الدرس العاشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3598 24
الدرس العاشر

المحرر في الحديث (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرَحِبُ بِكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جَديدةٍ مِن حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ}.
الله يحييك، أرحب بكَ، وأرحب بإخواني الذين يشاهدوننا، وأسأل الله-جلَّ وعَلا- التوفيق لخيري الدنيا الآخرة.
{قد شرعنا في الحلقة الماضية في كتاب الجهاد والسير من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
وسنشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- في حديث مَعقل بن يسار، قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ مَعْقِلِ بِنِ يَسَارٍ، أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ النُّعْمَانَ بنَ مُقَرِّنَ، قَالَ -يَعْنِي النُّعْمَانَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فَكَانَ إِذا لَمْ يُقَاتِل أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد.
وَعِنْدَهُ عَنْ مَعِقِلَ بنِ يَسَارٍ: أَنَّ النُّعْمَانَ بنَ مُقَرِّنَ قَالَ: شَهِدْتُ... فَذَكَرَهُ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ -وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ- وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ مُسْلمٍ)
}.
الحمدُ لله رَبِّ العَالمين وَصَلَّى اللهُ على نبينا محمدٍ، وبعد: فهذا الحديث يدلُّ على أنَّ أَمْرَ القِتَال والجهاد إلى الولاية، ولذا كان الأمرُ مَوكولًا إلى عُمرٍ، وفيه أنَّ الإمام الأعظم يُوَلِّي الولاة ويؤمِّر أُمراء الجيوش مِن أَجلِ أن تَنْتَظم أحوال الجيش، ولا يَعتدي النَّاس بعضهم على بعضهم الآخر.
وهذا الحديث يدل على أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- لا يَبتدئ القِتال والجهاد في وسط النَّهار قَبلَ الزَّوال، فمرة كان يبتدئ أَوَّل النَّهار؛ ليغتنم البكور، ومرة يؤخره حتى تزولَ الشَّمس وتهب الرِّياح؛ فحينئذٍ ينزل النَّصر -بإذن الله عزَّ وجل.

وأشار المؤلف إلى رواية أخرى فقال: (عَنْ مَعِقِلَ بنِ يَسَارٍ: أَنَّ النُّعْمَانَ بنَ مُقَرِّنَ قَالَ: شَهِدْتُ...)؛ ليُبَيّن أنَّ الحديثَ بجميع أجزائه مُتصلٌ إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وليس بمرسلٍ.
{(وَعَنِ الصَّعْبِ بنِ جَثَّامَةَ قَالَ: سُئِلَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- عَنِ أَهْلِ الدَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُبَيَّـتُونَ، فَيُصِيْبُونَ مِنْ نِسَائِهِم وَذَرَارِيِّهِم؟ فَقَالَ: «هُمْ مِنْهُم» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، زَادَ ابْنُ حِبَّانَ: ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْلِهِمْ يَوْمَ حُنَينٍ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قِبَلَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الوَبْرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ: جِئْتُ لأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ» قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى، حَتَّى إِذا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ -قَالَ: لَا- قَالَ: «فَارْجِع فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ»، قَالَتْ: ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّة: «تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟» قَالَ: نَعمْ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «فَانْطَلِقْ» رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِيْنَ واسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. والشَّرْخُ: الشَّبَابُ)
}.

قوله هنا في حديث عائشة: (قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قِبَلَ بَدْرٍ)، أي: جهة بدر، وبدر: تقع عن المدينة جنوبًا.
قالت: (فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الوَبْرَةِ).
الحرَّة: الأرض ذات الحجارة الصَّمَّاء السَّوداء، وهذا المكان مكان حول المدينة.
قال: (أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ)، يعني: فيه شجاعة، وفيه قدرة على القتال، وفيه مُبادرة لمقاتلة العدو، وفيه نجدة، أي: أنه يُناصر من يكون معه.
قال: (فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- حِينَ رَأَوْهُ)؛ لأنَّه سيُقَاتل معهم.
قال: (فَلَمَّا أَدْرَكَهُ)، يعني: لَمَّا أدرك الرجل النَّبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قَالَ لِرَسُولِ اللهِ: (جِئْتُ لأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ)، أي: أقاتل معك وآخُذ مِن المغانم التي تأخذونها.
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟»، أي: هل أنت مسلم؟.
قَالَ: (لَ)، قَالَ: «فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ»، استدل بهذا جماعة مِن أَهلِ العِلم على أنَّ المشركين لا يجوز إدخالهم في جيوش أهل الإسلام.
وذهب آخرون إلى جواز ذلك بشرط أَلَّا يكون لهم الرأي والأمر والنهي، واستدلوا على ذلك بأن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قد دخل في حِلْفِه خُزاعة، وبعض قبائل العرب، وفيهم من لم يكن مُسلمًا.
قَالَتْ: (ثُمَّ مَضَى)، يعني: أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- استمر في سَيْرِه (حَتَّى إِذا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ)، أي: مكان آخر بعد حرَّة الوبرة، فحرَّة الوبرة على قُرابة العشرين كيلًا من المدينة.
قال: (أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، أي قال: أُريدُ أن أُقاتل مَعَكَ، فامتنع منه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ: «فَارْجِع فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ».
قَالَتْ: (ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ)، البيداء: المكان المرتفع (فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّة: «تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟» قَالَ: نَعمْ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «فَانْطَلِقْ»)، وفي هذا دلالة على أنَّ أهل الإسلام يُقاتلون ويُجاهدون طاعةً لله ورغبةً فيما عنده، وأَنَّهم يَسيرون على مُقتضى أحكام الشَّرع ولو كان في ذلك مُخَالفة لأهوائهم ورغباتهم؛ فإنَّ الصَّحابة فَرِحُوا حينما رأوا الرَّجُل سَيُقَاتل مَعهم، وظنُّوا أنَّه سيكون له فعلٌ جميل في القتال، ومع ذلك امتنع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- من قبوله.
وفيه بيان أنَّ أحكام الشَّريعة ليست بالرغبات، ولا بما يُظنُّ أنَّه العقل؛ وإنما يُسار فيها على مُقتضى مَا وَرَدَ في النُّصوص.
ثُمَّ أَورَدَ المؤلف مِن حديث ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ)، فيه تفقُّد الإمام لأحوال الجيش وأفعالهم من أجل أن يصحح مسيرتهم.
وفيه أنَّ النِّساء والصِّبيان لا يُقَاتلون ولا يُقتَلون طالما لم يشاركن في القِتال، وبهذا استدل مَنْ مَنَعَ مِن كَونِ مَشروعية القِتال مِن أَجل الكُفر -كما قال به بعضهم- فإنَّ النِّساء والصِّبيان لم يُقتَلوا ولم يُقَاتلوا، ونُهوا عَن قتالهم.
وأورد المؤلف مِن حديث الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، والحسن: هو الحسن البصري، وهو مُدلس، وقد عَنْعَن في هذا الخبر، فهذا حديث منقطع حُكمًا.
قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِيْنَ»، أي: كبارهم في السِّنِّ.
قال: «واسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ»، أي: شبابهم، وذلك أنَّ كبير السِّن يتعصب لرأيه بخلاف الشباب فإنه يُمكن إقناعه ودعوته لدين الإسلام.
{(وَعَنْ حَارِثَة بنِ مُضَرِّبٍ، عَنْ عَليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: تَقَدَّمَ -يَعْنِي عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ- وَتَبِعَهُ ابْنُهُ وَأَخُوهُ فَنَادَى: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَانْتَدَبَ لَهُ شَبَابٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيكُم، إِنَّمَا أَرَدْنَا بَنِي عَمِّنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «قُمْ يَا حَمْزَةُ، قُمْ يَا عَلِيُّ، قُمْ يَا عُبَيْدَةَ بنَ الْحَارِثِ» فَأَقْبَلَ حَمْزَةُ إِلَى عُتْبَةَ، وَأَقْبَلْتُ إِلَى شَيْبَةَ، وَاخْتُلِفَ بَينَ عُبَيْدَةَ وَالوَلِيدِ ضَرْبَتَانِ، فَأَثْخَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ مِلْنَا إِلَى الْوَلِيدِ فَقَتَلْنَاهُ واحْتَمَلْنَا عُبَيْدَةَ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ، وحَارِثَةُ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَصحَّحَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ حَدِيثَهُ، لَكِنْ الَّذِي فِي «مَغَازِي» ابْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ عَلِيًّا قَتَلَ الْوَلِيدَ، وَحَمْزَةَ قَتَلَ شَيْبَةَ، وَأَنَّ عُبَيْدَةَ بَارَزَ عُتْبَةَ، فَاللهُ أَعْلَمُ)}.
قوله: (عَنْ حَارِثَة بنِ مُضَرِّبٍ)، حارثة: كما ذكر المؤلف هنا قد وثقه جماعة، وصحح حديثه جماعة، والاختلاف في تفصيل هذه القصة لا يؤثر عليها.
قال: (قَالَ: تَقَدَّمَ -يَعْنِي عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ- وَتَبِعَهُ ابْنُهُ) ابنه: الوليد بن عتبة (وَأَخُوهُ)، أي: شيبة بن ربيعة.
قال: (فَنَادَى: مَنْ يُبَارِزُ؟)، وهذا قبل غزوة بدر، وذلك أنهم كانوا في الحال الأول يبتدؤون بالمبارزة قبل التحام الجيوش من أجل أن يُقابل كبارُهم مع كبارِهم، فيكون هذا من أسباب تقوية معنوياتهم.
قال: (فَانْتَدَبَ لَهُ شَبَابٌ مِنَ الْأَنْصَارِ)، أي: جاؤوا ليقاتلوه رغبة فيما عند الله.
فَقَالَ: (مَنْ أَنْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيكُم، إِنَّمَا أَرَدْنَا بَنِي عَمِّنَ)، أي: ممن لنا بهم قرابة.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- لقرابته: «قُمْ يَا حَمْزَةُ»، يعني: حمزة بن عبد المطلب وهو عمّه، «قُمْ يَا عَلِيُّ»، وهو علي بن أبي طالب وهو ابن عَمِّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- «قُمْ يَا عُبَيْدَةَ بنَ الْحَارِثِ»، وهو أيضًا ابن عَمِّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ.
قال: (فَأَقْبَلَ حَمْزَةُ إِلَى عُتْبَةَ، وَأَقْبَلْتُ إِلَى شَيْبَةَ)، أي: أقبل علي بن أبي طالب إلى شيبة.
قال: (وَاخْتُلِفَ بَينَ عُبَيْدَةَ وَالوَلِيدِ ضَرْبَتَانِ)، يعني: أنَّ "حمزة" قَتَلَ "عُتبة" مباشرة، و "علي" قَتَلَ "شيبة" مُباشرة، ووقع مصاولة بين :عبيدة بن الحارث" و "الوليد بن عتبة"، فكل منهما ضرب صاحبه.
وفي هذا دلالة على أنَّ بقية الجيش عند المبارزة لا يُساعدون، ولا يُعاونون، ولا يتدخلون، إنما يتدخل المبارزون فقط.
قال: (فَأَثْخَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ)، أي: جرحه جرحًا شديدًا.
قال علي: (ثُمَّ مِلْنَا إِلَى الْوَلِيدِ فَقَتَلْنَاهُ)، وذلك أنَّ المبارز يجوز له أن يدخل في المبارزة.
قال: (واحْتَمَلْنَا عُبَيْدَةَ)، أي: حملناه وقمنا بنقله إلى صُفوف المسلمين؛ لأنَّه قد جُرح جُرحًا شديدًا.
{(وَعَنْ جَابرِ بنِ عَتِيكٍ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ: «مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللهُ، وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللهُ: فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَالغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللهُ، فَالغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ، وَإِنَّ مِنَ الْخُيَلَاءِ مَا يُبْغِضُ اللهُ، وَمِنْهَا مَا يُحِبُّ اللهُ: فَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّ اللهُ، فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ عِنْدَ الْقِتَالِ، واخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَاخْتِيَالُهُ فِي الْبَغْيِ وَالْفَخْرِ» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ)}.
هذا الحديث ضعيفُ الإسناد، وفي رواته من هو مجهول الحال، ولذلك لم يُعَوِّل عليه كثيرٌ مِن أهل العلم، وإن كانت ألفاظ بعض هذا الخبر قد وردت في أحاديث أُخر.
ولاشك أنَّ الغيرة في الريبة محمودة، وقد ذكر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- أنَّ الله يغار، وهكذا بالنسبة للخُيلاء، فالأصل فيه أنَّه مَذموم ومنهي عنه، وقد ورد في تحريم الكبر والخيلاء أحاديث كثيرة مُتعددة، واستثنى طائفة من ذلك الخيلاء عند لقاء العدو، لأنَّه بذلك يضعف نفسيات العدو، وينزل الهزيمة في قلوبهم.
وفي هذا دلالة على أنَّ الشيء قد يختلف حُكمه باختلاف القرائن التي تحتف به.

{(وَعَنْ يزِيدَ بنِ أَبي حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَسْلَمُ أَبُو عِمْرَانَ -مَوْلَىً لِكِنْدَةَ- قَالَ: كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ، فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًا عَظِيمًا مِنَ الرُّومِ، وَخرَج إِلَيْهِمْ مِثْلُهُ أَو أَكْثَرُ -وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بنُ عَامرٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيْهِمْ، فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ، وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللهِ يُلْقِي بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الْأنْصَارِيُّ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وَقَالَ: أَيُّها النَّاسُ إِنَّكُم تُؤَوَّلُوْنَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ: إِنَّا لـمَّا أَعَزَّ اللهُ الْإِسْلَامَ وَكَثَّرَ نَاصِرِيْهِ قُلْنَا بَعْضنَا لِبَعْضٍ سِرًّا مِنْ رَسُولَ اللهِ: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وإِنَّ اللهَ قَدْ أَعَزَّ الإِسْلَامَ، وَكَثَّرَ نَاصِرِيهِ، فَلَوْ أَقَمْنا فِي أَمْوَلِنا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- -يَرُدُّ عَلَيْنا مَا قُلْنَا- ﴿وَأَنْفِقُوْا فِي سَبِيْلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوْا بِأَيْدِيْكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة:195] فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ فِي أَمْوَالِنَا وَإِصْلَاحِهَا وَتَرْكِنَا الْغَزْوَ، قَالَ: وَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ. رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِي -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ)}.
قوله: (وَعَنْ يزِيدَ بنِ أَبي حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَسْلَمُ أَبُو عِمْرَانَ -مَوْلَىً لِكِنْدَةَ- قَالَ: كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ)، ولعلها القُسطنطينية، وهي اسطنبول اليوم.
قال: (فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًا عَظِيمًا مِنَ الرُّومِ)، أي: ليقاتلوا المسلمين.
قال: (وَخرَج إِلَيْهِمْ مِثْلُهُ أَو أَكْثَرُ -وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بنُ عَامرٍ)، فيه تقسيم الجيش، وفيه جَعل كُل قِسم تَحت إِمرة واحدٍ.
قال: (فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ)، أي: اشتدَّ في قِتَالِهم حَتَّى دَخَلَ في صَفِّهم.
قال: (فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ، وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللهِ يُلْقِي بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، يعنون أنَّه إذا كان بينهم فسيقتلونه.
قال: (فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الْأنْصَارِيُّ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- وَقَالَ: أَيُّها النَّاسُ إِنَّكُم تُؤَوَّلُوْنَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ)، فيه أنَّ تفسير القُرآن ليس بالاجتهادات المجردة، وإنَّما لابد أن يستند فيه إلى دليلٍ صحيح.
وفيه أنَّ بعض أخطاء النَّاس قد تكون مِن فَهم خاطئٍ للقرآن، فكم مُريدٍ لعملٍ بالقرآن وهو يخالفه لسوء فَهمه للقرآن.
قال: (وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ)، وهي قوله: ﴿وَأَنْفِقُوْا فِي سَبِيْلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوْا بِأَيْدِيْكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ...... المحسنين﴾
قال: (إِنَّا لـمَّا أَعَزَّ اللهُ الْإِسْلَامَ وَكَثَّرَ نَاصِرِيْهِ قُلْنَا بَعْضنَا لِبَعْضٍ سِرًّا مِنْ رَسُولَ اللهِ: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وإِنَّ اللهَ قَدْ أَعَزَّ الإِسْلَامَ، وَكَثَّرَ نَاصِرِيهِ)، وبالتالي سيأخذ الرَّاية من بعدنا فيقاتلون ونحن نبقى في أموالنا، فلاحظوا أَمْرَ الدُّنيا وتركوا أَمرَ الآخرة، ثُمَّ غَابَ عَن أذهانهم أنَّ مَن عمل للآخرة أورثه الله خيري الدُّنيا والآخرة.
قالوا: (فَلَوْ أَقَمْنا فِي أَمْوَلِن)، أي: بقينا في المدينة (فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- يَرُدُّ عَلَيْنا مَا قُلْنَا ﴿وَأَنْفِقُوْا فِي سَبِيْلِ اللهِ﴾)، أي: ابذلوا من أموالكم في سبيل الله مِنَ القِتال والجهاد، ونحوه.
قوله: ﴿وَلَا تُلْقُوْا بِأَيْدِيْكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة:195]، فَسَّرها بأن المراد بها عدم القِتال والجهاد.
وَفَسَّرها آخرون بأنَّ المُراد بها عدم النَّفقة، وعدم البذل في سبيل الله، ولذا قال أبو أيوب: (فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ فِي أَمْوَالِنَا وَإِصْلَاحِهَا وَتَرْكِنَا الْغَزْوَ).
وقال بعضهم: الإلقاء في التَّهْلُكَةُ بترك العمل بشريعة الله.
وعلى كلٍّ؛ فإنَّ النَّفقة ليست مِن إِلقاء النَّفس في التَّهلُكَة، فكأنَّه يقول: هذا الذي غَمَسَ بنفسه في العَدو لقتالهم لم يُلق بنفسه في التَّهلُكة.
بعض المُعاصرين قد يَستَدِلُّ بهذا على جواز العمليات الانتحارية الَّتي يُفجر فيها الإنسان نفسه ومَن حوله، وغَابَ عَن أذْهَانِهم أَربعة أمور:
الأَمرُ الأول: أنَّ الأول في جِهادٍ مَشروع، وهذا في قتالٍ لم تتوفر فيه شُروط الجهاد الشَّرعي.
الأَمرُ الثَّاني: أنَّ هَذه العمليات تَحدث مِن غَيرِ إذن الإمام ولا مُوافقته، فيحدث من جَرَّائها من الضرر والشَّرِّ أكثر مما تُحققه مِنَ النَّفع.
الأَمرُ الثَّالِثُ: هذا الذي غَمَسَ بنفسه في العَدو لم يَقْتُل نَفْسَه بِنَفْسِه، فإنَّ حَصَلَ لَه قَتْلٌ فإنَّما هُو بيدِ أَعْدَائِه لا بِيَدِ نَفْسِه، بخلاف أَصحَاب هَذه العَمليات.
الأَمرُ الرَّابِع: إِذَا نَظَرت في هذه العمليات تجد أنَّ الدَّاخل فيها يجزم بموت نفسه، بخلاف الدَّاخل في صَفِّ العَدو فإنَّه لا يَجْزم بذلك.
ولذلك فإنَّ جماهيرَ أَهل العِلم لا يُجيزون مِثلَ هذه العمليات.

{(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَحَرَّقَ، وَلها يَقُولُ حَسَّانُ بنُ ثَابتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِيْ لُؤَيٍّ *** حَرِيْقٌ بِالبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيْرُ
وَفِي ذَلِكَ نَزلَتْ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِيْنَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوْهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُوْلِهَ﴾ [الحشر:5] الْآيَة. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)
}.
قوله: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ)، بَني النَّضير: قبيلة من قبائل اليهود التي كانت تسكن حول المدينة، وبنو النَّضير كان بينهم وبين النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- صُلح وَمُعاهدة، وكان مِن بُنُودِ هذه المُعاهدة أّلَّا يَغدر بَعضُهم ببعض، وأن يُعين بَعضُهم بعضًا فيما يحصل لهم مِنَ النَّوائبِ، فَغَدَر بنو النَّضير، وَهَمُّوا بقتل النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فَحَاصَرهم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- ففي أثناء المَحَاصَرة قَطَعَ بَعَضَ النَّخيل، وَحَرَقَ بعضها الآخر، وكان القطع من أجل أن يُوهن عزيمة العدو، وَمِن أَجل أَلَّا يتمكن العَدو مِن أَخذِ ثمار تلك النَّخيل، والتَّحريق مِن أَجلِ إِزَالةِ هَذا النَّخل عن مُتابعة المسلمين لأحوال أصحاب هذا الحصن، ومن أجل أن يَبث مِن الدُّخان ما يكون سببًا لتسليم مَن في الحصن.
قال: وَلها يَقُولُ حَسَّانُ بنُ ثَابتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِيْ لُؤَيٍّ *** حَرِيْقٌ بِالبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيْرُ
- "وَهَانَ" أي: سهُلَ.
- "عَلَى سَرَاةِ بَنِيْ لُؤَيٍّ"، أي: أشرافهم.
- "حَرِيْقٌ بِالبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيْرُ": بويرة: مكان قرب المدينة، ومُسْتَطِيْرُ: أي: مُشْتَعلًا اشتعالًا كثيرًا.
قال: (وَفِي ذَلِكَ نَزلَتْ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِيْنَةٍ﴾)، أي: من شجرة أو نخلة. ﴿أَوْ تَرَكْتُمُوْهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُوْلِهَ﴾، فيه دلالة على أنَّ الإمام يجتهد فيما يتعلق بأموال الكُفار بحيث يَسعى لتحقيق المصلحة بما يتخذه فيها من إجراء.

{(وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فِي بَعْثٍ فَقَالَ لَنا: «إِنْ لَقِيتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا -لِرَجلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُما- فَحَرِّقُوهُما بالنَّارِ»، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْنَا نُوَدِّعُهُ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ، فَقَالَ: «إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا بالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللهُ، فَإِن أَخَذْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
قول أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- (بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فِي بَعْثٍ)، أي: في سرية أو جيش يُقاتل العدو، وفيه أنَّ بَعثَ السَّرايا والبُعوث مَوكولٌ للإمامِ وَليسَ لأفراد النَّاس.
قال: (فَقَالَ لَنا: «إِنْ لَقِيتُمْ فُلَانًا وَفُلَانً») يبدو أنَّ هَذين الرَّجُلين مِن قُريش قَد حَصَلَ منهما ما يَستوجب قَتلهما مِنَ الخِيَانة والغَدر بعد العَهد، ولذلك قال: «فَحَرِّقُوهُما بالنَّارِ»، أي: اقتلوهما من خلال وضعهم في النَّار ليحترقوا فيها.
قَالَ: (ثُمَّ أَتَيْنَا نُوَدِّعُهُ)، أي: قبل سفرنا.
قال: (حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ)، أي: الذِّهاب.
فَقَالَ: «إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا بالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللهُ»، فيه تحريم تَعذيب الآخرين بالنار.
قال: «فَإِن أَخَذْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَ»، أي: إن تمكنتم مِنَ الإمساكِ بالرَّجُلين فاقتلوهما بالسيف ولا تحرقوهما بالنَّار، وفي هذا المنع مِنَ التَّحريق بالنَّار، حتى البَهائم، وحتى الحيوانات المُؤذية لا تُحرَّق بالنَّار.
وفيه مُجازاة أفراد العدو بما عملوه مِن أعمالٍ سيئة في حَقِّ المُسلمين.

{(وَعَنْ عَوْفِ بنِ مَالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلًا مِنَ الْعَدُوِّ، فَأَرَادَ سَلَبَهُ، فَمَنَعَهُ خَالِدُ بنُ الْوَلِيدِ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِم، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- عَوْفُ بنُ مَالكٍ فَأَخْبَرهُ، فَقَالَ لخَالِدٍ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ؟» قَالَ: اسْتَكْثَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «ادْفَعْهُ إِلَيْهِ»، فَمَرَّ خَالِدٌ بِعَوْفٍ فَجَرَّ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَل أَنْجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ؟ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فَاسْتُغْضِبَ, فَقَالَ: «لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، هَلْ أَنْتُم تَارِكُونَ لِيْ أُمَرَائِي؟ إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَرْعَى إبِلًا أَو غَنَمًا فَرَعَاهَا، ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا، فَشَرَعَتْ فِيْهِ فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ وَتَرَكَتْ كُدْرَهُ، فَصَفْوُهُ لَكُمْ، وَكَدْرُهُ عَلَيْهِم» رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
قول عوف بن مالك: (قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلًا مِنَ الْعَدُوِّ)، حِمْيَر: قبيلة من قبائل اليمن، وبعضهم هاجر وأسلم، فقتل رجلٌ من حميَر رجلًا من العدو.
قال: (فَأَرَادَ سَلَبَهُ)، السَّلَب: ما يوضع على المُقاتل مِن أنواع اللباس، وأنواع الزينة، والنُّقود، وكان النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- يقول: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ» .
وَجُمهور العُلَماء ومنهم الأئمة الثَّلاثة مالك والشَّافعي وأحمد يقولون: القاتل يَستحق السَّلَب؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قال: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ» بمقتضى نبوَّته.
وقال الإمام أبو حنيفة: لا يَستحق السَّلب إِلَّا إِذَا أَعطاه الإمام. وقول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ» هذا باعتبار كونه إمامًا، لا باعتبار كونه نبيَّا، فكأنَّه يَحكم على تلك الغزوات التي قال فيها بمثل هذا اللفظ، وقد يَستدلون عليه بمنع خالد، وأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- قال: «لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ»، والجمهور على أنَّ هذا الرجل وُجد فيه مانع لم يستحق به السَّلَب.

قال: (فَمَنَعَهُ خَالِدُ بنُ الْوَلِيدِ)، أي: لم يُعطِهِ. (وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِم)، يعني: على ذلك الجيش، وفيه وضع الولاة والأمراء على الجيوش من أجل أن تنضبط أحوالهم، ومن أجل أن تنظم أمورهم.
قال: (فَأَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- عَوْفُ بنُ مَالكٍ فَأَخْبَرهُ)، أي: قال يا رسول الله، ذلك الرجلُ الحميَرِيُّ قتل رجلًا فلم يُعطِهِ خالد سلبه. فَقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- لخَالِدٍ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ؟»، أي: ما على المقاتل مِن ثياب وسلاحٍ وزينة.
قَالَ خالد: (اسْتَكْثَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ)، أي: وجدت أنَّ السَّلب شَيء كثير جدًّا يبعد أن يُفرد به واحد عن بقية أفراد الجيش.
قَالَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «ادْفَعْهُ إِلَيْهِ»، وهذا دليل لمذهب الجمهور بأنه يُدفع إليه.
قال: (فَمَرَّ خَالِدٌ بِعَوْفٍ فَجَرَّ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَل أَنْجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ؟)، يحتمل أنَّ عوف بن مالك قال ذلك القَول للرجل الحميري، فكأنه قد وعده بذلك وطلب منه شيئًا مِن هَذا السَّلب.
قال: (فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فَاسْتُغْضِبَ)، كيف يُقال لخالد مثل هذه المقالة؟! وكيف تُرفَع الأوصات على أمير الجيش.
فَقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ: «لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ»، فكأنَّ هذا على سبيل الجزاء لمَّا لم يتأدَّب بالأدب المأمور به شرعًا.
ثم قال: «هَلْ أَنْتُم تَارِكُونَ لِيْ أُمَرَائِي؟»، فيه دلالة على المنع مِن التَّرفُّع على الولاة والأمراء، وأنَّ ذلك مِن المعاصي، وأنَّه يجب احترامهم وتوقيرهم، وإعطاؤهم المكانة اللائقة بهم لما في ذلك من جعل الناس يَسمعون وَيُطيعون.
وفيه أنَّ ذكر مَعايب الوُلاة مخالفٌ لمنهج النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- فلمَّا ذَكَرَ مَا في خالد مِن عَدَم إعطاءِ السَّلب غَضِبَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ- مَع أنَّه قَد فَعلَ ذلك حقيقة، لكنه راعى ما يترتب على هذه التصرفات من مخالفة لمقصود الشارع.

ثم قال: «هَلْ أَنْتُم تَارِكُونَ لِيْ أُمَرَائِي؟»، ثُمَّ ذَكَرَ مثلًا للأمراء ولأفراد الرَّعية، فقال: إنَّ الرَّعية يأخذون المنَافع خَالصةً صافيةً، بخلاف صاحب الولاية فإنَّه يَتعب وَيبذل مِن نَفسه في تَرتيب أحوال النَّاس وتنظيمها بِما يَعود على النَّاس بالخيرِ، فقال: «إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَرْعَى إبِلًا أَو غَنَمًا فَرَعَاهَ» فالرجل الرَّاعي يقوم بمتابعتها وملاحظتها، وَيُتعِب نَفسه في ذلك، بينما هَذه الإبل وهذه الغنم تأخذ صفو المنافع بلا كدر.
قال: «ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا، فَشَرَعَتْ فِيْهِ فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ وَتَرَكَتْ كُدْرَهُ، فَصَفْوُهُ لَكُمْ»، أي: الأَمر النَّافع والخيِّر لأفرادكم، بينما كُدْرَهُ على هؤلاء الولاة، فمشقته وتعبه على أصحاب الولاية، وفي هذا دليل على أنَّ الغيبة في شأنِ أصحاب الولاية أعظم إثمًا وأكبر جُرمًا، وأنَّ سبَّ صاحب الولاية أيًّا كانت ولايته أعظم مِن سَبِّ أفراد النَّاس.
وفيه وجوب تَوقير أصحاب الولاية واحترامهم، حتى ولو وُجد منهم خطأ، أو وُجِدَ مِنهم مُخالفةً للحُكم الشَّرعي.

بارك الله فيك، ووفقك الله لكل خير، واستعملنا وإياك في طاعته، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

{وفي الختام نشكركم معالي الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة.
إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك