصرَّفُ فيها بما يُرضي الله ويرفع الدَّرجةَ يومَ القيامة.
قال في هذا الخبر -وهو خبر صحيح: (مَا تَرَكَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا، وَلَا دِينَارً)؛ لأنَّه قد تصرَّف فيها.
قال: (وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً، وَلَا شَيْئًا، إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَسِلاحَهُ)، أي: السِّلاح المعَدَّة ليُجاهِدَ بها في سبيلِ الله.
قال: (وأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً)، فهذا هو ما تَركَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثمَّ أوردَ المؤلِّف فقال: (وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، عَنْ عَليِّ بنِ الْجَعْدِ, عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ)، هذا الخبر فيه انقطاع، فإن والد سفيان تكلَّمَ فيه أهلُ العلم، ثمَّ إنَّ عكرمة لم يسمع مِن عُمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال: (أمُّ الْوَلَدِ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا وَإِنْ كَانَ سَقْطً)، فيه أنَّ أمَّ الولد إذا ماتَ سيدها فإنَّها تصبح حرَّة، وهذا قول جماهير أهل العلم.
ويُستفاد أيضًا من قوله: (أمُّ الْوَلَدِ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَ)، أنَّ أمَّ الولدِ تُصبحُ حرَّة بموتِ السَّيدِ، ولكن هل يجوز أن تُباع؟
ظاهرُ هذا الخبر أنَّها لا تُباع، ولا يجوز بيعها.
متى تصبح المرأة أم ولد؟
إذا ولدت ولادة؛ فهي أم ولد.
والصَّواب: أنَّه إذا نزل منها ما فيه أعضاء آدميَّة؛ فإنَّها تصبحُ حرَّةً، وإن لم يكن فيه أعضاء آدميَّة فإنَّها لا تصبحُ حرَّةً بذلك، وقد أشارَ المؤلِّف إلى شيءٍ مِن الاختلاف فيه.

أسألُ الله -جَلَّ وعَلَا- أن يوفِّقنا وإيَّاكم لكلِّ خيرٍ، وأن يجعلَنا وإيَّاكم مِن الهداة المهتدين، كما أسألُه سبحانه أن يوفِّقَ أحبَّتي وأعزائِي ممَّن يدرسُونَ في هذه الأكاديميَّة الطَّيِّبة التي فيها علمُ نافعٌ، وفيها معلوماتٌ جليلةٌ جميلةٌ، كما أسأله -جَلَّ وعَلَا- أن يُعرِّفنا بكتاب الله ومعانيهِ وبسنَّةِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأحكامها، كما أسأله -جَلَّ وعَلَا- أن يجمعَ الكلمةَ وأن يؤلِّف القلوبَ، وأن يهدي الضَّالَّ، وأن يكونَ ذلك مِن أسبابِ هداية النَّاسِ ودخولهم في دينِ الله -سبحانه وتعالى.
أُثنِّي بالشُّكرِ لكَ يا شيخ عبد الرحمن، ولأخواني الفنِّيين، وممَّن أتعبَ نفسَه، وأسهرناه في ليالٍ مُتعدِّدة، فجزاكم الله خير الجزاء وباركَ فيكم، كما نشكرُ لكلِّ مَن قامَ على هذه الأكاديميَّة، جزاهم الله خيرَ الجزاء، وباركَ اللهُ في جهودهم، ونفعَ الله بها.
وكذلك أشكرُ هذا البلد الذي استضافَ الأكاديميَّة، وكانَ معوانًا لها في أعمالها، المملكة العربية السعودية، جزى الله القائمين عليها -أيًّا كانت مواقعهم- خيرَ الجزاء، كما أسأله -جَلَّ وعَلَا- أن يُوفِّق خادمَ الحرمين الشَّريفين لكلِّ خيرٍ، وأن يُوفِّق وليَّ عهده، وأسأل الله -جَلَّ وعَلَا- أن يكونَ مَعهم مُؤيِّدًا ناصرًا، هذا واللهُ أعلم، وصلَّى الله علَى نبينا محمد، وعلَى آلهِ وصحبِهِ أجمعينَ.
{وفي ختامِ هذا الفصلِ المبارك نشكركم معالي الشَّيخ على ما قدمتموه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر.
إلى أن نلقاكم في الفَصلِ القادم -بإذن الله- إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك