الدرس الأول

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7546 33
الدرس الأول

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائهِ بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نُرحب بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم) ، والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تبارك وتعالى- يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان.
باسمي وباسمكم جميعًا نُرحب بشيخنا المبارك. حياك الله يا شيخ عبد الحكيم}.
أهلًا وسهلًا، حياك الله في مستهل هذا الفصل، وهذه الحلقات الجديدة.
{الله يبارك فيكم ويسلمكم.
كنا شيخنا قد توقفنا عند باب (الشركات) وتوقفنا عند شركة المضاربة}.
صحيح، توكل على الله.
{بسم الله الرحمن الرحيم، قال -رحمه الله-: (اَلثَّانِي: اَلْمُضَارَبَة، وَهِيَ دَفْعُ مَالٍ مُعَيَّنٍ مَعْلُومٍ لِمَنْ يَتَّجِرُ فِيهِ بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مِنْ رِبْحِه) .
ثم قال: (وَإِنْ ضَارَبَ لِآخَرَ فَأَضَرّ الْأَوَّلَ حَرُمَ، وَرَدَّ حِصَّتَهُ فِي الشَّرِكَةِ) }.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعد، فأسأل الله -جلّ وعلا- أن يُتم علينا وعليكم نعمه الظاهرة والباطنة، وأن يصرف عنَّا السوء والمكروه، وأن يُحَوِّلَ أحوالنا إلى خيرٍ وهدى، وسعةٍ وأُنس، وصلاحٍ وأمن، وتوفيقٍ وسداد في أمر الدنيا والآخرة، ووالدينا وأزواجنا وأحبابنا والمسلمين، إنَّ ربنا جوادٌ كريم.
في استهلال هذا الفصل المبارك، والذي نسأل الله -جلّ وعلا- فيه الإعانة والتسديد، والكمال والتمام، نحن أمام مسئولية في استعجال دَفة هذا الشرح للوصول إلى نهاية هذا الكتاب.

إِذا لَم يَكُن عَونٌ مِنَ اللَهِ للِفَتى ... فأول ما يَجني عَلَيهِ اِجتِهادُهُ

فنسأل الله الإعانة والتوفيق، ونسأل الله أن يُيسر التمام والكمال على أتمِّ حال.
لا يزال الحديث موصولًا في مسائل الشركات، وهي من الأهمية بمكان، ولولا ما نحن فيه من ضيقٍ في الوقت لأسهبنا في مسائل كثيرة لا يستغني عنها طالب العلم، كما لا يستغني أهل الأعمال والتجارات والشركات من العلم بها، وبحثها والحديث عنها.
وإن من أهم ذلك، وهي استهلالةٌ لطيفة:
أولاً: أن يُعلم أن الشَّراكة مبناها على الأمانة، وكل من خان شريكه فإن ذلك سببٌ لحصول الوبال عليه والبلاء، والنبي يقول: «إنَّ اللَّهَ يقولُ: أَنَا ثَالِثُ الشَّريكَينِ مَا لَم يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَهُ خَرَجتُ مِنْ بَينِهِما»[1].
والشراكة مبناها على أن يسعى كل واحدٍ منهما بتحقيق الربح الحلال البيّن الواضح، وألا يُدخل فيها مُشتبهٍ ولا حرام، ولذلك قرر أهل العلم أنه يُكره شراكةُ اليهودي أو النصراني، ويفهم من هذا أنَّ شراكتهم صحيحة، فإذا دخلت مع يهودي أو نصراني أو سواهما من غير أهل الإسلام كان ذلك صحيحًا، ولكن يشترط في ذلك ألا يتولى معاملةً محرمة.
وفيما مضى كانوا يعبرون عن ذلك أن لا يختفي بالمال، يعني يتعامل بمعزلٍ منه، الآن ما يسمى بحوكمة الشركات، والشفافية، والوضوح كفيلٌ بالعلم بحقيقة التعاملات وتمامها وكمالها.
لكن كلما طلب الإنسان في شراكته ما هو أسلم له وأبعد عن الشبهة، كان ذلك أنعم وأتم له، ولكن لا شك أنَّ الأعمال كبيرة، ومُقتضيات الأعمال وما صار به العالم كالقرية الصغيرة، فإنه قد يُحتاج إلى ذلك كثيراً، أو لا تنفك الدول والمجتمعات وأرباب الأموال والشركات من التداخلات والتعاملات.
فينبغي أن يُعلم أنَّ ذلك على أصل الجواز، ولكن على سبيل التوقي والاحتراز لا ينبغي أن يُوَرِّطَ الإنسان نفسه، أو أن يُدخلها في شُبهةٍ أو حرام.
وهنا الكلام في باب المضاربة، وقد تكلمنا على أصل المسألةٍ: (وَهِيَ دَفْعُ مَالٍ مُعَيَّنٍ مَعْلُومٍ لِمَنْ يَتَّجِرُ به) .
إذًا هما جهتان:
-      جهة مال.
-      وجهة عمل.
ولابد أن يكون المال معلومًا؛ لأنه رأس مال وسيرد إلى صاحبه، والجهالة بذلك تُفضي إلى أن يُبخس حقه، وأن تحصل المنازعة بينهما.
وهنا (لِمَنْ يَتَّجِرُ به بِجُزْءٍ معلوم مُشَاعٍ مِنْ الربح) ، فلابد أن يكون معلومًا، فلو كان مجهولًا لأفضى إلى الخلاف، ولابد أن يكون مُشاعًا؛ لأنه إذا كان مُعيّنًا فإنَّ ذلك يُفضي إلى الغَرر، وحصول الضرر على أحدهما، فلو كسب مالًا كثيرًا وكان له شيءٌ قليل لحزن وأدركه الأسف، ولو كان العكس بأن لم يُكسب إلا مالٌ قليل وأخذه واختص به، وصاحب المال لم يأخذ، فإنَّ ذلك لا يكون صحيحًا.
وقال أهل العلم: لو أخذ المال ليعمل به بدون أن يأخذ شيئًا من الربح؛ لأن هذا يحصل خاصة لمن يكون مع إخوته، أو لمن يكون مع بعض من يحبه من أصحابه وأصدقائه ومن يريد الإحسان إليهم، فهذا عند أهل العلم إبضاعٌ يكون جائزًا، لكنه لا يكون بابه ولا أحكامه أحكام الشركات.
هنا يُعلم أيضاً -خاصةً في باب المضاربة أو في باب شركة العِنان- أنَّ بعض من يعمل في المال يحصل عنده الغلط والغرر من جهتين:
أولًا: أنه يختص ببعض المال، مثلًا في الأعمال العقارية يأخذ جزءًا من السعي مثلًا، فهذا اختصاص لا يجوز، ما دام أنه شريك فإذا اختص بجزءٍ من السعي لكونه سعى في ذلك؛ فإنه يعود به على مال الشركة، ولا يعود إليه، فليس له في شركة المضاربة إلا ما خُصص له بعد استقرار المال وتنضيده، فينبغي أن يُعلم.
بعض الناس يأخذها على هاتين الجهتين: يأخذ من السعي فيضمن، ثم إن ربحت أخذ، وإن لم تربح فهو في السلامة والأمان، وهذا ليس بصحيحٍ ولا جائزٍ، بل هو سببٌ لبطلان الشراكة وألا يكون له إلا أُجرة المثل.
يقول المؤلف: (وَإِنْ ضَارَبَ لِآخَرَ فَأَضَرّ بالْأَوَّلَ) ، يعني: هو بينه وبين الشخص الآخر مُضاربة، وهذا يقتضي منه عمل، وهذا العمل سيحتاج إلى وقت، فإذا ضارب مع آخر، فإنَّ هذا سيكون فيه إضرارٌ بالشركة الأولى، وأمَّا الشركة الثانية ما فيها إضرار؛ لأنَّ الثاني يعلم أنَّ عنده شركة أخرى، وإلا لو لم يكن عالِمًا فأيضًا يأتي عليه نفس ما يكون على الثاني من الإشكال، فلذلك يقال: لا يجوز؛ لأن هذا فيه إضرارٌ بالأول، إلا أن يكون شرط أو علم وإذن.
قال: (وَرَدَّ حِصَّتَهُ فِي الشَّرِكَةِ) ، يعني أنَّ حصةً من الشركة الثانية ترجع إلى الأول. ما سبب ذلك؟ يقولون: أن هذا الجهد الذي استنفذه في الثانية هو مستحقٌ للأولى، فكأنه شيءٌ من أثرها.
لكن في قولٍ آخر عند الحنابلة، واختاره كثيرٌ من المحققين، يقولون: إنه لا يمكن القول بإرجاع المال إلى الأولى؛ لأنه ليس منهم عملٌ ولا مال في الشركة الثانية، فكيف يأخذون بعض ربحها؟
والمسألة محتملةٌ لهذا القول، لكن هذا هو الذي قرره المؤلف، وهو وجيهٌ من جهة المعنى.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ تَلِفَ رَأْسُ الْمَالِ أَوْ بَعْضُهُ بَعْدَ تَصَرُّفٍ أَوْ خَسِرَ، جُبِرَ مِنْ رِبْحٍ قَبْلَ قِسْمَةٍ) }.
أي أنَّ مال المضاربة إذا صار فيه تفاوت، فلا يخلو:
إمَّا أن يزيد المال، فتصير المئة ألفًا مائتا ألف، ثم خسرت فصارت ثمانين ألف بعد أن كانت مائتي ألف، فهنا هذه المئة ألف على من ستكون خسارتها؟ هل تكون على صاحب المال؟ يعني إذا انتهت الشراكة مثلا يقول: أنا ما عليّ، أنا لي ثلاثين في المئة، وصار فيها ربح، لكن الآن خسرت فأنت الذي تتحمل.
فيقول المؤلف: لا، الربح أثناء العمل بين المضارب وصاحب المال هو تبعٌ للمال، فإذا كان عليه خسارةٌ؛ فإنها تُجبر من ذلك الربح، فكأنهم لم يربحوا.
وملخص الكلام: أنَّ المضاربَ لا يستحق شيئًا، وكما قلنا وأشرنا في درسٍ سابقٍ في الفصل الماضي: إنَّ استحقاقه منصوصٌ أو مخصوصٌ بماذا؟ باستقرار المال وتنضيده، وقبل ذلك فإنه شيءٌ واحدٌ يزيد أو ينقص، فالعبرة بانتهاء الشركة، وإعادتها إلى مال ونقود بعد أن كانت أعيانًا وعروضًا.
فإذًا هذا هو المحصل.
فإذًا، سواء كانت مائتي ألف ثم صارت ثمانين ألف، نقول: ليس لك شيء.
كانت مائتي ألف، ثم صارت مئة وستين ألف، وانتهت الشركة على هذا، فنقول لك مثلُا: لو كان لك 30% نقول لك 30% من المئة ألف؛ لأنها الربح ولا من الستين ألف؟ لا، مما استقر عليه الأمر، فهذه الخسارة تُجبر من الربح.
وبناءً على ذلك: لا يأخذ إلا ربح الستين ألفًا.
{ثم قال -رحمه الله-: (اَلثَّالِثُ: شَرِكَةُ الْوُجُوهِ: وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي رِبْحِ مَا يَشْتَرِيَانِ فِي ذِمَمِهِمَا بِجَاهَيْهِماَ وَكُلٌّ وَكَيْلُ الْآخَرِ وَكَفِيلُهُ بِالثَّمَنِ) }.
شركة الوجوه نوعٌ من أنواع الشركات، فإنَّ من الناس من لا مال له، وليس بيده نقود، ولكن عنده من الخبرة، وعنده من القدرة على الاتجار وأعمال البيع والشراء، أو بعض الصناعات، أو آخر عنده من التسويق، ونحو ذلك.
فيقول: لو اشتركا على أنهما يأخذا بِجَاهَيْهِماَ، فهذا يذهب إلى فلان وهو يثق فيه فيقول: أريد منك مئة ألف، أو أريد منك مئة طنٍ من الحديد مثلاً، وأعطيك إياها بعد سنة، أو بعد شهر، أو بعد ثلاثة أشهر... إلى غير ذلك، وهذا له معرفةٌ بأصحاب الأسمنت مثلاً، أو تجارة الجوالات، إلى غير ذلك، يعني: ليس من الضرورة أن يكونا أيضًا في مجالٍ واحد أو في شيءٍ واحد، ولا أن تخلط الأموال.
لكن بمجرد أن يتفقا على الاشتراك فهما شريكان، ثم إذا اشتركا فهما على ما اتفقا عليه، فإذا قال واحد: لي ثلاثة أرباع الشركة ولك ربعها فهما كذلك، فإن ربحت فهما على ما اتفقا، وإن خسرت فإنَّ كل واحدٍ منهما يضمن بقدر ما اتفقا عليه من أن يكون له رأس المال؛ لأنَّ بعضهم قد يقول: ممكن نشتغل بمئة ألف، أنا أستطيع السداد لو خسرت، لكن أنا لا أستطيع أن أشتغل بمليون.
وبناءً على ذلك قال: أنا لا أريد إلا أن يكون لي عشرة في المئة من قدر الشركة، أو ثلاثين في المئة، أو عشرين، أو هكذا.. فإذًا هما على ما اتفقا عليه.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: فإذا حصل ذلك اشتركا بوجوههما، وبما عُرفَ من قبول الناس لهما وثقتهما فيهما، ويعملان ويبيعان ويتجرانِ حسب ما يحصل لهما.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَكُلٌّ وَكَيْلُ الْآخَرِ) ، يعني كل واحد منهما يتصرف بنفسه أصالةً، وعن شريكه وكالةً، وبناءً على ذلك: فهذا الذي أخذ مثلاً أطنان الحديد، لو لم يستطع السداد فلصاحب هذا المال إذا جاء أن يُطالب هذا أو يطالب شريكه؛ لأنهما مشتركانِ في هذا الأمر، وكذلك العكس أيضًا، فصاحب الجوالات له أن يُطالب الآخر وهكذا.
ولذلك قال: (وَكَفِيلُهُ بِالثَّمَنِ) فهو ضامنُ عنه، فتلزمه المطالبة، وتتوجه إليه مِن صاحب المال المطالبة في ذلك.
{أحسن الله إليكم، هو يعني يطالب أي أحد من الشركين، ثم هذا الشريك ترجع..}.
نعم يرجعان، ثم بعد ذلك يحصل بينهما مُقاصةٌ أو مراجعةٌ فيما زاد عن كل واحدٍ منهما فيما أخذ منه.
{أحسن الله إليك، شيخنا في شركة الوجوه أحدهما ليس لديه رأس مال، فكيف..}.
كلاهما.
{كلاهما ليس لديه}.
 كلاهما بوجهيهما، يعني لو قلنا: أنت يا معاذ للتو تخرجت من الجامعة وليس لديك مالٌ، ولكن لمعرفة بعض أقاربك بثقتك وكونك من أهل الفضل الذين لا يُخاف منهم، وأنك مؤتمن في تأدية المال، وأنك لا تبخس الحق، فيعطيك مئة ألف إذا طلبت، بينما لو جاءه عشرةٌ من أقاربه لم يعطهم، فهذه شركة وجوه، ممكن أن يشتركا، والثاني كذلك، فيتفقان على ما يتفقان عليه.
{ثم قال -رحمه الله-: (اَلرَّابِعُ: شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ: وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِيمَا يَتَمَلَّكَانِ بِأَبْدَانِهِمَا مِنْ مُبَاحٍ، كَاصْطِيَادٍ وَنَحْوِه أَوْ يَتَقَبَّلَانِ فِي ذِمَمِهِمَا مِنْ عَمَلٍ كَخِيَاطَةٍ) }.
هذا النوع الرابع من أنواع الشركات، وهو شركة الأبدان، فهما يشتركان على جهدهما، على أبدانهما، على عملهما.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إن تلك الشراكة صحيحة، وهي أيضًا من أنواع الشركات المباحة، وداخلةٌ في عموم التصرفات، وهذه جاءت عن أصحاب النبي ، فقد اشترك عبد الله وعمار وسعد فيما يحصلان عليه في الغزوة من نَفَلٍ أو سَلَبٍ أو سوى ذلك.
فجاء سعد بن أبي وقاص بأسيرين، ولم يأت عمار ولا عبد الله بن مسعود بشيء، فقسم النبي بينهما ذلك[2]، وهذا يدل على أن شركة الأبدان صحيحةٌ، فيشتركان فيما يتفقان عليه.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: ولها حالان:
الحال الأولى: أن يشتركا في مباحات، وهذا كما قلنا: يشتركان في اصطياد، أو في احتشاش، أو نحو ذلك من الأشياء.
(أَوْ يَتَقَبَّلَانِ فِي ذِمَمِهِمَا مِنْ عَمَلٍ) ، فاتفقا مثلًا على أن يكون في الخياطة، فهذا يخيط وهذا يخيط، لكن ليس بلازمٍ أن يتفقا في عملٍ محدد، بل كيفما اتفقا؛ حتى ولو لم يخلط المال، فلو اتفقا على أنَّ هذا يخيط وهذا يُسَوِّق، أو أنَّ هذا يخيط وهذا يعمل في صيد السمك، فكل هذه الأشياء داخلةٌ في شركة الأبدان.
وبناءً على ذلك: كل واحدٍ منهما شريكٌ للآخر على حسب ما اتفقا عليه من حصة كل واحدٍ منهما في هذه الشركة، فيكون لهما النصيب في ذلك بحسب ما اتفقا عليه، وعليهما من التبعة بقدر ذلك، وما يربحان فهو بجزءٍ معلومٍ مشاعٍ من الربح، فيكون لهما على حسب ذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (فَمَا تَقَبَّلُهُ أَحَدُهُمَا لَزِمَهُمَا عَمَلُهُ وَطُولِبَا بِهِ) }.
فبناءً على ذلك تصير ذمتهما واحدة بالشراكة، ويصير بدنهما واحدًا، فما تقبله أحدهما لزمهما عمله، يعني مثلا قال: أنا لست خياطًا، بل أنا أصيد السمك، فسواء قام به الإنسان بنفسه أو أناب من يقوم عنه حتى ولو آخر.
فبناءً على ذلك قال: (لَزِمَهُمَا عَمَلُهُ وَطُولِبَا بِهِ) ، إذًا كون الخياط يُطالب بما لزم الصياد أو يطالب الصياد بما لزم الخياط؛ كان ذلك صحيحًا لكون ذمتهما واحدةٌ.
{وهنا لا يشترط أن يكون الآخر يعمل العمل بنفسه، إذا أناب فإنه يدخل}.
نعم.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ تَرَكَ أَحَدُهُمَا الْعَمَلَ لِعُذْرٍ أَوْ لَا فَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا، وَيَلْزَمُ مَنْ عُذِر أَوْ لَمْ يَعْرِفِ الْعَمَلَ أَنْ يُقِيمَ مَقَامَهُ بِطَلَبِ شَرِيكٍ) }.
(وَإِنْ تَرَكَ أَحَدُهُمَا الْعَمَلَ لِعُذْرٍ أَوْ لَا) ، يعني مادام أنَّ الشركة مبانها على الأبدان، فأي عارضٍ يحول بين الإنسان وبين القيام بعمله، يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا لم يقم أحدهما بعمله سواء كان ذلك بسبب، أو بغير سبب، امتنع أو لم يمتنع، أو كسل أو مرض أو غير ذلك، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: الشراكة على ما هي عليه.
لكن إذا طلب الآخر أن هذا يعمل، أو يقيم أحدًا يعمل مكانه فيلزمه ذلك، وإذا أَذِنَ له أو لم يطلب فكأنه أسقط حقه، وبناءً على ذلك: لا يفوت على الشريك شيءٌ من الشراكة، ولذلك كما قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (فَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا) .
لكن متى ما طلب الشريك أن يقوم بالعمل الذي عليه، فيلزمه القيام بذلك العمل، وإن تعذر لكونه مريضًا أو لغير ذلك من الأشياء، فعليه أن يُقيم مقامه من يُنفذ ذلك العمل ويقوم بالمهمة التي اشتركا فيها.
{ثم قال -رحمه الله-: (الْخَامِسُ: شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ، وَهِيَ أَنْ يُفَوِّضَ كُلٌّ إِلَى صَاحِبِهِ كُلَّ تَصَرُّفٍ مَالِيّ، وَيَشْتَرِكَا فِي كُلِّ مَا يَثْبُتُ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا، فَتَصِحُّ إِنْ لَمْ يُدْخِلَا فِيهِمَا كَسْبًا نَادِرًا)}.
هذه شركة المفاوضة، وهي عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- وهي لا تخلو الحقيقة من الإشكال، ولها صورتان صحيحتان:
الصورة الأولى: وهي أن تكون هذه الشركة شاملة للشركات الماضية كلها، فيكون فيها وجوه، فيها أبدان، فيها مضاربة، فيها عنان فتجتمع كلها.
{شركة واحدة؟}.
نعم، في شركة واحدة، فيتفقان على أي عمل.
لكن الحقيقة أنهم يقولون: إذا صحت الشركة منفردةً صحت مجتمعةً، يعني: اشتركا في نوعٍ واحد أو في أكثر من نوع، لكن المشكلة ما هي؟ المشكلة أنَّ الأصل في الشراكات أن تكون فيها وضوحٌ تام، وأن يتبين ما على كل واحدٍ من العمل، وتشققها سببٌ لحصول الإخفاق وحصول النزاع؛ لأنه إن أحسن في هذا لن يحسن في هذا، وإن أحسن في هذا لم يحسن في هذا، وهذا مدعاةٌ إلى أن يقول: لماذا لم تفعل كذا؟ أو لماذا فعلت كذا؟
ثم يقول: أنا كنت قد انشغلت بهذا النوع أو بهذا العمل، فتفضي إذًا إلى نزاعٍ شديدٍ كثير.
فعلى كل حال: ذكر الفقهاء جواز ذلك، ولكنها لا تنفك من كثيرٍ من الإشكالات، فلو قيل: إن النصح أو مما ينبغي عدم السعي إليها أو المصير لها، فإنَّ ذلك يكون صحيحًا، وقد أدركت أناسًا كثيرين، بل إخوة أشقاء، وكان بينهم من المودة والألفة، وفيهم من الديانة والأمانة ما لا يقاربهم فيه أحد، ومع ذلك لَمَّا بدأوا في مثل هذه الشركة لم تمض مدةٌ إلا وقد حصل بينهما خلاف، انتقل إلى أبعد ما يكون من الخلاف والمنازعة، واحتياج التحاكم والتقاضي وغير ذلك، فلأجل ذلك ينبغي التنبه لهذا والحذر.
النوع الثاني: أن يتفقا في كل ما يأتي إليهما، وكل ما يترتب عليهما فهو على الجميع، فكأنهما يشتركان في أن تكون الذمة واحدة.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا لم يكن فيها كسب نادر، يعني: شيء غير مألوف أو غير متوقع، فهذا يدخل في دائرة المعلوم، أو في دائرة المعروف، أو ليس فيه جهالةٌ توجب المقامرة أو المنازعة أو الظلم لأحدهما، فبناءً على ذلك تكون صحيحةً.
وهذه أكثر إشكالًا من التي قبلها، فإذا قلنا: إنَّ الأُولى فيها ما فيها نذكره هناك يكون ظاهرًا هنا ولازمًا؛ لأنه مثلًا حوادث السيارات، الغرامات التي تجب على الإنسان، ما يترتب عليه في سفر أو في شيء أو في نحو ذلك، مع أنهم كلهم يقولون: لا تدخل فيه، لكنه لا تنفك من وجود الإشكالات فيها، أو حصول المنازعة: أهو داخلٌ في الكسب النادر، أو هو داخلٌ في الغرامة النادرة، أو ليس بداخل؟ هل هو مما تحده الشركة وهو داخلٌ في نطاقها أو خارج؟ فهو مدعاةٌ إلى النزاع وإلى حصول أهواء النفوس، وإلى تغير الشركاء بعضهم على بعض؛ فلأجل ذلك كانت أو لا تنفكٌ من إشكالٍ ظاهر.
القسم الثاني: إذا أدخل فيها كسب نادر فهذا من باب أولى، والحنابلة منعوا ذلك وحرموه، وهذا لا شك فيه؛ لأن فيها من الضرر ما لا يخفى، وفيها مما يستدعي المنازعة وفساد الشركة ما هو ظاهرٌ بيّن لا يخفى.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَكُلُّهَا جَائِزَةٌ، وَلَا ضَمَانَ فِيهَا إِلَّا بِتَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ) }. 
ما معنى (وَكُلُّهَا جَائِزَةٌ) ؟
هو لا يقصد أنها صحيحة، وهذا مر بنا، ولكن (وَكُلُّهَا جَائِزَةٌ) يعني: كلها عقودٌ جائزة، يعني يقابلها أنها عقودٌ ليست لازمة، وبناءً على ذلك: ما دام أنها عقودُ جائزةٌ فيجوز لكل واحدٍ من الشركاء أن يفسخ العقدَ ويتركه، وليس عليه في ذلك إشكالٌ ولا تبعة.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنَّ الشركات من العقود الجائزة.
لكن هذا ربما يكون فيه بعض الإشكالات في التفاصيل ونحوها، لكن هذا من حيث الأصل، والفقهاء يذكرون أنه إذا ترتب عليها شيء، وما الذي يستحقه؟ وما الذي لا يستحقه؟ هذه تفاصيلها تبعٌ لذلك الكلام.
يعني مثلًا: المضارب لو فسخ عقد الشراكة مع صاحب المال، فيقولون: إذا فسخ من جهته والتجارة لم تتم فليس له شيء، ولو أنَّ صاحب المال مثلًا فسخ الشراكة بعد أن ربح وعمل وتعب، فيقولون: لا يفوت حقه، صحيح تنقضي الشراكة، لكن له أجرة مثله.
بل قال بعضهم: وهو قولٌ أدقُ وأكمل -كما هو قول ابن تيمية وغيره- يقول: له قسطه من الربح، والفرق بين أجرة المثل والقسط من الربح كبير جدًا، يعني: قد يكون هذا العمل مدته شهرين، ولو جعلناه في مسار الأجور، فمن يعمل خلال شهر يتقاضى مثلًا في مثل عمله هذا خمسة عشر ألف ريال مثلًا، فيكون في الشهرين يستحق ثلاثين ألف ريال، وربما يكون صاحب المال مدركًا لهذا، ويريد أن يُذهبه إلى الأقل.
لكن لو قلنا: إنه اشتغل شهرين وما بقي إلا شهر، وهما اشتغلا بخمسمائة ألف ريال وحققا أرباحًا مماثلة، يعني: وصل إلى مليون ريال، وهو اتفق على ثلث الأرباح، فمعنى ذلك: أنه لو تمت ثلاثة أشهر لتمام الوقت، فسيستحق على الأقل إذا لم تزد هذه خمسمائة ألف فسيستحق ماذا؟ مئة سبعة وستين ألفًا، التي هي الثلث.
أو نقول: ثلاثون في المئة، مئة وخمسون ألف أوضح وأدق، فهذا بدل من أن يعطيه مئة وخمسين ألف أعطاه ثلاثين ألفا؛ حتى لو قلنا إنها ما هي على الشهرين، ما هي على ثلاثة أشهر، على شهرين، فشيخ الإسلام يقول: يُعطى قَسطه من الربح، قسطه من الربح أمضى شهرين معناه: أنه يأخذ مئة ألف.
وإذا قلنا: أجرة المثل فلن يأخذ إلا ثلاثين ألف، وإذا قلنا: قسطها من ذا، فهذا أعدل وهو الذي عليه المناط، فيكون بنحو ذلك، فإذًا هذا هو مسار أو مناط هذه المسألة.
قال: (وَلَا ضَمَانَ فِيهَا إِلَّا بِتَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ) ، كأن المؤلف -رحمه الله تعالى- أراد أن ينبه إلى أنَّ الشركاء في الشركة أُمناء، وهذه محل الأمانة، ولا تستقيم الأعمال إلا بذلك، فإذا كان أحدهما يخون صاحبه، فإنَّ هذا مدعاةٌ إلى الشقاق والنزاع، لا إلى الطمأنينة والنماء، وحصول الشراكة وتنمية المال، ونحو ذلك.
فإذًا هم في الأصل موصوفون بالأمانة، إذا كان كل منهما موصوفًا بالأمانة، فمعنى ذلك ما تلف تحت يده فليس عليه ضمان، إلا أن يكون منه تعدٍ أو تفريط، ولذلك يقولون: له أن يبيع ويشتري ويبسط الثوب ويجمعه.. ونحو ذلك.
لكن لو أنه مثلًا شريك في إبل أو في غنم، فما دام أنه يحوطها، ولم يغب عنها، ولم يكن منه تفريط ولا تعدٍ، فعدى عليها ذئبٌ فأخذ واحدةً فأكلها فليس عليه ضمان، ونحو ذلك.
لكنه هو الآن شريك في أن يبيع هذه البهائم وينمها، فلو أنه أدخل واحدةً منها في سباق: هل هذا مما يدخل في عمله؟ لا، وليس هذا مما يجب عليه فعله، بل هذا لا يجوز فيعد متعديًا.
فلو أنها في سباقها تعثرت فكسرت رجلها، فنقول: هو متعدٍ، وبناءً على ذلك يضمن هذا التعدي، والتعدي بمعنى أن يكون منه فعلٌ لا يجوز له فعله، فيفضي ذلك إلى ضمانه.
أو مثلًا يبيعها لقريبٌ له بأقل من سعرها، فهذا تعد، لأن مُقتضى الشراكة أن لا يحابي أحدًا.
(أَوْ تَفْرِيطٍ) لو أنَّ شخصًا مثلًا عُرف بفلسه، أو عُرف بمطله وظلمه، فباع عليه بيعًا مؤجلًا، أو كان لم يؤذن له في التأجيل، فهو أمضى هذا البيع مؤجلاً، فهذا تفريط في أخذ المال، فمعنى ذلك يضمن.
لو أنه مثلًا ترك باب الدكان مفتوحًا، والعادة أنَّ مثل ذلك مدعاةٌ لأن تطالهم أيدي السُراق ونحوهم، فنقول: هذا مفرط.
إذًا، إذا كان منه تفريطٌ أو تعدٍ ضَمِن، وإذا لم يكن فلا.
{قال -رحمه الله-: (الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ) }.
(الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ) ؛ الحقيقة هي نوع شراكة، لماذا؟ لأنَّ العمل يكون من أحدهما، والمال يكون من الآخر أو نحو ذلك، فهي نوع شراكة، لكنها اختصت بكونها في أشياء محددة، في مساقاة أو مزارعة، وسيأتي الفرق بينهما.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَتَصِحُّ الْمُسَاقَاة ُعَلَى شَجَرٍ لَهُ ثَمَرٌ يُؤْكَلُ، وَثَمَرَةٍ مَوْجُودَةٍ بِجُزْءٍ مِنْهَا، وَعَلَى شَجَرٍ يَغْرِسُهُ وَيَعْمَلُ عَلَيْه حَتَّى يُثْمِرَ بِجُزْءٍ مِنْ الثَّمَرَةِ أَوْ اَلشَّجَرِ أَوْ مِنْهُمَا) }.
(وَتَصِحُّ الْمُسَاقَاة) ؛ إذًا هو بدأ بالمساقاة، فالمساقاة إذًا هي على الشجر، والمزارعة على البذر الذي هو مثل: القمح والشعير ونحوه، مما يُجز مرةً واحدة، فالمساقاة صحيحةٌ، وهذا هو مشهور مذهب الحنابلة خلافًا للحنفية، وخلافًا لمن قيدها.
فالحنفية لا يُجيزونها؛ لأنه جاء في الحديث النهي عنها، وجاء في حديث أنه أذن فيها، فبعضهم ذهب إلى حديث النهي، والحنابلة -رحمهم الله تعالى- كما هو مذهب الجمهور، قالوا: إنَّ أحاديث النهي كانت لِمَا كان عليه أهل الجاهلية، وهو أن يُحددوا ويُعينوا، فيقول: ما على هذا الجدول لي، وما على هذا الطرف لك، أو نحو ذلك.. فيكون فيه نوع ظلم على أحدهما بأن تحمل هذه ولا تحمل هذه، ويكسب هذا وهذا يخسر؛ فيكون في هذا..
أما إذا كانت على جزءٍ مشاعٍ معلوم، فهذا صحيحٌ، وهذا الذي فعله النبي حين عامل أهل خيبر بجزءٍ مما يخرج من أرضهم، فدلّ ذلك على أنها صحيحةٌ، وهذا هو المستقر، وهذا هو الذي يتناسب مع ما تقدم في باب الشركة، ولكن هذا في نوعٍ أخص أو في شيءٍ له حدودٌ معينة وهي الزراعة.
ثم من جهةٍ الناس لا ينفكون عن ذلك، فربما يكون للإنسان شجرٌ أو يريث بستاناً لا يستطيع العمل فيه، أو لا يُحسن العمل فيه إمَّا لكونه عاجزًا كامرأةٍ كبيرة، أو لكونه مشغولًا أو بعيدًا أو نحو ذلك، فحاجة الناس داعيةٌ إلى مثل هذا، فهو صحيحٌ من جهة الشركة، وهو نافعٌ من جهة الواقع، ولا غبار عليه من جهة النظر؛ فلأجل ذلك لم يكن فيه شيءٌ يمنعه.
ثم يقول المؤلف -رحمه الله-: (عَلَى شَجَرٍ لَهُ ثَمَرٌ يُؤْكَلُ) ، فكل ثمر يؤكل فهو داخلٌ في ذلك، فإذًا لا يختص بالعنب أو بالنخل، كما هو مذهب الشافعي في تخصيصهما، بل أي شجرةٍ تثمر فيه تفاح، فيه برتقال، فيه عنب، فيه كرز، أي من هذه الأشجار المثمرة ونحوها.
بل جاء عن بعضهم، كما هو اختيار الموفق ابن قدامة وقول بعض أهل التحقيق، قالوا: حتى الذي لا يؤكل إذا كان له نفع مثل: شجر الصنوبر، أو شجر السدر مثلا، أو الحنة التي يُستفاد من ورقه وليس له ثمرة ونحوها تؤكل، لكنه ينتفع به.
إذًا ما دام أنه ينتفع به منفعةٌ صحيحةٌ مباحة؛ جاز ذلك ودخل فيه.
قال: ويكون على أحوال، فقال: (وَثَمَرَةٍ مَوْجُودَةٍ بِجُزْءٍ مِنْهَا) ، إذًا إما أن يُساقيه ويتفقان ويتعاقدانِ على هذه الشجرة التي ثمرتها قد وجدت، لكن تحتاج إلى تكميل، عجز، انشغل، مرض، إلى غير ذلك، فأحتاج إلى من يرعاها حتى يتم نضجها، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى: إن ذلك صحيحٌ.
(وَعَلَى شَجَرٍ يَغْرِسُهُ وَيَعْمَلُ عَلَيْه حَتَّى يُثْمِر) ؛ هذا نوعٌ ثان، يعني: يُسلمها الأرض ويعطيه الشجر فينصبها، وتسمى: المناصبة، ويغرسها فتسمى: المغارسة، فإذا كان بجزءٍ مشاعٍ معلوم من ربح؛ جاز ذلك.
(حَتَّى يُثْمِرَ بِجُزْءٍ مِنْ الثَّمَرَةِ أَوْ اَلشَّجَرِ أَوْ مِنْهُمَا) ، أي: يكون له جزء مما تحصل له من هذا الشجر ومن الثمر.
فإذًا سواء كان الثمر موجودًا أو كان غير موجود، أو لم تكن الشجرة أيضًا موجودة فسلمه شجرًا يغرسها ثم يرعاها؛ حتى تُطلع ويبدو ثمرها ويكمل نضجها، فإن ذلك كله صحيحٌ على هذه الأحوال كلها.
{قال -رحمه الله-: (فَإِنْ فَسَخَ مَالِكٌ قَبْلَ ظُهُورِ ثَمَرَةٍ فَلِعَامِلٍ أُجْرَتُهُ، أَوْ عَامِلٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ) }.
(فَإِنْ فَسَخَ مَالِكٌ) ؛ مثل ما قلنا: يعني لا يخلو أن هذه عقود جائزة كما سيأتي مثل: الشركة، ومثل: الوكالة، فهي عقودٌ جائزة يجوز فسخها.
فإذًا يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- لا يخلو إما أن يكون الفسخ من المالك أو من العامل، يقول: (فَإِنْ فَسَخَ مَالِكٌ قَبْلَ ظُهُورِ ثَمَرَةٍ فَلِعَامِلٍ أُجْرَتُهُ) ، فيعطى الأجرة، وكما قلنا -على قول ابن تيمية رحمه الله تعالى- فإنه يعطى قسطهُ من الثمر، فإذا كان مثلًا له ثلث الثمرة، ثم هو عمل فيها حتى لم يبق إلا ربع العمل مثلا، فإنه يعطى الثلث ناقصًا منه الربع؛ لأنه أدى عمله وليس منه تقصير، وهو متصدٍ للعمل ولم يتأخر، ولا يريد أن يفسخ العقد، فالنقص والتقصير من هذا الشخص.
لكن يقول: (أَوْ عَامِلٌ) ، ما معنى (أَوْ عَامِلٌ) ؟ يعني: إن كان الفسخُ من جهة العامل، فإذا كان الفسخ من جهة العامل فهو الذي ضيع عمله، وهو الذي فَوَّتَ جهده، فليس له شيءٌ، أي: لا يستحق مالًا، وأيضًا لا يُلزم بإكمال العقدِ؛ لأنَّ العقد جائز بينهما.
{لكن يا شيخ لو اشترط أن يكون لازم من أحد أو دون الآخر}.
والله على ما تقرر عند الحنابلة نحن لا نريد ندخل في تفاصيل أخرى أنه عقدٌ جائزٌ.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَتُمْلَكُ اَلثَّمَرَةُ بِظُهُورِهَا، فَعَلَى عَامِلٍ تَمَامُ عَمَلٍ إِذَا فُسِخَتْ بَعْدَه) }.
 (وَتُمْلَكُ اَلثَّمَرَةُ بِظُهُورِهَا) ، يعني إذا ظهرت الثمرة فهنا مَلك العامل نصيبه، ومَلك صاحب المال أو صاحب الشجر نصيبه.
لكن مع ذلك لا ينتهي عند هذا الحد عمل العامل، يقول: فعلى العامل تمام العمل حتى تنضج ويكمل نضجها ويمكن الإفادة منها.
قال: (فَعَلَى عَامِلٍ تَمَامُ عَمَلٍ إِذَا فُسِخَتْ بَعْدَه) ، فيقول المؤلف -رحمه الله-: يجب على العامل إتمام العمل، لا يجوز له أن يُخل بذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَعَلَى عَامِلٍ كُلَّ مَا فِيهِ نُمُوٌّ أَوْ إِصْلَاحٌ وَحَصَادٌ وَنَحْوُهُ) }.
قال: (وَعَلَى عَامِلٍ كُلَّ مَا فِيهِ نُمُوٌّ أَوْ إِصْلَاحٌ وَحَصَادٌ وَنَحْوُهُ) ، هذا بيان ما يترتب على كل واحدٍ منهما من هذا العقد، فأثر هذا العقد على العامل ما فيه نمو، صلاح، حصاد، فمثلاً تكسير الأغصان الميتة وتهذيبها، حرث الأرض، سمادها، سقيها، لقاحها إن احتاجت إلى لقاح كالنخل ونحوه، فكل ذلك إذا احتاجت إلى بعض ما تنمو به الشجرة ويحسن ثمرها ويكبر ويحلو؛ فكل ذلك مما يجب على العامل فيه.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَعَلَى رَبِّ أَصْلٍ حِفْظٌ وَنَحْوُه) }.
أمَّا رب الأصل الذي هو صاحب الشجر عليه (حِفْظٌ وَنَحْوُه) ، كل ما يتعلق بما فيه حفظ هذه الشجرة واجبٌ عليه، فما كان مثلًا من حائطٍ يمنع ما يحصل به تلف ذلك كدوابٍ تأكل وترعاها فتفسدها أو نحو ذلك.. فهو على رب الأصل، إيصال الماء، والساقية، وتنظيف مثلًا ما يكون من معدات إذا وجدت معدات تنظيفها، تهيئتها لأن تكون عاملة وأن يمكن الاستفادة منها؛ فكل ذلك على رب الأرض، ومن له الشجر.
قال: (وَعَلَيْهِمَا -بِقَدْرِ حِصَّتَيْهِمَا- جَدَادٌ) ، فالجداد هو حقٌ تابعٌ للتملك، فمن مَلك شيئًا مَلك أو كان عليه جداده، فيكون على كل واحدٍ منهما الجداد، فإذا قلنا: هي خمسين خمسين، فكل واحدٍ منهما يجذ نصف ذلك، إذا قلنا: ثلاثين سبعين فنحو ذلك العامل له ثلاثين وهذا الصاحب له سبعين، أو العكس في بعض الثمار أو في بعض التي تحتاج إلى عناءٍ كثير وإلى عمل وأسعار هذه الثمار زهيدة ونحوها.. هم يتفقون بحسب ما يرونه مُناسبًا لكل واحدٍ منهما على حسب ما اتفقا عليه.
لكن لو كان قد اشترطا صاحب المال مثلًا أنَّ الجداد على العامل فيكون عليه، لكن من حيث الأصل أنه تبعٌ للملك، فمن مَلك شيئًا كان عليه تحصيله وجذه.
{قال -رحمه الله-: (وَتَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ بِشَرْطِ عِلْمِ بَذْرٍ وَقَدْرِهِ وَكَوْنِهِ مِنْ رَبِّ الْأَرْض) }.
المزارعة مثل المساقاة، ولكن في غير الشجر الذي له ساق أو له أغصانٌ وثبوت، بل هو مثل: القمح والشعير والذرة وما في مثلها، وتسمى مزارعةً، فهي من جهة الأحكام، وما ذكر الفقهاء سواءً بسواء.
قال: (بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ) ، وأصلها ودليلها واحدٌ مقتضى ذلك ظاهر.
قال: (بِشَرْطِ عِلْمِ بَذْرٍ وَقَدْرِهِ) ، البذر لابد أن يكون معلومًا؛ لأنه له ثمن، وهذا سيدفع، على من؟ هل هو على رب الأرض أو على العامل؟ ظاهر كلامهم أنه لابد أن يكونا على ربِ الأرض، فلذلك بعضهم يقول: دفع أرضٍ وحب لمن يزرعه، فلابد من أن يكون الحب على ذا.
لكن عند بعض أهل العلم، وهو رواية ثانية عند الحنابلة، واختارها كثير من أهل التحقيق، يقولون: لا يلزم أن يكون البذر من صاحب الأرض، بل لو كان من العامل كان ذلك صحيحًا، بشرط ألا يشترط أن يأخذ بذره بعد ذلك.
{يعود الأصل}.
لا هما على ما اتفقا عليه من قدر الربح أو الجزء المشاع المعلوم.
فإذًا إذا كان البذر من المالك أو من صاحب الأرض فهذا ظاهر، وإذا كان من الآخر فعند الحنابلة أن ذلك غير صحيح، وفي قولٍ آخر وهو الذي عليه عمل أكثر الناس يقولون: النبي لم يذُكر أنه أعطى أهل خيبر بذرًا أو قام بشيءٍ من ذلك، فدل هذا على أنه يكون من العامل ويكون صحيحًا.
قال: ويعلم قدره، يعني: لابد أن تُعلم قدر الأرض، قد تكون كبيرة لا يستطيع الإحاطة بها، وقد تكون صغيرةً لا يمكن أن توفي معه وأن يتفرغ لها وأن يمضي في ذلك وقته، فلذلك قال: (وَقَدْرِهِ) .
(وَكَوْنِهِ مِنْ رَبِّ الْأَرْض) ، كما قلنا قبل قليل هذا أحد الشروط عندهم، وهو محل نظر أو تأمل، ولذلك أجاز بعض أهل العلم وهو القول الآخر أن يكون من العامل، كما يكون من صاحب الأرض.
وذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في هذا أنه يمكن أن تكون الأرض الواحدة فيها مساقاةٌ ومزارعة، فإذا كانت فيها شجر كبار أو نخل أو نحو ذلك فشارطه على جزءٍ مما يخرج منها، وشارطه على ما بين هذه الأشجار فيما يَزرعه من بذر، أو يُظهره من قمح أو شعير أو نحوه.. فيكون ذلك أيضًا صحيحًا ولا غضاضة في ذلك.
{قال -رحمه الله-: (فصلٌ في الْإِجَارَةُ) }.
بعد أن أنهى المؤلف -رحمه الله تعالى- ما يتعلق بالمساقاة والمزارعة دخل في الإجارة، والإجارة قسيمة البيع، وهي من أهم العقود وأولى ما ينبغي الحرص على فهمه ومعرفة مسائله والتدقيق في أحكامها؛ لأنها كما قلنا هي قسيمة البيع، وقد كانت في وقتٍ مضى يُحتاج إليها في أشياء كثيرة، وهي في هذا اليوم أكثر حاجة.
فإن تفنن الناس في التجارات والأعمال وطرق الكسب دخلت الإجارة والحاجة إليها في كثيرٍ من الأعمال أكثر من شرائها، وصار ذلك أنفع للناس، وصارت باب رزقٍ لمن تصدى لعملٍ من الأعمال.
فلن -مثلًا- يحتاج الإنسان فقط في سُكنى بيته إلى من يستأجر لحفر دار، هل سيسهل عليه شراء آلةٍ وحفر بنفسه ونحو ذلك؟ ويحتاج إلى من يعقد الحديد ويحسنه، بل من ينظم تخطيط الأرض ويقسمها... إلى من يُحسنها ويصبغها ويجملها؛ أشياء كثيرة، كل ذلك لا يتأتى للإنسان، وإذا انتقلت إلى ما يحصل للإنسان من ثوب، أشياء كثيرة لا تتأتى إلا باستئجار من يخيط ثوبه ويُعينه في بعض أموره.
فلما كانت الإجارة بهذه الأهمية وهي قسيمة البيع؛ لأنها في حقيقتها بيع منفعةٍ جعل الفقهاء لها أحكامًا مفصلة، وبيّنوا ما يتعلق بكل شيءٍ بحسبه، وسيأتينا بإذن الله -جلّ وعلا- تفاصيل ذلك.
والله -جلّ وعلا- قد دلَّ على مشروعيتها، فقال: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾ [القصص:26]، ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق:6]، والنبي استأجر رجلاً ليدله على الطريق.
والإجماع منعقدٌ على ذلك، والحاجة داعيةٌ لا محالة إلى مثل هذه الأحكام، وتعاطي مثل هذه الأعمال، فجاء الشرع بتوضيحها وتبيينها وتبيين ما لكل واحدٍ من المؤجر والمستأجر من الحقوق، وما عليه من الواجبات والالتزامات.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَتَصِحُّ الْإِجَارَةُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: مَعْرِفَةُ مَنْفَعَةٍ، وَإِبَاحَتُهَا وَمَعْرِفَةُ أُجْرَةٍ إِلَّا أَجِيرًا وَظِئْرًا بِطَعَامِهِمَا وَكِسْوَتِهِمَا) }.
إذًا الإجارة بقي تعريفها هي: عقدٌ على منفعةٍ مباحةٍ معلومة من عينٍ أو عمل مدةً معلومة، فإذًا لابد أن تكون عقد على منفعة ومباحة وسيأتي ذلك في تفاصيله، وتتعلق بالأعيان كما تتعلق بالذمم، فهذا من جهة أصل الإجارة.
قال: (وَتَصِحُّ) ، وهنا عبر بالصحة؛ لأنَّ في باب العقود إما الصحة أو الفساد والبطلان، وليست أحكامًا تكليفية يتعبد بها فيعبر بالوجوب والاستحباب أو الكراهة والتحريم.
قال: (بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ) ، من أين أخذنا هذه الشروط الثلاثة؟
{من التعريف}.
أخذنا هذه الشروط الثلاثة استقراءً من الفقهاء ولما جاء من الأدلة، سواء كانت أدلةً خاصة أو أدلة عامة يتأتى بها إعطاء صاحب الحق حقه، ولا يكون فيها مخالفة لِمَا جاء به الشرع، أو ما دل عليه الدليل وجاء به النص في هذه المسائل.
{أحسن الله إليكم شيخنا، ونفع الله بكم وزادكم من فضله}.
إذًا نترك الشروط في بداية الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
{أحسن الله إليكم، وفتح لكم فتحًا مبينًا، وزادكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نستكمل معكم -بإذن الله تبارك وتعالى- في المجلس القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------------------
[1] ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود.
[2] رواه أبو داود والأثرم بإسنادهما عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك